مجالس العجمان الرسمي

مجالس العجمان الرسمي (http://www.alajman.ws/vb/index.php)
-   مجلس الدراسات والبحوث العلمية (http://www.alajman.ws/vb/forumdisplay.php?f=41)
-   -   الدعوة العباسية ودورها في نهاية الدولة الأموية (http://www.alajman.ws/vb/showthread.php?t=13599)

د.فالح العمره 16-08-2006 07:18 PM

الدعوة العباسية ودورها في نهاية الدولة الأموية
 
الدكتور/ علي الصلابي 3/1/1427
02/02/2006



أولاً : الجذور التاريخية للعباسيين :
(1) العباس بن عبد المطلب بن هشام :
ينتسب العباسيون إلى العباس بن عبد المطلب بن هشام بن عبد مناف القرشي (1) وهو عّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أسنّ من الرسول بثلاث سنين (2) وكان من أكبر رجال بني هاشم مكانة، وأكثرهم مالاً في الجاهلية (3)، فقلدوه قيادتهم، فكان رئيسهم المُطاع – بعد وفاة أبي طالب – المتوليَّ لأمورهم (4)، وكانت إليه السَّقاية والرَّفادة وعمارة المسجد الحرام (5)، فإنه كان لا يدع أحداً يُسبُّ في المسجد ولا يقول فيه هُجْراً يحملهم على عمارته في الخير، لا يستطيعون لذلك امتناعاً، لأنَّ ملأ قريش كانوا قد اجتمعوا وتعاقدوا على ذلك، فكانوا له أعواناً عليه، وأسلموا ذلك إليه (6)، وقد حضر بيعة العقبة مع الأنصار قبل أن يسلم وشهد بدراً مع المشركين مكرها فأسر فافتدى نفسه ورجع إلى مكة، ثم أسلم وكتم إسلامه، ثم هاجر إلى المدينة قبل الفتح بقليل وشهد فتح مكة وثبت يوم حنين (7) مع النبي صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجله ويقدره وقد كانت وفاته بالمدينة في رجب سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة ودُفن بالبقيع (8)رضي الله عنه.

الأحاديث التي وردت في فضله ومناقبه :
(أ) ما رواه الترمذي وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن العباس مني وأنا منه" (9).
(ب) ما رواه مسلم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة فقيل : منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً، فأغناه الله وأما خالد، فإنكم تظلمون خالداً، فقد احتبس ادراعه واعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي عليّ ومثلها معها" ثم قال : "يا عمر أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه" (10).
(ج) ومن مناقبه رضي الله عنه ثباته وشجاعته يوم حنين فقد روي أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم نفارقه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء، فلمّا التقى المسلمون والكفار، وَلىَّ المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قِبل الكفار، قال عباس : وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكُفُّها إرادة ألاَّ تسرع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أي عباس؛ ناد أصحاب السَّمُرة". فقال العباس – وكان رجلاً صَيَّتاً – فقلت : بأعلى صوتي : أين أصحاب السَّمُرة ؟ قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا : يا لبيك يا لبيك : قال : فاقتلوا والكفّار والدعوةُ في الأنصار، يقولون : يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار ... فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا حين حَميَ الوطيس (11).
(د) ومما يدل على فضله رضي الله عنه ومكانته من النبي صلى الله عليه وسلم توسل عمر رضي الله عنه بدعائه :
فقد جاء في صحيح البخاري عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال : اللهمّ إنّا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا (12)، وإنا نتوسل إليك بعمِّ نبينا فاسقنا قال: فيُسقون (13). فالعباس بن عبد المطلب جد الخلفاء العباسيين وله ينتسبون.
(2) عبد الله بن عباس رضي الله عنهما :
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه لبابة بنت الحارث الهلالية أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين، وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، وكان يقال له الحبر والبحر لاتساع علمه وكثرة فهمه وكمال عقله وسعة فضله ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ولازم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له صلى الله عليه وسلم بالفقه في الدين وعلم التأويل، وكان عمر رضي الله عنه يجله ويكرمه، وقد شهد رضي الله عنه مع علي الجمل وصفين، وكف بصره في آخر عمره فسكن الطائف وكانت وفاته سنة ثمان وستين من الهجرة فرضي الله عنه (14)، وقد وردت في بيان فضائله أحاديث كثيرة منها : ما رواه البخاري بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الخلاء فوضعت له وضوءاً قال من صنع هذا ؟
فأخبر فقال : اللهم فقهه في الدين (15). وقد استفاد العباسيون من انتسابهم إلى جدهم عبد الله بن عباس –حبر الأمة-، فقد سار محمد بن علي العباسي زعيم الدعوة العباسية على فقه جده الحركي، وتتلمذ على معالم مدرسته كما سيأتي بيانه وتفصيله بإذن الله تعالى. وقد ترجمت له في كتابي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ترجمة مستفيضة.
(3) على بن عبد الله بن عباس بن المطلب الإمام القانت أبو محمد الهاشمي المدني السجاد :
ولد عام قُتل الإمام علي، فتسمى باسمه، حدث عن أبيه ابن عباس، وأبي هريرة وابن عمر، وأبي سعيد وجماعة وأمه ابنة ملك كندة مشرح بن عدي وكان جسيماً وسيماً كأبيه طوالاً، مهيباً مليح اللحية يخصب بالوسمة .
وقال ابن سعد : هو ثقة قليل الحديث. قال عكرمة : قال لي ابن عباس ولابنه علي : انطلقاً إلى أبي سعيد الخُدري، فاسمعا من حديثه، فأتيناه في حائط له (16).
وقال الذهبي: القب بالسّجَّاد لكثرة صلاته (17).
كان علي بن عبد الله بن العباس أجل إخوته قدراً وأعظمهم خطراً وكان مثالاً للرجل الكامل في تمام خلقته وحسنه وورعه ونبله (18)، قال ابن سعد : كان أصغر ولد أبيه سناً وكان أجمل قرشي على وجه الأرض وأوسمه وأكثر صلاة وكان يقال له السجاد لعبادته وفضله وكان زاهداً متقشفاً وأثَّرَ في بنيه وحفدته، فنشأوا على هديه وسمته واقتدوا بمذهبه وسيرته، فكانوا أشهر الناس تلاوة وقياماً وصياماً وصلاحاً (19) حتى قبل فيهم : أفضت الخلافة إليهم وما في الأرض أحد أكثر قارئاً للقرآن ولا أفضل عابداً وناسكاً منهم بالحُميمة (20)وكان عالماً له معرفة ورواية عن أبيه (21) وكان سيداً شريفاً بليغاً (22) وكان كبير المحلَّ عند أهل الحجار (23). روي هشام بن سليمان المخزومي : أن عليَّ بن عبد الله كان إذا قدم مكة حاجاً أو معتمراً عطلت قريش مجالسها في المسجد الحرام وهجرت مواضع حلقها، ولزمت مجلس علي بن عبد الله إجلالاً له وإعظاماً وتبجيلاً، فإن قعد قعدوا وإن مشى مشوا جميعاً، ولم يكن يُرى لِقُرَشيَّ مجلس " ذِكْرٍ " يُجتمعُ إليه فيه حتى يخرج علي بن عبد الله من الحرم (24). فقد جمع علي بن عبد الله العباسي صفات الزعامة من علم وعبادة، وهيبة ومكانة في النفوس ... إلخ.

* رحلته إلى الشام :
أوصى عبد الله بن العباس ابنه علياً بإتيان الشام والتنحي عن سلطان ابن الزبير إلى سلطان عبد الملك، ولما توفي أبوه عمل بوصيته ورحل إلى الشام واستقبله عبد الملك واحتفى به، وكان يجلسه على سريره إذا دخل ويحادثه ويسامره وكان يرعاه ويهدي إليه الجواري، ويقضي حوائجه ويقبل شفاعته (25).
* سعيه للخلافة وضرب الوليد له :
علم الوليد بن عبد الملك في عهده أن علياً يطلب الخلافة ويتنبّأُ بانتقالها إلى بنيه فضيق عليه ونال منه وشهر به، ثم جلده وطرده من بلاد الشام (26) وقد تراجعت منزلة علي في عهد الوليد، وساءت حاله واضطربت وقد التمس الوليد الأسباب للانتقام منه والإضرار به فأذَّله واعتدى عليه، وجاوز القصد في ردعه ومعاقبته، فجلده مراراً ونفاه (27).

* في عهد سليمان وعمر بن عبد العزيز وهشام :
لما استخلف سليمان بن عبد الملك ردّه إلى دمشق، وأخلى سبيله، وأزال عنه ما لحق به من ظلم وهوان وربما اعتذر إليه من تعذيب الوليد له، وتنكيله به، وأنصفه وتألفَّه فصلحت حاله واستقامت، ورجع إلى الحميمة، فأقام بها حّراً عزيزاً، وعاود فيها نشاطه لا رقيب له ولا حسيب عليه.
ولما جاء عهد عمر بن عبد العزيز أمر بالكف عن اضطهاد بني هاشم، وقسم فيهم سهم ذي القربى، فانتعشوا وكتبوا إليه : يشكرون له ما فعله من صلة أرحامهم (28). وأخذ علي بن عبد الله بن العباس، ومحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يدفعان عنه ويَزعان الناس في اغتيابه (29).
ولما تولي هشام اعتنى بعلي بن عبد الله بن العباس، وأحسن إليه، فكان يتهلَّل له ويُدينه ويحمل عنه دُيونه إذا وفد عليه، وصبر على نشاطه السياسي وتغافل عنه وتغاضى عن أمله في الخلافة، واستهان بعمله للفوز بها، حتى أخطأ في تقدير خطره وقصّر عن إدراك تهديده لملك بني أمية إذ كان يهزأ بما يبلغه من أخبار نزوعه إلى الخلافة ويستخف بتوقعه لتحولها إلى بنيه، وكان ينسب ذلك إلى فساد عقله وضعف رأيه وأضغاث أحلامه في شيخوخته (30). ويرى بعض المؤرخين أن علي بن عبد الله بن العباس كان أوّل من تمنَّى الخلافة من بني العباس وشرع في تأسيس الدعوة لهم على انتقال الخلافة إليهم، وأظهر ذلك وجهر به (31)، هذا وقد توفي علي بن عبد الله بن العباس عام 118ﻫ (32).

(4) محمد بن علي بن عبد الله بن العباس :
كان محمد بن علي بن عبد الله بن العباس المتوفَّى سنة 125هـ خمس وعشرين ومائة (33)، أنبه إخوته وأفضلهم، وهو الذي رسَّخ قواعد الدعوة لبني العباس، وشيَّد أركانها، ورفع بنيانها، فقد شمَّر لتوطيدها وبثها، فوضع أنظمتها وشعاراتها وأنشأ مجالسها واختار قادتها، ومكّن لها في الكوفة وخراسان، وشحذ عزائم أنصارها وهيَّأهم ليوم إعلان الثورة وتفجيرها، وكان من أجل الناس وأعظمهم قدراً وكان بينه وبين أبيه أربع عشرة سنة، وكان عليُّ يخضب بالسَّواد، ومحمد بالحُمرة، فيظن من لا يعرفهما أن محمداً هو علي (34)، وكان عابداً زاهداً وكان له علم وفقه ورواية وكان ثقة ثبتاً مشهوراً (35)وكان مجاهداً يغزو الصائفة هو وعدة من إخوته ومواليه (36)، وكان سيد ولد أبيه (37)، وخيرهم ديناً، وأسخاهم كفاً وكان سمح النفس شديد الصَّبر (38)، صليب الفؤاد حصين الرأي حسن التدبير، قوي الحُجَّة، سديد المنطق، بليغ القول (39).

(5) علاقته بأبي هشام ووصيته له :
بعد موت محمد بن علي بن الحنفية بالمدينة عام ( 81ﻫ ) افترقت شيعته إلى فرقتين :
الأولى : دامت متمسكة بآرائها الكيسانية، فقد قالت: إنه غائب عنا لكنه حي يرزق بجبله (جبل رضوى) ولا بد من رجعته، فهم لا يوالون غيره، لأنهم ينتظرونه.
والثانية : تحولت إلى القول بإمامة ابنه عبد الله – المكنَّى بأبي هاشم من بعده، وسميت بالفرقة الهاشمية (40). وتعتقد أن أمر الشيعة صار إلى أبي هاشم بوصية من أبيه، وهذه الفرقة تعتبر أكبر الفرق العلوية وأدقها تنظيماً وأكثرها حماساً وقد عرف أبو هاشم هذا برجاحه عقله وسعة علمه، وحسن تدبيره، ومعرفته بأحوال الفرق، فزادت شيعته بعد وفاة والده، فأخذ يدير الأمور، ويبعث الدعاة مع السرية التامة، موضحاً – في نظره – أحقيته بالخلافة، التي هي لهم دون الأمويين ناشراً فظائع ومظالم بعض خلفاء الدولة الأموية (41)، وكان أبو هاشم قدم على سليمان بن عبد الملك بدمشق، فأكرمه وأجازه، وسار أبو هاشم يريد فلسطين أو الحجار، فمرض في الطريق وأحسَّ بالموت، ولم يكن له ولد، فعدل إلى الحُميَمةِ، ونزل على محمد بن علي، فأوصى إليه بالإمامة وسلم إليه كُتُب الدُّعاة وأوقفه على ما يعمل به، وصرف شيعته إليه وأمرهم بالسمع له، وأعلمه أن الخلافة في ولده عبد الله بن الحارثية (42)، وسواء أكانت وصية أبي هاشم صحيحة أم موضوعة فإن بني العباس وشيعتهم اعتمدوا عليها في تقرير حقهم في الخلافة ولم يزالوا يذكرون أن الخلافة أتتهم من جهتها إلى أيام أبي جعفر المنصور (43). وليس من الثابت أن سليمان بن عبد الملك راعه ذكاء أبي هاشم فخافه وفزع منه، ولا أنه أنفذ له من سَمَّهُ بعد أن رحل عنه وإنما مات حتف أنفه (44). وقد أكد جماعة من المؤرخين تحول دعوة أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية إلى العباسيين والتي عمل من أجلها حوالي سبع عشرة سنة، واستقطب فيها كبار الشيعة العلوية من أهل العراق وخراسان وفرقهم على المدن والأقاليم نظم هذه الدعوة ورعاها، وأعدها لليوم المرتقب وقد كانت وفاته عام 98ﻫ بعد موت محمد بن علي بن الحنفية بالمدينة عام ( 81ﻫ ).

(6) أسباب تنازل أبي هاشم لمحمد بن علي العباسي :
وعلى ضوء ما جاء من النصوص التاريخية التي ذكرت تنازل أبي هاشم عن الدعوة لمحمد بن علي العباسي عندما أحس بدنو الأجل، نستطيع أن نقول : ليس هناك ما يمنع من تنازل أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية لمحمد بن علي عن دعوته السرية التي يطلب بها الحق العلوي في الخلافة، لما نراه من أسباب نجملها فيما يلي :
(أ) أن دعوته كانت قابلة للنجاح والفشل، وقد تكون للفشل أقرب، لاسيما وأنها توصف بالغلو (45) وهذا مما يقلل من أهمية هذا التنازل.
(ب) عرف أبو هاشم أنه لا أمل له في الوصول إلى الخلافة، بعد أن عرف قرب أجله، ولم يسعفه الوقت في حرية اختيار شخص آخر ووجد أفضل الخيارات في تلك اللحظة هو محمد بن علي.
(ج) كما أن أبا هاشم لم يكن له ولد يخلفه (46)، فيوصي له بالأمر من بعده.
(د) كان بين أبي هاشم ومحمد بن علي العباسي علاقات ودية ولقاءات علمية وصداقة قوية، الأمر الذي ساعد على تنازل أبي هاشم لمحمد هذا.
(هـ) كان أبو هاشم قد عرف كبار شيعته ودعاته من أهل العراق وخراسان بمحمد بن علي العباسي أثناء ترددهم عليه، كما أخبرهم أن الأمر صائر إليه بعد وفاته (47)، كما تزعم بعض الروايات.
(و) لما عرف عن محمد بن علي العباسي من رجاحة العقل والدهاء، وحسن التدبير والتصرف....، فقد كان أبو هاشم كثيراً ما يستعين بآرائه حول موضوع الدعوة والدعاة، كان محمد بن علي قد عرف برجاحة العقل وسعة الذكاء، ومعرفته بأحوال الرجال والديار وقد استفاد من الأحداث التي جرت في عصره، وبالأخص ما وقع بين أبناء عمه العلويين والأمويين في صراعهم الدامي من أجل الخلافة، فقد درس أسباب الفشل والنتائج لهذه الأحداث، واستغل ما حصل من القتل والتشريد على إثر ذلك. ولما علم كبار الشيعة العلوية في العراق وخراسان بموت زعيمهم عبد الله بن محمد (أبو هاشم) وانتقال الدعوة إلى محمد العباسي، ساروا إلى الحميمة للتعزية بوفاة إمامهم عبد الله ولتهنئة إمامهم الجديد محمد بتولية قيادة الدعوة " دعوة آل البيت " ومبايعته وتقديم العهد له، ببذل أموالهم وأنفسهم من أجل نجاح هذه الدعوة، وقد رأى محمد بن علي العباسي صدق هؤلاء
الأنصار – وتحمسهم ولمس حبهم لآل البيت، وكرههم لبني أمية وتمنيهم لزوالهم (48).
ثانياً : المشروع العباسي في المرحلة السرية :
عندما نتأمل في مفردات المشروع العباسي في المرحلة السرية نلاحظ أنه يتكون، من قيادة حكيمة، وهيكل تنظيمي واضح المعالم، ومرجعية شرعية وتاريخية، ومبادئ قام عليها المشروع، وقدرة فائقة على التخطيط، ولقاءات دورية بين القيادة، والدعاة والنقباء، وكان المشروع العباسي قد استهدف شرائح من المجتمع عانت من ظلم الأمويين مع الأخذ بالجانب الأمني والاهتمام بالبعد الاقتصادي والإعلامي :

(1) القيادة :
تسلم محمد بن علي العباسي التنظيم السري من أبي هاشم وبدأ مسار التنظيم الجديد يتغير عن القديم في بنيته الفكرية والاجتماعية وغيرها ولكن كان ذلك مع التدريج وقد توفرت صفات الزعامة في شخصية محمد بن علي، من قيادة واعية، وقدره على التخطيط الصحيح، وقد برهن على عبقرية فذة في التنظيم والتخطيط للدعوة، مع قناعة الإتباع بزعامته الروحية والعلمية، فقد اشتهر بالعبادة والعلم، واستمر في تشكيل الحركة على أصول العقائد السنية، واستفاد من مدرسة جده عبد الله بن عباس في ذلك كما سيأتي، وعمل على جذب الأنصار والأخذ بأسباب النصر على الأمويين، وقد استفاد من تشكيلات محمد علي التنظيمية كثير ممن جاء بعده ممن سعى لقيام دولة مع التطوير كالموحدين، والفرق الباطنية وغيرها، وقد استطاع محمد علي العباس أن يحكم قبضته على أمور الدعوة من خلال جهاز بالغ الدقة في التنظيم والإدارة وقد استمر في عمله السري حتى وفاته عام 125ﻫ .
وهناك من العلماء من يرى أن تنظيم الدعوة العباسية قام على ثلاثة أفراد من البيت العباسي لم يقدر أن ينالوا ثمرة غرسهم، وأولهم علي بن عبد الله بن عباس الذي رأس الدعوة أكثر من عشرين سنة، وهو الذي نظم الدعاة والنقباء في كل العراق وخراسان، وولي أمر الدعوة بعده ابنه محمد علي ثم ابنه إبراهيم (49). والذي أميل إليه من خلال البحث أن الزعيم القيادي الكبير للدعوة العباسية في المرحلة السرية هو محمد بن علي العباسي (50)، وكان معه فريق عمل من إخوانه وأبنائه وغيرهم.

(2) الهيكل التنظيمي :
انتقل محمد بن علي بعد دراسة وتفكير إلى تنظيم الدعوة تنظيماً محكماً ورسم لكبار الدعوة الطريق الذي سوف يسيرون عليه للوصول بالدعوة إلى غايتها، وكان ذلك في تمام المائة الأولى من الهجرة النبوية الشريفة (51)، وجعل محمد بن علي العباسي الدعوة تتحرك في ثلاثة محاور، فقد جعل قرية الحميمة مكاناً للتخطيط والدراسة، فهي المركز الأول للدعوة والكوفة للإشراف على الدعوة، ولنقل تعاليم الإمام الصادرة من الحميمة إلى الدعاة في خراسان. وأما خراسان، فقد أصبحت مسرحاً للدعوة، كما أصبحت فيما بعد منطلقاً للعمل العسكري، وقد أكد محمد علي العباسي لقادة الدعوة، عدم ذكر اسمه، وأن تكون دعوتهم غاية في السرية، فهو يقول لأبي عكرمة السراج عندما أرسله إلى خراسان : فلتكن دعوتكم إلى الرضا من آل محمد، فإذا وقعت بالرجل في عقله وبصيرته فاشرح له أمركم ... وليكن اسمي مستوراً عن كل أحد، إلا عن رجل عدلك في نفسك ... وتوثقت منه وأخذت بيعته (52). كما حذر محمد بن علي دعاته من أهل الكوفة قائلاً : ولا تستكثروا من أهل الكوفة، ولا تقبلوا منهم إلا أهل النيات الصحيحة (53)، واحتاط لنفسه أن يبعد الشكوك التي تحوم حول الحميمة، فقد جعل دعاة خراسان يتصلون بالكوفة بدل الحميمة، حتى لا يلفت أنظار الأمويين فينكشف أمره. ولضمان السرية التامة لدعوته، فقد أمر كبار دعاته بأن يسلكوا في طريقهم إليه الطرق الرئيسية وأن يحاولوا التستر بزي التجار، كما يقللون التردد على الحميمة ما أمكن، واختار أبو عكرمة السراج بعد ذلك اثنى عشر نقيباً هم (54).
(1) سليمان بن كثير الخزاعي.
(2) مالك بن الهيثم الخزاعي أبو عيينة.
(3) طلحة بن رزيق الخزاعي.
(4) عيسى بن أعين الخزاعي مولى لخزاعة.
(5) عمرو بن أعين أبو الحكم، مولى لخزاعة.
(6) لا هز بن قريظ التميمي.
(7) موسى بن كعب التميمي أبو علي.
(8) عيسى بن كعب التميمي.
(9) القاسم بن مجاشع التميمي أبو نصر.
(10) خالد بن إبراهيم، أبو داود، من بني عمرو بن شيبان بن ذهل.
(11) شبل بن طهمان الربعي أبو علي الهروي الشيباني.
(12) قحطبة بن شبيب الطائي، أبو حمزة (55).

وهؤلاء هم رؤساء النقباء هم الذين يعرفون شخصية الإمام وأسرار الدعوة، ويلي هؤلاء نظراء النقباء وعددهم عدد النقباء، ونظير النقيب يخلف النقيب في حالة سفره، أو وفاته (56)، ثم يأتي بعد ذلك الدعاة وعددهم سبعون داعياً (57)، ثم يليهم دعاة الدعاة وعددهم ما يقارب من 36 داعياً (58)، ونظم محمد بن علي العباسي الدعاة تنظيماً دقيقاً يوحي بأنها دعوة دينية كدعوة الأنبياء والرسل – عليهم السلام – يقول في تنظيم ذلك ما نصه (59). بسم الله الرحمن الرحيم ... إن السنة في الأولين، والمثل في الآخرين، وأن الله يقول " واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا " ثم قال في آية أخرى : " وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا " (المائدة ، آية :) وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وافاه ليلة العقبة سبعون رجلاً من الأوس والخزج فبايعوه، فجعل منهم اثني عشر نقيباً .. فإن سنتكم سنة بني إسرائيل وسنة النبي عليه السلام. وبمقتضى هذا التنظيم الدقيق السري توزع الدعاة في العراق وخراسان، حيث وجه للكوفة ميسرة العبدي ( 102 - 105 (60) ) وخلفه بعد ذلك بكير بن ماهان ( 105 - 127ﻫ) (61).
ثم أبو سلمة الخلال ( 1027 - 132 ﻫ ) (62). وأما دعاة خراسان فقد وجه ثلاثة دعاة دفعة واحدة هم : محمد بن خنيس، وحيان العطار، وأبو عكرمة زياد بن درهم – وهو أبو محمد الصادق (63)، وهؤلاءهم رؤساء الدعوة العباسية في الكوفة، وخراسان، ويسمون – أيضاً - رؤساء النقباء وأراد أبو عكرمة السراج أن يعّرف الإمام على مدى تقبل وفرح أهل خراسان بدعوتهم ودعوة آل البيت، فطلب من زعمائهم أن يكتبوا للإمام محمد بن علي بما يؤكد له إيمانهم وإخلاصهم وحبهم لهذه الدعوة التي تهدف إلى خلاصهم من ظلم الأمويين – كما يرون ذلك – فأرسلها إلى الكوفة حيث ميسرة العبدي الذي دفعها بدوره إلى محمد بن علي في الحميمة (64)، ففرح بها واستبشر وسره أن ذلك أول مبادئ الدعوة (65). وأوصى محمد بن علي الدعاة أن يقضوا حوائجهم بالكتمان، وأن يكون ظاهر عملهم التجارة وغايتهم الدعوة إلى آل البيت قائلاً : انطلقوا أيها النفر فادعوا الناس في رفق وستر، فإني أرجو أن يتم الله أمركم، ويظهر دعوتكم ولا قوة إلا بالله (66) ثم قال لهم : فإن سئلتم عن اسمي فقولوا نحن في تقيه وقد أمرنا بكتمان اسم إمامنا (67). وأرسل محمد بن علي دعاته في الآفاق، يدعون الناس سراً، ظاهر أمرهم الاشتغال بالتجارة وباطنه الدعوة للرضا من آل البيت، واصفين إياه بالتقى والصلاح والزهد والورع، وأن غايته تطبيق شرع الله، شعاره العدل والمساواة، ويحق الحق ويبطل الباطل، وسيملأ الدنيا صلاحاً وعدلاً، كما ملأها بنو أمية فسقاً وجوراً – كما يدعون (68) واستخدم الدعاة مهنة التجارة يستخفون وراءها لنشر الدعوة التي أسندت إليهم، وأخذوا يجوبون البلاد طولاً وعرضاً لاستقطاب أكبر عدد من الناس فكانت مهمتهم أسهل، ومراقبتهم أصعب، ثم إن هؤلاء الدعاة لم يكونوا من عامة الناس، بل تسلحوا بسلاح الثقافة والمعرفة والإخلاص للدعوة والتفاني في سبيلها، فبذلوا الأموال ولاقوا السجن والقتل والتمثيل، وكانت لديهم الحنكة لاجتذاب الأنصار (69). ولم يكن من دعاة بني العباس المشهورين أحد ممن اشتهر بالعلم في ذلك العصر بل أغلب الدعاة كانوا رجال إدارة وأهل قيادة وحرب، كأبي مسلم الخراساني وقحطبة بن شبيب، أو من أهل الشرف واليسار كبكير بن ماهان الذي أغدق على الدعوة بماله، فذكر أنه أنفق في نصرة الدعوة أربع لبنات من فضة ولبنة من ذهب (70)، وورد أنه الذي اشترى أبا مسلم الخراساني لما رأى صلاحه لأمر الدعوة (71)، وكأبي سلمة الخلال الذي ذكر أنه رجل شهم، سائس شجاع، متمول، أنفق أموالاً كثيرة في إقامة الدولة (72). كما أن بعض دعاة بني العباس من الموالي الذي يهمهم القضاء على بني أمية ونجاح الدعوة العباسية التي يرفع قادتها شعار المساواة وإنفاق الموالي (73). ونلاحظ أنَّ الأكثرية الساحقة من النقباء كانوا عرباً (74). وقد ذكر الباحثون أسماء وتشكيلات تنظيمية منها :

(أ) كبير للدعاة بالكوفة :
فقد عين محمد علي العباسي كبيراً للدعاة، وجعل الكوفة موقعاً له ومقاماً، إذ هي أقرب إلى خراسان من الحميمة، وبها شيعة أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية الذين انضموا إلى بني العباس وكان كبير الدُّعاة مسئولاً عن نشر الدعوة والإشراف عليها بخراسان، فكان يرسل إليها وفود الدعاة، وكان يكتب إلى محمد علي بأنباء الدعوة ويعلمه بأحوالها، وكان يلقاه في موسم الحج، وكان يزوره بالحميمة إذا طرأ طارئ واحتاج إلى أن يعرف رأيه فيه، حتى يأخذ به وينفذه. وكان الدعاة من أهل خراسان يمرون بالكوفة، ويعّرجون على كبير الدعاة، فيطلعونه على ما بلغوا في بث الدعوة ويشرحون له ظروفها، ثم يمضون إلى الحجاز، فيقابلون محمد بن علي بالمدينة ومكة في موسم الحج، فيؤدون إليه ما اجتمع لهم من أموال، ويُخبُرونه بأخبار الدعوة ويعرضون عليه مسيرتها ومُلابساتها، ويتشاورون في أمرها حتى يستدركوا النقًّص، ويتلافوا الأخطاء، ويُذلَّلوا الصعاب، ويتجنبَّوا الأخطار، تقوية للدعوة ومداً في تيارها وحماية لها من الانهيار فإذا انقضى موسم الحج زوّدهم بتوجيهاته وإرشاداته، ورجعوا إلى خراسان، فواصلوا القيام بأمر الدّعوة وجدَُّوا في نشرِها (75)، قال البلاذري : (كان محمد بن علي يقدم المدينة في كل سنة فيقيم بها الشهر والشهرين، ويُؤتى بالمال فيفرقه) (76)، ومن أشهر من تولى هذا المنصب في التنظيم العباسي بكير بن ماهان فقد استعمله محمد بن علي العباسي بعد وفاة أبي رباح ميسرة النبَّال، فقد جاء إلى محمد بالحميمة وأخبره عن شيعته بالكوفة، وأوصاه محمد بن علي أن يدعو إلى الرضا من آل محمد، ويذكر جور بني أمية، وأن آل محمد أولى منهم بالأمر، وأوصاه أن يُحذر شيعة بني العباس التحرك في شيء مما يتحرك فيه بنو عمَّهم من آل أبي طالب، فإنَّ خارجهم مقتول، وقائمهم مخذول وليس لهم في الأمر نصيب، وخوّفه جماعة أهل الكوفة وأمره أن لا يقبل منهم أحداً إلا ذوي البصائر، فإنهم لا يُعزُّ به من نصروه ولا يوهنون بخذلانهم من خذلوه (77). وكان بكير بن ماهان رجلاً مُفوَّها، فقام بالدُّعاء وتولى الدعوة بالعراقين. وكانت كتب الإمام تأتيه فيغسلها بالماء، ويعجن بغسالتها الدقيق، ويأمر فيُختبز منه قرص، فلا يبقى أحد من أهله وولده إلاَّ أطعمه منه (78) وهذا يُشير إلى النفوذ الروحي لمحمد بن علي العباسي على أتباعه ولا شك أن هذا الأمر ساهم بشكل كبير في نجاح الدعوة العباسية، وقد أنفق بكير بن ماهان أموالاً طائلة في نصرة الدعوة (79).
(ب) مجالس الدعوة العباسية :
ذكر مصنف أخبار الدولة العباسية أن بكيراً كوّن مجالس الدعوة العباسية المختلفة سنة عشرين ومائة (80)، وفي حديثه عن بعضها تعميم ووهم، فإن مجالس النُّقباء، ومجلس السبعين أُلفا في سنة مائة، روى ذلك أكثر المؤرخين، واتفقوا عليه، ويبدو أن بكيراً جمع رجال المجلسين (81) (81)، وتبادل معهم الرأي في شؤون الدعوة العباسية، وأقرَّهم وأبقاهم في مناصبهم ولم يعزل أحداً منهم، ولا سيما النقباء، فإن أسماءهم عند مُصَنفَّ أخبار الدولة العباسية (82)، وعند غيره من المؤرخين (83) متطابقة، وأما سائر رجال السبعين فإنه استَقَلَّ بسرد أسمائهم إذ لم يشاركه أحد من المؤرخين في ذلك (84)، ويبدو أن بكيراً أنشأ بقية المجالس التي ذكرها مُصَنَّف أخبار الدولة العباسية لأنها لم تُعرف قبل هذا التاريخ، وهي : مجلس نظراء النقُّباء. وهو يتألف من اثنى عشر رجلاً، وقيل من عشرين أو أحد وعشرين رجلاً وقد سمّاهم جميعاً (85) ومجلس الُّدعاة، وهو يتألف من سبعين رجلاً، وقد سمَّى منهم خمسة وستين رجلاً (86) ومجلس دعاة الُّدعاة ولم يُحدَّد عدد رجاله، وقد سَمَّى منهم سبعة وثلاثين رجلاً (87). وفي كل مجلس من هذه المجالس طائفة من رجال مجلس السبعين. ونصَّ على أن النُّقباء الاثنى عشر ليس بين أحد من أهل العلم فيهم اختلاف، فأما نُظراء النُّقباء والسبعون قد اختلف فيهم (88). ثم أخذ بكير البيعة على من حضره من شيعة – بني العباس – على مناصحة إمامهم في السَّر والعلانية، وألا يُطلعوا على أمرهم أحداً خافوا ناحيته ولم يثقوا به، وجمعوا مالاً كثيراً، وأتوه به، وخلف عليهم سليمان بن كثير الخزاعي، وأمرهم إذا حزبهم أمر أن يجتمعوا إليه فيناظروه فيه عنده، وأمرهم أن يأخذوا برأي أبي صالح كامل ابن مظفر فإنه ثقة في رأيه وشفقته، وشخص إلى جرجان، فلما قدِمها أقام بها شهراً، وجمع له شيعتها مالاً وحُلياً ثم سار منها إلى الكوفة، فلما بلغها مكث بها يسيراً، ثم توجَّه إلى محمد بن علي، فدفع إليه ما قدم به (89)، ولبث في الحُميمة زمناً، ثم رجع إلى الكوفة أول سنة (122هـ) اثنين وعشرين ومائة (90) .
(3) البعد التخطيطي وقراءة الواقع عند محمد بن علي العباسي :
إن التخطيط والتنظيم من الأسس المهمة في نجاح الدعوات وقيام الدول، حيث كتب محمد بن علي كتاباً لقادة التنظيم العباسي ليكون لهم مثالاً، وسيرة يسيرون عليها قائلاً : أما الكوفة وسوادها فشيعة علي وولده، وأما البصرة وسوادها فعثمانية تدين بالكف، تقول كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل، وأما الجزيرة، فحرورية ما رقة، وأعراب كأعلاج، ومسلمون في أخلاق النصارى، وأما أهل الشام فلا يعرفون إلا معاوية، وطاعة بني أمية، وعداوة راسخة، وجهلاٍٍ متراكماٍ، وأما مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر، ولكن عليكم بأهل خراسان، فإن هناك العدد الكثير، والجلد الظاهر، وهناك صدور سليمة، وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء، ولم تتوزعها النحل، ولم يقدح فيها فساد، وهم جند لهم ابدان، وأجسام، ومناكب، وكواهل، وأصوات هائلة ... وبعد : فإني أتفاءل إلى المشرق، وإلى مطلع سراج الدنيا، ومصباح الخلق (91).
لقد وصف محمد بن علي للدعاة المكان الذي يمكن أن تنمو فيه الدعوة وتحقق أكبر النجاح للقضاء على الحكم الأموي بعد أن بين الموانع القائمة بكل إقليم على حده، ثم ذكر المؤهلات التي تجعل إقليم خراسان هو المكان المناسب لاحتضان الدعوة العباسية:

هـ. خراسان :
منطقة بعيدة عن عاصمة الدولة وفيها رجال أقوياء حاقدون على الحكم الأموي، والاستقرار في هذه المنطقة شبه مفقود وفيها شيعة متحمسون لنصرة آل البيت وفي خراسان : جمجمة العرب وفرسانها (92)، فقد كانت خراسان موطن المقاتلة العرب الذين مرستهم الحرب الطويلة مع تركستان والذين عبّروا مراراً عن تذمرهم من السياسة الأموية والعسكرية (93)، فقد تضايقوا من سياسة التجمير وهي إبقاء المقاتلة في الثغور وعلى خطوط المواجهة شتاءً في الوقت الذي يرغب المقاتلة في قضاء الشتاء مع عوائلهم.
كان الوالي الأموي يسلبهم حصتهم من الفيء والغنيمة أحياناً أو يأخذ أكثر من حقه منها أحياناً أخرى.
سئمت القبائل من النزاع المستمر بين الشيوخ والرؤساء الطموحين للوصول إلى السلطة حيث خلق هذا بين قبائل خراسان نوعاً من القلق ولذلك وجدت تلك القبائل في الدعوة العباسية أملاً جديداً لحياة أكثر استقراراً ويسراً (94).
ج. الحجاز : فهو إقليم غلب عليه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فأهله يميلون إلى الزهد والعبادة، ويركنون إلى السلم وترك الاشتغال بالسياسة، فهم لا يرون أن الخلافة حقاً من حقوق بني هاشم – وإنما في قريش عموماً – ولهذا فشلت حركة المدينة التي قام بها بعض المعارضين للحكم الأموي، كموقعة الحرة عام 63ﻫ. وفي مكة انتهت خلافة عبد الله بن الزبير عام 73ﻫ دون أن تحقق الهدف المنشود – لأسباب كثيرة مر ذكرها – كما أن أهل الحجاز يعرفون أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وصلوا إلى الخلافة بالشورى، والاختيار والقبول من الأمة الإسلامية من غير تسلط أو سفك دماء.
د. الشام : وأما إقليم الشام " دمشق " التي اتخذها الأمويون عاصمة لدولتهم الإسلامية المترامية الأطراف، وأهل الشام يرون أن عزهم ومجدهم قد جاء عن طريق الأسرة الأموية فهم لا يرون عنها بدلاً.
ب. البصرة : هي في نظر محمد بن علي العباسي لا تصلح لهذه الدعوة، فسكانها خليط من البشر، وفيها عدد من الأجناس والأديان، والبصرة مدينة اقتصادية لا شأن لها بالسياسة، ويقطنها قليل من الشيعة لا يفي بالغرض المطلوب، والكثير منهم منهجهم: "كن عبد الله المقتول".
أ. وأما الكوفة : ففيها شيعة علي وولده، ولا تقبل غير الدعوة لأولاد علي، فأهلها يرون أن الخلافة هي حق من حقوق العلويين دون غيرهم (95).
إن هذا الرأي الذي أدلى به محمد العباسي ليصور بوضوح نزعات الأقاليم الإسلامية ولم يشر هذا الكلام إلى مصر التي كانت قريبة من بلاد الشام فلم يكن بالإمكان اتخاذها مركزاً لحركة معارضة أو لإعلان ثورة (96) أما إفريقيا فلقد كانت قريبة من مصر وبالتالي في قبضة الجيوش الأموية لقربها من الحاميات المتقدمة .

(4) دور "الحميمة" القيادي وأهمية العنصر العربي في البناء التنظيمي :
وقد أتيح للقيادة العباسية من موقعها في " الحميمة " مراقبة الوضع السياسي عن كثب، والتنبه للثغرات والمشكلات فيه دون أن يكون اختيار خراسان سوى نتيجة لذلك وهي الولاية الأثيرة لدى الأمويين ومركز الخلل في دولتهم المترنحة والصورة الأكثر تعبيراً عنها في صراعاتها وانقساماتها. على أنه ثمة مسألة هامة هي أن اختيار خراسان لا يعني انصراف العباسيين عن الشام، كما لا يعني التوجه نحو الموالي واستغلال أحقادهم على الدولة الأموية، على نحو ما روّج له المستشرقون في هذا المجال ولكنه جاء محصلة للمعطيات السابقة، فضلاً عن المعطى الجغرافي، متمثلاً في بُعد الولاية عن مركز الدولة، ذلك أن الدعوة في – أساسها التنظيمي قائم على العرب – وتوجهها الخراساني إنما كان للقبائل العربية اليمنية (97)، القاطنة بأعداد كبيرة في هذه الولاية، هذا إذا لم نتوقف عند عروبة " النقباء " المتحدرين من كبريات القبائل العربية، إذ أن خمسة منهم إلى خزاعة، وثلاثة إلى تميم، واثنين إلى مزينة، فضلاً عن آخرين من طيء وربيعة .. إلخ (98). ولا يعني هذا أيضاً، أن يكون لبروز شخصيات من أصل غير عربي في الدعوة، من أمثال أبي مسلم الخراساني وأبي سلمة الخلال، دلالات تخالف هذا الواقع، إذ أن قيادة الدعوة كانت تحكم قبضتها على كل الأمور، من خلال جهاز بالغ الدقة في التنظيم والإدارة، وسرعان ما لجأت إلى التخلص من هذين الرجلين القويين بعد إنهاء دوريهما المرسومين ومحاولة كل منهما تجاوز خطوطه المحددة (99)، وهكذا في قرية من أطراف الشام تم للعباسيين إخراج مشروعهم إلى حيز التنفيذ، متحالفين مع الوقت، ومتقنين العمل السري، وراصدين ثغرات الحكم الأموي، بما فيها مساوئ الخلفاء وضيق رؤيتهم السياسية، مما حاد بهؤلاء عن الموضوعية واتخاذ المواقف المسئولة، خصوصاً في تلك المرحلة المتأخرة منه (100)، وقد كانت دراستهم العميقة لأسباب النجاح وعوامل إضعاف الأمويين تدرس بحكمة ووعي فائق وذكاء كبير في مركز القيادة بالحميمة.
أهم مبادئ المشروع العباسي والشرائح المستهدفة بالدعوة :
لكل دعوة أو مذهب منظومة فكرية وشعارات خاصة تنادي بها وتجعلها رمزاً يؤمن بضرورة تحقيقه ومن أهم مبادئ وشعارات الدعوة العباسية التي رفعتها ونادت بها :
الدعوة إلى الإصلاح : ومن شعارات الدعوة العباسية الإصلاح، أو الدعوة إلى الكتاب والسنة وهو شعار عام وهو أشمل شعارات الدعوة العباسية والواقع أن أحداثاً كثيرة تركت في النفوس آثاراً مريرة، مثل حصار الكعبة وانتهاك حرمة المدينة المنورة يوم الحرة، وسفك دماء أهل البيت وسياسة القهر واضطهاد المعارضة، والابتعاد عن سيرة السلف الصالح، وحب الترف واللهو وكثرة مظاهره وكثرة المذاهب وتصارعها وظهور أقوال كثيرة غير مألوفة من قبل، والاعتماد على العصبية في الحكم.
المساواة : وهو شعار المساواة بين الشعوب، وهو شعار ساهم في إنجاح الثورة العباسية وأنصف الشعوب التي أسلمت واندمجت في الحضارة الإسلامية وصارت تتطلع إلى المساواة وهذا الشعار في ذاته مبدأ إنساني جليل لا تزال الأجيال تتعلق به منذ القدم وتتخذه مثلاً أعلى، وهو شعار له معنى خاص في ديننا وهو عدم التفرقة بين الناس بحسب ألوانهم أو دمائهم أو تاريخهم، وبيان أن أكرم الناس عند الله أتقاهم وقد تستر خلف هذا المبدأ دعاة العباسيين وشنعوا به على بني أمية وزعموا أنهم انحرفوا عن هذا المبدأ الإسلامي الأصيل (101).
الإمامة للرضى من آل محمد : وهذا الشعار رضي عنه مجموعة كبيرة من الناس سواء من الشيعة أو السنة وهو أن المبايعة للرضى من آل محمد صلى الله عليه وسلم بدون تعيين اسم ولا تعيين هل هو من البيت العباسي أم من الطالبيين وانتبه الشيعة متأخرين إلى أن العباسيين كانوا يخططون لأنفسهم ولكن بعد فوات الأوان (102).
فهذه هي أهم المبادئ بالإضافة إلى العدل، ومحاربة الظلم والانتصار لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. واعتمد محمد علي أسلوباً جديداً في بث الدعوة فأوصى أتباعه بكتمان أمرهم وعدم كشف حقيقته لأحد إلا بعد أن يأخذوا عليه العهود والمواثيق المؤكدة (103)، وحتى لا تثير تحركاتهم شكوك السلطة الأموية أوصى أتباعه أن يجوبوا المدن ويعملوا لدعوته بحجة التجارة وأن يستروا اسمه على الجميع، فلم يكن محمد بن علي طيلة المدة التي تولى بها رئاسة الدعوة يعرفه أحد بنسبه واسمه إلا الدعاة (104)، وحتى هؤلاء فإن لقاءه بهم كان قليلاً (105)، وإذا ما استوجب الأمر أن يلتقي بأحدهم فإن ذلك يتم تحت إجراءات أمنية مشددة وغالباً ما يكون في وقت متأخر من الليل بعد أن يكون الجميع قد دخلوا منازلهم (106)، وقد بالغ محمد بن علي في كتمان أمر الدعوة فأوصى أتباعه أن تكون البيعة لشخص مجهول وهي " للرضا من آل محمد " (107)، ويبدو أن هذا الغموض في المبادئ خدم السياسية العباسية في مدة الدعوة السرية وكان له أثر بالغ في نجاحها فشعار " الرضا من آل محمد " يضيق دائرة الخلاف فيحصرها في أهل البيت من قريش، ويخرج الأمويين منها ويبطل حقهم فيها، وفي الوقت نفسه يجعل للعباسيين نصيباً منها على أساس أنهم أحد فرعي أهل البيت، ويتيح لهم كسب أعداد كبيرة من أنصار أهل البيت ومؤيديهم، وهو من الناحية الأخرى يوقف النزاع بينهم وبين العلويين ولو مؤقتاً ويجمعهم تحت راية واحدة (108)، لذلك فقد تجنب العباسيون في هذه المدة كل ما يبين أنهم قاموا لأخذ محل العلويين، فأظهروا أن غايتهم قلب الدولة الأموية، وأخفوا سعيهم لأخذ الخلافة، وحاولوا أن يبينوا للناس أن قضيتهم هي قضية جهاد الحق ضد الباطل (109).
إن الثورة العباسية شأنها شأن الثورات الكبرى في التاريخ، تظهر بأشكال متعددة وتندفع في مجراها قوى متنوعة على الصعد الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ولا شك أن الموالى كان لهم حضورهم، إلا أنهم كانوا في صفوف الجنود والأتباع، ولم يكونوا قادة إلا في استثناءات، كانت الثورة العباسية هي ثورة اليمانية الكبرى، كما كانت ثورة الشيعة العباسية والمرجئة والقدرية والخوارج وكان لكل من هذه القوى نصيب فيها، وإن كانت العديد من هذه القوى قد تعرض للتصفية على يد أبي مسلم نفسه فيما بعد (110)، ويقول أبو جعفر المنصور موجهاً كلامه لليمانية معترفاً لهم بدورهم المتميز في نجاح الثورة : فيحق لنا أن نعرف لهم حق نصرهم لنا وقيامهم بدعوتنا ونهوضهم بدولتنا (111)... وقد تكون هذه الصورة التي تجعل من الثورة العباسية ثورة يمانية مبالغ فيها، إذ أن القيسيين والمتذمرين من سياسة نصر بن سيار ومروان بن محمد انضموا كذلك إلى صفوف الثوار العباسيين وعملوا بدورهم على إسقاط الدولة الأموية (112).
باختصار كانت الثورة العباسية هي ثمرة حسن استغلال تراكم معارضات عدة بدأت مُنذ لحظة هذه الثورة بواجهات متعددة ورفعت شعارات مختلفة، حاولت فيها كسب كل المتذمرين ضد الحكم الأموي، فانضم إليها الغلاة والمعتدلون، المسلمون وغير المسلمين، العرب وغير العرب (113) إن هذا التعقيد في الثورة العباسية هو سر نجاحها، فالشعارات التي رفعتها كانت عامة غامضة، لا تختلف ربما عن سواها إلا باكتسبت مضموناً مختلفاً عندما تبنتها قوى متعددة ورأت فيها مشروعها للخلاص، وإنما على قاعدة تلك البنية التنظيمية التي صنعها أناس أكفاء استطاعوا الصمود رغم ما أحاط بهم من أشكال القمع، حتى تحقق الانتصار الكبير (114).
وقد استهدفت الدعوة العباسية في رحلتها السرية من أعداء الدولة الأموية والذي من أهمهم :
(أ) المهالبة الذين حاربتهم الدولة الأموية وتتبعتهم بعد مقتل يزيد بن المهلب، والمهالبة يمنيون.
(ب) الموالي، فقد كان هؤلاء يدفعون من الضرائب مقدارً كبيراً، ولا يعاملون بالتساوي مع العرب وكان عليهم ضغط من كل جهة، فكانوا أعداء الدولة بطبيعة الأمر.
(ج) وكان بجانب هؤلاء عدو قوي للأمويين وهم الشيعة، فالشيعة العلوية كانت لا تزال تقوم بين حين وآخر بثورات، وكانت ثوراتها تخمد في كل مرة، فتزداد الكراهة وتشتد العداوة (115) فهذه من أهم الفئات التي استهدفتها الدعوة العباسية، فقد كانت تشكل تربة خصبة لحشد الأتباع والمناوئين للدولة الأموية فأي حركة منظمة تريد أن تسقط نظاماً ما لا بد لها من معرفة أعداء ذلك النظام والعمل على حشد القوى ضده مع ضرورة إمساكها بخيوط الثورة بيدها، فهذه بديهة من بديهات العمل السياسي المنظم. كان على رأس الدعوة العباسية رجال من بني العباس، " دهاة أقويا " منظمين عارفين بما يقومون به : أولهم محمد بن علي وأقرباؤه وابنه إبراهيم، ثم تبعهم عدد من إخوة إبراهيم ومن أعمامه وأقاربه، وقد اشتركوا جميعاً في تنظيم الثورة ووضعوا خططها وأشرفوا عليها ووجَهوها كما يجب أن توجه. نعم إنهم تحالفوا مع أعداء بني أمية جميعاً واستفادوا منهم كل الاستفادة، لكنهم هم الموجهون وهم أصحاب الأمر، أما الدعاة والقادة فإنهم يتلقون أوامرهم وينفذونها بحذافيرها، نعم استفادوا من العناصر المعادية لبني أمية، وكانت تلك العناصر يجمعها هدف واحد هو إزالة بني أمية، و تجمعها فكرة واحدة، وهي أن بني أمية أعداء الدين لذا وجب القضاء عليهم (116).

(5) المرجعية الشرعية للدعوة العباسية :
تعتبر مدرسة عبد الله بن عباس الحركية والشرعية هي المرجعية للدعوة العباسية، فقد اهتم علي بن عبد الله بن العباس بتراث أبيه وعلومه، يروي ابن سعد بسند أن موسى بن عقبة قال : وضع عندنا كريب حمل بعير أو عدل بعير، من كتب ابن عباس، قال فكان علي بن عبد الله بن عباس إذا أراد الكتاب كتب إليه : إبعث إليّ بصحيفة كذا وكذا، قال فينسخها فيبعث إليه بأحدها (117) وقد علق الدكتور صالح أحمد العلي على هذا الأثر فقال : غير أن موسى بن عقبة لم يحدد فيما إذا كانت كتب ابن عباس هذه مما ألفه أو مما امتلكه كما أنه لا يذكر مواضيعها، أي فيما إذا كانت في التفسير أم في علوم أخرى (118). وذكر صاحب الوصية السياسية في العصر العباسي بأن محمد بن علي حين نشأ : ألزمه أبوه أصحاب جده – ابن عباس – فكان كذلك حتى علم وفقه فجلس يوماً يفتي في المسجد الحرام بمثل فتيا جده (119)، وقد أبهرت فتواه سعيد بن جبير رضي الله عنه حين سمعه فقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني رجلاً من ولد ابن عباس يفتي بفتواه (120)والمعلوم لدى الباحثين أن عبد الله بن عباس تقدم في التفسير بسبب عوامل متعددة منها؛ دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بالفقه في الدين والعمل بالتأويل، قرب منزلته من عمر – رضي الله عنه، الأخذ عن كبار الصحابة، قوة الاجتهاد وقدرته على الاستنباط، قدرات ابن عباس التعليمية والتربوية، رحلاته وأسفاره، وتأخر وفاته (121) وكان ابن عباس من علماء المدرسة المكية وقد تميزت هذه المدرسة من بين سائر المدارس بكثرة تناولها للآيات وتفسيرها وأسهمت إسهاماً قيما في الإبانة عن كثير من المعاني التي يحتاج إليها ويرجع ذلك لأسباب عديدة منها؛ إمامة ابن عباس للمدرسة، الأثر المكاني على المدرسة – كونها بمكة – كثرة رحلاتهم وأسفارهم، حرصهم على نشر علمهم، التصنيف والتدوين المبكر لآثار المدرسة (122).. إلخ.

* الفقه الحركي عند ابن عباس :
استفاد العباسيون من فقه جدهم الحركي والذي ظهر عند نصحه للحسين بن علي لما أراد الذهاب للكوفة، فقد قال له : أخبرني إن كانوا دعوك بعد ما قتلوا أميرهم، ونفوا عدوّهم، وضبطوا بلادهم، فسر إليهم، وإن كان أميرهم حيَّا، وهو مقيم عليهم، قاهر لهم، وعماله تجبي بلادهم، فإنهم إنما دعوك للفتنة، والقتال (123)، وفي رواية أخرى أنّه قال له : إنّي أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك، إنّ أهل العراق قوم غدر، فلا تغترنّ بهم، أقم في هذا البلد حتىّ ينفي أهل العراق عدوّهم، ثم أقدم عليهم، وإلا فسر إلى اليمن، فإن بها حصوناً وشعاباً ولأبيك بها شيعة وكن عن الناس بمعزل، واكتب إليهم وبث دعاتك منهم، فإني أرجو إذا فعلت ذلك أن يكون ما تحب (124). ويظهر من فقه ابن عباس الحركي :
(أ) أهمية سيطرة أهل العراق على إقليمهم وتحريره من سلطان بني أمية : وهذا ما قام به العباسيون مع أهل خراسان حيث ضبطوه وحّرروه من سلطان بني أمية فيما بعد .
(ب) استفاد العباسيون من تقييم ابن عباس لأهل العراق ولذلك لم يعتمدوا عليهم في تشكيل القاعدة الصلبة التي قامت عليها دعوتهم.
(ج) بيَّن ابن عباس بأن اليمن بها حصون وشعاب ولأبيك بها شيعة وهذه عوامل مهمة في نجاح الحركة لأن قبضة الدولة الأموية تكون ضعيفة للأسباب الجغرافية والبشرية ولذلك وقع اختيار العباسيين على خراسان، لضعف قبضة الدولة عليها، كما كان بها أنصار لأهل البيت وخصوصاً من القبائل اليمنية المهاجرة هناك.
(د) وبين ابن عباس بأن يكون صاحب الدعوة في بداية أمرها عن الناس بمعزل وأن يكتب إليهم ويبث دعاته فيهم وهذا الذي فعله محمد بن علي العباسي، فقد كان عن الناس بمعزل وكان يكتب للناس ويبث دعاته من خلال تنظيم محكم انتشرت خلاياه الدعوية في جسم الأمة الإسلامية .

(6) انحراف خطير عن منهج الدعوة وموقف محمد بن علي العباس ضده :
في سنة 118ﻫ بعث بكير بن ماهان عمَّار بن يزداد داعية إلى خراسان وكان نصرانياً من أهل الحيرة ثم أسلم وصار معلماً بالكوفة، فلمّا أتى خراسان تسمَّى بخداش بن يزيد، ودعا الناس إلى بني العباس فأجابوه، ثم انحرف عن الدعوة العباسية، وخرج عن مبادئها وقواعدها وشذَّ عن مراميها ومقاصدها فثار عليه شيعة بني العباس وفتكوا به، ويقال : إنَّ أسد بن عبد الله القسْري هو الذي قبض عليه وقتله (125) وقال البلاذري : وجه بكير عماراً هذا فغيّر سُننَ الإمام، وبدل ما كان في سيرة من قبله، وحكم بأحكام منكرة مكروهة، فوثب عليه أصحاب محمد بن علي فقتلوه، ويقال : بل قتله أسد بن عبد الله وصلبه (126)، وفيما روى ابن جرير الطبري من خبر خداش أنه أعلن دين الخُرّمية وأحّلًّ النساء وأباحهن وذكر لشيعة بني العباس أن محمد بن عليَّ أمره بذلك، فأخذه أسد بن عبد الله القسري، ومثّل به ثم قتله (127)، وروى ابن الأثير أن خّداشاً أجاز لشيعة بني العباس ترك الطاعات والفروض وسوّغ لهم ذلك واحتجَّ له احتجاجاً قبيحاً، يقول : قال لهم : إنه لا صوم ولا صلاة ولا حج، وإن تأويل الصوم أن يُصام عن ذكر الإمام فلا يباح باسمه، والصلاة والدعاء له، والحج القصد إليه، وكان يتأوَّل من القرآن (128) قوله تعالى : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتّقوا وآمنوا وعملوا الصالحات " ( المائدة : 93). وكان مروق خِداش من الدَّين وانسلاخه من الإسلام، ومزجه تعاليم الدَّعوة العباسية بتعاليم الخُرَّمّية أكبر الأخطار التي صادفها محمد بن علي، فقد نكب شيعتها وشق صُفُوفهم شقاً وكان من انحازوا إليه منهم كُثراً وكان فيهم بعض النُّقباء والدُّعاة (129)، وروى البلاذري أن محمد بن علي صرف شيعة بني العباس بخراسان عن مقالة خِداش، إذ أرسل إليهم بكير بن ماهان، فرتق فتقهم، ورأب صدعهم، ولم شعثهم وأعادهم إلى منهاج محمد بن علي ودعوته (130)وقد أرسل مع بكير من ماهان رسالة إلى دعاته في خراسان يحذرهم من الدخول في هذه المبادئ المنافية للإسلام، كما أرسل معه رسالة ثانية إلى رؤساء الدعاة (131).
قال في رسالته الأولى : سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ... وأشهد أن الله يبدئ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم فتبارك ذو الفضل العظيم. أما بعد : فإني أوصيكم بتقوى الله الذي لا يزيد في ملكه من أطاع ولا ينقص من ملكه من عصاه، بيده الملك ويبقى ملكه وهو عزيز ذو انتقام وتمسكوا بصالح الذي عاهدتم الله عليه وأدوا الأمانة فيما أمركم به، واعتصموا بحبل الله جميعاً، وخذوا بحظكم منه واشكروا بلاه الذي أصبح بكم من سوابغ نعمه واعتبروا ما بقي بما سلف، وإنما ضرب الله لكم أمثال ما مضى من الأمم لتعقلوا عن الله أمره بأنكم قد رأيتم من الدنيا وتصرفها بأهلها إلى ما صار من مضى منهم، وخير ما يصيب الناس فيما بقي من الدنيا ... ثم اعلموا علماً يقيناً أن لأهل ولاية الله منازل معروفة كأنما ينظرون فيما أعطاهم الله من اليقين إلى عواقب الأمور ومستقرها .. لا تصدقوا كذباً، ولا تجمعوا خبيثاً ولا تخالفوا تقياً ولا تحتقروا يتيماً صغيراً، ولا تنتهيكوا ذمة، ولا تفسدوا أرضاً ولا تشتموا مؤمناً، ولا تقطعوا رحماً، ولا تعصوا إماماً، وأحسنوا مؤازرتهم وصيانة أمرهم، أعينوهم إذا شهدتم وانصحوا لهم إذا رغبتم، اعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله وأوثق التقوى لزوم حقه، وخير الملل ملة إبراهيم وأفضل السنن سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وأعظم الضلالة ضلالة بعد هدى... ونفس تناجيها بتقوى خير من نفس أمارة بالسوء، فاتقوا الله، ولا تكونوا أشباهاً للجناة الذين لم يتفقهوا في الدين ولم يعطوا بالله اليقين وأن الله أنزل عليكم كتاباً واضحاً ناطقاً محفوظاً قد فصل فيه آياته، وأحكم فيه تبيانه، وبين لكم حلاله وحرامه، وأمركم أن تتبعوا ما فيه، فاتخذوه إماماً، وليكن لكم قائداً دليلاً، فعليكم به، ولا تؤثروا عليه غيره ... فإن الله بين لكم ما تأتون وما تتقون، فقال لنبي الرحمة " قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ". وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم " قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد " أسأل الله أن يجعلنا وإياكم مهتدين غير مرتابين . والسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين (132).
وقال في رسالته الثانية التي وجهها إلى رؤساء الدعاة : " أما بعد عهدنا الله وإياكم بطاعته وهدانا وإياكم سبيل الراشدين. فقد كنت أعلمت إخوانكم رأيي في خداش، وأمرتهم أن يبلغوكم قولي فيه، وإني أشهد الله الذي يحفظ ما تلفظ به العباد، زكي القول وخبيثه وإني بريء من خداش، وممن كان على رأيه، ودان بدينه، وآمركم ألا تقبلوا من أحد ممن أتاكم عني قولاً ولا رسالة خالفت فيها كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والسلام (133). ومن خلال الرسائل السابقة تتضح نزعة محمد علي العباسي السنية وبطلان اتهام الدعوة بالعقائد الفاسدة، والباطنية، وعدم صحة ارتباط الدعوة العباسية بالزنادقة كما زعم بعض المستشرقين من أمثال فلهوزن (134)، فهذا الأمر بعيد كل البعد عن الصحة (135).


|1|2|




--------------------------------------------------------------------------------
(1) نسب قريش ص 18 ، طبقات ابن سعد (

4/5 ) ، شذرات الذهب ( 1/38 ) .
(2) طبقات ابن سعد ( 4/5 ) الدعوة العباسية د . حسين عطوان ص 87 .
(3) تاريخ ابن عساكر نقلاً عن الدعوة العباسية ص 87.
(4) طبقات ابن سعد ( 4/32 ) الدعوة العباسية ص 87.
(5) تهذيب التهذيب ( 5/123 ) الدعوة العباسية ص 87.
(6) أسد الغابة ( 3/109 ) الدعوة العباسية ص 88.
(7) العقيدة في أهل البيت ص 154.
(8) الطبقات ( 4/4/5 ) الاستيعاب ( 3/49/101 ) العقيدة في أهل البيت ص 155.
(9) سنن الترمذي رقم 3759 ، المستدرك ( 3/325 ) صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(10) مسلم كتاب الزكاة باب في تقديم الزكاة ومنعها رقم 983 .
(11) مسلم رقم 1775 ، مصنف عبد الرزاق ( 5/379 380 ) ابن هشام 0 4/87 ) .
(12) فتسقينا : أي بدعائه حياً ، ولو كان يتوسل به ميتاً لتوسل به عمر ولما احتاج لعمه العباس ليدعو

له.
(13) البخاري رقم 1010 .
(14) حلية الأولياء ( 1/314 ) العقيدة في أهل البيت ص 158.
(15) البخاري رقم 143.
(16) سير أعلام النبلاء ( 5/284 ) .
(17) المصدر نفسه ( 5/285 ) .
(18) الدعوة العباسية ، حسين عطوان ص 146.
(19) طبقات ابن سعد ( 5/314 ).
(20) البداية والنهاية نقلاً عن الدعوة العباسية ص 146.
(21) تهذيب التهذيب ( 7/357 ) الدعوة العباسية ص147.
(22) وفيات الأعيان 0 3/276 ) الدعوة العباسية ص 147.
(23) وفيات الأعيان ( 3/276 ) الدعوة العباسية ص 147.
(24) أخبار الدولة العباسية ص 140 الدعوة العباسية ص 147.
(25) الدعوة العباسية ص 148 إلى 152.
(26) الدعوة العباسية ، حسين عطوان ص 154.
(27) المصدر نفسه ص 157 أنساب الإشراف ( 3/79 ) .
(28) طبقات ابن سعد ( 5/391 ).
(29) المصدر نفسه ( 5/391 ) .
(30) الدعوة العباسية ص 159.
(31) الدعوة العباسية ص 159.
(32) سير أعلام النبلاء ( 5/285 ) .
(33) الدعوة العباسية ، د . حسين عطوان ص 164.
(34) أخبار الدولة العباسية ص 164.
(35) تهذيب التهذيب ( 9/355 ).
(36) أخبار الدولة العباسية ص 197.
(37) العقد الفريد ( 5/105 ) الدعوة العباسية ص 165.
(38) أنساب الأشراف ( 3/83 ).
(39) نفس المصدر ( 3/83 ) الدعوة العباسية ص 165.
(40) الهاشمية : هي التي قالت بانتقال محمد بن الحنفية إلى رحمة الله وانتقال الدعوة إلى ابنه عبد الله

الملل للشهرستاني ( 1/150 ).
(41) العلويون والعبّاسيون ودعوة آل البيت ص 51.
(42) نسب قريش ص 75 ، طبقات ابن سعد ( 5/328 ) الدعوة العباسية ص 167.
(43) الدعوة العباسية ص 169.
(44) نسب قريش ص 75 ، طبقات ابن سعد ( 5/328 ).
(45) طبيعة الدعوة العباسية ص 125.
(46) نسب قريش ص 75 للزبيدي ، شذرات الذهب ( 1/166 ).
(47) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت ص 56.
(48) المصدر نفسه ص 57 ، 58.
(49) العالم الإسلامي في العصر العباسي، حسن أحمد ص 114.
(50) الثورة العباسية فاروق عمر ص 112.
(51) تاريخ الطبري نقلاً عن العلويين والعباسيين وأهل البيت ص 61.
(52) طبيعة الدعوة العباسية ، فاروق عمر ص 155.
(53) العلوييون والعباسيون وأهل البيت ص 61.
(54) المصدر نفسه ص 62.
(55) المصدر نفسه ص 62.
(56) أخبار الدولة العباسية ص 216 ، تقويم جديد للدعوة العباسية ص 77.
(57) أخبار الدولة العباسية ص 221.
(58) طبيعة الدعوة العباسية فاروق عمر ص 23.
(59) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت ص 63.
(60) الأخبار الطوال ص 332.
(61) المصدر نفسه ص 334.
(62) تاريخ الطبري نقلاً عن العلويين والعباسين ودعوة آل البيت ص 63.
(63) المصدر نفسه ص 63.
(64) الكامل في التاريخ نقلاً عن العلويين والعباسيين ص 64.
(65) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت ص 64.
(66) الأخبار الطوال ص 332.
(67) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت 64.
(68) المصدر نفسه ص 64.
(69) المصدر نفسه ص 64.
(70) تاريخ الطبري نقلاً أثر العلماء في الحياة السياسية ص 600.
(71) البداية والنهاية نقلاً عن أثر العلماء في الحياة السياسية ص 600.
(72) سير أعلام النبلاء ( 6/7 ).
(73) أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية ص 600.
(74) الثورة العباسية ص 117.
(75) الدعوة العباسية ص 172.
(76) انساب الأشراف ( 3/86 ) تاريخ الموصل ص 49.
(77) أخبار الدولة العباسية ص 194 – 200.
(78) الأخبار الطوال ص 333.
(79) الدعوة العباسية ص 189.
(80) أخبار الدولة العباسية ص 213 ، 215.
(81) أخبار الدولة العباسية ص 213.
(82) المصدر نفسه ص 216.
(83) أنساب الأشراف ( 3/115 ) الدعوة العباسية ص 211.
(84) الدعوة العباسية ص 211.
(85) أخبار الدولة العباسية ص 219 – 220.
(86) أخبار الدولة العباسية ص 221 – 222.
(87) أخبار الدولة العباسية ص 222 – 223.
(88) المصدر نفسه ص 220.
(89) أخبار الدولة العباسية ص 223 – 224.
(90) أخبار الدولة العباسية ص 230.
(91) عيون الأخبار ( 1/204 ) العلويون والعباسيون ص 58.
(92) طبيعة الدعوة العباسية ص 156.
(93) الثورة العباسية ص 114.
(94) الخلافة العباسية ، عصر القوة والازدهار ص 15 ، 16
(95) العلويون والعباسيون ص 58 ، 59 ، 60 .
(96) الثورة العباسية ص 114.
(97) تاريخ الطبري ، نقلاً عن تاريخ بلاد الشام ، إبراهيم بيضون ص 228.
(98) تاريخ بلاد الشام ، إبراهيم بيضون ص 228.
(99) الأخبار الطوال ص 359.
(100) تاريخ بلاد الشام ص 228.
(101) حركة النفس الزكية ص 46 .
(102) حركة النفس الزكية ص 46.
(103) الأخبار الطوال ص 355 ، الوصية السياسية في العصر العباس ص 89.
(104) الوصية السياسية في العصر العباسي ص 89ز
(105) المصدر نفسه ص 89.
(106) المصدر نفس ص 89.
(107) أنساب الإشراف ( 3/82 – 136 ) .
(108) أنساب الإشراف ( 3م82 – 136 ) .
(109) العصر العباسي الأول ص 25.
(110) السلطة والمعارضة في الإسلام ص 527.
(111) نقد وتعريف بتاريخ الموصل ، مجلة المكتبة بغداد ص 1968م ص 194.
(112) طبيعة الدعوة العباسية ص 178.
(113) السلطة والمعارضة في الإٍسلام ص 528 .
(114) المصدر نفسه ص 528.
(115) تاريخ عصر الخلافة العباسية يوسف العش 16.
(116) المصدر نفسه ص 26.
(117) طبقات ابن سعد ( 5/216 ) .
(118) دراسات في تطور الحركة الفكرية في صدر الإسلام ص 91.
(119) الوصية السياسية في العصر العباسي ص 76 ، أخبار الدولة العباسية ص 173.
(120) المصدر نفسه ص 76.
(121) تفسير التابعين ( 1/374 إلى 395 ) .
(122) المصدر نفسه ( 1/407 إلى 413 ) .
(123) البداية والنهاية ( 8/172 ) إحداث وأحاديث فتنة الهرج ص 208.
(124) الكامل في التاريخ( 2/546 ) .
(125) الدعوة العباسية ، حسين عطوان ص 203.
(126) أنساب الإشراف ( 3/117 ) .
(127) تاريخ الطبري ( 7/635 ) .
(128) الكامل في التاريخ ( 3/352 ) .
(129) الكامل في التاريخ ( 3/352 ) .
(130) أنساب الأشراف ( 3/118 ) الدعوة العباسية ص 207.
(131) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت ص 66.
(132) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت ص 66.
(133) المصدر نفسه ص 67.
(134) فتة السلطة ص 187 ، الدولة العربية ص 487.
(135) فتنة السلطة ص 188.

د.فالح العمره 16-08-2006 07:21 PM

الدعوة العباسية ودورها في نهاية الدولة الأموية
 
الدكتور/ علي الصلابي 5/1/1427
04/02/2006



ثالثاً : إعلان الثورة العباسية : تعمقت الدعوة العباسية في نفوس الأتباع، وتطلع الناس لها، وانتشرت فكرتها، وعلقوا الآمال عليها، فهي دعوة آل البيت، وهي التي سوف تخلصهم من الدولة الأموية وهي بجانب هذا ستعيد لهم عزهم وسلطانهم التليد، فتمسكوا بها وناصروها فاتسعت خلايا الدعوة، وتعمقت جذورها في السهول والجبال فعمت المدن والقرى والأقاليم وفي هذه الأثناء مات صاحب الدعوة ومنظمها محمد بن علي بالحميمة في ذي القعدة سنة 125 ﻫ وأوصى بتولي أمر الدعوة لابنه إبراهيم الذي تسمى بها بعد بالإمام (136)، وكان رئيس دعاة الكوفة بكير بن ماهان موجوداً في هذا الأثناء بالحميمة فحمل هذه الوصية إلى خراسان وأبلغها إلى النقباء فصدقوه ودفعوا إليه ما اجتمع لديه من نفقات شيعته، ورجع إلى الحميمة، حيث طمأن الإمام عن سير الدعوة في خراسان وأبلغه إخلاص هؤلاء الدعاة لإمامهم الجديد وسلم إليه ما لديه من الأموال فعاد إلى الكوفة (137)، ومعه بعض الشيعة العباسيين بعد أن تعرفوا على إمامهم الجديد، وقد حثوه على تعجيل الثورة المسلحة قائلين : وحتى تأكل الطير لحوم أهل بيتك وتسفك دماؤكم، وتركنا زيداً مصلوباً بالكنانة وابنه " يحي " مطروداً في البلاد، وقد شملكم الخوف، وطالت عليكم مدة أهل البيت السـوء (138).
كان إبراهيم بن محمد، أرفع إخوته مكاناً وأعلاهم شأناً، وكان عظيم القدر عند أهل المدينة ومكة وكان تقياً ورعاً (139)، جواداً، معطاء (140)، حكيماً، حليماً، وحازماً صارماً، وكان له عناية بالحديث ومعرفة بالبلاغة ورواية للشعر (141)، ولما تولى قيادة الدعوة العباسية سعى في بث الدّعوة ونشرها وجدّ في تقويتها وترسيخها واجتهد في تنظيمها وإحكامها (142).
ولما مرض بكير بن ماهان أرسل إلى إبراهيم الإمام يستأذنه بتولية زوج ابنته " أبو سلمة الخلال " رئاسة الدعوة بدلاً منه، فكتب إبراهيم إلى أبي سلمة يأمره بالقيام بعمل بكير بن ماهان، كما أرسل إلى خراسان يخبرهم بتولي أبي سلمة أمر الدعوة، فأجابوه بالطاعة والتصديق له، فمات بكير بعد ذلك بقليل سنة 127ﻫ (143) والحديث عن إعلان الثورة يسوقنا إلى التعرف على شخصية مهمة كانت بجانب إبراهيم الإمام، والتي قامت بأهم أدوار هذا العمل الحربي بعد ذلك في تكوين الدولة العباسية والقضاء على معارضيها في أول الأمر، تلك هي شخصية أبي مسلم الخراساني (144).
1. أبو مسلم الخراساني :
اسمه عبد الرحمن بن مسلم، ويقال : عبد الرحمن بن عثمان بن يسار الخراساني، الأمير صاحب الدعوة، وهازم جيوش الدولة الأموية، والقائم بإنشاء الدولة العباسية، كان من أكبر الملوك في الإسلام. كان ذا شأن عجيب ونبأ غريب من رجل يذهب على حمار بإكافٍ من الشاف حتى يدخل خراسان، ثم يملك خراسان بعد تسعة أعوام ويعود بكتائب أمثال الجبال، ويقلب دولة، ويُقيم دولة أخرى (145)، كان قصيراً، أسمر جميلاً، نقي البشرة، أحور العين، عريض الجبهة، حسن اللحية، طويل الشعر، طويل الظهر، خافض الصوت، فصيحاً بالعربية والفارسية، حلوَ المنطق، وكان راوية للشعر، عارفاً بالأمور، لم يُر ضاحكاً، ولا مازحاً إلا في وقته وكان لا يكاد يُقطب في شيء من أحواله، تأتيه الفتوحات العظام، فلا يظهر عليه أثر السرور، وتنزل به الفادحة الشديدة، فلا يرى مكتئباً، وكان إذا غضب لم يستفزه الغضب (146) قال عنه الذهبي : كان أبو مسلم سفاكاً للدماء، يزيد على الحجاج في ذلك، وهو أوَّل من سن للدولة لبس السواد (147).
(أ) الوضع العام عند إعلان الثورة :
كانت الظروف مواتيه لإعلان الثورة المسلحة في خراسان :
فقد قامت حركات تمرد في أنحاء خراسان ضد السلطة الأموية حيث قام بها زعماء القبائل مثل جديع بن علي الكرماني وهناك ثورة قد اشتعلت بالكوفة قام بها عبد الله بن معاوية من ولد جعفر بن أبي طالب وانضم معه الكثير من الغاضبين مما فت من عضد الدولة وأربكها، وقد دخل فيها بعض أفراد الأسرة العباسية ومن بينهم أبو جعفر، والسفاح، وعمهم عبد الله بن علي الذي ربما قصدوا من ذلك إفشال هذه الثورة، وقد حدث ذلك حيث كانت نهايته على أيدي رجال الدعوة العباسية في خراسان، ولآن خراسان لا تحتمل أكثر من دعوة وهي الدعوة العباسية (148).
* وفي الشام حروب طاحنة بين الأمراء الأمويين على السلطة.
* اشتداد العصبية القبلية في خراسان والعراق والشام، فقد كانت تتخبط بالانقسامات والفوضى، وحتى الأندلس وصلت العصبية فيها إلى حروب طاحنة بين المضرية واليمنية (149).
* خروج الضحاك بن قيس الشيباني في العراق والجزيرة (150).
* ثورة الخوارج في كل مكان في العراق، أو الحجاز، واليمن (151).
* عصيان كثير من المدن، في سوريا وفلسطين والأردن حيث خرجت عن طاعة الخليفة (152).
على ضوء هذه الأحداث وغيرها جد إبراهيم الإمام بعد ذلك إلى نقل الدعوة العباسية السرية، إلى طور العمل والنضال الحربي فعرض القيادة العامة للجيش على " سليمان بن كثير " رئيس دعاة خراسان فرفض ذلك، ثم عرضها بعد ذلك على إبراهيم بن سلمة فرفض هو الآخر هذا الطلب (153)، وكانا بالحميمة موفدين من قبل الشيعة العباسية لطلب الموافقة من إبراهيم الإمام لإعلان الثورة المسلحة وأن الدعوة السرية لا تستحق أكثر من هذا (154).
(ب) تعيين أبي مسلم الخراساني على القيادة العامة :
استقر رأي إبراهيم الإمام على تولية القيادة العامة لأبي مسلم الخراساني وكان ذلك عام 128ﻫ، ولم يتجاوز عمره – آنذاك – تسع عشرة سنة (155)، وقد كتب معه كتاباً إلى شيعته في الكوفة قائلاً : إن هذا أبو مسلم، فاسمعوا له وأطيعوا، وقد وليته على ما غلب عليه من أرض خراسان (156) أخذ أبو مسلم هذا الكتاب ليعرضه على الدعاة وكان أول ما عرضه على أبي سلمة الخلال بالكوفة، وهو في طريقة إلى خراسان، ولكنه لم يجد منه قبولاً، فقد استصغره وحقره، وتوجه إلى خراسان بعد ذلك حيث عرض هذا الكتاب على كبار الدعاة فيها، فتخوفوا من عواقب ذلك وردوه، لأنه غلام عديم التجربة، فلا يمكن أن يكون لمثل هذه الأمور الخطرة، فأرسل وأرسلوا إلى إبراهيم الإمام بالحميمة حول هذا الموضوع، فأجابهم الإمام إلى وجوب الالتقاء به عند موسم الحج (157)، خرج هؤلاء والتقوا بإبراهيم الإمام في مكة، فأخبر أبو مسلم أن هؤلاء رفضوا الطاعة، والانقياد له. فقال لهم الإمام : لقد عرضت هذا الأمر على غير واحد لكنهم رفضوا ذلك فاستقر رأيي علي أبي مسلم لتولي رئاسة الجيش، فأمرهم بالسمع والطاعة له (158).
(ج) وصية الإمام إبراهيم لأبي مسلم :
وكتب إبراهيم الإمام وصية لأبي مسلم جاء فيها : (يا عبد الرحمن إنك رجل منا أهل البيت فاحفظ وصيتي، وانظر هذا الحي من اليمن فأكرمهم، وحل بين أظهرهم، فإن الله لا يسمي هذا الأمر إلا بهم، وانظر هذا الحي من ربيعة فاتهمهم في أمرهم، وانظر هذا الحي من مصر فإنهم العدو القريب الدار، فأقتل من شككت في أمره ومن كان في أمره شبهة ومن وقع في نفسك منه شيء، وإن استطعت ألا تدع بخراسان لساناً عربياً فأفعل، فأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله ولا تخالف هذا – الشيخ – يعني سليمان بن كثير الخزاعي – ولا تعصه، وإن أشكل عليك أمر فاكتف به مني) (159).
إن هذه الوصية غير متفق عليها بين المؤرخين لذلك لا يمكن قبولها دون تمحيص، فالنقد الخارجي للنص يظهر بأنه مذكور دون سلسلة ورواة الطبري، ولا ذِكْر للنص في مصادر مهمة أخرى مثل أنساب البلاذري وأخبار الدولة العباسية، وليس هناك أهمية كبرى لذكرها في كتب تاريخية متأخرة لأن هؤلاء المؤرخين المتأخرين أمثال ابن خلدون وابن كثير وابن الأثير نقلوها ممن ذكرها قبلهم والمهم هنا أن نذكر بأن رواية الدينوري (160)، وكتاب العيون والحدائق (161)لا تذكر النص الذي يأمر فيه إبراهيم أبا مسلم بقتل العرب دون تمييز، ولكن الوارد أن الأمر كان بقتل العرب الذين يرفضون الدخول في الدعوة العباسية أو المشكوك في ولائهم لها : (واقتل من شككت في أمره) (162). أو كما يقول العوفي : لقتل كل المدّعين أو المطالبين بالإمامة (163)، ويؤيد ذلك ما يذكره صاحب أخبار العباس على لسان أبي مسلم : أمرني الإمام أن أترك في أهل اليمن وأتألف ربيعة ولا أدع نصيبي من صالحي مضر وأحذر أكثرهم من اتباع بني أمية وأجمع إليّ العجم (164). ويمكن تلخيص النقد الداخلي للوصية بالنقاط التالية :
* الرواية مجزأة في الطبري إلى قسمين تذكر بينهما حوادث ذات علاقة بتطور الدعوة ولا علاقة لها بالوصية.
* تأتي الوصية تحت عنوان سبب قتل مروان بن محمد لإبراهيم الإمام، مما يدل على أنها أو بعضها على الأقل دعاية ضد العباسيين وضعت من جانب أعدائهم.
* يظهر نص الرواية تناقضات كثيرة فكيف يصح أن يأمر إبراهيم الإمام بقتل كل العرب وهو يدرك أهميتهم ويوصيه في بداية الرواية بتعهد اليمانيين وإلى درجة ما الربعيين.
* وأخيراً لا آخراً فإن سياسة أبي مسلم وسليمان الخزاعي في خراسان لم تسر أبداً حسب الوصية المزعومة فإن الدعاة العباسيين تقربوا لليمانية والربيعية حتى أن أبا مسلم قبل الكثير من المضريين في صفوف الدعوة (165).
(د) موقف سليمان الخزاعي من أبي مسلم :
وأما موقف سليمان الخزاعي من أبي مسلم فلم يكن ودياً أول الأمر حيث طرده ولم يقبله بين صفوف الدعاة قائلاً : (صلينا بمكروه هذا الأمر واستشعرنا الخوف واكتحلنا السهر حتى قطعت فيه الأيدي والأرجل وبريت فيه الألسن جزاً بالسعار وسملت الأعين وابتلينا بأنواع العذاب وكان الضرب والحبس في السجون من أيسر ما نالنا فلما تنسمنا روح الحياة وانفسحت وأينعت ثمار غراسنا طرأ علينا هذا المجهول الذي لا ندري أية بيضة تقلعت عن رأسه ولا من أي عش درج. والله لقد عرفت الدعوة من قبل أن يخلق هذا في بطن أمه) (166). ولكن نفور بعض الدعاة أمثال أبي منصور طلحة بن رزيق وأبي داود خالد بن إبراهيم وغيره من كبرياء سليمان هو الذي دعاهم إلى قبول الشخص الغريب أبي مسلم، فاضطر سليمان إلى الاعتراف بأبي مسلم خوفاً من تشقق الثورة وتصدعها (167). ولعل رفض سليمان الخزاعي لأبي مسلم الخراساني يعود أيضاً إلى حداثة سنه وقلة تجربته التي قد تعرض الدعوة للخطر، هذا بالإضافة إلى أن سليمان طلب من إبراهيم الإمام ممثلاً له : من أهل البيت (168). أي من الهاشميين وخاصة العباسيين ولم يكن يتخيل أنه سيرسل مولى له يمثله في خراسان (169)، وكان موقف أبي مسلم مرناً ويدل على ذكاء حيث تقرب من سليمان وأعلمه بأن الإمام أوصاه بألا يعصي له -أي لسليمان- أمراً ويقدمه في جميع ما يدبرون، وترجّاه كذلك ألاّ يشك فيه : أحسن بي الظن فإني أطوع لك من يمينك. (170) ولم يكن شيعة العباسيين في قرى خراسان ومدنها يطيعون إلا سليمان الخزاعي، صاحبهم والمنظور إليه منهم، ولذلك كتب إليهم سليمان يخبرهم بأمر إبراهيم وإرساله أبي مسلم إلى خراسان (171).
(د) مجلس النقباء في خراسان يرتب أمور الحرب :
عقد مجلس النقباء اجتماعاً لينظروا في أمر المكان الملائم لإعلان الثورة فيه فكان هناك رأي بضرورة إعلانها بخوارزم : فإنها بلاد منقطعة عن نصر بن سيار فإلى أن يرسل عسكره يكون قد تسامع بنا إخواننا فيأتونا ويكثر جمعنا فنقوى على من يأتينا إلا أن عدداً من النقباء عارضوا ذلك وأكدوا على مرو الروذ لأنها : متوسطة بين مرو بلخ. ثم اقترح عدد آخر مرو الشاهجان لأن بها خلقاً كثيراً من إخواننا وبها السلطان قد وهن أمره ومتى يقوى بها أمرنا يقوى في غيرها. وأبو ذلك سليمان الخزاعي قائلاً : إن قوتنا بها أعظم وعددنا أكبر. ووافقه أبو منصور كامل بن المظفر حيث قال : إذا اجتث الأصل فلا بقاء للفرع إذا ظهرتم بغير مرو تفرغ لكم سلطانكم وساعده عدده عليكم. وهكذا اتفق أمرهم على أن مرو الشاهجان أصلح مكان لإعلان الثورة، وأرسل الدعاة ليخبروا الشيعة بالالتقاء والتجمع في مرو في الوقت المحدد وكان في يوم عيد الفطر سنة 129ﻫ (172)وكان نصر بن سيار منشغلاً بالاستعداد لجديع الكرماني فلما سمع بنبأ تجمع الشيعة في مرو وضواحيها قرر أن يكمن لهم ويلتقطهم جماعة جماعة ويقضي عليهم ولما علم سليمان الخزاعي وأبو منصور كامل بن المظفر بذلك أشارا على أبي مسلم بضرورة التجمع وإعلان الظهور قبل الموعد المحدد وإلا تشتت الشيعة وفشلت الحركة. فأعلنها أبو مسلم ولمّا يبقي في رمضان إلا خمسة أيام وعسكر في حُصَين تابع لسليمان الخزاعي حيث أصبح نقطة تجمع أنصار الدعوة لآل البيت (173). وحين فشا خبر أبي مسلم أقبلت الشيعة من كل جانب إلى مرو فأتاهم عيسى بن شبل وأبو الوضاح وأبو مرة في نحو من ألف رجل : وقد كثر جمعهم وسودوا ثيابهم ونصبوا أعلامهم ونشروا راياتهم فصلى بهم سليمان بن كثير الخزاعي يوم العيد وهي أول جماعة كانت لأهل الدعوة (174). وقد قام النقباء بترتيب نوع من التنظيم السياسي للحركة حيث كلف أبو صالح كامل بن المظفر بتدبير الأمور وكتابة الكتب وبجمع الأموال والغنائم وقسمها وإعطاء الجند وهو صاحب السر كذلك، وعين مالك بن الهيثم : يقوم بأمر العسكر ... ويحكم بين أهله وينقي أهل الريب منه فقبلوا ذلك منه واتفقوا عليه. ثم عين حرساً خاصاً لأبي مسلم من عدة رجال ينتخبون أبا مسلم ويكونون رسلاً يرسلون لتدبير بعض الأمور وكان يؤم الناس في الصلوات سليمان بن كثير الخزاعي (175). وفي ليلة الخميس لخمس بقين من شهر رمضان عقد أبو مسلم راية النصر التي بعثها إليه إبراهيم الإمام وهي اللواء – يدعى الظل – على رمح طوله أربعة عشر ذراعاً. والراية – تدعى السحاب – على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعاً وهما سوداوان وهو يتلوه (176)" أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير " ( الحج ، أية 29) ولبس السواد هو وسليمان بن كثير وإخوة سليمان وحميد بن رزين وإخوه عثمان بن رزين، أوقدوا النيران ليلتهم أجمع للشيعة من سكان حزفان : .. وتأويل أسمى الظل والسحاب، أن السحاب يطبق الأرض، وكذلك دعوة بني العباس، وتأويل الظل أن الأرض لا تخلو من الظل أبداً، وكذلك لا تخلو من خليفة عباسي أبد الدهر (177). كانت دعوة شيعة بني العباس في خراسان قوية، فقد ظهر أمرهم وكثر من يأتيهم وجعلت الدّعاية العباسية وحملتهم الإعلامية تستهدف أفعال بني أمية وما نالوا من أمر رسول الله، حتى لم يبق بلد إلا فشا فيه هذا الخبر وظهر الدعاة ورئيت المنامات وتُدورست كتب الملاحم (178)، وكان اختيار اللون الأسود هو الخطوة الأولى، ثم كانت الخطوة الثانية هي إرسال الرايات إلى خراسان، فكان أن بعث بأبي سلمة إليها : بعد أن دفع له ثلاث رايات سود، وأمره أن يدفع واحدة إلى من بمرو من الشيعة، ويدفع واحدة إلى من بجرجان من الشيعة ويبعث بواحدة إلى ما وراء النهر فشخص أبو سلمة إلى خراسان، فكان أول من قدمها بالريات السود (179). وكان وصول الرايات مترافقاً مع حال الفوضى المستشرية في خراسان، وقد أفاد من ذلك أبو سلمة وسليمان بن كثير، وكانت الفتنة التي نشبت بين نصر وعلي الكرماني ثم ابنه جديع الكرماني تتأجج بفعل تأثير السياسات المركزية (180)، ثم فتحت جبهة جديدة لوالي الأمويين بخراسان بقيادة شيبان الحروري، فكانت الفرصة مواتية لأبي مسلم أكثر، فدخل هذا المعترك بعد أن ضعفت قوة نصر بن سيار وانضمت إلى أبي مسلم كل الفئات الغاضبة في خراسان (181).
(2) جهود نصر بن سيار للقضاء على الدعوة العباسية :
في عام 129ﻫ كانت أول صلاة عيد علانية للعباسيين وقد أمر أبو مسلم سليمان بن كثير أن يصلى بالناس ونصب له منبراً، وأن يخالف في ذلك بني أمية ويعمل بالسنة فنودي للصلاة، الصلاة جامعة، ولم يؤذن ولم يقم، خلافاً لهم وبدأ بالصلاة قبل الخطبة وكبّر سبعة في الأولى قبل القراءة لا أربعاً وخمساً في الثانية لا ثلاثاً خلافاً لهم. وابتدأ الخطبة بالذكر والتكبير وختمها بالقراءة وانصرف الناس من صلاة العيد وقد أعّد لهم أبو مسلم طعاماً، فوضعه بين أيدي الناس وكتب إلى نصر بن سيّار كتاباً بدأ فيه بنفسه، ثم قال : إلى نصر بن سيّار، بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد، فإنَّ الله تبارك اسمه عيَّر أقواماً في كتابه فقال : " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلمّا جاءهم تذير ما زادهم إلا نفوراً استكباراً في الأرض ومكر السَّيء ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنت الأوَّلين فلن تجد لسنت الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً " ( فاطر : 42 ، 43 ). فعظم عليه أن قدم اسمه على اسمه، وأطال الفكرة وقال : هذا كتاب له جواب (182)، ثم بعث نصر بن سيار خيلاً عظيمة لمحاربة أبي مسلم وذلك بعد ظهوره بثمانية عشر شهراً، فأرسل أبو مسلم إليهم مالك بن الهيثم الخزاعي، فالتقوا هنالك فدعاهم مالك إلى الرّضا من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبوا ذلك فتصافوُّا من أول النهار إلى العصر، ثم جاءه مدد فقوى مالك عليهم، واستظهر وظفر بهم، وكان هذا أول موقف اقتتل فيه دعاة بني العباس وجند بني أمية (183).. ولما استفحل أمر أبي مسلم بخراسان تعاقدت طوائف من أحياء العرب الذين بها على حربه ومقاتلته، ولم يكره أمره الكرماني وشيبان، لأنهما خرجا على نصر وهذا مخالف له وهو مع ذلك يدعو إلى خلع مروان بن محمد وقد طلب نصر من شيبان أن يكون معه على حرب أبي مسلم أو يكف عنه حتى يتفرغ لحربه، فإذا قتله وتفّرغ منه عاد عدواتهما، فبلغ ذلك أبا مسلم بعث إلى ابن الكرماني يعلمه بذلك، فثني ابن الكرماني شيبان عن ذلك الرأي، وبعث أبو مسلم إلى هَرَاة النضر بن نعُيم، فافتتحها وطرد عنها عاملها عيسى بن عقيل الليثي، واستحوذ على البلد وكتب إلى أبي مسلم بذلك، وجاء عاملها إلى نصر هارباً ثم إن شيبان وادع نصَر بن سيار سنة على ترك الحرب بينه وبينه وذلك عن كره من ابن الكرماني فبعث ابن الكرماني إلى أبي مسلم : إني معك على قتال نصر وركب أبو مسلم إلى خدمة (184) ابن الكرماني فنزل عنده واجتمعا، فاتفقا على حربه ومخالفته وتحّول أبو مسلم إلى موضع فسيح وكثر جنده وعظم جيشه واستعمل على الشرط والحرس والرّسائل والّديوان وغير ذلك مما يحتاج الملك إليه، وجعل القاسم بن مُجاشع التَّميميَّ – وكان أحد النقباء – على القضاء، وكان يُصلي بأبي مسلم الصَّلوات، ويقص بعد العصر، فيذكر محاسن بني هاشم ويذُمُّ بني أُمية. ثم تحول أبو مسلم فنزل بقرية يقال لها آلِينُ (185)وكان في مكان منخفض، فخشى أن يقطع عنه نصر ابن سيار الماء وذلك في سادس ذي الحجّة من هذه السنة، وصلَّى بهم يوم النَّحر القاضي بن مجاشع، وسار نصر بن سيار في جحافل قاصداً قتال أبي مسلم، واستخلف على البلاد نّواباً (186).
(أ) طلب نصر بن سيار المدد من مروان بن محمد :
نشبت الحرب بين نصر بن سيار وبين الكرماني وهو جديع بن علي الكرماني، فقتل بينهما من الفرقين خلق كثير، وجعل أبو مسلم يُكاتب كُلاً من الطائفتين ويستميلهم إليه، يكتب إلى نصر وإلى الكرماني : إنّ الإمام قد أوصاني بكم خيراً، ولست أعدوُ رأيه فيكم. وكتب إلى الكور يدعو إلى بني العباس، فاستجاب له خلق كثير وجمُّ غفير، وأقبل أبو مسلم، فنزل بين خندق نصر بن سيار وخندق جديع الكرماني، فهابه الفريقان جميعاً وكتب نصرُ بن سيار إلى الخليفة مروان بن محمد، الملقب بالحمار يعلمه بأمر أبي مسلم، وكثرة من معه، وأنه يدعو إلى إبراهيم بن محمد وكتب في كتابه :


أرى بين الرّماد وميض جمرٍ *** فأحْرِ بأن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تُذْكى *** وإن الحرب مبْدؤها الكلام
فقلت من التعجب ليت شعري *** أأيقاظ أمية أم نيام


فكتب إليه مروان : الشاهد يرى مالا يرى الغائب : فقال نصر : إن صاحبكم قد أعلمكم أن لا نصرة عنده (187)وبعضهم يرويها بلفظ آخر.


أرى خَلَلَ الرماد وَميضَ نار *** فيو شك أن يكون لها ضِرام
فإن النارَ بالزندين يوُرَى (188) *** وإن الحرب أولها الكلام
لئن لم يُطفِها عقلاء قوم *** يكون وَقودَها جثت وهام
أقول من التعجُّب ليت شعري *** أأيقاظ أمية أم ينام
فإن كانوا لحينهم نياماً *** فقل قوموا فقد حان القيام

وكتب إليه :

أبلغ يزيد وخير القول أصدَقُهُ *** وقد تبّينت أن لا خير في الكذب
بأن خراسانَ أرض قد رأيت بها *** بيضاً لو أفرخ قد حَُّدثتَ بالعجب
فِراخ عامين إلا أنها كبرت *** لمّا بُطِرنَ وقد سُرْبِلْنَ بالزَّغَبِ
فإن يطرن ولم يُحْتَلْ لهنّ بهَا *** يُلهبن بِنيرانَ حرب أيَّما لَهَب (189)

فبعث ابن هبيرة بكتاب نصر إلى مروان (190).
(ب) دعاية نصر بن سيار ضد دعوة أبي مسلم الخراساني :
شنّ نصر بن سيار حملة دعاية قوية ضد شيعة بني العباس ووصفهم بأنهم أخلاط من الناس لا أصول لهم، ولا ذمم عندهم، فهم غرباء مجهولون ودُخلاء مغمورون، لا ينتمون إلى العرب المذكورين، ولا إلى الموالي المعروفين، واتهمهم بأنهم ليسوا من المسلمين ولا من الكتابييَّن فهم يعتنقون نحلة مخالفة لكل الأديان، وزعم أنهَّهم يبتغون إبادة العرب واستعبادهم، ويرومون سبي نسائهم وهتك أعراضهم وانتهاك حرماتهم (191) حيث قال :


أبلغ ربيعـــة في مرو وإخوتهـم *** فليغضبوا قبل أن لا ينفع الغضب
ولينصبوا الحرب إن القومَ قد نصبوا *** حربا يُحّرق في حافاتها الحطـب
ما بالكم تَلْحِقون الحرب بينكـم *** كأن أهل الحِجاَ عن فِعِلكم غُيُبُ (192)
وتتركون عدّواً قد أحاط بكــم *** فيمن تأشَّبَ (193) لا دين ولا حسب
لا عرب مِثلُكُم في الناس تعرفهـم *** ولا صريح موالٍ إن هم نُسِبـُوا
من كان يسألني عن أصل دينهـم *** فإن دينهم أن تهلك العـــرب
قوم يدينون ديناً ما سمعــت به *** عن النبي ولا جاءت به الكتـب
ويقسم الخُمس من أموالكم أُسَراً *** من العلوج ولا يبقى لكم نَشَبُ (194)وينكحوا فيكم قسْراً بناتكــم *** لو كان قومي أحراراً لقد غضبوا
ذروا التفرق والأحقاد واجتمعوا *** لِيُوصل الحبل والأصهار والنَّسَبُ (195)
إن تُبعدوا الأزده مِنّا لا نُقَّربها *** أو تدن نحمدهم يوماً إذا اقتربوا
أتخذِلُون إذا احتجنا وننصُرُهم *** لبئس والله ما ظنُّوا وما حسبوا (196)

ولكن الرَّبعية لم يعبأوا بنداء نصر في أول الأمر ولم يبالوا بدعوته، ولم يكترثوا لتحذيره بل مضوا يتشبثون بمخالفتهم اليمانية، واستمروا يساندون ابن الكرماني ويعينونه، ويقاتلون المضريَّة معه، فعاد نصر إلى رمي أبي مسلم وشيعة بني العباس بالكفر وألحّ على القدح في عقيدته، ولحَّ في التشهير بغاياتهم، يريد أن يُبغضهم إلى الناس ويُكرههم إليهم ويحملهم على الطعن فيهم، ويدفعهم إلى مكافحتهم، ويحمسهم على محاربتهم فجعل يقذفهم بأنهم وثنيُّون مشركون وأنهم يأمنون بالمانوّيه والمجوسيَّة وغيرهما من الملل الفارسية القديمة وراح يشيع في أصحابه أنهم يقصدون إلى نسف قواعد الإسلام، وهدم دعائمه وتحطيم أركانه وطمس معالمه واستئصال آثاره وأنهم يستهدفون لتقويض سلطان العرب وتمزيق قبائلهم، وقتل رجالهم واسترقاق أبنائهم وأسر بناتهم، ولم يزل يذيع ذلك فيهم ويزينه لهم (197). وقد تأثر الناس بدعاية نصر بن سيار. وبعث نصر إلى القراء، والفقهاء، والأتقياء الذين اعتزلوا الحرب، فجمعهم وقال لهم : (إنكم كرهتم مشاهدتنا في حربنا هذه، وزعمتم أنها فتنة القاتل والمقتول فيها في النار، فلم نرد عليكم رأيكم في ذلك، وهذا حدث قد ظهر بحضرتكم. هذه المُسّوَّدَة، وهي تدعو إلى غير ملتنا وقد أظهروا غير سُنَّتنا وليسوا من أهل قبلتنا، يعبدون الّسنانير، ويعبدون الرؤوس، علوج وأغتام (198)، وعبيد سُقّاط العرب والموالي فهلُمُّوا فلنعاون على إطفاء نائرتهم (199)، وقمع ضلالتهم ولكم أن نعمل بما في كتاب الله وسنة نبيه وسنة العمرين بعده)، فأجابوه إلى مظاهرته على حرب أبي مسلم والجِدَّ معه في ذلك (200).
(ج) الدعاية المضادة للأمويين :
لقد أقلقت هذه الدعاية الأموية الشيعة العباسية، حيث إنهم خشوا تأثر العلماء، والأتقياء، وكذلك العامة من الناس بها، ولذلك قاموا بدعاية مضادة للأمويين حيث عقد اجتماع عام بايع فيه المجتمعون لسليمان الخزاعي واتفقوا على أن يعلنوا مبادئهم وكان من مبادئهم العمل بالكتاب والسنة وتحقيق العدل ورفع الظلم والمساواة بين المسلمين وإنصاف المستضعفين، والبيعة للرَّضا من آل محمد، ثم أعلنوا مبادئهم في معسكرهم وأخذوا البيعة عليها من شيعتهم. فنفوا أراجيف نصر عن دعوتهم ونجوا من تدبيره بالإيقاع بهم، وأزالوا الشبهات عن أنفسهم... وأخذ الناس يقبلون عليهم وينضمون إليهم (201) كما وأن أبا مسلم اتبع أسلوباً آخر ليقابل به دعاية الأمويين فقد كان يحرر الأسرى من الجيش الأموي بعد أن يريهم مدى تقوى الشيعة العباسية وتمسكهم بالإسلام وبعد أن يعاملهم معاملة حسنة وذلك من أجل أن يذهبوا إلى معسكر نصر فيرووا ما شاهدوا. وهذا ما فعله مع يزيد مولى نصر الذي أسر في معركة مع العباسيين بقيادة مالك الخزاعي ثم أطلق سراحه فعاد وامتدح سيرة أبي مسلم وأتباعه وصدق إسلامهم (202).
(د) أسر إبراهيم الإمام صاحب الدعوة العباسية وقتله :
استطاع الأمويون أن يلقوا القبض على إبراهيم الإمام وتعددت أسباب القبض ومن هذه الأسباب قيل : إن إبراهيم الإمام شهد الموسم عام 131ﻫ واشتهر أمره هنالك، لأنّه وقف في أبهة عظيمة، ونجائب كثيرة وحُرْمة وافرة، فأنِهيَ أمره إلى مروان، وقيل له : إن أبا مسلم يدعو الناس إلى هذا ويُسمُّونه الخليفة. فبعث إليه في المحرم من سنة ثنتين وثلاثين وقتلة في صفر من هذه السنة (203)، وقيل ألقى القبض عليه عام 129ﻫ بعدما أطلع على كتاب من إبراهيم الإمام إلى أبي مسلم الخُراساني يأمره فيه بأن لا يُبقي أحداً بأرض خراسان ممّن يتكلم بالعربية إلا أباده، فلمّا وقف مروان على ذلك سأل عن إبراهيم، فقيل له : هو بالبلقاء. فكتب إلى نائب دمشق أن يحضره وبعث رسولاً في ذلك ومعه صفته ونعته، فذهب الرسول، فوجد أخاه أبا العباس السفَّاَّحَ فاعتقد أنه هو، فأخذه فقيل له : إنه ليس هو وإنما هو أخوه، فُدلَّ على إبراهيم، فأخذه وذهب معه بأم ولد له يُحبُّها وأوصى إلى أهله أن يكون الخليفة من بعده أخوه أبو العباس السَّفَاحُ وأمرهم بالمسير إلى الكوفة فارتحلوا من فورهم إليها كانوا جماعة، منهم أعمامه السَّتةُ، وهم عبد الله ، وداود ، وعيسى وصالح، وإسماعيل ، وعبد الصمد بنو عليٍّ، وأخواه أبو العباس عبد الله، ويحي ابنا محمد بن علي وابناه محمد وعبد الوهاب وخلق سواهم، فلما دخلوا الكوفة أنزلهم أبو سلمة الخلاَّل دار الوليد بن سعد مولى بني هاشم في بني أوْدٍ وكتم أمرهم نحوا من أربعين ليلة من القواد والأمراء ثم ارتحل بهم بعد ذلك إلى موضع آخر، حتى فتحت البلاد ثم بويع للسَّفاح (204). كانت الدعوة العباسية قد ترسخت جذورها في الأرض، وبات القضاء عليها في منتهى الصعوبة، فلم يغير إلقاء القبض على إبراهيم بن محمد الإمام من الواقع شيئاً أو يُحدث خللاً في مسار الدعوة، إذ جاء الأمر متأخراً (205)، وقد كان إبراهيم هذا كريماً مُمدَّحاً، له فضائل وفواضل، رَوَى الحديث عن أبيه وجدَّه وأبي هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية وعنه أخواه عبد الله أبو العباس أبو هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية وعنه أخواه عبد الله أبو العباس السَّفاح، وأبو جعفر المنصور وأبو مسلم عبد الرحمن بن مسلم الخراساني، ومالك ابن الهيثم ومن كلامه الحسن : قوله : الكامل المروءة من أحرز دِينه، ووصل رحمه، واجتنب ما يُلام عليه (206) وقد رثاه أحد الشعراء فقال :


قد كنت أحسبني جلداً فضعضعني *** قبراً بحّرانَ فيه عصمةُ الدين
فيه الإمام وخير الناس كلهم *** بين الصفائح والأحجار والطين
فيه الإمام الذي عمت مصيبته *** وعَيَّلتَ كلّ ذي مال ومسكين
فلا عفا الله عن مروان مظلمة *** لكن عفا الله عمّا قال آمين (207)

(3) سيطرة أبي مسلم على خراسان :
سعى نصر بن سيار للوصول إلى هدنة مع ابن الكرماني وشيبان الصغير للقضاء على أبي مسلم واستطاع الأخير أن يفسد تلك المساعي بدسائسه ومكره وخداعه فقد أسرع أبو مسلم فاعترف بابن الكرماني أميراً على خراسان وبدأ هو وأصحابه يصلي وراءه وهكذا نجح أبو مسلم في إشباع رغبة ابن الكرماني المتعطشة للسلطة والإمارة فلم يكن الوقت وقت منافسة على السلطة بل كان الهدف هو ضمان كسب اتباع ابن الكرماني إلى جانب الثورة العباسية وقد كانت هذه خطورة بارعة لضمان وحدة الجند الخرسانية في كتلة واحدة ولما يأس نصر من العون من العراق كتب إلى مروان رسائل لحثه على إمداده ولكن بدون جدوى، ولانشغال مروان بالحروب الداخلية في بلاد الشام والعراق والحجاز وبعد أن فشل نصر في محاولته الأولى لكسب ابن الكرماني وفي محاولته الثانية لكسب شيبان الصغير حاول هذه المرة أن يتقرب نحو أبي مسلم في نفس الوقت الذي ينتظر فيه الإمدادات من الخليفة لقد أمل نصر أن يفرق بين أبي مسلم وابن الكرماني فدبر أمر اجتماع حضرته وفود نصر المضرية ووفود ابن الكرماني ومندوبون عن أبي مسلم الذين امتدحوا وفد ابن الكرماني، وفضلوه على وفد نصر حيث قرر سليمان الخزاعي وطلحة الخزاعي ومزيد السلمي التحالف مع ابن الكرماني ضد نصر وبذلك كسبت الدعوة العباسية مصدر القوة في خراسان إلى جانبها ألا وهو القبائل العربية من أتباع ابن الكرماني (208).
(أ) خطة أبي مسلم للاستيلاء على العاصمة مرو :
كانت خطة أبي مسلم وابن الكرماني الآتية هي الاستيلاء على العاصمة مرو. وتختلف الروايات التاريخية في كيفية فتح مرو ولكن الظاهر أن أبا مسلم كان حذراً ومرناً في موقفه تجاه كتلة نصر وكتلة ابن الكرماني فرغم اعترافه بأن ابن الكرماني والياً على خراسان، فإنه كان يؤمل أن يكسب نصراً أو أتباعه إليه بطريقة أو بأخرى فضمن الحماية لوفد نصر الذي حضر الاجتماع الآنف الذكر، كما سمح نصر للشيعة العباسية بالتسوق من أسواق مرو دون مهاجمتهم، ولكن حدث وأن قام نزاع بين بكر بن وائل من ربيعة وبين بعض المضريين في سوق مرو، فساعد نصر المضرية بينما أنجد ابن الكرماني الربعية ودعى ابن الكرماني أبا مسلم إلى مساعدته والانضمام إليه، إلا أن أبا مسلم تشاغل حتى تأكد من احتدام الصراع العنيف فتدخل إلى جانب ابن الكرماني حيث دخلت قواتهما مرو في 130ﻫ وعلى المقدمة أسيد الخزاعي وعلى الميمنة مالك الخزاعي وعلى الميسرة القاسم التميمي وهو يتلو : "ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه " ( القصص، أية : 15). وأمر بالكف عن القتال (209)وأرسل أبو مسلم وفداً إلى نصر يعده الأمان إذا سلم نفسه ولكن نصر شاغل الوفد وهرب إلى نيسابور. ويروى أن لاهز بن قريضى حذر نصر من الاستسلام بتلاوة الآية : " إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك" ( القصص، أية : 20) وقد قتل لاهز جزاء عمله (210) وبدا الآن الوجه الحقيقي للدعوة بالظهور بصورة تدريجية ألا وهو الوجه العباسي، فحين جُمع الأنصار لتقديم الولاء أكد أبو مسلم على " الشيعة الهاشمية " مما يشير إلى أن هؤلاء الذين كانوا جند العقيدة العباسية المخلصين هم عماد الثورة وليس الجماعات الأخرى التي استغلت من قبل الثورة وقد أصبحت مرو الشاهجان العاصمة وقراها ثم مرو الروذ وهيرات وابيورد تحت نفوذ الشيعة العباسية (211).
(ب) مقاومة بلخ للقوات العباسية التي وجدت صعوبة في احتلالها وذلك لأسباب ثلاثة.
* أن المقاتلة العرب في بلخ كانوا متحدين لم تتنازعهم العصبية القبلية ولذلك فإن أسد بن عبد الله القسري وطنّهم فيها ككتلة واحدة دون الأخذ بخطة الأخماس التي كانت مستعملة في البصرة ولذلك كان العرب في بلخ موالين للأمير ومخلصين للأمويين.
* أن الجند السوري في بلخ وعدده 2500 كان موالياً لنصر بن سيار.
* أن السكان المحليين في طخارستان وأقاليم أخرى في بلاد ما وراء النهر أظهروا مساعدتهم للوالي الأموي وعلى حدّ قول الطبري، فقد اتفقت مضر واليمن وربيعة والعجم في بلخ على قتال المسودة (212).
إن مقاومة بلخ للدعوة العباسية ظاهرة مهمة وذلك لأنها ربما كانت من أول الأحداث السياسية التي تميط اللثام عن بعض أساليب الدعوة العباسية، فنحن نلاحظ أولاً بأن الدعوة أستغلت العصبية القبلية فنجحت حيث وجدت العصبية وفشلت في بلخ حيث كان العرب متحدين على اختلاف قبائلهم ومخلصين لواليهم الأموي، ثم إن هذه الحادثة تظهر ثانياً بأن الدعوة العباسية لم تكن فارسية موجهة ضد العرب ذلك لأن السكان المحليين الإيرانيين وقادتهم في بلخ وقفوا إلى جانب الأمويين ضد العباسيين. وقد قاتل الموالي مع العرب جنباً إلى جنب لاسترداد بلخ من المسودة، كما وأنها تكشف ثالثاً خطأ ما ذهب إليه بعض المؤرخين من أنه كان هنالك في إيران تذمر عميق ضد الحكم العربي الإسلامي الذي لم يعط الموالي حقهم. فلو كان الأمر كذلك لهبت خراسان وبلاد ما وراء النهر عن بكرة أبيها لتدعم حركة المسودة (213).
رابعاً : تعين قحطبة الطائي قائداً لجيش خراسان المتقدم نحو العراق :
صدرت أوامر إبراهيم الإمام قبل سجنه بتعيين قحطبة بن شبيب الطائي قائداً عاماً للجيش الخراساني المتقدم نحو العراق وبلاد الشام (214)، وكان ذلك بعد استقرار الأمور في خراسان لصالح العباسيين وكانت قيادة الدعوة تهدف من وراء هذا التعيين أمور جد خطيرة منها ألا يتجاوز أبو مسلم خراسان مهما كانت الأحوال، ومنها أن من المناسب أن يكون القائد العام لدخول العراق من أصول عربية، ونلاحظ بعد تولي أبي العباس الخلافة سارع إلى انتزاع القيادة من العسكريين المظفرين إلى أبناء البيت العباسي من الأخوة والأعمام (215).
وبعد خروج نصر بن سيار من مرو أخذ يتنقل بين المدن يتخذها مقراً له من سرخس، إلى قومس، إلى خوار الري، وينتهز الفرصة للانقضاض على أبي مسلم في مرو، ولما لم يتمكن من استرداد مرو كتب إلى ابن هبيرة مستنجداً فلم يجبه، ثم كتب إلى الخليفة مروان بن محمد، الذي كتب بدوره إلى ابن هبيرة، فأمده بثلاثة آلاف فارس، عليهم القائد ابن غطيف اليماني، فأخذ هذا القائد يتباطأ في سيره ويطيل في الطريق (216). وفي هذه الأثناء كان قحطبة بن شبيب الطائي يلحق الهزيمة تلو الآخري بجيش ابن هبيرة، وكانت آخر معركة لنصر بن سيار في خوار الري حيث اقتتل مع جيش الحسن بن قحطبة، وكاد يقتل لولا أن بعض جند العرب في جيش الحسن انضموا إلى صفوف نصر بن سيار، فهُزم جيش الحسن (217)، ولما لم يصل مدد ابن هبيرة ركب نصر بن سيار جواده وسلك المفازة بين الري وهمذان فمات في جبالها، في شهر المحرم سنة 131ﻫ.
(1) تصفيات في خراسان :
وبعد موت نصر بن سيار زعيم المضرية قضى أبو مسلم على علي بن جديع الكرماني زعيم اليمانية، الذي، كان له دور كبير في انتصار الثورة، ودخل مرو فاتحاً ثم قَّدمها لأبي مسلم، وقد قتل أبو مسلم علياً بن جديع وأتباعه (218)، كما قتل النقيب لاهز بن قريض التميمي بتهمة السماح لنصر بن سيار بالخروج من دار الإمارة، ولأنه كان يعارض تأمير أبي مسلم على الثورة، يوم مؤتمر مكة (219)، كما قتل أبو مسلم عبد الله بن معاوية الطالبي، الذي احتمى بجيش أبي مسلم بعد أن هرب أمام الجيش الأموي من أصبهان إلى خراسان، إما لأنه صاحب ثورة يخشى جانبه، أو لأنه من أصحاب أبي جعفر خصم أبي مسلم (220)، ثم بدأ أبو مسلم بمحاربة شيبان الحروري الذي رفض المبايعة للإمام العباسي، فاستطاع أن يدحره ويشتت شمله (221).
(2) الاتصالات المستمرة بين المراكز الثلاثة للثورة :
ولما سُجن إبراهيم الإمام في حران استمرت الاتصالات بين المراكز الثلاثة للثورة في الحميمة، والكوفة، وخراسان. ففي الحميمة كان أبو جعفر وأخوه عبد الله بن الحارثية وجماعة من أولاد علي بن عبد الله بن العباس، وكان أنشطهم أبو جعفر الذي كان يتصل إذا اقتضى الأمر بسجن حّران (222). أما في الكوفة فقد كاد النقيب أبو سلمة الخلال، وزير الدعوة، الذي ما إن سمع بمقتل إبراهيم الإمام حتى أخذ يبحث عن زعيم علوي يقلده أمر الدعوة إلا أنه فشل ويأتي الحديث عن ذلك عند دراستنا للدولة العباسية بإذن الله تعالى. وشهدت الحميمة مشاورات سرية حول من يخلف إبراهيم الإمام، إذا طرأ عليه طارئ في سجنه، ولا يُعرف مصير هذه المشاورات، فربما أوصى الإمام لأخيه عبد الله بن الحارثية، وقد تداخل الشك أبا مسلم حول صحة الوصية وربما أن العباسيين في الحميمة أجمعوا على عبد الله فعلاً، وربما لأنه الأكثر قبولاً عند أبي مسلم، أو لأن أخواله من العرب اليمانية، ومنهم عدد كبير من جيش الثورة، بما فيهم القائد الأعلى قحطبة بن شبيب الطائي ومجموعة من نقباء الدعوة خاصة سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم وغيرهما (223).
(3) جيوش قحطبة الطائي تدخل العراق :
ما إن جاء عام 132ﻫ حتى كانت جيوش قحطبة الطائي تحتل خراسان بأجمعها مع البلاد التي حولها، بعد حروب شديدة، ثم اتجه قحطبة بجيش الثورة غرباً يريد العراق، فتحرك إليه الخليفة مروان بن محمد بعد أن أمر بقتل إبراهيم الإمام في سجنه واتجه إلى الموصل فنزل على نهر الزاب الكبير، وأمد عامله يزيد بن هبيرة بثلاثين ألف فارس لقتال قحطبة المتقدم إلى الكوفة، حيث التقي جيش ابن هبيرة مع جيش قحطبة قرب الفلوجة، على نهر الفرات وقتل في المعركة القائد قحطبة الطائي، ولكن ابنه الحسن بن قحطبة تولى القيادة، في حين اضطر ابن هبيرة للانسحاب نحو واسط (224)، ودخل الحسن بن قحطبة بجيشه الكوفة التي سيطر عليها محمد بن خالد القسري، ودعا الناس إلى بيعة الرضا من آل محمد (225).
(4) أبو سلمه الخلال يتولى إدارة الأمور :
أخرج محمد بن خالد القسري أبا سلمة الخلال من مخبئه، وأجلسه مجلس الإمارة، وقدم له الطاعة، ووضع الجيش تحت تصرفه، وأقام أبو سلمة معسكره في حمام أعين في ظاهر الكوفة، ووجه الحسن بن قحطبة إلى واسط ومعه ستة عشر قائداً، لحصار ابن هبيرة ولمنعه من الاتصال بالخليفة مروان ووجه الفرق والكتائب لفتح المدن العراقية؛ إذ بعث حميد بن قحطبة للمدائن ومعه اثنان من القادة مع جنودهما والمسيب بن زهير الضبي ومعه خالد بن برمك إلى دير قنىّ، وبسام بن إبراهيم إلى الأهواز، وشراحبيل إلى عين التمر، وسفيان بن معاوية المهلبي إلى البصرة (226)، وأقر أبو سلمة محمد بن خالد القسري على الكوفة (227). ثم وزع أبو سلمة عماله؛ فقد ولّى عمر بن الزيات حجابته، والمغيرة بن الريان ولاّه الخراج، ثم نقله إلى ديوان الرسائل، فيما ولّى يوسف بن ثابت ديوان الخراج، وعبد السلام بن عبد الرحمن الغامدي ولاّه الصوافي، والقطائع، والخزائن، وولىَّ أبا سلمى بيت المال، وأعطى الجند من ديوان بني العباس، وبعث عمال الخراج إلى الكور (228). كان أبو سلمة قد استقبل إخوة إبراهيم الإمام وأولاده وأعمامه خارج الكوفة وأدخلهم سراً – بعد سجن إبراهيم – وأخفى أمر مجيئهم عن الشيعة العباسية وقادة الجيش، وطلب منهم كتم أمرهم إلى أن يستتب الأمر في واسط لوجود جيش ابن المحاصر، وفي البصرة لوجود جيش أموي بقيادة سلم بن قتيبة بن مسلم الباهلي (229). ولكن حقيقة الأمر بالنسبة لإخفاء أمر العباسيين في الكوفة من قبل أبي سلمة الخلال، هو انتظار لنتائج اتصالاته السرية لأحفاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والتي جاءت مخيبة للآمال، فقد رد جعفر الصادق على أبي سلمة : إن صاحبكم بأرض الشراة، أما عبد الله بن الحسن فقد فكّر أن يسند الأمر إلى ابنه محمد بن عبد الله " النفس الزكية " ولكن الإمام جعفر الصادق نهاه عن ذلك لما شاوره (230).
خامساً : إعلان قيام الدولة العباسية :
بقى العباسيون في معزلهم بالكوفة مدة أربعين يوماً إلى أن علم بأمرهم بعض قادة الجيش في معسكر حمام أعين، وعلى رأسهم القائد أبو الجهم بن عطية ومعه من القادة موسى بن كعب التميمي وإبراهيم بن محمد الحميري، وأبو غالب عبد الحميد بن ربعي، وسلمة بن محمد، وعبد الله الطائي واسحاق بن إبراهيم، وشراحبيل، وعبد الله بن بسام وغيرهم، وجاءوا إلى العباسيين وبايعوا أبا العباس عبد الله بن الحارثية، وسلموا عليه بالخلافة في 12 ربيع الأول 132ﻫ ثم أخرجوه إلى منبر المسجد لإعلان خلافته، وتسمى أبو العباس بأمير المؤمنين بينما اتخذ أبو سلمة الخلال لقب وزير آل محمد (231)، وجاء في رواية : أن أبا سلمة الخلال عندما ما أراد إخراج الخليفة العباسي نزل إلى السَّرداب وصاح يا عبد الله، مُدَّ يدك، فتبارى إليه الإخوان. فقال أيُّكما الذي معه العلامة ؟ قال المنصور : فعلمت أني أخرت، لأني لم يكن معي علامة، فتلا أخي العلامة وهي : " ونريد أن نمن على اللذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ... " ( القصص : 5 ) فبايعه أبو سلمة وخرجوا جميعاً إلى جامع الكوفة، فبُويع وخطب الناس (232) فكان أول ما نطق به : (الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه فكّرمه وشرّفه وعظمَّه واختاره لنا، وأيَّده بنا، وجعلنا أهله وكهفه والُقوَّام به والذَّابيَّن عنه، والناصرين له وألزمنا كلمة التقوى، وجعلنا أحق بها وأهلها خضَّابرحم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته واشتقنَّا من نبعته ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع، وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتاباً يتلى عليهم فقال : " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " (الأحزاب: 33) وقال : " قل لا أسئلكم عليه أجراً إلا المودة في القربي " (الشعراء : 214).
وقال : "ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى" (الحشر، : 7). فأعلمهم الله عز وجل فضلنا وأوجب عليهم حقنا ومودَّتنا وأجزل من الفيء – والغنيمة نصيبنا، تكرمة لنا، وفضلة علينا، والله ذو الفضل العظيم وزعمت السَّبئيَّة الضلال أن غيرنا أحقُّ بالرَّياسة والسيَّاسة والخلافة منا، فشاهت وجوههم بم ولم أيها الناس ؟ وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم وبصَّرهم بعد جهالتهم وأنقذهم بعد هلكتهم وأظهر بنا الحق وأدحض بنا الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسداً، ورفع بنا الخسيسة، وأتّم النَّقيصة، وجمع الفرقة، حتى عاد الناس بعد العداوة أهل تعاطف وبرَّ ومواساة في ديناهم، وإخواناً على سُرُر متقابلين في أُخراهم، فتح الله ذلك مِنَّةً ومنحة لمحمد صلى الله عليه وسلم، فلما قبضه الله إليه قام بذلك الأمر من بعده أصحابه وأمرهم شورى بينهم، فحَوَوْا مواريث الأمم فعدلوا فيها ووضعوها مواضعها، وأعطوها أهلها وخرجوا خِماصاً منها، ثم وثب بنو حرب ومرون فابتزوُّها وتداولوها، فجاروا فيها، واستأثروا بها وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حينا حتى آسفوه (233)، فلمّا آسفوه انتقم منهم بأيدينا، وردّ علينا حقَّنِا، وتدارك بنا أمَّتَنا وولى نصرنا والقيام بأمرنا؛ ليَمُنَّ بنا على الذين استضعفوا في الأرض وختم بنا كما افتتح بنا وإني لأرْجُو أن لا يأتيكم الجَور من حيث جاءكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصَّلاحُ، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله، يا أهل الكوفة، أنتم محلُّ محبَّتنا ومنزل مودَّتنا، وأنتم أسعد الناس بنا وأكرمهم علينا وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا فأنا السَّفَّاح الهائج والثائر المبير) (234)، وكان به وعك فاشتَّد عليه حتى جلس على المنبر ونهض عمُّه داود فقال : (الحمد لله شُكراً شُكراً شكراً الذي أهلك عدوَّنا، وأصار إلينا مِيراثنا من نبينَّا، أيها الناس الآن انقشعت أرْضُها وسماؤها وطلعت الشمس من مطلعها، وبزغ القمر من مبزعه ورجع الحقُّ إلى نصابه في أهل بيت نبيكم، أهل الرَّأفة والرّحمة بكم والعطف عليكم، أيها الناس، إنا والله ما خرجنا في طلب هذا الأمر لنُكثر لجُيناً (235) ولا عقيانا (236)، ولا لنحفر نهراً ولا لنبني قصراً، وإنما أخرجنا الأنفة من ابتزازهم حقَّنا والغضب لبني عمَّنا ولُسوءٍ سيرة بني أمية فيكم، واستذلالهم لكم واستئثارهم بفيئكم وصدقاتكم، فلكم علينا ذمة الله وذمة رسوله وذمّة العباس، أن نحكم فيكم بما أنزل الله، ونعمل بكتاب الله، ونسير في العامّة منكم والخاصَّة بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تبَّاً تّبَاً لبني أمية وبني مروان؛ آثروا العاجلة على الآجلة والدارَ الفانية على الدار الباقية، فركبوا الآثام وظلموا الأنام، وارتكبوا المحارم وغشوا الجرائم وجاروا في سيرتهم في العباد وسُنَّتِهم في البلاد التي بها، استلذُّوا تسربل الأوزار، وتجلبُب الآصار، ومَرِحوا في أعنَّة المعاصي وركضوا في ميادين الغيَّ جهلا باستدراج الله، وأمنا لمكر الله، فأتاهم بأس الله بياتاً وهم نائمون، فأصبحوا أحاديث، ومزَّقوا كل مُمَّزق، فبُعدا للقوم الظالمين وأدالنا (237)، الله من مروان، وقد غرَّه بالله الغرور، وأرسل لعدوَّ الله في عنانه حتى عثر في فضل خطامه أظن عدو الله أن لن نقدر عليه ؟ فنادى حزبه، وجمع مكايده، ورمى بكتائبه، فوجد أمامه ووراءه وعن يمنيه وشماله من مكر الله وبأسه ونقمته ما أمات باطله ومحق ضلاله، وجعل دائرة السَّوءِ به وأحيا شرفنا وعِزنا وردَّ إلينا حقَّنا وإرثنا، ... فادعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية، فقد أبدلكم الله بمروان عدوَّ الرحمن وخليفة الشيطان، المُتَّبع للسَّفلة الذين أفسدوا في الأرض بعد صلاحها، الشابَّ المتكهَّل المقتدى بسلفه الأبرار الأخيار، الذين أصلحوا الأرض بعد فسادها بمعالم الهُدى ومناهج التُّقى).
قال : فعجّ الناس له بالدعاء ثم قال : (وأعلموا يا أهل الكوفة أنه لم يصعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب وأمير المؤمنين عبد الله بن محمد هذا – وأشار بيده إلى السَّفَّاح – وأعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا حتى نُسلَّمه إلى عيسى ابن مريم عليه السلام والحمد لله رب العالمين على ما أبلانا وأولانا)، ثم نزل أبو العباس وداود حتى دخلا القصر ثم دخل الناس يُبايعون إلى العصر ثم من بعد العصر إلى الليل (238). وخرج أبو العباس يوم السبت من الكوفة إلى معسكره في " حمام أعين " مع الأمير أبي سلمة وجعل على حجابته عبد الله بن بسام، وجعل على الكوفة وأعمالها عمه داود بن علي (239)، وجهز أبو العباس جيشاً قوامه ثلاثون ألفاً لمواجهة جيش الخليفة مروان بن محمد بقيادة الخليفة نفسه في الموصل، وقد أسند أبو العباس قيادة هذا الجيش لعمه عبد الله بن علي ومعه يزيد بن عيسى بن موسى، فتحرك الجيشان للمواجهة فالتقيا على نهر الزاب الأكبر في معركة حاسمة (240).
سادساً : انتصار العباسيين على الأمويين في معركة الزاب : 132ﻫ .
قال تعالى " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير " ( آل عمران ، أية : 26 ). حان وقت زوال ملك بني أمية وساق الله لذلك الأسباب ومنها الانهزام الكبير لجيوشهم في معركة الزاب، فقد تحركت جيوش العباسيين لملاقاة جيوش الدولة الأموية التي كان يقودها الخليفة الأموي مروان بن محمد الذي تخندق بين دجلة والزاب الكبير وكان جيشه مؤلفاً من أهل الشام، والجزيرة الفراتية على شكل كتائب منها الصحصحية، والراشدية، والمحمرة، والدوكانية، كما انضم إليه البدو وبعض قبائل الجزيرة. ولقد كانت القوات الأموية والعباسية بنفس العدد تقريباً بين 20000 – 24000 ألف جندي، على أنهم لم يكونوا بنفس الانسجام والقوة المعنوية التي تميز بها جند الدعوة العباسية، وقد عملت العصبية القبلية عملها في جيش مروان الذي كان يتكون في غالبيته من القبائل القيسية (241) وكانت المعركة يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة من سنة 132ﻫ فقال مروان لأهل الشام، قِفوا لا تبدءوهم بقتال، فخالفه الوليد بن معاوية بن مروان – وهو ختن مروان على ابنته – فحمل فغضب مروان وشتمه فقاتل أهل الميمنة، ونودي في الجيش العباسي الأرض فنزل الناس وأشرعوا الرَّماح وجثوا على الرُّكب وقاتلوهم، وجعل أهل الشام يتأخّرون، كأنما يُدفعون، وجعل عبد الله بن علي يمشي قدماً وهو يقول : ياربَّ حتى متى نقتل فيك ؟ ونادى يا أهل خُراسان، يالثارات إبراهيم يا محمد، يا منصورن واشتد القتال بين الناس جدَّاً. فأرسل مروان إلى قضاعة يأمرهم بالنزول فقالوا : قل لبني سليم فلينزلوا. وأرسل إلى السكاسِكِ أن أحملوا. فقالوا : قل لبني عامر فليحملوا، فأرسل إلى السَّكون أن احِمْلوا. فقالوا : قل لغطفان فليحملوا. فقال لصاحب شرطته انزلْ : فقال لا والله لا أجعل نفسي غرضاً. قال : أما والله لأسوءَنك قال : وودت والله أنك قدرت على ذلك (242).
ثم انهزم أهل الشام واتَّبعهم أهل خُراسان في أدبارهم يقتلون ويأسرون، وكان من غرق من أهل الشام أكثر ممن قُتل، وقد أمر عبد الله بن علي بعقد الجسر واستخراج من هلك من الغرقى وجعل يتلو قوله تعالى : " وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون " ( البقرة : 50 ). وأقام عبد الله بن علي في موضع المعركة سبعة أيام وقد قال رجل من ولد سعيد بن العاص في مروان وفراره يومئذ :

لج الفرار بمروان فقلت لـــه *** عاد الظلوم ظَليماَّ هَمُّه الهَـرَبُ
أين الفِرار وترك الملك إذ ذهبت *** عنك الهُوين فلا دين ولا حسب
فراشة الحلم فرعون العقاب وإن *** تطلب نداه فكلب دونه كلـب

واحتاز عبد الله ما كان في معسكر مروان من الأموال والأمتعة والحواصل ولم يجد فيه امرأة سوى جارية كانت لعبد الله بن مروان، وكتب إلى أمير المؤمنين أبي العباس السَّفاح يخبره بما فتح الله عليه من النّصِر، وما حصل لهم من الأموال؛ فصلَّى السَّفَّاح ركعتين شكراً لله عز وجل، وأطلق لكلَّ من حضر الوقعة خمسمائة خمسمائة، ورفع في أرزاقهم وجعل يتلو (243) قوله تعالى : " فلما فصل طالوت بالجنود " ( البقرة : 249 ).
كانت هذه المعركة من المعارك الحاسمة فقد بدأت دولة جديدة هي دولة بني العباس، وأنهت دولة قديمة هي دولة بني أمية (244)لقد أرتكب مروان خطأ استراتيجياً كبيراً بعبوره إلى الساحل الأيسر من الزاب الكبير فبسبب ذلك فقد سيطرته وموقعه الحصين ولذلك خسر المعركة وانسحب باتجاه الموصل التي أغلقت أبوابها فاضطر إلى الانسحاب إلى الشام يتبعه عبد الله بن علي العباسي وقد حاول مروان أن يستنجد بالقبائل الشامية في قنسرين وحمص ولكنها لم تستجب له بل على العكس هاجمته لغرض سلب مؤنه وأرزاقه، ولم يستطيع مروان البقاء طويلاً في دمشق حيث انقسم الناس إلى قسمين بين مؤيد للأمويين ومعارض لهم، بل أقسمت بعض القبائل اليمانية يمين الولاء لبني هاشم، فتركها متجها نحو فلسطين فمصر (245)، وسيأتي الحديث عن مقتله بإذن الله تعالى. وقد حصد مروان الثاني ثمار سياسته القبلية باعتماده على قيس وأخذه الناس بالشك والشبهة حتى تفرقوا عنه وقال قولته المشهورة وهو يتراجع باتجاه مصر : انفرجت عني قيس انفراج الرأس ما تبقى منهم أحد وذلك أننا وضعنا الأمر في غير موضعه (246).
وأما دمشق فلم تستسلم أول الأمر لعبد الله بن علي وأعتصم أهلها وراء أسوار المدينة ولكن عبد الله دعى اليمانيين في المدينة وأغراهم ووعدهم خيراً قائلاً : إنكم وإخوانكم من ربيعة كنتم بخراسان شيعتنا وأنصارنا ... فانصرفوا وخلوا بيننا وبين مضر (247). فانضموا إليه ودخل الجيش العباسي مدينة دمشق (248).
(1) حصار واسط ومقتل ابن هبيرة :
أرسل أبو العباس أخاه أبا جعفر لقيادة الحصار المضروب على يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري الذي حصن نفسه في واسط ورفض الاقتراح بالهجوم على الكوفة، كما رفض الالتحاق بمروان الثاني وكان الحسن بن قحطبة قائداً للجيش الخراساني ولكن الخليفة رأى من الأفضل إرسال عباسي لقيادة الجيش وكتب رسالة إلى الحسن الطائي قائلاً : إن العسكر عسكرك والقواد قوادك ولكن أحببت أن يكون أخي حاضراً فاسمع له وأطع وأحسن مؤازرته (249) وكتب إلى أبي نصر مالك بن الهيثم بمثل ذلك، فكان الحسن المدبر لذلك العسكر بأمر أبي جعفر (250). وكان جيش ابن هبيرة كبيراً يتكون من الجند السوري الموجود في العراق ومن أهل خراسان الموالين لبني أمية ومن أهل العراق اليمانيين والقيسيين. على أن ضعفه كان بارزاً يتمثل في العصبية القبلية التي شقته فشلت حركته ولذلك لم يصمد مع ابن هبيرة على القتال إلا الصعاليك والفتيان وقد استطاع أبو جعفر أن يكسب اليمانية في واسط بإغرائهم قائلاً : السلطان سلطانكم والدولة دولتكم. فانشق زياد الحارثي مع اليمانية عن ابن هبيرة وجذب معه شيوخاً آخرين، ويظهر أن هؤلاء الشيوخ كانوا قد سئموا الأمويين وأملوا الخير العميم من دولة ( أهل البيت ) الجديدة (251). لقد دام الحصار حوالي 11 شهراً ولما يفكر ابن هبيرة بالاستسلام حتى سمع بنبأ نهاية مروان فلم يبق مبرر للمقاومة فجرت محادثات للصلح وأعطى أبو جعفر أمانا لابن هبيرة شاور فيه ابن هبيرة الفقهاء والعلماء أربعين يوماً حتى يرى نقاط الضعف والقوة فيه، ثم وافق عليه، وأرسله إلى أبي جعفر لأخذ موافقة الخليفة عليه وقد أورد ابن أعثم الكوفي نص الأمان. على أن السلطة العباسية لم تكن لتحتمل ذلك القائد والوالي ذا النفوذ القبلي الكبير والذي كان يعامل أبا جعفر وكأنه مساوياً له من حيث المنزلة وكان يحف به في ذهابه وإيابه 800 مقاتل بين فارس وراجل (252).
والواقع فإن أبا جعفر أراد أن يكسبه للدولة الجديدة فكان يقول : عجباً لمن يأمرني بقتل مثل هذا. كما أنه كان يستشيره فيشير إليه قائلاً : إن دولتكم هذه جديدة فأذيقوا الناس حلاوتها وجنبوهم مرراتها لتسرع محبتكم إلى قلوبهم ويعذب ذكركم على ألسنتهم (253)، على أن الخليفة أمر أبا جعفر بقتله لأسباب سياسية وتعددت الروايات التاريخية في أسباب قتله فمنهم من يذكر أنه كان بتحريض من أبي مسلم الذي كتب إلى الخليفة : أنه قلّ طريق سهل تلقى فيه حجارة إلا ضّر ذلك بأهله ولا والله لا يصلح طريق فيه ابن هبيرة (254) وقد تردد أبو جعفر في قتله وقال : لا أفعل وله في عنقي بيعة وأمان : فأجابه أبو العباس : والله لتقتلنه أو لأبعثن إليك من يخرجه من عندك ويتولى ذلك عنك (255) وواضح أن الخليفة رأي في ابن هبيرة خطرا على الدولة الجديدة ووافقه في ذلك أبو مسلم (256) قال الذهبي في مقتل ابن هبيرة .. فحاصره المنصور مدة ثم خدعه المنصور وآمنه، ونكث فدخلوا عليه داره فقتلوه صبراً وابنه داود ومماليكه وحاجبه، فسجد لله فنزلوا عليه فهبروه (257)، وكان بطلاً، شجاعاً، سائساً، جواداً، فصيحاً خطيباً (258)، وكان رزقه في السنة ست مائة ألف وكان يفرقها في العلماء والوجوه (259). وهكذا قضى العباسيون على جيب من الجيوب الأموية في العراق وسقطت مدينة واسط (260).
(2) استسلام البصرة :
اعتصم مسلم بن قتيبة الباهلي بالبصرة ودافع عنها بصفته الوالي الأموي وظل مسلمٌ فيها حتى علم بمقتل ابن هبيرة وحينئذ ترك البصرة إلى الحجاز وعين بدله أحد الهاشميين واليا على البصرة حيث استبدله أبو العباس سفيان المهلبي وبهذا سيطر العباسيون على البصرة، لقد استطاع العباسيون أن يقضوا على فلول الأمويين ومراكزهم الحصينة في العراق وبلاد الشام، وقضوا على آخر خلفائهم مروان الثاني (261).
سابعاً : مقتل مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين 132ﻫ
استولى عبد الله بن علي العباسي على الجزيرة والشام وهرب مروان بن محمد إلى مصر، فتبعته الجيوش العباسية وعبر مروان النيل فلحقه صالح بن علي عّم السَّفَّاح، فأدركه بقرية من قرى الفَيُّوم من أرض مصر يقال لها بُوصير (262)، فوافاه صائماً وقد قدّم له الفطور، فسمع الصائح فخرج وسيفه مصلت، فجعل يضرب بسيفه ويتمثل بقول الحجَّاج بن حكيم :


متقلَّدين صفائحاً هندية *** يتركن من ضربوا كأن لم يولد
وإذا دعوتهم ليوم كريهة *** وأفوك بين مكبر ومـــوحَّد


فقصدته الخيول من كل جانب (263)، وبقي يقاتل حتى قتل وكان من كلامه قبل أن يقتل : (إن الجزع لا يزيد في الأجل وإن الصبر لا ينقص الأجل) وكان يتمثل بهذين البيتين كما جاء في بعض الروايات :

ذلُّ الحياة وهــول الممات *** وكـــلاَّ آراه وخيماً وبيلا
فإن كان لا بـد من ميتة *** فسيري إلى الموت سيراً جميلاً (264)

وكان أهله وبناته في كنيسة هناك فأقبل خادمه بالسيف مصلتا يريد الدخول عليهم، فأخُذ وسئل عن مراده فقال : إن مروان أمرني إذا تيقنت موته أن أضرب رقاب نسائه وبناته فأرادوا قتله، فقال : إن قتلتموني لتفقدن ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم – قالوا : فدلنا على ذلك إن كنت صادقاً، فخرج بهم إلى رمل هناك، فكشفوه فإذا فيه القضيب والبُرد والقَعبُ... فأخذوه وكان الذي تولى قتله عامر بن إسماعيل الخُراساني، وهو صاحب مقدمة صالح ولما قتله دخل بيته، وركب سريره، ودعا بعشائه، وجعل رأس مروان في حجر ابنته، وأقبل يوبخَها، فقالت له : يا عامر، إن دهراً أنزل مروان عن فراشه وأقعدك عليه حتَّى تعشيت عشاءه لقد أبلغ في موعظتك، وعمل في إيقاظك وتنبيهك إن عقلت وفكرت، ثم قالت : وا أبتاه وا أمير المؤمنيناه، فأخذ عامراً الرُّعب من كلامها، وبلغ ذلك أبا العباس السَّفَّاح، فكتب إلى عامر يوبخَّه ويقول : أما في أدب الله ما يخرجك عن عشاء مروان والجلوس على مهاده (265). وكان مروان بطلاً شجاعاً، ظالماً، أبيض، ضخم الهامة، ربعة، أشهل العين، كث اللحية أسرع إلى الشيب، ذكره المنصور مرّةً فقال : لله درُّه ما كان أحزمه وأسوسه، وأعفَّه عن الفي (266). وكان نقش خاتمه : أذكر الله يا غافل (267). وقد قيل : إن مروان قتل يوم الإثنين لثلاث عشرة خلت من ذي الحجَّة سنة ثنتين وثلاثين ومائة، وقد جاوز الستين (268)وبموته زال ملك بني أمية، وجميع خلفاء بني أمية من لدن معاوية إلى مروان بن محمد أربعة عشر رجلاً، وكانت مدة خلافة بني أمية منُذ أن خلص الأمر لمعاوية، وإلى أن قتل مروان بن محمد إحدى وتسعين سنة وتسعة أشهر وخمسة (269) أيام منها – خلافة – ابن الزبير تسع سنين وعشرون يوماًثم تفرقت بنو أمية في البلاد هرباً بأنفسهم وهرب عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس وبايعه أهل الأندلس عام 138ﻫ (270)... لقد انقضت تلك السنون وأهلها، فكأنهم على ميعاد (271)وهكذا انتهت دولة بني أمية في المشرق التي عّمرت في الأرض عقوداً مديدة وأعواماً عديدة، وأقاموا فيها المدن المنيعة، والقصور الرفيعة، ولكن ذهبوا وتركوا كل ذلك، ولقد لحقتهم دول وشعوب وأمم وإليك هذا التصوير عن تلك النهايات التي فيها الدروس والعبر لمن ألقى السمع وهو شهيد قال الشاعر أبو العتاهية :


أين القرون الماضية *** تركوا المنازل خالية
فاستبدلت بهم ديارهم *** الرياح الهاوية
وتشتت عنها الجموع*** وفارقتها الغاشية
فإذا محل للوحوش
درجوا فما أبقت صروف *** الدهر منهم باقية
لم يبق بعدهم *** إلا العظام البالية (272)

قال تعالى : " لقد كان في قصصهم عبرة لأُولى الألباب .." ( يوسف ، آية : 111).


|1|2|


--------------------------------------------------------------------------------
(136) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت ص 83.
(137) المصدر نفسه ص 83.
(138) طبيعة الدعوة العباسية ص 83.
(139) أنساب الأشراف ( 3/125 ) الدعوة العباسية ص 236.
(140) أنساب الأشراف ( 3/260 ) الدعوة العباسية ص 236.
(141) مروج الذهب ( 3/260 ) الدعوة العباسية ص 236.
(142) الدعوة العباسية ص 236.
(143) تاريخ الطبري نقلاً عن العلويين والعباسيين ودعوة أهل البيت ص 84.
(144) العلويون والعباسيون ودعوة أهل البيت ص 84.
(145) سير أعلام النبلاء ( 6/48 ) .
(146) المصدر نفسه ( 6/48 ) .
(147) المصدر نفسه ( 6/49 ) .
(148) العلويون والعباسيون ودعوة إلى البيت ص 85.
(149) تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس ص 160 إلى 170.
(150) تاريخ الطبري ( 8/233 إلى 236 ).
(151) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت ص 85.
(152) تاريخ الطبري ( 8/198).
(153) تاريخ الطبري نقلاً عن العلويين والعباسيين ص 86.
(154) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت ص 86.
(155) الكامل في التاريخ ( 3/453 ) العلويون العباسيون ص 86.
(156) الكامل ( 3/453 ) العلويون والعباسيون ص 86.
(157) تاريخ الطبري ( 8/243 9 العلويون والعباسيون ص 87.
(158) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت ص 87.
(159) تاريخ الطبري نقلاً عن العلويين والعباسيين ص 87.
(160) الأخبار الطوال ص 352.
(161) العيون والحدائق ص 184.
(162) الثورة العباسية ص 124.
(163) المصدر نفسه ص 124.
(164) الثورة العباسية ص 122.
(165) الثورة العباسية ص 124.
(166) الثورة العباسية ص 124.
(167) الثورة العباسية ص 124.
(168) المصدر نفسه ص 124.
(169) المصدر نفسه ص 125.
(170) المصدر نفسه ص 125.
(171) المصدر نفسه ص 125.
(172) تاريخ الطبري ( 8/245 ) ، الثورة العباسية ص 125.
(173) الثورة العباسية ص 125.
(174) تاريخ الطبري ( 8/247 ).
(175) الثورة العباسية ص 131.
(176) تاريخ الطبري ( 8/246 ) .
(177) تاريخ الطبري ( 8/247 ) .
(178) السلطة والمعارضة في الإسلام ص 523 .
(179) أخبار الدولة العباسية ص 245.
(180) السلطة والمعارضة في الإسلام في 523.
(181) العلويون والعباسيون ص 88.
(182) البداية والنهاية ( 13/226 ) .
(183) المصدر نفسه ( 13/227 ) .
(184) الخدمة : حلقة القوم وجماعتهم.
(185) ألين : من قرى مرو على أسفل نهر خارقان معجم البلدان ( 1/66 ).
(186) البداية والنهاية ( 13/229 ) .
(187) البداية والنهاية ( 13/230 ) .
(188) الزندان : هما خشبتان يُستقدح بهما فالسفلى زندة والأعلى زند .
(189) البداية والنهاية ( 13/231 ) .
(190) المصدر نفسه ( 13/231 ) .
(191) الدعوة العباسية ص 208.
(192) الحجا : العقل والفطنة.
(193) تأشب : أي اجتمع إليه والتفَّ عليه من أخلاط الناس.
(194) العلوج : أ ي اجتمع إليه والتفَّ عليه من أخلاط الناس.
(195) أخبار الدولة العباسية ص 313 الدعوة العباسية ص 280 ، 281.
(196) الأخبار الطوال ص 332 ، الدعوة العباسية ص 281.
(197) الدعوة العباسية ص 281 ، أخبار الدولة العباسية ص 282.
(198) الاغتام : جمع أغتم ، وهو الذي لا يفصح ، أي العجمي .
(199) النائرة : الفتنة والشر والشحناء والعداوة .
(200) أخبار الدولة العباسية ص 290 الدعوة العباسية ص 282.
(201) الدعوة العباسية ص 283.
(202) الثورة العباسية ص 133.
(203) البداية والنهاية ( 13/248 ) .
(204) المصدر نفسه ( 13/247 ) .
(205) تاريخ بلاد الشام، بيضون ص 229.
(206) البداية والنهاية ( 13/248 ).
(207) تاريخ الطبري ( 8/339 ).
(208) الثورة العباسية ص 134 ، 135 ، 136.
(209) تاريخ الطبري ( 8/272 ) .
(210) المصدر نفسه ( 8/279 ).
(211) الثورة العباسية ص 137.
(212) الثورة العباسية ص 137 ، نقلاً عن تاريخ الطبري .
(213) الثورة العباسية ص 138.
(214) تاريخ الطبري نقلاً عن الثورة العباسية ص 144.
(215) العالم الإسلامي في العصر العباسي ص 49.
(216) الكامل في التاريخ ( 3/479 ) الجيش في العصر العباسي الأول ص 50.
(217) الكامل في التاريخ ( 3/479 ) .
(218) تاريخ الطبري ( 8/280 ) .
(219) تاريخ الطبري ( 8/279 ) الجيش في العصر العباسي ص 51.
(220) داهية العرب أبو جعفر المنصور ص 94.
(221) البداية والنهاية ( 13/235 ).
(222) الجيش في العصر العباسي الأول ص 51.
(223) المصدر نفسه ص 52.
(224) داهية العرب أبو جعفر المنصور ص 97.
(225) سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية ص 193.
(226) داهية العرب أبو جعفر المنصور ص 98.
(227) سقوط الدولة الأموية للثعالبي ص 194.
(228) تاريخ بلاد الشام ص 259.
(229) العصر العباسي الأول ، عبد العزيز الدوري ص 43.
(230) داهية العرب أبو جعفر المنصور ص 98 – 99.
(231) الجيش في العصر العباسي الأول ص 55 .
(232) سير أعلام النبلاء ( 6/78 ) .

د.فالح العمره 29-09-2006 05:51 AM

الدوله العباسيه
 
الدولة العباسية

يتفق بعض المؤرخين على تقسيم الدولة العباسية الى عصرين متميزين : عصر عباسي أول يعبرون عنه بالعصر الزاهي ، ويمتد من نشأة الدولة عام 132هـ حتى أيام الخليفة الواثق بن المعتصم سنة 232هـ وبموته انتهى العصر الذهبي للدولة العباسية ، وعصر ثان هو عصر التدهور والإنحلال ، ابتدأ بخلافة المتوكل على الله سنة 232هـ وانتهى بسقوط الدولة العباسية على أيدي التتار سنة 656هـ .
ويعمد فريق من المؤرخين الى جعل العصور العباسية أربعة تبعا للنفوذ السياسي الذي شهدته بغداد وللأوضاع السياسية التي كانت سائدة :
العصر العباسي الأول : دام نحوا من قرن ، امتاز بالنفوذ الفارسي ، حكمه سبعة خلفاء، وهو عصر القوة والزهو.

العصر العباسي الثاني : دام نحوا من قرن ، امتاز بالنفوذ التركي مع الخليفة المعتصم ، وفيه كان بدء الضعف.

العصر العباسي الثالث : دام نحوا من قرن ، امتاز بالنفوذ البديهي وهو عصر الضعف الفعلي وقيام الدويلات ومنها : الحمدانية في الموصل وحلب ، البويهية في شيراز ، الأخشيدية في الفسطاط بمصر …الخ.

العصر العباسي الرابع : دام نحوا من قرنين ، وهو عصر الانحلال الذي انتهى بسقوط بغداد في أيدي المغول سنة 656هـ (1258م ) ، كما امتاز بالنفوذ السلجوقي .

وقد أخذ العباسيون باستخدامهم الأعاجم ، بدلا من العصبية العربية التي اعتمدتها الدولة الأموية اعتمادا كليا .. واحتاج العباسيون في اصطناعهم الأعاجم الى المال ، فوقعوا تحت نفوذ الأغنياء كما أصبح الأعاجم من الفرس والترك والديلم والصغد وغيرهم ، يتسابقون الى الإستئثار بالنفوذ عن طريق المال .

وحكمت الدولة العباسية زهاء خمسة قرون ساست فيها العالم .. وفي ذلك يقول الفخري صاحب الآداب السلطانية : " واعلم أن هذه الدولة من كبريات الدول ساست العالم سياسة ممزوجة بالدين والملك، فكان أخيار الناس وصلحاؤها يطيعونها تدينا ، والباقون يطيعونها رهبة أو رغبة .. لقد كانت دولة كثيرة المحاسن ، جمة المكارم أسواق العالم فيها قائمة وبضائع الآداب فيها نافقة ، وشعائر الدين فيها معظمة ، والخيرات فيها دارة ، والدنيا عامرة ، والحرمات مرعية ، والثغور محصنة .. ومازالت على ذلك حتى أواخرها ، فانتشر الجبر واضطرب الأمر ، وانتقلت الدولة ".

د.فالح العمره 29-09-2006 05:52 AM

أبو العباس السفاح .. مؤسس الدولة العباسية
هو أول من جلس على عرش الدولة العباسية سنة 231 هـ، وفي يوم الجمعة أقام أبو العباس الخطبة على المنبر قائماً، وكان بنو أمية يخطبون قعوداً ، فحياه الناس وقالوا: " أحييت السنة يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم". وختم خطبته بقوله: "أنا السفاح المبح، والثائر المبيد"، فعرف من ثم بالسفاح .. وقد قضى السفاح معظم عهده في محاربة قواد العرب الذين ناصروا الدولة الأموية، وقضى على أعقاب الأمويين، حتى أنه لم يفلت منهم إلا عبدالرحمن الداخل مع نفر من أهله .. كذلك وجه السفاح همته إلى الفتك بمن والوا عبد الرحمن الداخل وساعدوه على تأسيس دولته في الأندلس، فقتل أبا سلمة الخلال، وهم بقتل أبي مسلم لولا أن المنية عاجلته .. وكان أبو العباس جميلاً وسيماً كريماً وقوراً سخياً، كثير الجباء .. وقد بقي في الخلافة أربع سنوات وتسعة أشهر ومات بالجدري في مدينة الأنبار التي اتخذها قاعدة لخلافته سنة 631 هـ، وكان ابن ثلاث وثلاثين سنة.




د.فالح العمره 29-09-2006 05:52 AM


خلفاء العصر العباسي الأول
بعد السفاح تولى أبو جعفر المنصور الخلافة ( شقيقه ) ويعد المنصور المؤسس الحقيقي للدولة العباسية لأنه أحكم الرابطة بين القوة الزمنية والسلطة الدينية .. ومن أهم أعماله بناء بغداد وتحصين الحدود بينه وبين الروم .. واتخذ خالد بن برمك وزيراً له ، فبدأت عظمة البرامكة الذين قاموا بأعباء الوزارة في صدر الدولة العباسية، وكانوا من أكبر دعائم التقدم والرقي .. وكان المنصور يشرف على أعمال الدولة بنفسه، ويستعرض الجند، ويفتش الحصون، ويراجع الداخل والخارج، ويحاسب عماله حساباً دقيقاً.
ولما أنهكت الأعمال صحته، قصد مكة ليقضي فيها بقية حياته، فمات على بعض ساعات منها، وذلك سنة 851 هـ.
تولى المهدي ابنه الخلافة وقد رسخت قدم الدولة وثبتت دعائمها، وسكن الناس إلى حكمها .. وكان المهدي كريماً رحيماً، فعزم على محو كل إساءة اقترفها المنصور، فعفا عن المسجونين السياسيين، ورد إلى بني هاشم ما كان والده قد أخذه منهم، ووسع المدارس وزاد من عددها، كما وسع الحرم النبوي في المدينة المنورة، وأنشأ القصور على الطريق من بغداد إلى مكة، وسعى في توفير الماء على طول هذه الطريق، كذلك رتب البريد بين مكة والمدينة. وكان يعاصر المهدي في غرب أوروبا الامبراطور شارلمان، فصادقه واستمرت المودة بين الدولتين إلى زمن الرشيد. أما الدولة الرومانية الشرقية فكان العداء مستحكماً بين المهدي وبينها، فقامت الحرب بينهما براً وبحراً، وانتهى الأمر بأن تقدم المهدي وابنه هارون الرشيد إلى البوسفور، فصالحته الملكة "ايريني" على دفع جزية سنوية.
وجاء بعد المهدي ابنه موسى الهادي سنة 169 هـ، فلم يعمر أكثر من أربعة عشر شهراً وقد حاول أن يخلع أخاه الرشيد من ولاية العهد وينقلها إلى ابنه جعفر وبينما هو يسعى لاتمام ذلك عاجلته منيته سنة 170 هـ.

هارون الرشيد :

مع تولي الرشيد الخلافة 170 هـ بلغت الدولة العباسية غاية قوتها وتجلى عصرها الذهبي في أسمى مظاهره فلم يكن على وجه الأرض دولة تضارعها في عظمة السلطان وضخامة الثروة ونشر العلوم والآداب وشيوع النعيم والترف واستتباب الأمن .. ويعد الرشيد من أكبر حكام العالم، فقد قام متمسكاً بدينه، تقياً محسناً محباً مع هذا لمظاهر العظمة، ماهراً في قيادة الجيوش .. ومن أجل هذا كان أبوه يؤثره على أخيه الهادي .. وكان كثير التجول في أملاكه، بقصد القضاء على الفوضى، وتوطيد الأمن، والتعرف على أحوال الرعية فسارت الطرق آمنة، وتقلب فيها التجار والحجاج والعلماء من أقصاها إلى أقصاها .. وقد شيد الرشيد من المساجد والمدارس والمستشفيات والقناطر والترع، ما يشهد له بالحرص على مصالح رعيته، والهمل على راحتهم .. وفي عصره عظمت بغداد وكثرت فيها القصور الفخمة التي أبدع المهندسون تنسيقها .. وعظمت كذلك الرصافة المقابلة لها على الشاطئ الشرقي لنهر دجلة، وذلك بفضل ما أنشأه البرامكة من قصور ومساجد وحمامات .. وفي عهده اتسع عمران العاصمة حتى بلغ مليوني نسمة، وصارت ملتقى التجارة بين الهند والصين والشام والجزيرة وبحر المشرق .. وقد زاد تبعاً لذلك خراج الدولة، فأخذ الخليفة ووزراؤه يغدقون بدون حساب على الشعراء والعلماء والكتاب والمحتاجين، وينفق هؤلاء عن سعة .. فراجت التجارة، وكثر التأنق في المعيشة، وبلغ الترف مبلغه الذي سارت به الأمثال في أنحاء المعمورة، ولم ينقطع تغني الشعراء به حتى وقتنا هذا .. وعهد هارون لأبنائه الأمين، ثم المأمون، ثم القاسم، وأخذ عليهم العهود بألا يغيروا هذا الترتيب .. ومات الرشيد بعد أن حكم ثلاثاً وعشرين سنة، بلغت فيها شهرته الآفاق البعيدة، حتى اتصل بامبراطور الصين، وتبادل شارلمان معه الهدايا، فأرسل إليه الرشيد هدايا كثيرة تشهد بما كانت عليه الدولة من الثروة والتقدم، ولاسيما الساعة التي دهش لها الأوروبيون وحسبوها سحراً .. ثم تولى الأمين الخلافة بعد أبيه سنة 193 هـ، فكان مسرفاً، مغرماً بالبذخ والترف .. وقيل أن وزيره الفضل بن الربيع أغراه بخلع أخويه ونقل العهد إلى أبنائه دونهما .. فأرسل الأمين جيشاً يأتيه بالمأمون فانهزم عند الري وأعلن المأمون نفسه خليفة بالبذخ والترف .. وقيل أن وزيره الفضل بن الربيع أغراه بخلع أخويه ونقل العهد إلى أبنائه دونهما فأرسل الأمين جيشاً يأتيه بالمأمون فانهزم عند الري وأعلن المأمون نفسه خليفة ، وقبلته فارس بأجمعها .. وحاصر المأمون بغداد إلى أن سلم الأمين نفسه لأخيه .. ولكن بعض الجند الفرس قتلوه، وقد أكرم المأمون أبناء أخيه وزوجهم من بناته .. وكان المأمون مولعاً بالعلوم والفلسفة والآداب، فكان عصره أرقى العهود في العصر العباسي .. وظهر فيه علماء مشهورون من أهل الحديث وعلماء الكلام، وجعل لهم المأمون مجالس للمناظرة .. وكانت الترجمة عن الفرس واليونان والهنود قد بدأت من قبل، وبخاصة الطب، فنقلت عن اليونانية أيام المنصور كتب أبقراط وجالينوس في الطب، وترجم ابن المقفع كتاب كليلة ودمنة عن البهلوية، كما ترجم المجسطي لبطليموس.

فلما كان عصر الرشيد غرف المترجمون من كنز العلوم اليونانية، فحملت الكتب إلى بغداد ونقلت إلى العربية برعايته وتشجيع البرامكة فنشأ المأمون متشبعاً بتلك العلوم، مقتنعاً بفائدتها، فنشطت حركة النقل نشاطاً كبيراً، بفضل تعظيمه العلماء وما كان يغدقه عليهم من الأرزاق .. وكان للمأمون شغف خاص بأرسطاطاليس، فأرسل في طلب كتبه جماعة إلى القسطنطينية، ممن يعرفون اليونانية، ومعهم صاحب "بيت الحكمة". وقد أصلح علماء العرب أخطاء اليونان وشرع بعضهم يضع مؤلفات علمية وفلسفية جديدة.

وقد راجت علوم الأقدمين واشتغل بها المتعلمون في بغداد وخارجها من حواضر الإسلام، فكان المأمون حامل لواء العلوم على أنواعها، وسبب تلك النهضة الكبرى.

توفي المأمون في آخر غزواته ببلاد الدولة البيزنطية سنة 218 هـ، إذ أصابته الحمى فقضت عليه، وكان قد أوصى بالخلافة بعده إلى أخيه المعتصم .. وقد أوصى المأمون أخاه المعتصم وصية جاء فيها: "يا أبا إسحاق، أدن مني، واتعظ بما ترى، وخذ بسيرة أخيك في القرآن، واعمل على الخلافة إذا طوقكها الله عمل المريد لله، الخائف من عذابه وعقابه، ولا تغتر بالله ومهلته، فكأن، قد نزل بك الموت، ولا تغفل أمر الرعية، والعوام العوام، فإن الملك، الملك بهم، والمنفعة فيهم وفي غيرهم من المسلمين".




د.فالح العمره 29-09-2006 05:53 AM


قوة ونفوذ الأتراك
لما تولى الخليفة المعتصم أراد أن يكبح جماع جيوشه، فكون جيشاً جديداً من الأتراك يقودهم ضباط بينهم، تحت إمرة الخليفة مباشرة .. ولما ضاقت بهم بغداد انتقل المعتصم وجيشه إلى مدينة "سر من رأى" أو "سامراء" التي أصبحت حاضرة خلافته الجديدة .. وتقع سامراء شرقي دجلة على بعد ستين ميلاً شمالي بغداد .. وسرعان ما أصبح لهؤلاء الأتراك من القوة ما جعلهم يهيمنون على الخلافة، حتى أصبح بيدهم عزل الخلفاء وتعيينهم.

د.فالح العمره 29-09-2006 05:54 AM


أسباب سقوط الدولة العباسية
مع موت الواثق سنة 232 هـ انقضى عهد عظمة العباسيين، إذا لم يخلفه إلا رجال يرتقون الخلافة ولا حول لهم ولاقوة، ويموتون غير مأسوف عليهم، يوليهم الأتراك أو الفرس ذو النفوذ ويعزلونهم، أو يقتلونهم متى أرادوا .. على أن اسم الخلافة العباسية استمر ببغداد حتى سنة 656 هـ (1258م) حين أغار عليها هولاكو المغولي، وقتل المعتصم آخر خليفة عباسي في بغداد، فانقضت بذلك الدولة العباسية .. أما أسباب سقوط هذه الدولة فكثيرة نجملها بما يأتي:

1- تفوق العناصر غير العربية: كان الأمويون يعتمدون على العرب، ويولونهم المناصب العالية كلها، مما أثار حفيظة [غيظ] الموالي من الفرس فعملوا على القضاء على دولتهم، لعلهم يستردون شيئاً من سابق نفوذهم وسلطانهم القديم فأخذوا ينشرون الدعوة لبني العباس، وتمكنوا في النهاية من انتزاع الخلافة من الأمويين، فجاءت دولة العباسيين فارسية الصبغة وقد عمل الفرس على اقصاء العصبية العربية عن الخلفاء بحجة أن العرب يطمحون إلى الخلافة، فأصبح الفرس يحكمون الدولة، كما نرى ذلك مممثلاً في سطوة البرامكة ولما خشي المعتصم مغبة الأمر استكثر من المماليك الأتراك واتخذ منهم جنداً استعان بهم على الفرس والعرب معاً.

2- سوء الحالة الإقتصادية : بعد أن وطد خلفاء العصر العباسي الأول أركان الملك، جاء من بعدهم حكام اخلدوا إلى الدعة [الراحة والهدوء]، وامعنوا في الترف وجر ذلك إلى كثرة في النفقات وزيادة الضرائب، فانحطت موارد الثروة وقل ايراد الحكومة، وضعفت بالتالي شوكة الدولة وعجزت عن تحصيل ضرائبها.

3- ظهور الدويلات المستقلة: تمكن العلويون من اقتطاع أجزاء من الدولة العباسية أصبحت مستقلة عنها ومنها دولة الأدارسة في المغرب، والدولة الفاطمية التي امتدت من المحيط الأطلسي إلى اليمن والحجاز، ودولة بني بويه التي سيطرت على بغداد، وغير ذلك من الدول في العالم الإسلامي ويضاف إلى ذلك أن اتساع الرقعة العباسية حمل الخلفاء على تعيين حكام من أعوانهم على المناطق النائية، فعمد أولئك الحكام إلى الاستقلال بمقاطعاتهم عن بغداد.

4- تعدد الأجناس والمذاهب: لم يكن تعدد الأجناس وظهور مذاهب دينية معروفاً أيام الأمويين، بل سرت إلى الإسلام في العصر العباسي من الديانات القديمة كالمجوسية والمانوية والمزدكية وقد أدى ذلك إلى كثرة الملل والنحل، كما أذكى نار العداوة بين المسلمين فتفرقوا مللاً وأحزاباً، تحسبهم جميعاً وقلوبهم مشتتة.




د.فالح العمره 29-09-2006 05:55 AM


في بلاد الهند :
لما قامت الدولة العباسية ولى أبو جعفر المنصور هشام بن عمر التغلبي بلاد السند .. وفي عهده فتحت كشمير وهدم معبد "بوذا" وبني في موضعه مسجد .. وقد تقدمت هذه البلاد في عهد هشام التغلبي واستقر بها الأمن وتوطدت أركانه .. وفي عهد الخليفة المهدي غزا المسلمون بلاد الهند 901 هـ وحاصروا مدينة "باربد" وضربوها بالمنجنيق وفتحوها عنوة على أن هذه الغزوة كانت كارثة على جند العباسيين، فقد فشا الموت فيهم وقضى على عدد كبير من المقاتلين، ثم دمرت الزوابع سفنهم في الخليج العربي فغرق كثير من الجند .. وفي عهد الخليفة المأمون توسعت فتوحات المسلمين في السند والهند، وفي عهد المعتصم انتشر الإسلام في البلاد الواقعة بين كشمير وكابول والملتان.

مع البيزنطيين :

لم تنقطع الحرب بين العرب والروم منذ ظهور الإسلام. فلما انتقل الحكم إلى العباسيين تغيرت وجهة الحرب بينهما وأصبحت عبارة عن غارات، الغرض منها الهدم والتخريب وإتلاف النفس والمال وهذا ما كان يخالف ما كانت عليه الحال أيام الأمويين الذين كانت لهم سياسة مرسومة لمحاربة البيزنطيين بغية احتلال القسطنطينية وبقيت الحرب بين العباسيين والبيزنطيين تشتعل من حين إلى آخر حتى سنة 551هـ، حين طلب الإمبراطور قسطنطين الرابع الصلح مع العباسيين على أن يؤدي لهم جزية سنوية.

وفي سنة 951 هـ خرج الخليفة المهدي على رأس جيش كثيف لغزو بلاد الروم، ووصل إلى "البردان" وعسكر به، وأرسل العباس بن محمد فبلغ أنقرة، وفي سنة 561 هـ أعاد المهدي الكرة على البلاد البيزنطية فجمع جيشاً كثيفاً وعبر الفرات وجعل عليه ابنه هارون فوصل هذا الجيش إلى سواحل البوسفور وأرغم الملكة "ايرين" أرملة "ليو" الرابع، وكانت وصية على ابنها قسطنطين السادس أن تدفع للمسلمين تسعين ألف دينار جزية سنوية، وأن تقيم لهم الأسواق والأدلاء في الطريق عند عودتهم إلى بلادهم، وأن تسلم أسرى المسلمين وانتهت هذه الغزوة بهدنة بين الفريقين لمدة ثلاث سنوات ولما تولى الرشيد الخلافة سار بنفسه سنة 181 هـ على رأس جيش كبير إلى آسيا الصغرى، فانتصر على البيزنطيين في معارك كثيرة وظل يتابع فتوحه حتى وصل إلى القسطنطينية فسارعت الامبراطورة "ايرين" إلى طلب الهدنة مقابل دفع الجزية السابق ذكرها غير أن نقفور الذي اعتلى العرش بن ايرين أرسل إلى الرشيد سنة 781 هـ كتاباً ينتقض فيه الهدنة، ويلح في استرداد الجزية من جديد. ولم يقتصر الرشيد في حروبه مع الروم على آسيا الصغرى، بل تعداها إلى البحر المتوسط ففي سنة 190 هـ غزا جزيرة قبرص وأسر منها عدداً كبيراً من بينهم أسقفها.

أما عصر المأمون فقد اكتفى بتشجيع توماس الصقلبي الثائر على الامبراطور "تيوفيليوس"، وعمل على تتويجه امبراطوراً على الدولة البيزنطية نفسها ولكن سرعان ما اكتشفت حملة توماس ولم يتم له ما أراد وقد اتبع الامبراطور البيزنطي السياسة نفسها مع الخليفة العباسي، فجل بلاد الروم موئلاً للخرمية أتباع بابك الخرمي الفارسي الذي ثار سنة 102 هـ على المأمون وقد استطاع المعتصم القضاء على بابك، ثم تفرغ لمحاربة الروم، فسار من فوره إلى أنقرة في جيش ضخم، وهزم الامبراطور البيزنطي واستولى على أنقرة. ثم تابع المسير حتى وصل عمورية حيث انتصر على البيزنطيين سنة 322 هـ، واقتحم عمورية وخربها وعاد إلى سامراء حيث استقبل استقبالاً باهراً وفي هذه المناسبة نظم أبو تمام قصيدة مشهورة جاء فيها:

السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب

بيض الصفائح لا سود الصحائف ... في متونهم جلاء الشك والريب

فيما بعد ساءت الحال في الدولة العباسية، فاستبد الأتراك والبويهيون بالسلطة دون الخلفاء فوجد البيزنطيون في ذلك فرصة سانحة للإغارة على المناطق الخاضعة للدولة العباسية فقد استولوا على ساحل مصر سنة 832 هـ، كما أغاروا في زمن المتوكل على مدينة "عين زربا" سنة 142 هـ، وعلى الأراضي الواقعة شمالي العراق فبلغوا آمد وأسروا كثيراً من المسلمين ولكن الخليفة المتوكل عول على الانتقام، فاستولى على بعض المناطق البيزنطية جنوبي آسيا الصغرى وأسر أحد البطارقة، واستولى على مدينة لؤولؤة ومنذ عهد الخليفة المعتمد كانت الخلافة العباسية قد تقلصت إلى حدود الجزيرة والعراق، وتجدد النزاع بين المسلمين والروم الذين راحوا يعبثون ببعض بلاد الدولة العباسية .. وكانت شوكة الدولة البيزنطية قد قويت وانتشر فيها الأمن منذ اعتلاء باسيل الأول العرش سنة (352 هـ) 768م، فتمكن من احراز النصر على بعض أمراء المسلمين، ساعده على ذلك ضعف الخلفاء أو استبداد القوط بهم وثورة الجند عليهم.

الحروب في مصر :

كان من أثر تحول الخلافة من الأمويين إلى العباسيين أن قامت حضارة جديدة حلت مكان الفسطاط، هي العسكر وقد قام الجند العرب في مصر بدور مهم في شؤون الدولة السياسي. فقد اشتركوا في كثير من الفتن والثورات، مثل فتنة محمد النفس الزكية في عهد المنصور وعاونوا "دحية" في خروجه على العباسيين في الصعيد، في عهد الخليفة المهدي كذلك كان للجند العرب في مصر نصيب كبير في الفتنة التي قامت بين الأمين والمأمون وغدا اشتراك هؤلاء الجند في الثورات مألوفاً حتى في الحالات التي لم يكن ثمة ما يدعو إلى الاشتراك فيها وقد دعت هذه الحال الخليفة المعتصم سنة 812 هـ إلى أن يسقط أسماء الجند العرب في مصر من ديوان العطاء وبذلك اندمج العرب بالمصريين فاحترفوا الزراعة والصناعة وغيرها، وبذلك قضي تماماً على العصبيات العربية والشعوبيات في مصر وهذا أمر لم يحدث في أي اقليم آخر من الأقاليم التابعة للدولة الإسلامية.

في بلاد النوبة :

اتصل العرب اتصالاً وثيقاً بالبجة في القرن الثاني للهجرة عن طريق البحر الأحمر، وعن طريق وادي النيل، وخاصة اقليم أسوان، بعد أن عقد مع ابن الحبحاب معاهدة هدنة وحسن جوار غير أن البجة لم يحافظوا على العهد الذي قطعوه على أنفسهم مه ابن الحبحاب، وكثرت غاراتهم على جهات أسوان عهد الخليفة المأمون فقامت بين الفريقين مواقع عدة انتهت بإبرام هدنة جديدة، كان من أهم شروطها أن تكون بلاد البجة من حدود أسوان، وعلى أن تكون منطقة السودان ملكاً للخليفة العباسي، وأن يدفع ملك البجة كل عام الخرج، وهو مائة من الإبل أو ثلاثمائة دينار وأن يحترم البجة الإسلام ولا يمنعوا أحداً كل عام من المسلمين الدخول في بلادهم للتجارة، وإذا نزل البجة صعيد مصر مجتازين أو تجاراً فلا يظهرون سلاحاً ولا يدخلون المدن والقرى بحال.

في بلاد المغرب :

غدت أفريقيا مسرحاً للفتن والقلاقل في العصر العباسي، وذلك لبعدها عن السلطة المركزية في بغداد، ولجهل البربر في ذلك العصر، وعدم استعدادهم لقبول الحضارة الإسلامية وبغضهم ولاتهم من العرب وفرضهم الضرائب الفادحة عليهم وقد ساعد هذا الواقع على قيام دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى سنة 271 هـ، كما ساعد الأغالبة في تونس على تأسيس دولتهم، وكان الرشيد قد أقطع ابراهيم بن الأغلب تونس سنة 481 هـ.

أما عن جهل البربر وعدم استعدادهم للحضارة الإسلامية، فكان من آثاره أن السلام لم يتوطد بين البربر والعرب النازلين في بلادهم منذ أن امتدت الفتوحات الإسلامية إلى هذه البلاد وهذا يفسر لنا انتشار مذهبي الخوارج والشيعة في بلاد المغرب، وقيام البربر في وجه العباسيين بين الحين والآخر. وأما عن بغض البربر لولاتهم من العرب فيرجع إلى فداحة الضرائب التي أثقلت كاهل الأهلين .. والحق أن قيام الخوارج من البربر في وجه العباسيين لم يكن خروجاً على الدين بل كان خروجاً على السلطة الحاكمة لظلم الولاة لهم وفرضهم عليهم الضرائب الفادحة.

استمرت قبائل البربر في أفريقيا تناوئ سلطان العباسيين، حتى بعث إليهم الرشيد سنة 181 هـ هرثمة بن أعين على رأس جيش كثيف استطاع أن يضعف قوتهم على أن هرثمة رأى بثاقب نظره وطول خبرته تأصل العداء في نفوس البربر، فأرسل إلى الرشيد يعتذر عن البقاء بالمغرب بعد أن وليها سنتين ونصف السنة .. ثم ولى الرشيد محمد بن مقاتل، فأساء معاملة الأهلين، فتجددت ثورات البربر والعرب، وتمكن البربر من دخول القيروان .. إلا أن ابراهيم بن الأغلب تمكن من طردهم، وأعاد إلى الرشيد ولايته .. وكان من أثر العداء الذي اضمره البربر للأمويين والعباسيين، وانضمام بعض العرب إلى مذهب الخارجين أن قامت الفتن والقلاقل في هذه البلاد، وعمل بعض زعمائهم على الاستقلال عن الدولة العباسية، فتأسست ولايات من البربر، على يد زعماء من العرب، استقلت استقلالاً يكاد يكون تاماً ومن الولايات التي استقلت ولاية تاهوت وولاية سلجمانة (تافيلالت الحالية) التي أسسها بنو مدرار، وولاية تلمسان التي أسسها الصنهاجيون، وولاية برغواطة في تامسنا (الشاوية الحالية) على ساحل المحيط الأطلسي، ودولة الأغالبة في تونس، ودولة الأدارسة في المغرب الأقصى.

في بلاد الأندلس :

تقلص سلطان العباسيين عن بلاد الأندلس بعد أن أفلت عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك وانتقل إلى الأندلس ولكن أبا جعفر المنصور لم يهدأ باله من ناحية عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) ، فعمل على القضاء عليه، وأرسل إليه العلاء بن مغيث ولكن الداخل هزمه وقتله واحتز رأسه وأرسله إلى المنصور .. فغير المنصور بعد ذلك سياسته مع الداخل وعمل على استمالته، وكثيراً ما كان يظهر اعجابه بشخصيته، وقد لقبه بصقر قريش .. وكان الخليفة المهدي يضمر العداء للداخل فأرسل من يحرض عبدالرحمن بن حبيب الفهري عليه فراح يحث الناس على الدخول في طاعة العباسيين، واتصل بسليمان بن يقظان من أجل ذلك ولكن سليمان خذله وحاربه وقضى عليه وبذلك لم تنجح سياسة المهدي في إعادة الأندلس إلى الدولة العباسية .. وقد حكم عبد الرحمن الداخل ثلاثاً وثلاثين سنة، وعاصر من الخلفاء العباسيين: المنصور والمهدي والهادي والرشيد.

د.فالح العمره 29-09-2006 05:55 AM


الأدب في العصر العباسي
وصلت الحياة الفكرية في العصر العباسي إلى ذروة التطور والازدهار، ولاسيما في العلوم والآداب .. وقد عرف العصر حركات ثقافية مهمة وتيارات فكرية بفضل التدخل بين الأمم .. وكان لنقل التراث اليوناني والفارسي والهندي، وتشجيع الخلفاء والأمراء والولاة، وإقبال العرب على الثقافات المتنوعة، أبعد الأثر في جعل الزمن العباسي عصراً ذهبياً في الحياة الفكرية .. ونحاول فيما يأتي التعرف إلى الإنتاج الأدبي، شعره نثره، على اختلاف فنونه، وما لحقه من خصائص وتطورات.

في العصر العباسي كانت العربية قد أصبحت اللغة الرسمية في البلدان الخاضعة لسيطرة المسلمين، وكانت لغة العلم والأدب والفلسفة والدين لدى جميع الشعوب. وقد كتب النتاج بمجمله في اللغة العربية مع أن قسماً كبيراً من أصحابه ليسوا من العرب !!

تركت الثقافات الدخيلة أثراً عميقاً في علوم العرب وفلسفتهم، ولكن آداب الأعاجم لم يكن لها مثل هذا الأثر فالعرب لم ينقلوا إلا جزءاً ضئيلاً من الآداب الأعجمية، لأنهم لم يشعروا بحاجتهم إليها ولم يكن أدباء العرب وشهراؤهم يتقنون لغات غربية، فظل أدبهم في مجمله صافياً بعيداً عن التيارات الأجنبية.
وقد غلب الطابع العربي على الأعاجم الذين نظموا وكتبوا بالعربية، فتأثروا بالاتجاهات الأدبية العربية وانحصر تجديدهم ضمن القوالب التقليدية فالعصر العباسي حمل الأدب كثيراً من التجديد، ولكن ضمن الأطر التقليدية.

في العصر العباسي انتشرت المعارف، وكثر الاقبال على البحث والتدوين، وأنشئت المكتبات وراجت أسواق الكتب وقد وضعت المؤلفات في مختلف فروع المعرفة، في التاريخ والجغرافيا، والفلك والرياضيات، والطب والكيمياء والصيدلة، والصرف والنحو، واللغة والنقد، والشعر، والقصص والدين، والفللسفة والسياسة، والأخلاق والاجتماع وغير ذلك .. ويكفي أن نقرأ كتاب الفهرست لابن النديم لنعرف إلى أي مدى كانت حركة التأليف مزدهرة .. وأقبل الأدباء على الثقافات الجديدة يكتسبون منها معطيات عقلية، وقدرة على التعليل والاستنباط وتوليد المعاني، والمقارنة والاستنتاج .. فالأدب العباسي جاء أغنى مما سبقه، ويدلنا على هذا الغنى ما نراه في شعر أبي نواس وأبي تمام وأبي الطيب والمتنبي وأبي علاء، وما نراه في نثر ابن المفقع والجاحظ وبديع الزمان وسواهم .. ثم ان عمق الثقافة ساعد على عمق التجربة الانسانية، فجاءالأدب العباسي زاخراً بالمعطيات الانسسانية من حيث تصويره لجوهر الانسان وما يتعقب على النفس من حالات اليأس والأمل، والضعف والقوة، والحزم والفرح وغير ذلك .. كما رسم الأدب العباسي المشاكل العامة في الاجتماع والفكر والسياسة والأخلاق .. وهذا كله ظهر في خمريات أبي نواس وخواطر الرومي، وحكم المتنبي، ووجدانيات أبي فراس، وتأملات المعري، وأمثال ابن المفقع، وانتقادات الجاحظ .. فضلاً عن ذلك عرف العصر مدارس أدبية شعرية ونثرية، منها مدرسة أبي نواس ومدرسة أبي تمام، ومدرسة أبي العتاهية، ومدرسة المعري في ميادين الشعر.
وفي النثر عرفت مدرسة ابن المفقع، ومدرسة الجاحظ، ودرسة القاضي الفاضل، ومدرسة بديع الزمان الهمذاني وكل من هذه المدارس خصائصها واتجاهاتها، وقد كان لها الفضل في إعلاء شأن الحياة الأدبية في العصر العباسي.

ازدهر الشعر السياسي في العصر الأموي لأسباب متعددة أهمها قيام الأحزاب السياسية وتناحرها .. ولكن هذا اللون انحسرت أهميته في العصر العباسي بسبب ضعف الأحزاب والعصبيات القبلية .. وقد ازدهر بالمقابل شعر المدح بفعل ازدهار الحياة الاقتصادية وتطور الحياة الإجتماعية، مع ميل الخلفاء إلى الترف وحب الإطراء .. فأقبل الشعراء يمجدون الخلافة والأمراء وأصحاب النفوذ، مقابل العطايا السنية وهذا ما جعل الشعراء يحملون بالثروات الطائلة، فيقصدون بغداد والعواصم الأخرى للإقامة في جوار القصور .. وقوي الهجاء كذلك بدافع تحاسد الشعراء، وإلحافهم في طلب الجوائز، وضمنوا هجائهم الكلام المقنع أحياناً.

أما الغزل فقد مال به أصحابه بصورة عامة، إلى التهتك والإباحية، والفحش في الألفاظ وكثر في العصر العباسي الخلعاء من الشعراء الماجنين، وأهمهم أبو نواس، وحماد عجرد، ومطيع بن اياس، والضحاك، ووالبة بن الحباب .. إلا أن فئة من المتعففين حافظ أفرادها على العذرية في الشعر، من أمثال البحتري وأبي تمام وابن الرومي وأبي فراس الحمداني والشريف الرضي فهؤلاء جاءت قصائدهم الغزلية صادرة عن وجدان صحيح فيه الصدق والبراءة والمحافظة على الآداب العامة .. ثم ان الفخر الذي بني في الجاهلية على العصبية القليلة ضعف شأنه مع ظهور الإسلام، إلا ما كان منه جماعياً وبالدين الإسلامي وأهله .. أما العصر العباسي فقد تحول فيه الفخر إلى العصبية العنصرية أو القومية، ولكنه لم يكن قوياً في العصر الأول والثاني.
وقد ازدهر الفخر في العصر الثالث مع اضطراب الأحوال السياسية وكثرة المغمرين والاعتداد بالنفس وأبرز شعراء الفخر أبو الطيب المتنبي وأبو فراس و الشريف الرضي .. وهذه الموضوعات الشعرية كانت معروفة في العصور السابقة وحافظ الشعراء العباسيون على قوتها إلا أن البيئة العباسية ساعدت على ازدهار فنون جديده كانت من قبل ضعيفة أو غير معروفة .. وأهم هذه الفنون شعر المجون الذي كان وليد انتشار الزندقة وتفشي الفساد بفعل اختلاط الشعوب ، واتيان الأعاجم بفنون من الخلاعة والفحش وردئ العادات .. أما شعر الخمر فقد ارتقى على أيدي أبي نواس وصحبه ، وأصابه من معطيات العصر ما جعل الشعراء يبدعون فيه .. ومن دوافع ازدهار شعر الخمر الثقافة التي تيسرت للعباسيين فعمقت تجربتهم وكثفت شعرهم .. فأبو نواس تجاوز الأعشى والأخطل والوليد بن يزيد في هذا الفن ، واهتدى الى معان وصور وآفاق وأساليب صار معها حامل لواء التجديد في الشعر العباسي وجعل من الخمريات رمزا لهذا التجديد وأساسا لنشر الآراء وفلسفة الحياة والوجود .. وبعد أبي نواس استمرت الخمريات فنا شعريا راقيا اشتهر فيه ابن المعتز ومعز الدولة البويهي والغرائي وسواهم.
ومن الفنون الشعرية التي حافظت على رواجها وتطورت في العصر العباسي فن الوصف التي شمل الطبيعة المطبوعة والطبيعية المصنوعة .. ولهذا اهتم الشعراء بالرياض والقصور، والبرك، والأنهار، والجبال، والطيور، والمعارك، ومجالس اللهو، وغير ذلك.

في العصر العباسي تطورت المعاني الشعرية عمقاً وكثافة ودقة في التصوير، فجاءت شاملة للحقائق الانسانية وقد انصرف الشعراء عن المعاني القديمة إلى معان جديدة، يساعد على ذلك ما كسبه العقل العباسي من الفلسفة وعلم الكلام والمنطق، وما وصلوا إليه من أساليب فنية قوامها المحسنات اللفظية والمعنوية ومثال ذلك أن أبا تمام يجمع في قصيدة "فتح عمورية" بين العملية الفكرية والعملية الفنية، فأخرج من القصيدة شعراً جديداً راقياً، فيه من القديم مسحة ومن الجديد أخرج معاني وصوراً طريفة وكثرت في الشعر العباسي الأمثال والحكم (المتنبي والمعري)، وبرز فيه المنطق والأقيسة العقلية، وترتيب الأفكار (أبو تمام، وابن الرومي، المتنبي). كما ظهر الإبداع في التصوير والاعراب في الخيال، ومجاراة الحياة والفنون في الزخرفة والنقش، والاهتمام بالألوان (ابن الرومي، والبحتري).

امتاز الشعر العباسي بدقة العبارة وحسن الجرس والايقاع، وذلك بتأثير الحضارة ورفاه العيش كما امتاز بخروجه على المنهجية القديمة في بناء القصيدة وترتيب أجزائها. وكثيراً ما ثار الشعراء على الأساليب القديمة، وفي ذلك ذلك يقول المتنبي:

إذا كان شعر فالنسيب المقدم ... أكل بليغ قال شعراً متيم

وتمتاز القصيدة العباسية بوحدة البناء، وفيها صناعة وهندسة، مع استخدام الصور البيانية، فضلاً عن التجديد في الألفاظ المستعملة والموحية.

النثر العباسي :

خطا النثر العباسي خطوات كبيرة، فواكب نهضة العصر وأصبح قادراً على استيعاب المظاهر العلمية والفلسفية والفنية كما أن الموضوعات النثرية تنوعت فشملت مختلف مناحي الحياة .. فالكتابة الفنية توزعت على ديوان الرسائل والتوقيعات وغيرها .. وكان المسؤولون يختارون خيرة الكتاب لغة وبلاغة وعلماً لتسلم الدواوين، ولاسيما ديوان الرسائل الذي كان يقتضي أكثر من غيره اتقان البلاغة والتفنن ، و مستوى رفيع من الثقافة فضلاً عن ذلك النثر الفني القصص و المقامات و النقد الأدبي ، و النوادر ، و الأمثال و الحكم ، و التدوين ، و الرحلات ، و التاريخ ، و العلوم.
وظهرت الرسائل الأدبية التي تضمنت الحكم و جوامع الكلم و الأمثال و الفكاهات و كانت موضوعات الرسائل تتراوح بين الأخبار و الأخوانيات ، والاعتذار وغير ذلك وراجت الرسائل الطويلة في العصر العباسي فتناولت السياسة والأخلاق والإجتماع، كرسالة الصاحبة لابن المقفع، ورسالة القيان ورسالة التربيع والدوير للجاحظ، ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري.
وعظم شأن القصص في العصر العباسي، فاتسع نطاقه وأصبح مادة أدبية غزيرة، وتنوعت المؤلفات القصصية فأقبل الناس على مطالعتها وتناقلها ومنها ما اهتم بالحقل الديني ككتاب قصص الأنبياء المسنى بالعرائس للثعلبي، وقصص الأنبياء للكسائي، وقصة يوسف الصديق، وقصة أهل الكهف، وقصة الإسراء والمعراج ومنها القصص الاجتماعية والغرامية والبطولية ككتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، وقصص العذريين، وسيرة عنتر، وحمزة البلوان، وسواها ومنها القصص التاريخية التي تناولت سير الخلفاء والملوك والأمراء كما عرف العصر العباسي القصص الدخيلة المنقولة، نذكر منها كليلة ودمنة، وكتاب مزدك، وكتاب السندباد، وبعضاً من ألف ليلة وليلة، وأكثره خيالي خرافي يدور بعضه على ألسنة الحيوان.

وإلى جانب القصة ازدهر أدب الأقصوصة، وكتاب البخلاء للجاحظ خير مثال على هذا النوع من الأدب وقد امتاز الأدب القصصي العبسي بدقة الوصف والتصوير وبراعة الحوار، والقدرة على استنباط الحقائق وتصوير مرافق الحياة، وتسقط العجائب والغرائب، والكشف عن العقليات والعادات والتقاليد.
وفي العصر العباسي ظهر فن المقامة، وضعه بديع الزمان الهمذاني، ولقي كثيراً من الرواج في العصر العباسي وما بعده .. وهو سرد قصصي يتناول الأخلاق والعادات والأدب واللغة، ويمتاز بألأسلوبه المسجع وأغراقه في الصناعة وكثرة الزخارف والمحسنات المتنوعة .. وفضلاً عما ذكرنا اهتم النثر العباسي بتدوين العلوم على أنواعها وهذه العلوم كانت إما عربية إسلامية كعلوم الشريعة والفقه والتفسير والحديث والقراءات والكلام والنحو والصرف والبيان وغير ذلك، وإما أجنبية التأثير كالمنطق والفلسفة والرياضيات والطب والكيمياء والفلك وعلم النبات والحيوان وغير ذلك. بهذا حاولنا أن نلقي نظرة على الأدب العباسي، شعره ونثره، وأن توضح أهم ما تناوله من موضوعات وما امتاز به من خصائص عامة.




د.فالح العمره 29-09-2006 05:59 AM


الفنون والآثار والمباني والمدن
بدأت الخلافة العباسية قوية، واختار عبد الله [السفاح] بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس العراق مقراً ليكون قريباً من بلاد فارس صاحبة الفضل في تكوين الخلافة واتخذ مدينة الكوفة عاصمة له في أول الأمر ، ثم انتقل منها الى الهاشمية التي أنشأها بالقرب من الكوفة ثم جاء الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور (أخوه) وأسس مدينة بغداد، وهي كلمة فارسية الأصل ومعناها "عطية الله" وقد بدئ العمل بإنشائها سنة 541هـ ، وانتقل اليها المنصور في العام التالي وأسماها دار السلام ، ولكنها ظلت تعرف باسمها الفارسي .
وتقع بغداد قرب مدينة "طيسقون" عاصمة الدولة الساسانية والتي استولى عليها سنة 636م.
من أقدم الآثار المعمارية التي ما تزال باقية حتى الآن من بغداد القديمة القصر العباسي .. ومن المرجح أن يكون هذا القصر هو قصر التاج الذي وضع أساسه الخليفة المعتمد سنة 289هـ ، وأتمه الخليفة المكتفي .. ويقع القصر على الضفة الشرقية لنهر دجلة قرب القصر الحسني الذي كانت تقيم فيه بوران بنت الحسن بن سهل زوجة الخليفة المأمون .. ويصف ياقوت الحموي قصر التاج فيقول إن واجهته كان يتقدمها خمسة عقود وكل عقد يرتكز على عمودين من الرخام.
ويشغل القصر مساحة كبيرة ، وتتوسطه حديقة تحيطها الغرف المقبية ، وقاعات ذات قباب ، وكثير من الأروقة والدهاليز، وفي الجهة الجنوبية مجموعة من الغرف تعرف باسم غرف الحريم..
لما ضاقت بغداد القديمة بساكنيها امتدت المباني الى خارجها ، وخاصة على الضفة الشرقية لنهر دجلة ولذلك فقد بني سور آخر في القرن الخامس الهجري سنة 488هـ (1095م) يحيط ببغداد ، وما يزال هذا السور باقيا حتى اليوم .. وأهم أجزاء هذا السور باب الشرجة وباب المعظم .. ولما جدد السلاجقة هذا السور في القرن السابع الهجري بنوا بابين ، باب الطلسم الذي نسفته الحكومة التركية سنة 1917، وباب الوسطاني الذي رممته مديرية الآثار مؤخرا وحولته الى متحف حربي .
من مدن العراق المهمة مدينة الرقة التي فتحها العرب سنة 18هـ ثم أنشأ الخليفة المنصور مدينة جديدة تبعد عن القديمة نحو 300 قدم الى غربها ، وسماها "الرقيقة" ، ووضع فيها حامية حتى يؤمن حدود البلاد الشمالية ضد غزوات البيزنطيين . وفي وسط الرقيقة بنى المنصور مسجدها الجامع ، وكان عبارة عن مستطيل تحيطه الأروقة من جهته الأربعة ، وقد بني من الطوب اللبن (الطين) .. وقد تهدم المسجد ولم يبق منه الى مئذنته التي ترجع الى القرن السادس الهجري .

شيدت شمالي بغداد بأمر الخليفة المعتصم سنة221هـ ثاني عواصم الدولة العباسية في العراق واتخذها عاصمة للخلافة ، وخطط فيها القطائع لأصحاب الحرف والجنود والقواد وسائر أفراد الشعب .. وفي عصر الخليفة المتوكل ارتفع في وسط المدينة جامعه المشهور التي ما تزال مئذنته باقية وتعرف باسم "ملوية" .. وقد راعى الخلفاء في بناء مدينة سامراء أن تكون قطائع (أحياء) الجند يبعدون عن الأسواق وعن قطائع أصحاب الحرف المختلفة.

يعتبر الفن الإسلامي الفن الوحيد الذي اتخذ من الفن عنصرا زخرفيا مهما ، ولعل مرجع ذلك ما أصدره خلفاء الدولة الأموية من أوامر صارمة جعلت الكتابة على الطراز (النسيج والورق) أمرا ضروريا .. ولذلك تطور الخط العربي بسرعة واتخذ له أشكالا زخرفية متنوعة وأسماء فنية متعدده ، أقدمها الخط الكوفي الصلب ذو الزوايا ..

تعتبر المدرسة المستنصرية آخر مخلفات العصر العباسي المعمارية في العراق وقد عرفت بالمستنصرية نسبة الى بانيها المستنصر بالله الذي تولى الخلافة من 623-640 . والد المستعصم آخر العباسيين في [بغداد][640-656هـ] وبقتله ودخول التتار بغداد سقطت الخلافة العباسية .. وقد أنفق على بنائها زهاء 700 ألف دينار ذهباً ، وأوقف لها نحواً من مليون دينار يدر عليها دخلا سنويا قدره 70 ألف دينار.
والمدرسة مستطيلة الشكل يتوسطها صحن كبير ، وفيها أربعة إيوانات في أضلاعها الأربعة ومن ملحقات المدرسة المستنصرية دار مجاورة تقع في شمالها ، تتكون من إيوان كبير وعدة إيوانات أخرى ، منها دار الحديث الشريف ودار القرآن وكان يدرس في هذه الدور علم الطب والرياضيات ، وقد استمر التدريس فيها حتى القرن العاشر الهجري.

وكانت الكتابة تزين مدخل المدرسة المستنصرية الأصلي، فهي من الآجر وبالخط الثلث على أرضية نباتية مزهرة غاية في الدقة والإبداع ونقرأ في الصف الثاني : " التي أعدها الذين آمنوا وعملوا الصالحات " وفي السطر الثالث:"وأمر أن تجعل مدرسة للفقهاء على المذاهب الأربعة " ، وفي السطر الرابع:"سيدنا ومولانا إمام المسلمين وخليفة رب العالمين " ، وفي السطر الخامس :"أبو جعفر المنصور المستنصر بالله أمير المؤمنين".
الأخيضر
من القصور المهمة التي بنيت في العصر العباسي قصر الأخيضر ، وهو يقع في الصحراء جنوبي غربي بغداد ، كما يبعد عن كربلاء نحو 45 كلم .. ويبدو في تخطيط هذا القصر التأثر الواضح بالعمارة الساسانية المتمثلة في إيوان كسرى الذي كان مايزال سليم في العصر العباسي .. كما يبدو في قصر الأخيضر التأر بالأساليب المعمارية في قصور المنابرة بالحيرة ويتكون قصر الأخيضر من مستطيل يبلغ طوله 175م وعرضه 170م ،وفي منتصف كل ضلع بوابة كبيرة ، وفي أركان المستطيل أربعة أبراج ، وبين كل برجين كبيرين عشرة أبراج صغيرة ، كما يحيط البوابة برجان كبيران ، لذلك فإنه يبدو من الخارج كأنه قلعة والقصر مبني بالحجر الجيري والجبس للجدران الخارجية ، أما الأقبية والقباب فهي من الطوب المحروق وعندما نمر من البوابة الرئيسية في الواجهة الشمالية ، فإننا ندخل دهليزا مغطى بقبو ويؤدي الى قاعة العرض وهذه القاعة مغطاة بسقف من الطوب المحروق ، أما جدرانها فقد زخرفت بحنيات ترتكز على أعمدة مبنية هي أيضا من الطوب وهذه الأعمدة ، فضلا عن دورها في زخرفة القاعة وتجميله ، تخفف من قوة الضغط على الجدران ..

مدينة الموصل :

تعد الموصل من مدن العراق المهمة ، فقد كانت في العصر الأموي قاعدة للجيوش العربية التي توغلت في أذربيجان وأرمينيا وكذلك ازدهرت الموصل ثانية في القرن الرابع الهجري ، في عهد الحمدانيين الذين اتخذوها عاصمة لهم ، كما استمرت عاصمة حكم الى الأتابكة ، ولعل من أهم آثارها الباقية مئذنة مسجدها الجامع والتي تعرف باسم "الحدباء".

المنسوجات العباسية :

كانت المنسوجات الصوفية والحريرية من أهم الصادرات في العصر العباسي ، وذلك لكثرة عدد المصانع .. وتدل أسماء بعض أنواع الأقمشة التي ما تزال باقية حتى اليوم على مدى انتشار المنسوجات العربية وجودتها .. وبعض هذه الأسماء استعملها الأوروبيون في العصور الوسطى وبقيت حتى اليوم مثل نسيج "موسلين" نسبة الى مدينة الموصل.

التحف الخشبية :

كانت صناعة التحف الخشبية من الأعمال البارزة في تاريخ الفنون الإسلامية وقد تأثرت الى حد كبير بالفنون الساسانية والبيزنطية والهندية ثم تطورت في العصر العباسي حتى أصبح للفن الإسلامي أساليبه الخاصة في هذا الميدان.

المدن العباسية :

أراد العباسيون أن يتخذوا من العراق موئلاً لخلافتهم، فاتخذ عبدالله السفاح "الهاشمية" مقراً للدولة .. ولم يلبث أبو جعفر المنصور أن اختار قرية صغيرة على الضفة الغربية من دجلة لتكون حاضرة الخلافة، وهي بغداد .. ويروي بعض المؤرخين أن كلمة "بغداد" فارسية الأصل، وهي مكونة من كلمتين: "بلغ" ومعناها بالفارسية بستان و"داد" بمعنى يعطي (أي الله) .. وقد سماها المنصور مدينة السلام أو دار السلام، وفي هذا الإسم إشارة إلى الجنة، وقد اقتصر استعمال هذا الإسم في الشؤون الرسمية، وبه ضربت السكة، ولكن الناس عامة كانوا يفضلون اسم "بغداد".

تخطيط المدينة :

شرع المنصور في بناء حاضرته الجديدة في موضع بغداد القديمة، وأمر باحضار المهندسين والبنائين، والفعلة، والصناع من النجارين، والحدادين، والحفارين، من الشام والموصل والكوفة وواسط وبلاد الديلم، حتى بلغ عددهم مائة ألف على ما ذكره المؤرخون .. وقد وضع المنصور حجر الأساس في الوقت الذي اختاره المنجمون، وكان الطالع في الشمس، وهي في القوس، فأخبره المنجمون بما تدل عليه النجوم من طول بقائها، وكثرة عمارتها، واحتياج الناس إلى ما فيها .. واحتفل الخليفة العباسي ببدء العمل احتفالاً كبيراً حضره رجال الدولة من الأمراء والوزراء والعلماء والقادة والأعيان .. وقد روى الطبري وغيره أن المنصور لما عزم على بناء بغداد أحب أن يعرف رسمها فأمر أن تخط طريق المدينة بالرماد ،ثم دخل من موضع كل باب ، ومر في طرقات المدينة ورجالها وهي مخططة بالرماد .. ثم أمر أن يوضع على تلك الخطوط حب القطن ، ويصب عليه النفط وتوقد فيه النار ، فنظر والنار تشتعل ، وبذلك أمكنه الوقوف على رسم مدينته الجديدة .. وقد أمر بحفر الأساس مكان الخطوط ، وكان ذلك في سنة 541هـ .. جعل المنصور مدينة بغداد مستديرة الشكل ، وبنى داره وجامعه في وسطها ، حتى لا يكون أحد أقرب اليه من الآخر وهذا نوع من البناء جديد عند المسلمين ، ويبدو أنهم أخذوه عن الفرس ولم يجعل المنصور حول القصر والجامع بناً إلا الدار التي بناها للحرس من ناحية باب الشام ، وسقيفة كبيرة ممتده على عمد مبنية بالآجر والجص ، خص قسما منها لصاحب الشرطة وقسما آخر لصاحب الحرس. واتخذ حول ذلك قصور الأمراء ، ورجال الدين ، ودواوين الحكومة ، ومطبخ العامة .. وأخذ البناءون يبنون حول الدواوين ودور الأهالي تتخللها الأسواق ،وجعل للمدينة شوارع رئيسية أربعة تتفرع منها شوارع أخرى ... وأمر المنصور أن يبنى للمدينة سوران : سور داخلي عرضه من أسفله خمسون ذراعا ومن أعلاه عشرون ذراعا ، وسور خارجي ارتفاعه ثلاثون ذراعا وعرض كعرض السور الداخلي ، وليس عليه أبراج وحوله من الخارج خندق عميق تجري فيه الماء من القناة التي تأخذ من نهر كرفايا ، وحافتا الخندق جعلتا من الجص والآجر ، وفوق الخندق 361 برجاً .. سمك كل منها خمس أذرع ، وكان بالسور الخارجي أربعة أبواب .

أبواب السور الخارجي :

هي باب الكوفة في الجنوب الغربي ، وباب البصرة في الجنوب الشرقي ، وباب خرسان في الشمال الشرقي وكان على نهر دجلة ويتصل بقنطرة السفن ، كما عرف هذا الباب باسم باب الدولة لإقبال قوة الدولة العباسية من خرسان ، وباب الشام في الشمال الغربي ، وكان قطر مدينة بغداد من باب خرسان الى باب الكوفة 2200 ذراعا ، ومن باب البصرة الى باب الشام كذلك . وبين السورين ستون ذراعا ، وتعرف المسافة بين السورين "الفيصل" وكان وزن كل لبنة جعفرية (نسبة الى أبي جعفر المنصور) مما استعمل في البناء 117 رطلاً .. وقد ذكر اليعقوبي أن وزن اللبنة المربعة التي بلغ طولها ذراعا وعرضها ذراعا مائتا رطل ، واللبنة المنصفة التي يبلغ طولها وعرضها مائة رطل .. وذكر صاحب كتاب "مناقب بغداد" أن الطوب المستعمل هو اللبن والآجر .. وكان بين السورين دهاليز تصل السور الخارجي بالداخلي ، فإذا دخل أحدهم من باب خرسان مثلا عطف الى يساره في دهليز طليت جدرانه بالجص الأبيض ، وهكذا الحال مع سائر الأبواب.

قصر الذهب :

بنى المنصور قصره المعروف باسم "قصر الذهب" في وسط بغداد ، وبنى المسجد الجامع قبالته ، وقد بلغت مساحة القصر 160000 ذراع مربع ، وساحة الجامع 40000 ذراع مربع ويعتبر قصر الذهب والجامع مركز الدائرة ، ومن هذا المركز تفرعت أربعة شوارع رئيسية متجهة نحو أبواب الأسوار .. وقد أقيمت على جانبي هذه الشوارع الأبنية العالية وجاءت منسقة ومتشابهة في الشكل وأسلوب البناء والجدير بالملاحظة أنه إذا وقف الإنسان في نهاية أحد شوارع بغداد يمكنه أن يرى قصر الخلافة ، على أن بغداد سرعان ما ازدحمت بالعلماء والتجار والصناع الذين أقبلوا عليها من كل حدب وصوب، فلم يرى بداً من الإقامة خارجها في مكان طيب الهواء ،فبنى في عام 157هـ قصر الخلد .

القطائع والأرباض :

بعدما فرغ المنصور من بناء مدينته ، أقطع الأعيان قطائع من الأرض ، رغبة في تخفيف الضغط على بغداد من جهة ، ومكافأة لهم على ما قدموه من خدمات ، وسرعان ما عمرت هذه القطائع وازدحمت بالسكان .. وقد عرفت كل قطعة باسم الرجل أو المجموعة التي تسكنها .. وجعل المنصور أرباض بغداد (ضواحيها) أربعة أقسام ، وعين لكل ربض مسؤولاً عهد إليه ، عدا مهمة الإشراف، أن يقيم سوقاً محلية تفي بحاجة السكان ، كما أمر أن تخط الشوارع والدروب وتنتظم حولها المباني ، وأن يسمى الشوارع أو الدروب باسم القائد أو الرجل النابه الذي يقيم فيه .. وسرعان ما عمرت الأرباض وكثرت فيها المساجد والحمامات.

سكك بغداد ودروبها :

أسهب المؤرخون في الكلام على سكك بغداد (أزقتها) ودروبها فنجد سكة الشرطة ، وسكة المطبق ، وسكة الربيع وذكر المؤرخون أمثال اليعقوبي أن عدد السكك والدروب بلغ ستة آلاف ، وأن عدد الحمامات بلغ عشرة آلاف، والمساجد ثلاثين ألفاً .. ويروي أن أحد بطارقة الروم وفد على المنصور ، فأمر الخليفة حاجبه الربيع بن يونس أن يطوف به المدينة ويصعده الأسوار ، ويريه قباب الأبواب والطاقات ليرى ما عليه حاضرة الخلافة من الأبهة والعمران .. وبعد انتهاء جولته سأله المنصور عن رأيه في مدينته فقال: "يا أمير المؤمنين، انك بنيت بناء لم يبنه أحد قبلك وفيه ثلاثة عيوب .. أما أول عيب فبعده عن الماء ولابد للناس من الماء لشفاههم، أما العيب الثاني فإن العين خضرة وتشتاق الى الخضرة وليس في بنائك بستان، وأما العيب الثالث فإن رعيتك في بنائك، وإذا كانت الرعية مع الملك فشا سره".
وما أن خرج البطريق حتى أمر المنصور بمد قناتين من دجله ، وغرس العباسية ، ونقل الناس الى الكرخ.

بناء الكرخ :

قام ببناء الكرخ الربيع بن يونس من مال المنصور الخاص ، ويقع هذا الحي غربي بغداد،وحولت الى الكرخ أسواق المدينة .. وعمد الخليفة المنصور بتصميمها على قطعة من قماش عين عليها مواضع الأسواق، كما عين موضع المسجد الجامع .وقد أفرد لكل حرفة سوقاً خاصة ، ثم أخذ حي الكرخ في الإتساع حتى اتصل بمدينة بغداد.

الرصافة :

حقق بناء بغداد الغرض الذي كان يرمي اليه المنصور ، من منع وصول العدو اليه غير أنه لم يحل دون ما قد يحدث اذا ثار عليه الجند .. الواقع أن الخليفة لم يكن آمناً على نفسه باقامته في بغداد، اذ ثار الجند وحاربوه على أبواب بغداد .. ولما أخمدت ثورتهم أمر ببناء الرصافة.

اتخذت الرصافة في الأصل ثكنات للجيش وسميت: رصافة بغداد ، وبغداد الشرقية ، لوقوعها في الجهة الشرقية من دجلة والمقابلة لبغداد وبنى لها المنصور سوراً وحفر حولها خندقاً ، وجعل فيها ميداناً فسيحاً ، ومسجداً وبستاناً ، وأجرى اليها الماء ، وقد تم بناؤها في خلافة ابنه المهدي 159هـ .. وسرعان ما عمرت الرصافة حتى قاربت في الإتساع فظهرت فيها الحدائق والمتنزهات والميادين الواسعة والمباني الفخمة ، حتى بدت بغداد بجانبها كأنها البلد العتيق تجتمع في جزء من محاسن المدينة التي أحدثت في جواره.

اتساع بغداد :

بلغ اتساع بغداد والرصافة والكرخ اتساعا عظيما ، حتى غدت أشبه بمدن صغيرة متلاصقة وأصبحت بغداد من مدائن الشرق في ذلك العصر ، وبلغ عدد سكانها مليوني نسمة .. وازدهرت فيها الفنون المتنوعة ، وانتشرت منها الحضارة الى سائر أنحاء العالم .. وقد عني المنصور بتنظيف مدينته ، فكانت الأزقة والشوارع والساحات تكنس ويحمل التراب خارج المدينة .. وكانت المياه تؤمن على هور البغال ، وفيما بعد أمر بإيصال الماء الى قصره وأحياء المدينه.

نفقات بناء بغداد :

تكلف بناء بغداد أموالاً طائلة إذ أن المنصور عمل على تحصينها تحصيناً منيعاً وبنى فيها القصور الفخمة ، حتى تحاكي حواضر العالم الكبرى جمالاً وقوة ، وخاصة القسطنطينية حاضرة الروم .. وقد بلغت نفقات المدينة وما اليها من أسوار وأبواب ، والقصر ، والمسجد الجامع ، والأسواق ، والقباب ، والخنادق وغيرها 81 مليون دينار من الذهب ، وعلى رواية الطبري .. وهكذا تأسست مدينة بغداد في عهد أبي جعفر المنصور ، وقد حافظت على رونقها حتى سنة 656هـ حين خربها التتار بقيادة هولاكو..




موقع الشامسي

د.فالح العمره 29-09-2006 01:27 PM

دولة الخلافة العباسية
سميت الدولة العباسية بهذا الاسم، نسبة إلى العباس عم الرسول (، فمؤسس الدولة العباسية وخليفتها الأول هو أبو العباس عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب عم رسول الله (، وقد اشتهر أبو العباس بأبى العباس السفاح.
كيف آلت الخلافة إلى العباسيين؟
عندما ضعفت الدولة الأموية، تطلع الناس إلى رجل يعود بالأمة إلى الجادة والطريق الصحيح، يرفع عنهم الظلم، ويقيم فيهم العدل، ويرهب بهم الأعداء، فحسبوا أن أصلح الناس لهذا الأمر، رجل يكون من بنى هاشم، فكتبوا فى هذا الشأن إلى "أبى هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية بن على بن أبى طالب" أحد العلماء الثقات، وكان مقيمًا بالشام قريبًا من مركز الخلافة الأموية.. وما لبث أمر تلك المكاتبة أن وصل الخليفة الأموى "سليمان بن عبد الملك"، فخشى أبو هاشم على نفسه -وكانت قد تقدمت به السِّنّ- بطش الخليفة، فانتقل إلى "الحميمة" من أرض الشام؛ حيث يقيم عمه "عليّ السَّجَّاد بن عبد الله بن عباس"، وهناك حضرته منيته، فأوصى إلى "محمد بن على بن عبد الله بن عباس" بما كان من أمر الناس معه، ودفع إليه الكتب التى كتبوها إليه، وقال له: أنت صاحب هذا الأمر، وهو فى ولدك. ثم مات، وكان ذلك فى خلافة سليمان بن عبد الملك سنة 99هـ/ 718م.
وأخذ محمد العباسى فى تنفيذ ما أوصاه به أبوهاشم، فاتصل بالناس، واختار من بينهم دعاة يخرجون وينتشرون فى ربوع الدولة الأموية، يشهرون بها وينتقدون عيوبها، ويدعون إلى ضرورة أن يتولى أمر الخلافة رجل من آل البيت قادر على أن يملأ الأرض عدلا، ووجدت تلك الدعوة صدى عند الناس ورواجًا.
ويموت محمد بن على بن عبد الله بن عباس سنة 124هـ/742م، بعدما أوصى ابنه إبراهيم الملقب بالإمام بمواصلة المسيرة.
وتأخذ الدعوة العباسية عند إبراهيم الإمام صورة أخرى غير التى كانت عليها قبل ذلك، فهى لم تكن منظمة، أما الآن فقد صار لها نظام، وقادة معلومون، من أمثال أبى سلمة الخلال على الكوفة، وأبى مسلم الخراسانى على خراسان.
وما تكاد سنة 129هـ/ 747م، تقبل حتى يصدر أمر الإمام العباسى "إبراهيم بن محمد" أن يكون "أبو مسلم الخراسانى" رئيسًا للدعاة جميعًا فى خراسان وما حولها، وكلَّفه أن يجهر بالدعوة للعباسيين علنًا، وأن يعمل على جعل خراسان قاعدة للانطلاق بقواته ضد البيت الأموى.
انتقال الخلافة إلى العباسيين:
بعد هذا العرض يصبح فى مقدورنا أن نعرف كيف تحولت الخلافة من الأمويين إلى العباسيين.
لقد صدر الأمر إلى أبى مسلم بالجهر بالدعوة للعباسيين فى عهد آخر خلفاء بنى أمية "مروان بن محمد"، ولم يلبث أبو مسلم أن دخل "مرو " عاصمة خراسان، وكاد أن يستولى عليها إلا أنه لم يتمكن من ذلك هذه المرة، وهنا أسرع الوالى على خراسان من قبل بنى أمية، وهو "نصر بن سيار" يستغيث بمروان بن محمد ويطلب منه مددًا، وينبه رجال الدولة إلى الخطر المحدق فيقول:
أَرى خَلَلَ الرَّمادِ وَميِضَ نــــارٍ ويُوشكُ أن يَكُونَ لَهَا ضِـرَامُ
فإن النارَ بالعودين تُذْكــــــى وإن الحربَ مبدؤها كـــــلامُ
فقلت من التعجب ليتَ شِعرى أأيقاظ أمية أم نيـــــــــام؟
ولم يهتم بنو أمية بهذا الأمر بسبب انشغالهم بصراعات أنصارهم القدماء بالشام، وانشقاق زعماء الأمويين على أنفسهم، ولم يمدُّوا واليهم على خراسان بشىء، فأدرك أبو مسلم الخراسانى أن الوالى الأموى لن يصبر طويلا، وأن "مرو" ستفتح يومًا ما قريبًا، فأخذ يجمع العرب من حوله، ثم انقضَّ بهم على "مرو" ففتحت له، وهرب واليها "نصر بن سيار" وكان ذلك سنة 130هـ/ 748م.
وواصل أبو مسلم فتوحاته، فدانت له "بلخ" و"سمرقند" و"طخارستان" و"الطبسين" وغيرها، وتمكن من بسط سيطرته ونفوذه على خراسان جميعًا، وراح يتطلع إلى غيرها، وكان كلما فتح مكانًا أخذ البيعة من أهله على كتاب الله-عز وجل-وسنة نبيه ( "وللرضا من آل محمد"، أى يبايعون إمامّا مرضيًا عنه من آل البيت من غير أن يعِّيَنهُ لهم.
والواقع أن بنى أمية كانوا نيامًا فى آخر عهدهم، لا يعلمون من أمر القيادة الرئيسية لهذه الدعوة العباسية شيئًا، ولما وقع فى يد الخليفة (مروان بن محمد) كتاب من "الإمام إبراهيم العباسى" يحمل تعليماته إلى الدعاة، ويكشف عن خطتهم وتنظيمهم، كان منشغلا بتوطيد سلطانه المتزعزع وقمع الثائرين ضده، واكتفى الخليفة "مروان بن محمد" بأن أرسل إلى القائم بالأمر فى دمشق للقبض على الإمام "إبراهيم بن محمد" "بالحميمة" وإيداعه فى السجن، وتم القبض عليه وأودع السجن، فظل به حبيسًا إلى أن مات فى خلافة مروان بن محمد سنة 132هـ/750م. ولما علم "إبراهيم" بالمصير الذى ينتظره، وعلم أن أنصاره ومؤيديه قد واصلوا انتصاراتهم، وأن الكوفة قد دانت لهم وصارت فى قبضتهم أوصى لأخيه "أبى العباس" بالإمامة طالبًا منه أن يرحل إلى الكوفة ومعه أهل بيته؛ لينزل على داعى العباسيين بها وهو "أبو سلمة الخلال" فهناك يكون فى مأمن من رقابة الأمويين وسلطانهم
مبايعة أبى العباس:
وهناك فى الكوفة -بعد قليل من وصول آل العباس إليها- تمت مبايعة أبى العباس خليفة للمسلمين، وتوجه "أبو العباس" إلى مسجد الكوفة عقب مبايعته بالخلافة فى الثانى عشر من ربيع الأول سنة 132هـ/ 750م، وألقى على الملأ خطبة كانت بمثابة الإعلان الرسمى عن قيام الدولة العباسية، ومما جاء فى تلك الخطبة:
"الحمد لله الذى اصطفى الإسلام لنفسه، وكرمه وشرفه وعظَّمه، واختاره لنا، زعم الشامية أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة والخلافة منا، شاهت وجوههم، بِمَ ولم أيها الناس؟ وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم، وبصرهم بعد جهالتهم، وأنقذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحق، ودحض الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسدًا، ورفع بنا الخسيسة، وتمم النقيصة، وجمع الفرقة، حتى عاد الناس بعد العداوة أهل التعاطف والبر والمواساة فى دنياهم، وإخوانًا على سرر متقابلين فى آخرتهم، فتح الله ذلك -مِنَّةً وبهجة -لمحمد (، فلما قبضه الله إليه، وقام بالأمر من بعده أصحابه، وأمرهم شورى بينهم، حَوَوْا مواريث الأمم، فعدلوا فيها ووضعوها مواضعها وأعطوها أهلها، وخرجوا خماصًا منها، ثم وثب بنو حرب وبنو مروان فابتزُّوها وتداولوها، فجاروا فيها واستأثروا بها، وظلموا أهلها، وقد أملى الله لهم حينًا حتى آسفوه، فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا، وتدارك بنا أمتنا، وَوَلِىَ نصرنا والقيام بأمرنا، لَيمُنَّ بنا على الذين استضعفوا فى الأرض، فختم بنا كما افتتح بنا، وإنى لأرجو ألا يأتيكم الجور من حيث جاءكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح، وماتوفيقنا أهل البيت إلا بالله، فاستعدوا أيها الناس، فأنا السَّفَّاح المبيح والثائر المنيح (يقصد أنه كريم جواد) ".
ومن هذه المقولة التصقت به صفة السفاح، فقيل أبو العباس السفاح، مع أنه ما قصد ذلك المعنى الذى شاع على الألسنة.
لقد أعلنها صريحة مدوية فى الآفاق بينما كان "مروان بن محمد" آخر خلفاء بنى أمية يجلس على كرسى الخلافة، فكيف تمت المواجهة بين هؤلاء وأولئك؟ وكيف تحققت الغلبة للعباسيين؟
اللقاء الحاسم:
يالها من لحظات حاسمة فى تاريخ الأمم والشعوب، إن شمس الأمويين الغاربة تؤذن بالزوال، بينما شمس العباسيين فى صعود، وهذه هى الدنيا، فيوم لنا ويوم علينا، والأيام دُوَل.
وكان اللقاء الحاسم بين الأمويين والعباسيين على أحد فروع دجلة بالقرب من الموصل وهو "نهر الزَّاب الأعلى".
فجيش العباسيين يقوده عم الخليفة، وهو "عبد الله بن على"، بينما يقود جيش الأمويين الخليفة نفسه "مروان بن محمد".
كان ذلك يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة 132هـ/ 750م، ولم يجد "مروان" أمام جحافل العباسيين إلا أن يفر إلى "دمشق" مهزومًا أمام مطاردة "عبد الله بن على".
لقد راح يُطارده، فاستولى على "دمشق"، واستولى على مدن الشام واحدة بعد الأخرى، وكان استسلام دمشق العاصمة معناه سقوط دولة بنى أمية، وانتهاء عهدها كعاصمة للدولة الإسلامية، لكن مروان قد فرّ إلى مصر وتوجه إلى صعيدها، وقرب الفيوم، عند قرية "أبوصير" أُلقِىَ القبضُ عليه، وقُتِلَ بعدما ظل هاربًا ثمانية أشهر، يفر من مكان إلى مكان.
ومضى عهد، وأقبل عهد جديد، وسيظل عام 132هـ/ 750م فاصلا بين عهدين، وتاريخًا لا يُنسى.


موسوعة الاسره المسله

د.فالح العمره 29-09-2006 01:28 PM

عصور الخلافة العباسية
بدأت الدولة الجديدة سنة 132هـ/ 750م، وقد بلغ عدد خلفائها نحو سبعة وثلاثين خليفة، تعاقبوا على التوالى حكم هذه الدولة التى طال عمرها، واختلفت عصورها، وامتدت حتى سنة 656هـ/ 1100م ؛ حيث سقطت على أيدى التتار، بعد أن عاشت خمسة قرون وربع قرن ؛ اختلفت فيها العصور قوة وضعفًا!
فكيف كانت البداية؟
وكيف كانت النهاية؟


العصر العباسى الأول
( 132 - 232هـ / 750 - 847م )
اشتمل العصر العباسى الأول على عهود تسعة خلفاء، بدأ حكمهم بأبى العباس السفاح، وانتهى بتاسع الخلفاء العباسيين وهو الخليفة الواثق الذى توفى سنة 232هـ/ 847م.
والعصر العباسى الأول هو العصر الذهبى للدولة العباسية، فقد استطاع أولئك الخلفاء التسعة واحدًا بعد الآخر تحقيق ثلاثة منجزات كبرى، هى:
* تأكيد قوة الخلافة العباسية، والقضاء على كل المحاولات التى كان هدفها النيل من تلك الخلافة وسلطانها.
* إقامة حكم إسلامى تحققت فيه المساواة بين جميع الشعوب الإسلامية.
* رعاية الحضارة الإسلامية، فهم الذين أتاحوا لها الازدهار والانتشار.


موسوعة الاسره المسلمه

د.فالح العمره 29-09-2006 01:30 PM

خلافة أبى العباس السفاح
( 132 - 136هـ / 750 - 754 م)
هو عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم.
ولم تطل مدة خلافته، إنما هى سنوات تعد على أصابع اليد الواحدة.
انتشار الإسلام:
فقد سكن الكوفة، ثم تركها وأقام بالحيرة، ثم اختار مدينة "الأنبار" فبنى بها قصورًا وأحب الإقامة بها، وظل فيها حتى توفى. وكان لابد من تأمين الحدود، ورفع راية الإسلام ونشره فى ربوع الأرض لتصبح كلمة الله هى العليا، فبدأت من جديد تلك الحملات لتأديب الروم أعداء الإسلام والمسلمين.
عقد أبو العباس لعبد الله بن على أمر هذه المهمة سنة 136هـ/ 754م، فقاد عبد الله جيشًا من أهل الشام وخراسان.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل سيطر الجيش الإسلامى فى عصره من جديد على بلاد ما وراء النهر، وهى المنطقة الواقعة فى حوض نهرى جيحون وسيحون مما يعرف الآن بالجمهوريات الإسلامية فى آسيا الوسطى التى استقلت عن الاتحاد السوفيتى مؤخرًا.
قمع الثورات:
ولم يخل عهده من ثورات قام بها بعض قواد الأمويين فى أول عهده بالخلافة وفى آخره، فقضى على ثورة "أبى الورد" الذى انضم إليه أهل "قنسرين"، و"حمص"، و"دمشق"، وكان ذلك عام تولّيه الحكم.
وفى آخر عهده، أعلن أهل دمشق تمردهم على خلافة العباسيين سنة 136 هـ، وبايعوا أحد الأمويين، ولكنهم ما لبثوا أن هربوا أمام الجيش العباسى الذى داهمهم وطاردهم.
ويموت أبو العباس فى هذا العام بعد أن أوصى لأخيه "أبى جعفر المنصور" بالخلافة من بعده.


موسوعة الاسره المسلمه

د.فالح العمره 29-09-2006 01:31 PM

خلافة أبى جعفر المنصور
(136 - 158هـ/ 754 - 775م)
يعتبر أبو جعفر المنصور المؤسس الحقيقى لدولة بنى العباس وإن تولَّى الخلافة بعد أخيه أبى العباس (سنة 136هـ/ 754م).
ترى لماذا يُعَدُّ أبو جعفر المنصور المؤسس الأول على الرغم من أنه الخليفة العباسى الثانى؟
إن "أبا جعفر المنصور" بذل جهودًا عظيمة لتدعيم الأسرة العباسية فى الحكم، وإعلاء شأن الخلافة، وإضفاء روح المهابة والإجلال على الدولة فى الداخل والخارج.
لقد بُويع بالخلافة بعد عودته من الحج ووفاة أخيه أبى العباس، بايعه أهل العراق وخراسان وسائر البلاد سوى الشام التى كان عمه "عبد الله بن على" أميرًا، فقد رفض مبايعته اعتقادًا منه بأنه أولى بالخلافة، فما كان من أبى جعفر إلا أن أرسل إليه القائد "أبا مسلم الخراسانى" ومعه جماعة من أمراء بنى العباس فهزموهم هزيمة منكرة، وخضعت بلاد الشام لأبى جعفر.
نهاية أبى مسلم الخراسانى:
وبدأ الجو يصفو لأبى جعفر بعد مقتل عمه "عبد الله" إلا من بعض الإزعاج الذى كان يسببه له أبو مسلم الخراسانى؛ وبسبب مكانته القوية فى نفوس أتباعه، واستخفافه بالخليفة المنصور، ورفضه المستمر للخضوع له؛ فأبو مسلم يشتد يومًا بعد يوم، وساعده يقوى، وكلمته تعلو، أما وقد شم منه رائحة خيانة فليكن هناك ما يوقفه عند حده، وهنا فكر المنصور جديّا فى التخلص منه.
وقد كان، فأرسل إلى أبى مسلم حتى يخبره أن الخليفة ولاه على مصر والشام، وعليه أن يوجه إلى مصر من يختاره نيابة عنه، ويكون هو بالشام ؛ ليكون قريبًا من الخليفة وأمام عينيه وبعيدًا عن خراسان ؛ حيث شيعته وموطن رأسه، إلا أن أبا مسلم أظهر سوء نيته، وخرج على طاعة إمامه، ونقض البيعة، ولم يستجب لنصيحة أحد، فأغراه المنصور حتى قدم إليه فى العراق، وقتله فى سنة 137هـ/ 756م، ولأن مقتل رجل كأبى مسلم الخراسانى قد يثير جدلا كبيرًا، فقد خطب المنصور مبينًا حقيقة الموقف، قال: "أيها الناس، لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تمشوا فى ظلمة الباطل بعد سعيكم فى ضياء الحق، إن أبا مسلم أحسن مبتدئًا وأساء معقبًا، فأخذ من الناس بنا أكثر مما أعطانا، ورجح قبيح باطنه على حسن ظاهره، وعلمنا من خبيث سريرته وفساد نيته ما لو علمه اللائم لنا فيه لعذرنا فى قتله، وعنفنا فى إمهالنا، فما زال ينقض بيعته، ويخفر ذمته حيث أحل لنا عقوبته، وأباحنا دمه، فحكمنا فيه حكمه لنا فى غيره، ممن شق العصا، ولم يمنعنا الحق له من إمضاء الحق فيه". ومع ذلك فلم تهدأ الأمور، ولم يصفُ الجو لأبى جعفر المنصور كما كان يتوقع.
ثورة سُنباد:
كان ممن غضب لمقتل أبى مسلم الخراسانى، رجل مجوسى اسمه "سُنباد"، فثار والتف حوله الكثيرون من أهل "خراسان"، فهجموا على ديار المسلمين فى "نيسابور" و"قومس" و"الرى"، فنهبوا الأموال وقتلوا الرجال وسبوا النساء، ثم تبجحوا، فقالوا: إنهم عامدون لهدم الكعبة، فأرسل إليهم المنصور جيشًا بقيادة جمهور ابن مرار العجلى، فهزمهم واستردَّ الأموال والسبايا، ولا يكاد أبو جعفر يتخلص من "سنباد" سنة 137هـ/ 756م، حتى واجه ثائرًا ينادى بخلع المنصور.. تعلمون من هو؟!
إنه "جمهور بن مرار العجلي" قائد جيوش المنصور التى هزمت "سنباد".. فكيف كان هذا؟
لما هزم "جمهور" سنباد، واسترد الأموال، كانت خزائن أبى مسلم الخراسانى من بينها، فطمع "جمهور"، فلم يرسل المال إلى الخليفة المنصور، بل ونقض البيعة ونادى بخلع المنصور، فماذا كان؟
أرسل المنصور القائد الشجاع "محمد بن الأشعث" على رأس جيش عظيم، فهزم "جمهورًا" وفر هاربًا إلى "أذربيجان"، وكانت الموقعة فى سنة 137هـ/ 756م.
ثورات الخوارج:
ترى هل صفا الجو للمنصور بعد هذا ؟ لا.. فلقد كانت هناك ثورات وثورات تهدد الحياة وتحول دون الاستقرار والأمن. كما كانت هناك ثوارت للخوارج الذين أصبحوا مصدر إزعاج للدولة العباسية.
لقد خرج آنذاك "مُلَبّد بن حرملة الشيبانى" فى ألف من أتباعه بالجزيرة من العراق، وانضم إليه الكثيرون، فغلب بلادًا كثيرة، إلى أن تمكنت جيوش المنصور بقيادة خازم بن خزيمة من هزيمته فى سنة 138هـ/ 757م.
وتحرك الخوارج مرة ثانية فى خلافة المنصور سنة 148هـ بالموصل تحت قيادة "حسا بن مجالد الهمدانى"، إلا أن خروجه هو الآخر قد باء بالفشل.
وواجه الخليفة المنصور العباسى ثورات منحرفة لطوائف من الكافرين، ففى سنة 141هـ/ 759م.. واجه المنصور ثورة أخرى لطائفة من الخوارج يقال لها "الراوندية" ينتسبون إلى قرية "راوند" القريبة من أصفهان.
إنهم يؤمنون بتناسخ الأرواح، ويزعمون أن روح آدم انتقلت إلى واحد يسمى "عثمان بن نهيك" وأن جبريل هو الهيثم بن معاوية -رجل من بينهم-، بل لقد خرجوا عن الإسلام زاعمين أن ربهم الذى يطعمهم ويسقيهم هو "أبو جعفر المنصور"، فراحوا يطوفون بقصره قائلين: هذا قصر ربنا. ولم يكن ينفع هؤلاء إلا القتال، فقاتلهم المنصور حتى قضى عليهم جميعًا بالكوفة.
ثورة محمد "النفس الزكية":
من أخطر الثورات التى واجهت المنصور خروج محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن على، وكان من أشراف بنى هاشم علمًا ومكانة، وكان يلقب بـ "النفس الزكية" فاجتمع العلويون والعباسيون معًا وبايعوه أواخر الدولة الأموية، وكان من المبايعين "المنصور" نفسه، فلما تولى الخلافة لم يكن له هم إلا طلب محمد هذا خشية مطالبته بطاعة هؤلاء الذين بايعوه من قبل، وهنا خرج "محمد" النفس الزكية بالمدينة سنة 145هـ/763م، وبويع له فى كثير من الأمصار. وخرج أخوه "إبراهيم" بالبصرة، واجتمع معه كثير من الفقهاء، وغلب أتباعه على "فارس" و"واسط" و"الكوفة"، وشارك فى هذه الثورة كثير من الأتباع من كل الطوائف.
وبعث المنصور إلى "محمد النفس الزكية" يعرض عليه الأمن والأمان له ولأولاده وإخوته مع توفير ما يلزم له من المال، ويرد "محمد" بأن على المنصور نفسه أن يدخل فى طاعته هو؛ ليمنحه الأمان.
وكانت المواجهة العسكرية هى الحل بعد فشل المكاتبات، واستطاعت جيوش أبى جعفر أن تهزم "النفس الزكية" بالمدينة وتقتله، وتقضى على أتباع إبراهيم فى قرية قريبة من الكوفة وتقتله.
ثورة كافر خراسان:
ويظل مسلسل الثورات يتوالى على مر الأيام، ففى سنة 150هـ يخرج أحد الكفرة ببلاد خراسان ويستولى على أكثرها، وينضم له أكثر من ثلاثمائة ألف، فيقتلون خلقًا كثيرًا من المسلمين، ويهزمون الجيوش فى تلك البلاد، وينشرون الفساد هنا وهناك، ويبعث أبوجعفر المنصور بجيش قوامه أربعون ألفا بقيادة "خازم بن خزيمة"، فيقضى على هؤلاء الخارجين، وينشر الأمن والاستقرار فى ربوع خراسان.
بناء بغداد:
وراح المنصور يواصل ما بدأ به.. راح يبنى ويعمر بعد أن خَلا الجو، ودانت له البلاد والعباد، لقد فكر -منذ توليه- فى بناء عاصمة للدولة العباسية يضمن من خلالها السيطرة على دولته، وإرساء قواعدَ راسخة لها.
فشرع فى بناء بغداد سنة 145هـ على الضفة الغربية لنهر دجلة عند أقرب نقطة بين دجلة والفرات، لتصبح ملتقى الطرق القادمة من الشام شمالا، ومن الصين شرقًا، ومن طوائف مصر، ومن الحجاز جنوبًا، إلى جانب موقعها العسكرى الخطير، فهى بين نهرى الفرات ودجلة، فلا وصول إليها إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطع الجسر وخربت القنطرة لم يتمكن معتدٍ من الوصول إليها، ولبغداد مزايا أخرى عديدة، أغرت المنصور بالإسراع فى بنائها، فراح أبو جعفر يأمر بإحضار الفعلة والصناع من بلاد العالم؛ ليحققوا نهضة، وليقيموا حضارة، وليصنعوا المستقبل لدولة الإسلام والمسلمين. وكان مِنْ بين مَنْ استعان بهم المنصور فى ضبط العمل ببغداد: الإمام الجليل أبو حنيفة النعمان.
ووضع المنصور بنفسه أول لبنة وهو يقول: باسم الله، والحمد لله، وإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. ثم قال: ابنوا على بركة الله.
وكان الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان هو القائم على بناء المدينة والمتولى لضرب اللبن. وأصبحت بغداد عاصمة لها شأنها بين عواصم العالم.
وكانت بغداد تتمتع بالطرق الواسعة النظيفة التى تمتد إليها المياه من فروع نهر دجلة فى قنوات مخصوصة تمتد بالشوارع صيفًا وشتاءً، وكانت شوارعها تكنس كل يوم، ويحمل ترابها خارجها، وعيَّن المنصور على أبوابها جندًا يحفظون الأمن بها، فصانها وحفظ لها نظامها ونظافتها من الداخل، وقد فرغ من بناء بغداد وسورها وأسواقها وخندقها بعد 4 سنوات أى سنة 149هـ/ 766م.
وأمام كثرة النازحين إلى عاصمة الخلافة أجمل مدن العالم آنذاك، كان لابد أن يهتمَّ المنصور ببناء سوق يضم أصحاب الصناعات والتجار والباعة. وفعلا بنيت "الكرخ" سنة 157هـ/ 774م لتظل عاصمة الخلافة محتفظة بجمالها وسحرها وتألقها.
وكانت الكرخ سوقًا نموذجية، فلكل تجارة سوق خاصة بها، ولم يبقَ إلا أن يبنى المنصور مسجدًا جامعًا يجتمعون فيه حتى لايدخلوا بغداد، فبنى للعامة جامعًا، وهو غير جامع المنصور الذى كان يلى القصر، وفى سنة 151هـ/ 768م يبنى المنصور مدينة أخرى لابنه المهدى على الضفة الشرقية لنهر دجلة وهى مدينة "الرصافة" ثم بنى "الرافقة" وكانت هاتان المدينتان صورة من بغداد.
العدل أساس الملك:
وإلى جانب هذه النهضة العمرانية راح المنصور يسهر على تنفيذ طائفة من الإصلاحات الداخلية على مستوى الدولة العباسية كلها.
وإذا كان العدل أساس الملك، فإن الذين يقومون على العدل ينبغى أن يتم اختيارهم بعيدًا عن الهوى والمصالح. روى أن "الربيع ابن يونس" وزير "أبى جعفر" قال له ذات يوم: إن لفلان حقّا علينا؛ فإن رأيت أن تقضى حقه وتوليه ناحية. فقال المنصور:
يا ربيع، إن لاتصاله بنا حقّا فى أموالنا لا فى أعراض الناس وأموالهم. ثم بين للربيع أن لا يولى إلا الأكفاء، ولا يؤثر عليهم أصحاب النسب والقرابة. وكان يقول: ما أحوجنى أن يكون على بابى أربعة نفر، لا يكون على بابى أعف منهم، هم أركان الدولة، ولا يصلح الملك إلا بهم:
أما أحدهم: فقاض لا تأخذه فى الله لومة لائم.
والآخر: صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوى.
والثالث: صاحب خراج، يستقضى ولا يظلم الرعية، فإنى عن ظلمها غنى.
ثم عض على إصبعه السبابة ثلاث مرات، يقول فى كل مرة: آه. آه. قيل: ما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصّحَّة (رجل يخبرنى بما يفعل هؤلاء لا يزيد ولا ينقص).
هكذا كان المنصور حريصًا على إقامة العدل، ووضع الرجل المناسب فى المكان المناسب، وإلى جانب هذا، فقد كان يراقب عماله وولاته على الأقاليم، ويتتبع أخبارهم أولا بأول، ويتلقَّى يوميّا الكتب التى تتضمن الأحداث والوقائع والأسعار ويبدى رأيه فيها، ويبعث فى استقدام من ظُلم ويعمل على إنصافه متأسيًا فى ذلك بما كان يفعل الخليفة الثانى عمر بن الخطاب -رضى الله عنه-!
العناية بالمساجد:
وأعطى المنصور كل العناية للمساجد، خاصة المسجد الحرام، فعمل على توسعته سنة 140هـ، وسار إلى بيت المقدس بعد أن أثر فيه ذلك الزلزال الذى حدث بالشام، فأمر بإعادة بنائه مرة أخرى، وبنى المنصور مسجدًا بمنى وجعله واسعًا، يسع الذين يقفون فى منى من حجاج بيت الله، وشهدت مدن الدولة الكبرى نهضة إنشائية وعمرانية، روعى فيها بناء العديد من المساجد فى البصرة والكوفة وبغداد وبلاد الشام وغيرها من أقاليم الدولة.
العناية بالاقتصاد:
يذكر التاريخ للمنصور- إلى جانب هذه النهضة الإصلاحية العمرانية- اهتمامه بالزراعة والصناعة وتشجيعه أصحاب المهن والصناعات، وتأمينه خطوط التجارة والملاحة فى الخليج العربى حتى الصين من خطر القراصنة الهنود الذين كانوا يقطعون طرق التجارة، ويقتلون التجار، ويستولون على الأموال، وراح قُواده يؤدبون هؤلاء اللصوص. وكثيرًا ما يعود قواد البحر بالغنائم والأسرى حتى انقطعت القرصنة بعد سنة 153هـ/ 770م، ولقد تم فى عهده إعادة فتح "طبرستان" سنة 141هـ/ 759م، فيما وراء النهر.
العناية بالحدود:
أعطى المنصور اهتمامًا بالغًا بجهة الشمال؛ فراح يأمر بإقامة التحصينات والرباطات على حدود بلاد الروم الأعداء التقليديين للدولة الإسلامية.
وكانت الغزوات المتتابعة سببًا فى أن ملك الروم راح يطلب الصلح، ويقدم الجزية صاغرًا سنة 155هـ. ولا ننسى للمنصور حملته التأديبية على قبرص لقيام أهلها بمساعدة الروم، ونقضهم العهد الذى أخذوه على أنفسهم يوم أن فتح المسلمون قبرص.
هذا هو "المنصور"، وهذه هى إصلاحاته فى الداخل والخارج رحمه الله رحمة واسعة، لقد كان يعرف لنفسه حقها، وللناس حقهم، ولربه حقه.
وصية المنصور:
لقد ذهب ليحج سنة 158هـ/ 775م، فمرض فى الطريق، وكان ابنه محمد "المهدى" قد خرج ليشيعه فى حجه، فأوصاه بإعطاء الجند والناس حقهم وأرزاقهم ومرتباتهم، وأن يحسن إلى الناس، ويحفظ الثغور، ويسدد دينًا كان عليه مقداره ثلاثمائة ألف درهم، كما أوصاه برعاية إخوته الصغار، وقبل أن يدخل مكة لقى ربه ليقول له: إننى تركت خزانة بيت مال المسلمين عامرة، فيها ما يكفى عطاء الجند ونفقات الناس لمدة عشر سنوات.
رحمه الله، كان يلبس الخشن، ويرقع القميص ورعًا وزهدًا وتقوى، ولم يُرَ فى بيته أبدًا لهو ولعب أو ما يشبه اللهو واللعب، ويذهب المنصور إلى رحمة الله.
وتعالوا بنا نقرأ وصية أبى جعفر المنصور لولده وولى عهده المهدى، قال المنصور لولده المهدى:
"ولدت فى ذى الحجة، ووليت فى ذى الحجة، وقد هجس فى نفسى أنى أموت فى ذى الحجة من هذه السنة، وإنما حدانى على الحج ذلك، فاتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدى، يجعل لك فى كربك وحزنك فرجًا ومخرجًا، ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب.
يا بنى: احفظ محمدًا ( فى أمته، يحفظك الله، ويحفظ عليك أمورك، وإياك والدم الحرام، فإنه حوبٌ (إثم) عند الله عظيم، وعار فى الدنيا لازم مقيم، والزم الحدود، فإن فيها خلاصك فى الآجل، وصلاحك فى العاجل، ولا تعتد فيها فتبور، فإن الله تعالى لو علم شيئًا أصلح منها لدينه وأزجر عن معاصيه لأمرٍ به فى كتابه.
واعلم أن من شدة غضب الله لسلطانه، أنه أمر فى كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى فى الأرض فسادًا، مع ما ادّخر له عنده من العذاب العظيم، فقال: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) [المائدة: 33].
فالسلطان يا بنى حبل الله المتين، وعروته الوثقى، ودينه القيم، فاحفظه وحصنه، وذُبَّ عنه، وأوقع بالملحدين فيه، وأقمع المارقين منه، واقتل الخارجين عنه بالعقاب، ولا تجاوز ما أمر الله به فى محكم القرآن، واحكم بالعدل ولا تشطط؛ فإن ذلك أقطع للشغب، وأحسم للعدو، وأنجع فى الدواء، وعفّ عن الفىء، فليس بك إليه حاجة مع ما خلفه الله لك، وافتتح عملك بصلة الرحم وبر القرابة، وإياك والأثرة والتبذير لأموال الرعية، واشحن الثغور، واضبط الأطراف، وأمّن السبل، وسكن العامة، وأدخل المرافق عليهم، وادفع المطاردة عنهم، وأعد الأموال واخزنها، وإياك والتبذير، فإن النوائب غير مأمونة، وهى من شيم الزمان، وأعد الكراع والرجال والجند ما استطعت، وإياك وتأخير عمل اليوم إلى الغد، فتتدارك عليك الأمور وتضيع، جد فى إحكام الأمور النازلات لأوقاتها أولا فأولا، واجتهد وشمر فيها، وأعد رجالا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالا بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل، وباشر الأمور بنفسك، ولا تضجر ولا تكسل، واستعمل حسن الظن بربك، وأسئ الظن بعمالك وكتَّابك، وخذ نفسك بالتيقظ، وتفقد من تثبت على بابك، وسهِّل إذنك للناس، وانظر فى أمر النزاع إليك، ووكل بهم عينًا غير نائمة، ونفسًا غير لاهية، ولا تنم، وإياك، فإن أباك لم ينم منذ ولى الخلافة، ولا دخل عينه النوم إلا وقلبه مستيقظ.
يا بنى: لا يصلح السلطان إلا بالتقوى، ولا تصلح الرعية إلا بالطاعة، ولا تعمر البلاد بمثل العدل، هذه وصيتى إليك، والله خليفتى عليك".

موسوعة الاسره المسلمه

د.فالح العمره 29-09-2006 01:33 PM

خلافة المهدى
( 158- 169هـ/ 775- 786م)
ويأتى محمد المهدى بعد أبيه بعد أن بايعه الناس بالخلافة، لقد كان المهدى وليّا للعهد فى خلافة والده المنصور، وكثيرًا ما كان يتلقى توجيهاته ونصائحه وإرشاداته، وما زالت كلمات أبيه ترن فى أذنه:
"إن الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلا العدل، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه. يابنى، استدم النعمة بالشكر، والقدرة بالعفو، والطاعة بالتأليف، والنصر بالتواضع والرحمة للناس، ولا تنس نصيبك من الدنيا، ونصيبك من رحمة الله".
استكمال الإصلاحات:
وسار المهدى على نهج أبيه المنصور فى القيام بالإصلاحات الداخلية، وتأمين الحدود، وعمارة المساجد، وعلى رأسها المسجد الحرام.
ولم يفته أن يأمر بحفر نهر بالبصرة يحيى به الأرض الموات، ويسهم فى توفير القوت، ولقد أحسن إلى العلويين وإلى غيرهم ممن لهم أهداف سياسية، فأطلق سراح من كان منهم فى السجون سنة 159هـ/ 776م، وكان لهذا أثره فى الاستقرار والهدوء فلم يخرج عليه أحد من العلويين!
ولقد أتيح له أن يقضى على ثلاث ثورات، قام بها أفراد انضم إليهم كثير من الخوارج، اثنتين فى خراسان والثالثة "بقنسرين" من أرض الشام.
وراح يواصل تأمين طرق التجارة إلى الهند، وانطلقت فى خلافته الجيوش الإسلامية الفاتحة فى اتجاه الروم؛ ففى سنة 165هـ/ 782م بلغت جيوشه بقيادة ابنه "هارون الرشيد" خليج "القسطنطينية"، وجرت الرسل والسفراء بينه وبين الإمبراطورة الرومانية "إيرين" فى طلب الصلح فى مقابل فدية تقدم للدولة الإسلامية سنويّا مقدارها سبعون ألف دينار، واشترط الرشيد على ملكة الروم تعيين أدلاء له، وإقامة الأسواق فى طريق عودته، وكانت مدة الهدنة ثلاث سنين.
تأمين الحدود:
كما أرسل عام 167هـ ولى عهده الهادى إلى "جرجان" فى جيش كثيف لم يُرَ مثله. إن الجيش الإسلامى فى عهد المهدى كان له وجوده على حدود الروم، حتى لقد قام أمير البر الشامى بغزوتين بحريتين فى اتجاه الروم سنة 160هـ/ 777م، و161هـ/ 778م، ولقد قضى على الإلحاد والزندقة فى عهده..، لم تأخذه فى ذلك لومة لائم، ومن شابه أباه فما ظلم.
ورع المهدى:
وحدث فى خلافته أن أصاب الناس ريح شديدة ظنوا معها قيام الساعة، وأخذ القواد فى البحث عن المهدى فوجدوه واضعًا خده على الأرض وهو يقول: "اللهم احفظ محمدًا فى أمته !اللهم لا تشمت بنا أعداءنا من الأمم ! اللهم إن كنتَ أخذتَ هذا العالم بذنبى فهذه ناصيتى بين يديك! ".
واستمر المهدى فى دعائه وتضرعه حتى انكشفت الريح، وعاد الأمر إلى وضعه الصحيح.
وتتبع المهدى الزنادقة والملحدين أعداء الدين، وأمر بتصنيف كتب الجدل للرد عليهم.
أمن وعطاء:
وأشاع عهدًا من السلام بينه وبين العلويين، ولقد سار بالخلافة على الخطة التى وضعها له أبوه، ينظر فى الدقائق من الأمور، ويُظْهِر أبَّهة الوزراء. وكان المهدى أول من جلس للمظالم من بنى العباس، يقيم العدل بين المتظالمين، ومشى على أثره من بعده الهادى والرشيد والمأمون، وكان "المهتدى" آخر من جلس للنظر فيها، وبسط "المهدى" يده فى العطاء، فأذهب جميع ما خلفه المنصور، وأجرى المهدى الأرزاق على المجذومين وأهل السجون فى جميع الآفاق، وأمر بإقامة البريد بين مكة والمدينة واليمن وبغداد ببغال وإبل، وقد وجد البريد من عهد عمر بن الخطاب، والذى فعله المهدى مزيد من التنظيم له، قال رجل للمهدى: عندى لك نصيحة يا أمير المؤمنين. فقال: لمن نصيحتك هذه ؟ لنا أم لعامة المسلمين أم لنفسك؟
قال: لك يا أمير المؤمنين. قال: ليس الساعى بأعظم عورة، ولا أقبح حالا ممن قَبِل سعايته، ولا تخلو من أن تكون حاسد نعمة، فلا نشفى غيظك، أو عدوّا فلا نعاقب لك عدوك. ثم أقبل على الناس فقال: لا ينصح لنا ناصح إلا بما فيه رضا لله، وللمسلمين صلاح. وما تكاد سنة 169هـ/ 786م تقبل حتى توفى المهدى -رحمه الله -رحمة واسعة. وتولى الخلافة من بعده الخليفة موسى الهادى.

د.فالح العمره 29-09-2006 01:34 PM

خلافة موسى الهادى
( 169 - 170هـ / 786 - 787م)
أوصى المهدى ابنه موسى الهادى قبل أن يموت بقتل الزنادقة، وكان الهادى قوى البأس شهمًا خبيرًا بالملك كريمًا. فجدَّ فى أمرهم، وقتل منهم الكثير.
على أن الأمور بينه وبين العلويين لم تكن على ما يرام كما كانت فى عهد أبيه، فقد عادت إلى التوتر بعد فترة السلام التى امتدت طوال فترة خلافة المهدي.
ويرجع السبب فى ذلك إلى عامل المهدى على المدينة، فقد ظلم بعض آل على -رضى الله عنه- مما جعل الحسين بن على بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب يثور ويجتمع حوله كثيرون ويقصدون دار الإمارة، ويخرجون من فى السجون، ثم يخرج الحسين إلى مكة فيرسل له الهادى: "محمد بن سليمان" وتتلاقى جموعهم فى موقعة حاسمة قتل فيها "الحسين" وحمل رأسه إلى موسى الهادى.
ونجا من موقعة "الفخ" اثنان من العلويين، أحدهما: يحيى بن عبد الله بن الحسن، أما الثانى فهو أخوه إدريس بن عبد الله.
وقد ثار الأول فى عهد الرشيد فقتل أما الثانى وهو إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن فقد تمكن من إثارة أهل المغرب الأقصى ( المملكة المغربية حاليّا ) على العباسيين، حيث أسس هناك دولة الأدارسة.
وعلى الرغم من أن خلافة موسى الهادى كانت قصيرة فإن الفتوحات الإسلامية لم تتوقف مسيرتها؛ فقد غزا "معيوف بن يحيى" الروم ردّا على قيام الروم بغزو حِمْص "الحَدَث"، ولقد دخل معيوف بلاد الروم، وأصاب سبايا وأسارى وغنائم.
ولقى الهادى ربه سنة سبعين ومائة هجرية، وكان رحمه الله موصوفًا بالفصاحة، محبّا للأدب ذا هيبة ووقار، قيل عن الليلة التى مات فيها: هى ليلة مات فيها خليفة وجلس فيها خليفة، وولد خليفة. فالخليفة الذى مات فيها هو الهادى، والذى جلس فيها على سريره هو الرشيد، والذى ولد فيها هو المأمون.

د.فالح العمره 29-09-2006 01:35 PM

خلافة هارون الرشيد
(170 - 193هـ/ 788 - 810م)
لقد سار الرشيد في إدارته على نهج قويم، وأعاد إلى الخلافة مجدها الذى كان لها على عهد جده المنصور، وما كان مسرفًا ولا بخيلا، وسمى الناس أيامه "أيام العروس" لنضارتها وكثرة خيرها وخصبها، وكانت دولته من أحسن الدول وأكثرها وقارًا ورونقًا وأوسعها مملكة، واتسعت الدولة الإسلامية فى عهد الرشيد، وجاءه الخير من كل مكان، وعين الرشيد يحيى بن خالد البرمكى، وجعله كبير وزرائه، وقال له: قد قلدتك أمر الدولة، وأخرجته من عنقى إليك، فاحكم فى ذلك بما ترى من الصواب، واستعمل من رأيت، واعزل من رأيت، وأمض الأمور على ما ترى. وسلَّم إليه خاتم الخلافة.
إدارة حكيمة:
أما الولايات فقد فوضها إلى أمراء جعل لهم الولاية على جميع أهلها، ينظرون فى تدبير الجيوش والأحكام، يعينون القضاة والحكام، ويجْبُون الخراج، ويقبضون الصدقات، ويقلدون العمال فيها، ويحمون الدين، ويقيمون حدوده، ويؤمُّون الناس فى صلاة الجمعة، الصلوات الأخرى أو يستخلفون عليها، فإذا كانت أقاليمهم ثغرًا متاخمًا للعدو تولوا جهاده.
وما قسمت أعمال الدولة منذ انتقالها إلى بنى العباس تقسيمها فى زمن الرشيد، ولذلك كان للخليفة وقت ليحج، ووقت ليغزو، ووقت ليصطاف فى الرقة، ويترك قصر الخلد فى بغداد.
لقد كان الرشيد على أشد ما يكون من الانتباه لكل ما صغر وكبر من شئون الملك، ومن أشد الملوك بحثًا عن أسرار رعيته، وأكثرهم بها عناية، وأحزمهم فيها أمرًا؛ لذلك فما اشتعلت فتنة فى أرجاء دولته إلا أطفأها.
وألغى الرشيد العُشْر الذى كان يؤخذ من الفلاحين والمزارعين بعد النصف، وكان رحمه الله يسدُّ كل خللٍ فى مملكته، ويهتمُّ كل الاهتمام بما يخفف عن الفلاحين.
وقد ولّى الرشيد رجلا بعض أعمال الخراج، فدخل عليه يودعه، وعنده يحيى بن خالد البرمكى، وابنه جعفر، فقال الرشيد ليحيى وجعفر: أوصياه. فقال له يحيى: وفِّر وعَمِّر. وقال له جعفر: أنصف وانتصف. فقال له الرشيد: اعدل وأَحْسِن.
وكتب الرشيد إلى أحد عماله: أجْرِ أمورك على ما يكسب الدعاء لنا لا علينا، واعلم أنها مدة تنتهي، وأيام تنقضى، فإما ذكر جميل، وإما خزى طويل. ومما يعد جديدًا فى تعظيم الحكم أن قاضى الرشيد "أبا يوسف" صاحب أبى حنيفة وتلميذه كان أول من دُعى فى الإسلام قاضى القضاة (وزير العدل الآن )، وكان الرشيد لا يبخل بالمال فى سبيل الدولة، وقد خلف من المال -على كثرة بذله- مالم يخلف أحد مثله منذ كانت الخلافة.
قال ابن الأثير: كان الرشيد يطلب العمل بآثار المنصور إلا فى بذل المال، فإنه لم يُر خليفة قبله كان أعطى منه للمال، وكان لا يضيع عنده إحسان محسن، ولا يؤخر عنده.
سياسة رشيدة:
وكذلك كان الرشيد حكيمًا فى سياسته كما كان حكيمًا فى إدارته، لقد بويع للرشيد عند موت أخيه الهادى، وكان أبوهما قد عقد لهما بولاية العهد معًا، ويروى أن الهادى قد حدثته نفسه بخلع الرشيد، وجمع الناس على تقليد ابنه العهد بعده، فأجابوه، وأحضر "هرثمة بن أعين"، فقيل له: تبايع يا هرثمة؟ فقال: يا أمير المؤمنين، يمينى مشغولة ببيعتك، ويسارى مشغولة ببيعة أخيك، فبأى يد أبايع؟
فقال الهادى لجماعة الحاضرين: شاهت وجوهكم، والله لقد صدقنى مولاى، وكذبتمونى، ونصحنى فغششتمونى، وسلم إلى الرشيد بحقه فى الولاية بعده.
وكانت سياسة الرشيد سياسة رشيدة فى الداخل والخارج، غزا الروم حتى وصل إلى "إسكدار" من ضواحى "القسطنطينية" أيام ولايته العهد، وتغلغل مرة ثانية فى بلادهم وغزاهم فى خلافته بضع غزوات، وأخذ منهم "هرقلية"، وبعث إليه ملكهم بالجزية عن شعبه، واشترط عليه الرشيد ألا يعمر هرقلية، وأن يحمل إليه فى السنة ثلاثمائة ألف دينار.
العصر الذهبى:
وكان "نقفور" قد نقض العهد الذى أعطته الملكة "إرينى"، التى كانت تحكم الروم قبله، وأرسل إلى هارون الرشيد رسالة يهدده فيها: "من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب: أما بعد؛ فإن الملكة التى كانت قبلى أقامتك مقام الرَّخ (طائر خرافى يعرف بالقوة)، وأقامت نفسها مقام البَيْدق (يعنى مقام الضعيف)، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقًا بحمل أضعافه إليها، لكن ذلك لضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأتَ كتابى هذا، فاردد ما حصل لك من أموالها، وافتدِ نفسك بما تقع به المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا وبينك".
فلما قرأ الرشيد الرسالة غضب غضبًا شديدًا حتى لم يقدر أحد أن ينظر إليه، فدعا بدواة وكتب إلى نقفور ملك الروم ردّا على رسالته يقول:
"بسم الله الرحمن الرحيم: من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يابن الكافرة، والجواب ما تراه دون أن تسمعه، والسلام".
وقاد بنفسه جيوشًا جرارة، ولقّنه درسًا لا يُنسى، فعاد إلى أداء الجزية صاغرًا، بعد أن خضع أمام قوة المسلمين وعزة نفوسهم.
وجاء فى فتوح البلدان للبلاذرى: "وقد رأينا من اجتهاد أمير المؤمنين هارون فى الغزو، ونفاذ بصيرته فى الجهاد أمرًا عظيمًا، وأقام من الصناعة (الأسطول) مالم يقم قبله، وقسم الأموال فى الثغور والسواحل، وهزم الروم وقمعهم".
وسمى الرشيد "جبار بنى العباس"؛ لأنه أخرج ابنه القاسم للغزو سنة 181هـ، فهزم الروم هزيمة منكرة، أدخلت الرعب فى قلوبهم، فصالحه الروم على أن يرحل عنهم فى مقابل أن يعيدوا إليه كل من أسروهم من المسلمين قبل ذلك، وكان هذا أول فداء فى الإسلام بين المسلمين والروم.
وأرسل "على بن عيسى بن ماهان" لغزو بلاد الترك، ففعل بهم مثلما فعل القاسم بن الرشيد بالروم، وسبى عشرة آلاف، وأسر ملكيْن منهم. ثم غزا الرشيد نفسه الروم وافتتح هرقلية، وأخذ الجزية من ملك الروم.
وتوطدت الصِّلات بينه وبين "شارلمان" ملك فرنسا وجرمانيا وإيطاليا وتبادلا السفراء، والهدايا.
وفى أيامه، خرج "الوليد بن طريف الحرورى" من رءوس الخوارج سنة 178هـ/ 795م، فَقُتِل بعد أن استفحل أمره.
لقد كان عصر الرشيد وابنه المأمون أرقى عصور بنى العباس قوة وعظمة وثقافة، وهو العصر الذهبى للدولة العباسية.
القضاء على البرامكة:
وقد تحدثت الدنيا عن نكبة "البرامكة" الذين كان منهم وزير الرشيد، وكانت لهم الكلمة العليا فى البلاد على يديه سنة 187هـ/ 803م، بعدما ظهروا ظهورًا غطى أو قارب أن يغطى على سلطة الرشيد ومكانته، وهو الخليفة.
لقد أصبحوا مركزًا من مراكز القوى فى الدولة العباسية، الأمر أمرهم، والكلمة كلمتهم، والأموال فى أيديهم، فما منعهم ذلك لأن يفسد حالهم، ويسوء سلوك أكثرهم، حتى إن الرشيد كان لا يمر ببلد أو إقليم أو مزرعة أو بستان إلا قيل: هذا لجعفر بن يحيى بن خالد البرمكى. كما قلدوه فى إنفاق الأموال والعطايا والمنح. وضاق الرشيد بالبرامكة، وعزم على أن يقضى عليهم، وتكون نكبتهم على يديه، ونودى فى بغداد: لا أمان للبرامكة إلا محمد بن خالد بن برمك وولده؛ لإخلاصهما للخليفة.
وكان منهم الوزراء والقادة وأصحاب الرأى، وكانوا من أصل فارسى، فلما حدث منهم ما حدث، امتنع الرشيد عن الوثوق بهم، واختار وزراءه ومستشاريه من العرب، وجعل الفضل بن الربيع الذى كان أبوه حاجبًا للمنصور والمهدى والهادى وزيرًا له.
وكان الفضل بن الربيع شهمًا خبيرًا بأحوال الملوك وآدابهم، فلما ولى الوزارة جمع إليه أهل العلم والأدب. وما زال الفضل ابن الربيع على وزارته حتى مات الرشيد سنة 193هـ/ 809م.
العامة وهارون الرشيد:
وقبل أن ننتقل بحديثنا عن هارون الرشيد إلى غيره من الخلفاء العباسيين، تبقى كلمة لابد من قولها: فقد ارتبط اسم هارون الرشيد فى أذهان العامة بحكايات ألف ليلة وليلة، باللهو والمجون، وما كانت هذه حقيقة الرجل من قريب أو بعيد، وإنما عمد المستشرقون والمستهترون إلى تشويه صورة الرجل، لكى تبدو صورة الخلافة الإسلامية مشوهة، وأن المسلمين قوم لاهَمَّ لهم إلا إشباع غرائزهم، لا يصلحون لقيادة الأمم وعمارة الأرض.
أما حقيقة هارون الرشيد، الذى أعز الله به الإسلام والمسلمين، وأذل به أعداء الدين، فهو مسلم حق، وعابد، ومجاهد بنفسه وماله فى سبيل عزة هذا الدين وإعلاء كلمة الله فى أرضه.
كان الرشيد يكثر من صلاة النافلة إلى أن فارق الدنيا، وكان يتصدق وينفق على الحجيج من صلب ماله، وكان يحب الشعر والشعراء، ويميل إلى أهل الأدب والفقه، ويكره المراء فى الدين، ويسرع الرجوع إلى رحاب الحق إذا ذكر. حدث أنه حبس أبا العتاهية الشاعر، ووكَّل به رجلا يكون قريبًا منه لينظر ما يقول ويصنع، فكتب أبو العتاهية على الحائط:
أما والله إن الظلم لــــؤم وما زال المسىء هو الظلـوم
إلى ديان يوم الدين نمضـى وعند الله تجتمع الخصــوم
فجاء الرجل فأخبر هارون الرشيد، فبكى الرشيد، وأطلق أبا العتاهية واعتذر إليه واسترضاه.
وحج ذات مرة، فرآه الناس وقد تعلق بأستار الكعبة يقول: "يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمير الصامتين، صلّ على محمد وعلى آل محمد، واغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا؛ يا من لا تضره الذنوب، ولا تخفى عليه العيوب، ولا تنقصه مغفرة الخطايا، صلّ على محمد وعلى آل محمد، وخِره لى فى جميع أمورى. يامن خشعت له الأصوات بأنواع اللغات، يسألونه الحاجات، إن من حاجتى إليك أن تغفر لى ذنوبى إذا توفيتنى، وصُيِّرت فى لحدى، وتفرق عنى أهلى وولوا؛ اللهم لك الحمد حمدًا يفضل كل حمد، كفضلك على جميع الخلق؛ اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد صلاة تكون له رضا، وصلّ عليه صلاة تكون له ذخرًا، واجزه عنا الجزاء الأوفى. اللهم أحينا سعداء، وتوفنا شهداء، واجعلنا سعداء مرزوقين، ولا تجعلنا أشقياء مرجومين".
هذا هو هارون الرشيد، الصورة المضيئة لخليفة المسلمين. والمسلم المحتذى به فى الأمور، ويكفيه شرفًا أنه ما مات حيث مات إلا وهو خارج إلى الرى فى موكب الجهاد لنشر الدين وحماية أرض الإسلام، فرحمة الله عليه.
ويأتى بعد عصر الرشيد عصرَا ولديْه الأمين والمأمون.


موسوعة الاسره المسلمه

د.فالح العمره 29-09-2006 01:37 PM

خلافة الأمين
(193-198هـ - 809-814م)
الأمين بن هارون الرشيد ولد سنة 170هـ/ 787م ببغداد، أمه "زبيدة" بنت جعفر بن المنصور، فليس فى خلفاء بنى العباس مَنْ أمه وأبوه هاشميان غير الأمين.
بينما أخوه "المأمون" والذى كان يكبره بستة شهور فكانت أمه فارسية ماتت بعد ولادته.
غزو الروم:
وكان الرشيد قد عهد بولاية العهد للأمين وللمأمون من بعده. وليس فى خلافة الأمين والتى دامت قريبًا من خمس سنوات 193-198هـ/809 - 814م شىء يذكر، غير أنه أعطى المجاهدين مالا عظيمًا ووجه جيشًا تابعا له لغزو الروم، وأعطى مدن الثغور المواجهة للروم شيئًا من عنايته، فأمر فى سنة 193هـ/ 809م ببناء مدينة "أذنة" وأحكم بناءها وتحصينها، وندب إليها الرجال لسكناها، أما فيما عدا ذلك، فقد مرت خلافته فى صراع بينه وبين أخيه المأمون من أجل الخلافة، انتهى بقتل الأمين وانفراد المأمون بالحكم، وكان الأمين قد تلقى علوم الفقه واللغة من الكسائى، وقرأ عليه القرآن.
مقتل الأمين:
ونشبت حروب بين الأمين والمأمون بسبب رغبة الأمين فى خلع أخيه من ولاية عهده وتولية ولده مكانه، ورفض المأمون ذلك، فشجعه قادته حتى استعرت الحرب بين الأخوين، وانتهت بانتصار المأمون وقتل الأمين سنة198هـ.







خلافة المأمون
(198-218هـ - 814-833م)
أصبح الأمر فى المشرق والمغرب تحت سلطان المأمون وهو سابع خلفاء بنى العباس، لقد كان المأمون فى ذلك الوقت واليًا من قبل والده على "خراسان" وكان يقيم فى عاصمتها "مرو"، وكان من الطبيعى أن يفضِّلها بعد أن انفرد بالخلافة.
إنها تضم أنصاره ومؤيديه، فهو هناك فى أمان واطمئنان، وكان الفرس يودون أن يبقى "بمرو" لتكون عاصمة الخلافة، ولكنها بعيدة عن مركز الدولة، وهى أكثر اتجاهًا نحو الشرق، مما جعل سيطرتها على العرب ضعيفة، بل إن أهل بغداد أنفسهم دخلوا فى عدة ثورات ضد المأمون؛ حتى إنهم خلعوه أخيرًا، وبايعوا بدلا منه عمه إبراهيم بن المهدى.
واضطر المأمون أخيرًا أن يذهب إلى بغداد وأن يترك "مرو" للقضاء على هذه التحركات فى مهدها.
الإحسان إلى الشيعة:
كان معظم أعوان المأمون من الفرس، ومعظمهم من الشيعة، ولهذا اضطر المأمون لممالأه الشيعة وكسبهم إلى جانبه، فأرسل إلى زعماء العلويين أن يوافوه فى عاصمته (وكانت مرو فى ذلك الوقت)، فلما جاءوه أحسن استقبالهم، وأكرم وفادتهم، وما لبث بعد قليل أن عهد بولاية العهد إلى "على الرضا" وهى طبعًا خطوة جريئة؛ لأن فيها نقلا للخلافة من البيت العباسى إلى البيت العلوى.
ولم يكتفِ بهذا، بل غير الشعار من السواد وهو شعار العباسيين إلى الخضرة وهى شعار العلويين.
ورغم اعتراض أقاربه من العباسيين، فإن المأمون كان مصرًّّا على هذا الأمر، إذ كان يعتقد أن ذلك من بر على بن أبى طالب -رضى الله عنه-.
وجاءت عمة أبيه زينب بنت سليمان بن على، وكانت موضع تعظيم العباسيين وإجلالهم، وهى من جيل المنصور، وسألته: ما الذى دعاك إلى نقل الخلافة من بيتك إلى بيت على؟ فقال: يا عمة، إنى رأيت عليّا حين ولى الخلافة أحسن إلى بنى العباس، وما رأيت أحدًا من أهل بيتى حين أفضى الأمر إليهم (وصل إليهم) كافأه على فعله، فأحببت أن أكافئه على إحسانه.
فقالت: يا أمير المؤمنين إنك على بِرِّ بنى علىّ والأمر فيك، أقدر منك على برهم، والأمر فيهم.
ولكن لم يلبث "على الرضا" أن مات وكان ذلك فى سنة 203هـ/ 819م، وعلى كل حال لقد استطاع المأمون ببيعة "على الرضا" أن يقوى من سلطانه؛ لأنه بهذه البيعة أمن جانب العلويين. ولكن قامت ضد الخليفة المأمون ثورات عديدة اختلفت فى مدى عنفها وشدتها، واستطاع القضاء عليها جميعًا.
ثورة مصر:
وكان أخطر هذه الثورات جميعًا ثورة مصر؛ ذلك أن جند مصر كانوا قد اشتركوا فى خلافات الأمين والمأمون كل فريق فى جانب، وبعد أن انتهى الخلاف بفوز المأمون، ظل الخلاف قائمًا بين جند مصر، وأصبح موضع الخلاف التنافس على خيرات مصر، فكان الجند يجمعون الخراج لا ليرسل للخليفة، بل ليحتفظوا به لأنفسهم.
وقد قامت جيوش المأمون كثيرًا بمحاربتهم مع أهل مصر الذىن شاركوا فى هذه الثورات، ولكن هذه الثورات ما لبثت أن أشعلت من جديد حتى أرسل إليهم جيشًا ضخمًا، فاستطاع القضاء على الثورة نهائيًا، كما تمكن قائده "طاهر بن الحسين" من القضاء على ثورات العرب أنصار الأمين، وهكذا سيطر على الدولة سكون وهدوء.
انتشار الإسلام:
وكان المأمون يكتب إلى عمّاله على خراسان فى غزو من لم يكن على الطاعة والإسلام من أهل ما وراء النهر، ولم يغفل المأمون عن قتال الروم، بل غزاهم أكثر من مرة، وخرج بنفسه على رأس الجيوش الإسلامية لغزو الروم سنة 215هـ/830م، فافتتح حصن "قرة" وفتح حصونًا أخرى من بلادهم، ثم رحل عنها، وعاود غزو الروم فى السنة الثالثة سنة 216هـ، ففتح "هرقلة" ثم وجّه قواده فافتتحوا مدنًا كبيرة وحصونًا، وأدخلوا الرعب فى قلوب الرومان، ثم عاد إلى دمشق، ولما غدر الروم ببعض البلاد الإسلامية غزاهم المأمون للمرة الثالثة وللعام الثالث على التوالى سنة 217هـ، فاضطر الروم تحت وطأة الهزيمة إلى طلب الصلح.
يرحم الله المأمون، لقد كان عصره من أزهى عصور الثقافة العربية.
أخلاق المأمون:
كان يقول: أنا والله أستلذ العفو حتى أخاف ألا أؤجر عليه، ولو عرف الناس مقدار محبتى للعفو؛ لتقربوا إلى بالذنوب!
وقال: إذا أصلح الملك مجلسه، واختار من يجالسه؛ صلح ملكه كله.
ورفع إليه أهل الكوفة مظلمة يشكون فيها عاملا؛ فوقَّع: عينى تراكم، وقلبى يرعاكم، وأنا مولّ عليكم ثقتى ورضاكم. وشغب الجند فرفع ذلك إليه، فوقَّع: لا يعطون على الشغب، ولا يحوجون إلى الطلب.
ووقف أحمد بن عروة بين يديه، وقد صرفه على الأهواز، فقال له المأمون: أخربتَ البلاد، وأهلكت العباد
فقال: يا أمير المؤمنين، ما تحب أن يفعل الله بك إذا وقفتَ بين يديه، وقد قرعك بذنوبك؟
فقال: العفو والصفح.
قال: فافعل بغيرك ما تختار أن يفعل بك.
قال: قد فعلت.. ارجع إلى عملك فوالٍ مستعطِف خير من وال مستأنف.
وكتب إلى على بن هشام أحد عماله، وقد شكاه غريم له: ليس من المروءة أن تكون آنيتك من ذهب وفضة ويكون غريمك عاريًا، وجارك طاويًا.
وهكذا كان المأمون.. حتى لقد وصفه الواصفون بأنه من أفضل رجال بنى العباس حزمًا وعزمًا وحلمًا وعلمًا ورأيًا ودهاءً، وقد سمع الحديث عن عدد كبير من المحدّثين، وبرع فى الفقه واللغة العربية والتاريخ، وكان حافظًا للقرآن الكريم.
النهضة العلمية:
جاء فى كتاب قصة الحضارة: أنه أرسل إلى القسطنطينية وغيرها من المدن الرومانية يطلب أن يمدوه بالكتب اليونانية، خاصة كتب الطب والعلوم الرياضية، وعندما وصلت هذه الكتب إلى أيدى المسلمين قاموا بترجمتها وفحصها ودراستها، وأنشأ المأمون فى بغداد "بيت الحكمة" سنة 214هـ/829م، وهو مجمع علمى، ومكتبة عامة، ومرصد فلكى، وأقام فيه طائفة من المترجمين، وأجرى عليهم الأرزاق من بيت المال، فاستفاد المسلمون من هذه الكتب العلمية، ثم ألفوا وابتكروا فى كافة العلوم، التى أسهمت فى نهضة أوروبا يوم أن احتكت بالعرب فى الحروب الصليبية وغيرها.
وكان للمدارس التى فتحها المأمون فى جميع النواحى والأقاليم أثرها فى نهضة علمية مباركة.
إلا أن الاطلاع على بعض فلسفات الأمم الأخرى قد جعل العقل يجتهد فى أمور خارج حدوده وتفكيره، ومن هنا نشأ الفكر الاعتزالى الذى يُعْلى من قيمة العقل، ويجعله حكمًا على النص دون حدود أو قيود.
الإسلام قد رفع من العقل، لكنه حدد له حدودًا يعمل فيها.
لقد سمح المأمون لأولئك الذين اعتمدوا على العقل والمنطق فى كل شىء بالتعبير عن آرائهم، ومعتقداتهم، ونشر مبادئهم من غير أن يتقيدوا بقيد أو يقفوا عند حد، فكان هذا من سوءاته التى أحدثت بين علماء المسلمين فتنة دامت تسع عشرة سنة، إلى أن شاء الله تعالى لتلك الفتنة أن تخمد، ولقد وصف الإمام السيوطى المأمون بقوله: "إنه كان من أفضل رجال بنى العباس لولا ما أتاه من محنة الناس". وانتقل المأمون إلى مولاه -سبحانه وتعالى- بعد حياة حافلة بالإنجازات فى مختلف نواحى الدولة.

د.فالح العمره 29-09-2006 01:38 PM

خلافة المعتصم
(218-227هـ - 833-842م)
تولى "المعتصم بالله محمد بن هارون الرشيد" الخلافة بعد أخيه المأمون، لقد بويع له بالخلافة يوم مات أخوه المأمون بـ"طرسوس".
بناء سامرَّا:
فى سنة 221هـ بنى المعتصم مدينة "سُرَّ مَنْ رَأَى" أو "سَامِرَّاء"؛ وذلك أن بغداد ضاقت بكثرة الغلمان الترك الذين جلبهم المعتصم، فاجتمع إليه رجال من بغداد، وقالوا: إن لم تخرج عنا بهذا الجند حاربناك. قال: وكيف تحاربوننى؟ قالوا: بسهام الأسحار. قال: لا طاقة لى بذلك، فكان ذلك سبب بنائه "سر من رأى" وإقامته بها.
فتح عمورية:
ولا ينسى التاريخ للمعتصم "فتح عمورية" سنة 223هـ/ 838م، يوم نادت باسمه امرأة عربية على حدود بلاد الروم اعتُدِىَ عليها، فصرخت قائلة: وامعتصماه! فلما بلغه النداء كتب إلى ملك الروم: من أمير المؤمنين المعتصم بالله، إلى كلب الروم، أطلق سراح المرأة، وإن لم تفعل، بعثت لك جيشًا، أوله عندك وآخره عندى. ثم أسرع إليها بجيش جرار قائلا: لبيك يا أختاه!
وفى هذه السنة (223هـ) غزا الروم وفتح "عمورية"، وسجل أبو تمام هذا الفتح العظيم فى قصيدة رائعة.
هذا هو المعتصم رجل النجدة والشهامة العربية، كتب إليه ملك الروم كتابًا يتهدده فيه، فأمر أن يكتب جوابه، فلما قرئ عليه لم يرضه، وقال للكاتب: اكتب.
بسم الله الرحمن الرحيم.. أما بعد، فقد قرأت كتابك، والجواب ما ترى لا ما تسمع: (وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار) [الرعد: 42].
قال إسحق الموصلى: سمعتُه يقول: من طلب الحق بما هُو له وعليه؛ أدركه.
مواجهة الثورات:
لقد تحركت فى عهده ثورات: ثورة الزط، وهم قوم من السند (باكستان وبنجلاديش الآن)، وانضم إليهم نفر من العبيد فشجعوهم على قطع الطريق، وعصيان الخليفة، وكان ذلك سنة 220هـ/835م؛ حيث عاثوا بالبصرة فسادًا، وقطعوا الطريق ونهبوا الغلات، فندب "المعتصم" أحد قواده بقتالهم وانتصر عليهم.
وكانت هناك طائفة أخرى تسمى "الخُرَّمية" تنسب إلى أحد الزنادقة، ويسمى بابك الْخُرَّمى، وانضم خلق كثير من أهل فارس حول هذا الشيطان اللعين، وكان أول ظهور لهم سنة 021هـ، واستفحل أمرهم، فلما صار الأمر إلى المعتصم سنة 220هـ/ 835م، أخذ فى إصلاح ما أفسده الخرمية بقيادة الأفشين حيدر بن كاوس، فتمكن من الانتصار عليهم، وجىء بزعيمهم بابك إلى المعتصم فأمر بقطع يدى بابك ورجليه، ثم جز رأسه وشق بطنه لعنه الله. لقد قتل من المسلمين فى مدة ظهوره مائتى ألف وخمسة وخمسين ألف وخمسمائة إنسان، وأسر خلقًا لا يحصون، وأباح الحرمات، ونكاح المحرمات.
وثار أحد العلويين بـ"الطالقان" من "خراسان" وهو محمد بن القاسم بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب، فقاتله عبد الله ابن طاهر مرة بعد أخرى حتى قبض عليه وسيق إلى السجن.
وهكذا كانت تقوم ثورات ويقضى عليها، ولكن ذلك لم يمنع المعتصم من الاهتمام بالعمران والبناء فبنى مدينة سامرّا أو (سر من رأى) بشرقى نهر دجلة، ومد إليها نهرًا سماه نهر الإسحاقى.
وعندما احترقت "سوق الكرخ" عوض التجار عن خسائرهم، واهتم بالبريد فى أيامه حتى أصبحت الرسائل تصل بسرعة أكثر مما كانت عليه من قبل.
الاستعانة بالترك:
وإذا كان سابقوه من الخلفاء قد استعانوا بالفرس، فإن المعتصم كان محبّا للعنصر التركى، حتى اجتمع له منهم أربعة آلاف جندى، وأقطعهم الإقطاعات الكبيرة فى مدينة سامرّا حتى لايضايق أهل بغداد، وكما كان للفرس دورهم فى حياة الدولة العباسية منذ نشأتها فإن العنصر التركى أصبح له دوره.
رحمه الله، لقد كانت خلافته ثمانى سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام، وهو ثامن الخلفاء من بنى العباس، ومات عن ثمانية بنين وثمانى بنات، وتولى الخلافة سنة ثمان عشرة ومئتين، وفتح ثمانية فتوح فكان يلقب بالمثمن، وكان طيب النفس، ومن أعظم الخلفاء وأهيبهم.

د.فالح العمره 29-09-2006 01:39 PM

خلافة الواثق بالله
(227-232هـ/ 842-847م)
ولقى المعتصم ربه، وجاء من بعده ابنه الواثق بالله هارون بن المعتصم سنة 227هـ/ 842م.
أدب الواثق:
وكانوا يسمونه المأمون الصغير لأدبه وفضله، وكان المأمون يجلسه وأبوه المعتصم واقف، وكان يقول: يا أبا إسحاق لا تؤدب هارون، فإنى أرضى أدبه، ولا تعترض عليه فى شىء يفعله.
قال حمدون نديم المتوكل: ما كان فى الخلفاء أحلم من الواثق ولا أصبر على أذى وخلاف.
دخل مؤدب الواثق هارون بن زياد عليه، فأكرمه الواثق، وأظهر من بره ما شهّره به، فقيل له: يا أمير المؤمنين؛ مَنْ هذا الذى فعلتَ به ما فعلت ؟ قال: هذا أول من فَتَق لسانى بذكر الله، وأدنانى من رحمته. وقال يحيى بن أكثم: لم يحسن أحد من خلفاء بنى العباس إلى آل أبى طالب إحسان الواثق، ما مات وفيهم فقير.
قال الواثق لابن أبى دُؤاد وزيره، وقد رجع من صلاة العيد: هل حفظت من خطبتى شيئًا؟ قال: نعم قولك يا أمير المؤمنين: "ومن اتبع هواه شرد عن الحق منهاجه، والناصح من نصح نفسه، وذكر ما سلف من تفريطه، فطهر من نيته، وثاب من غفلته، فورد أجله، وقد فرغ من زاده لمعاده، فكان من الفائزين".
هذا هو الواثق بالله، كانت خلافته خمس سنوات، قضى فيها على الثورات التى قامت فى عهده، ولقَّن الخارجين على الدين والآداب العامة درسًا لا ينسى، وعزل من انحرف من الولاة، وصادر أموالهم التى استولوا عليها ظلمًا وعدوانًا، وأغدق على الناس بمكة والمدينة حتى لم يبقَ سائل واحد فيهما.
وفى عهده فتحت جزيرة "صقلية"، فتحها الفضل بن جعفر الهمدانى سنة 228هـ/ 843م.
وقد رأينا أن العصر العباسى الأول قد اشتمل على عهود تسعة خلفاء يبدأ حكمهم بأبى العباس السفاح سنة 132هـ/ 750م، وينتهى بتاسع الخلفاء العباسيين وهو الواثق الذى توفى سنة 232هـ/ 847م.
ولم يكد عهد المعتصم ينتهى حتى ساد الضعف والانحلال وأخذا يزيدان يومًا بعد يوم حتى انتهت الدولة العباسية على يد هولاكو التترى سنة 657هـ/ 1258م، وكأن هذه الدولة التى عاشت خمسة قرون لم تكن زاهرة إلا فى قرنها الأول ثم عاشت قرونها الأربعة الباقية فى ضعف متزايد.

د.فالح العمره 29-09-2006 01:40 PM

العصر العباسى الثانى
(عصر نفوذ الأتراك)
(232-334هـ/847 -946م)
يبدأ العصر العباسى الثانى بخلافة المتوكل سنة 232هـ/ 847م، وينتهى فى 334هـ/ 946م، فى خلافة المستكفى بالله عبدالله بن المكتفى بن المعتضد.
ويعرف العصر العباسى الثانى بعصر "نفوذ الأتراك" حيث برز العنصر التركى، واستأثر بالمناصب الكبرى فى الدولة، وسيطر على الإدارة والجيش.
وقد تمت الاستعانة بهذا العنصر التركى المجلوب من إقليم "تركستان" و"بلاد ما وراء النهر"، استعان بهم المأمون والمعتصم فى العصر "العباسى الأول".
وظهرت بوادر هذا الضعف فى مستهل هذا العصر الذى تختلف ملامحه عن العصر العباسى الأول.




خلافة المتوكل
(232 - 247هـ/ 947 - 861م)
هو عاشر الخلفاء العباسيين، المتوكل على الله جعفر بن المعتصم بن الرشيد.
لقد بويع له بعد الواثق، وبدأ عهده بداية موفقة، فقد أمر بإظهار السنة، والقضاء على مظاهر الفتنة التى نشأت عن القول بخلق القرآن.
وكتب إلى كل أقاليم الدولة بهذا المعنى، ولم يكتف بهذا، بل استقدم المحدِّثين والعلماء إلى مدينة "سامرَّا" وطلب منهم أن يحدثوا بحديث أهل السنة لمحو كل أثر للقول بخَلْق القرآن، وراح العلماء يتصدون لإحقاق الحق، وإبطال الباطل، وأظهر المتوكل إكرام الإمام "أحمد بن حنبل" الذى قاوم البدع، وتمسك بالسنن، وضرب وأوذى وسجن.
لقد استدعاه المتوكل إليه من "بغداد" إلى "سامرا" وأمر له بجائزة سنية، لكنه اعتذر عن عدم قبولها، فخلع عليه خِلْعَةً عظيمة من ملابسه، فاستحيا منه الإمام أحمد كثيرًا فلبسها إرضاء له، ثم نزعها بعد ذلك.
ويذكر للمتوكل تعيينه ليحيى بن أكثم لمنصب قاضى القضاة، وكان يحيى بن أكثم من كبار العلماء، وأئمة السنة، ومن المعظمين للفقه والحديث.
هذا ولم يَخْلُ عهده من فتن وثورات قضى عليها وأعاد الأمن والطمأنينة للبلاد.
غارات الروم:
وفى سنة 238هـ قام الروم بغزو بحرى مفاجئ من جهة دمياط، وهم الذين أدبهم المعتصم وأخرسهم فى واقعة عمورية، لكنهم بعثوا بثلاثمائة مركب وخمسة آلاف جندى إلى دمياط، وقتلوا من أهلها خلقًا كثيرًا، وحرقوا المسجد الجامع والمنبر، وأسروا نحو ستمائة امرأة مسلمة، وأخذوا كثيرًا من المال والسلاح والعتاد، وفر الناس أمامهم، وتمكن الجنود الرومان من العودة إلى بلادهم منتصرين.
ولم تمضِ ثلاث سنوات على هذا الغزو حتى عاود الروم عدوانهم على البلاد؛ فأغاروا على ثغر من الثغور يسمى "عين زربة" (بلد بالثغور قرب المصيصة بتركيا حصَّنها الرشيد)، وأسروا بعض النساء والأطفال، واستولوا على بعض المتاع.
واستمرت المناوشات ومعارك الحدود بين الروم والمسلمين منذ سنة 238هـ -853م وحتى سنة 246هـ-860م بقيادة على بن يحيى الأرمنى.
وكان الروم قد أجهزوا على كثير من أسرى المسلمين الذين رفضوا التحول إلى النصرانية؛ لأن أم ملك الروم كانت تعرض النصرانية على الأسارى فإن رفضوا تقتلهم، وتم تبادل الأسرى بمن بقى حيّا من المسلمين فى السنتين الأخيرتين.
غارات الأحباش:
وعلى حدود مصر وبالقرب من بلاد النوبة، كان المصريون يعكفون على استخراج الذهب والجواهر الكريمة، وإذا بطائفة من الأحباش على مقربة من "عيذاب" على البحر الأحمر يعرفون باسم "البجة" يهجمون على تلك المناجم، ويقتلون عددًا كبيرًا من عمالها المسلمين، ويأسرون بعض نسائهم وأطفالهم مما جعل العمل فى هذه المناجم يتوقف أمام هذه الهجمات.
ويحاط المتوكل علمًا بما حدث، ويستشير معاونيه، ولكن معاونيه أخبروه بما يعترض إرسال الجيش من عقبات تتمثل فى أن أهل "البجة" يسكنون الصحارى، ومن الصعب وصول جيش المتوكل إليهم، فلم يرسل إليهم فى بادئ الأمر، وتمادى البجة فى عدوانهم وتجرءوا، فأخذوا يُغيرون على أطراف الصعيد، حتى خاف أهله على أنفسهم وذرياتهم، واستغاث أهل الصعيد بالمتوكل، فجهز جيشًا بقيادة محمد بن عبد الله القمى من عشرين ألف رجل، على أن يعينه القائمون بالأمر فى مصر بما يحتاج إليه الجيش من طعام وشراب ومؤن.
والتقى الجيش مع هؤلاء المتمردين المعتدين، حتى فرقهم وقضى على جموعهم سنة 241هـ/ 856م، قاتلهم الله! لقد كانوا من عُبَّادِ الأصنام.
إصلاح الداخل:
وحاول المتوكل إصلاح ما فسد، فراح يعزل الكثير من عمال الولايات، ويصادر أملاكهم بعد أن عَمَّت الشكوى، وتفشى الفساد، مثلما عزل يحيى بن أكثم عن القضاء، وولى جعفر بن عبدالواحد مكانه، وكذلك عزل عامله على المعونة أبا المغيث الرافعى وعين مكانه محمد بن عبدويه.
ريح شديدة:
ولكنه لم يكد يُحكم سيطرته على العمال والولاة حتى هبت ريح سَمُوم، أكلت الأخضر واليابس، وأهلكت الزرع والضرع فى الكوفة والبصرة وبغداد، واستمرت خمسين يومًا أوقفت فيها حركة الحياة، وقتلت خلقًا كثيرًا.
زالزال مدمر:
ويشاء الله أن يأتى زلزال فيؤدى إلى قتل عدد كبير من الناس، لقد بدأت الزلازل فى السنة التى تولى فيها المتوكل أمر المسلمين حيث تعرضت دمشق لزلزلة هائلة تهدمت بسببها الدور والمنازل، وهلك تحتها خلق كثير.
وامتدت الزلزلة إلى أنطاكية فهدمتها، وإلى الجزيرة العراقية فقضت عليها، وإلى الموصل فأدت إلى وفاة خمسين ألفًا. وفى سنة 242هـ/ 857م، زُلْزِلَت الأرض زَلْزلَةً عظيمة "بتونس" وضواحيها، و"الرَّى" و"خراسان"، و"نيسابور"، و"طبرستان"، و"أصبهان"، وتقطعت الجبال، وتشققت الأرض، ومات من الناس خلق كثيرون.
أما فى سنة 245هـ، فقد كثرت الزلازل، وشملت أماكن عديدة حتى قيل: إنها عمت الدنيا. وكان لابد أن تصاب الحياة بالشلل، ويعم الخراب والدمار والبؤس.
ورع المتوكل:
هذا هو المتوكل، وهذا هو عصره، يقول أحد المقربين إليه: قال المتوكل: إذا خرج توقيعى إليك بما فيه مصلحة للناس، ورفق بالرعية، فأنفذْه ولا تراجعنى فيه، وإذا خرج بما فيه حَيْف (ظلم) على الرعية فراجعنى؛ فإن قلبى بيد الله-عز وجل-.
يقول المؤرخون: إن الخلافة طبعت فى هذا العصر بطابع الوهن والضعف لازدياد نفوذ الأتراك فى الدولة العباسية حتى أصبح خلفاء هذا العصر العباسى الثانى مسلوبى السلطة، ضعيفى الإرادة، بسبب تدخل الأتراك فى شئون الدولة، وتنصيب من يشاءون، وعزل من يشاءون، أو قتله، كما طبع هذا العصر بطابع تدخل النساء فى شئون الدولة، وكثرة تولية الوزراء وعزلهم، وتولية العهد أكثر من واحد مما أدى إلى قيام المنافسة بين أمراء البيت الواحد.


موسوعة الاسره المسلمه

د.فالح العمره 29-09-2006 01:43 PM

خلافة المنتصر
(247-248هـ /861-862م)
فى سنة ( 247هـ /861م) ولَّى المتوكل أولاده الثلاثة: المنتصر، والمعتز، والمؤيّد العهد، وقدم ابنه المعتز على المنتصر، فأدى ذلك إلى اغتيال الخليفة المتوكل بيد ابنه المنتصر، وتحريض الأتراك.
ولا عجب، فقد حاول بعض هؤلاء الأتراك اغتيال هذا الخليفة بدمشق من قبل، ولكنهم لم يفلحوا، فانتهزوا فرصة غضب المنتصر على أبيه وانضموا إليه، وقتلوه، ويجلس الابن القاتل على العرش مكان أبيه، وينضم إليه الأتراك ثانية للتخلص من أخويه لكيلا ينتقما منه لأبيهما وخاصة المعتز.




خلافة المستعين
(248-251هـ /862-865م)
وعلى الرغم من قصر عهد المنتصر (247- 248هـ)، فكانت خلافته ستة أشهر وأيامًا، فإن الأتراك عملوا على تحويل الخلافة من أبناء المتوكل إلى أبناء المعتصم، فولوا أحمد بن المعتصم ولقبوه بـالمستعين.
وفى عهده تفاقم نفوذ الأتراك وعلى رأسهم: "بُغَا الكبير"، و"بغا الصغير"، و"أتامش"، و"باغر"، ولم يلبث بعض هؤلاء الأتراك الذين أجلسوا هذا الخليفة على العرش أن انقلبوا عليه بعدما أشيع عن عزمه الفتك بهم، ومن ثم قامت فتن وحروب، وانتهى الأمر بعزل المستعين وتولية المعتز بن المتوكل.
ولم يكتف الأتراك بعزل المستعين ونفيه إلى "واسط"، بل قتلوه. لقد كان المستعين -رحمه الله- مستضعفًا فى رأىه وتدبيره، ولم يكن له حيلة مع الأمراء الأتراك.





خلافة المعتز
(251-255هـ /865-869م)
ذهب المستعين وجاء المعتز بن المتوكل ، وكان الخليفة الجديد ألعوبة فى أيدى الأتراك، مسلوب السلطة، مكسور الجناح!
ولا عجب فإن وجوده فى الحكم مرتبط برضا أولئك الأتراك عنه، وياويله إن غضبوا عليه!
لقد تغلغل نفوذهم فى الدولة، وتسلطوا على حياة الخلفاء. وكان الخليفة المعتز يخاف منهم، ولا يهنأ بالنوم، ولا يخلع سلاحه فى ليل ولا نهار، خوفًا من أولئك الأتراك وعلى رأسهم "بغا الصغير".
الاستعانة بالمغاربة والفراغنة:
لم يكن أمامه إلا أن يستعين بالمغاربة والفراغنة للتخلص من الأتراك الذين عملوا بدورهم على التخلص منه، وطالبوه برواتبهم، وثاروا فى وجهه، وقبضوا عليه، وقتلوه بعد أن مثلوا به.





خلافة المهتدى
(255- 256هـ/869 - 870م)
سيطرة الأتراك:
لقد ودعنا المعتز لنستقبل المهتدى. ولم يكن فريدًا بين خلفاء عصره، ولا متميزًا، بل كان كغيره من الخلفاء العباسيين الأواخر، ألعوبة فى أيدى أولئك الأتراك وخاصة "موسى بن بغا"، وليس أدل على ذلك من أن كتاب صاحب البريد "بهمذان" لما ورد على المهتدى بفصل موسى بن بغا عنها (وهى ثغر من ثغور بلاد الإسلام) رفع المهتدى يديه إلى السماء، ثم قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: "اللهم إنى أبرأ إليك من فعل موسى بن بغا وإخلاله بالثغر وإباحته العدو، فإنى قد أعذرت إليه فيما بينى وبينه، اللهم تولَّ كيد من كايد المسلمين، اللهم انصر جيوش المسلمين حيث كانوا، اللهم إنى شاخص بنيتى واختيارى إليك حيث نكب المسلمون فيه، ناصرًا لهم ودافعًا عنهم، اللهم فأْجرنى بنيتى إذ عدمت صالح الأعوان. ثم انحدرت دموعه واستغرق فى البكاء.
ورع المهدى:
وإن كان يمتاز بشىء فإنه كان أحسنهم سيرة وأظهرهم ورعًا، وأكثرهم عبادة حتى إنه تشبه بعمر بن عبدالعزيز، وجلس للمظالم، وحاول أن يستعين ببعضهم على بعض، لكن كان من الصعب عليه أن يحقق ما يريد وزمام الجيش فى يد الأتراك، ولانتقاض "بايكباك" عليه وكان بالأمس نصيره، وانضمامه إلى "موسى بن بغا".
مصرع الخليفة:
وقد استعان المهتدى عَلَى موسى بن بغا وبايكباك بالفراغنة والمغاربة، ودارت بين المهتدى وأعوانه وبين بايكباك واقعة انتهت بهزيمة المهتدى وأعوانه من الفراغنة والمغاربة وفرارهم، وفر المهتدى هاربًا إلى دار أبى صالح بن يزداد فدخلها ونزع ثيابه وسلاحه، فذهب إليه نحو من ثلاثين رجلا فأخذوه من البيت وهو جريح وعذبوه حتى مات بعدها بيومين سنة 256هـ/ 870م.


موسوعة الاسره المسلمه

د.فالح العمره 29-09-2006 01:44 PM

خلافة المعتمد على الله
(256-279هـ/870-892م)
أما الخليفة الجديد وهو المعتمد على الله أحمد بن المتوكل بن المعتصم، فقد اعتلى العرش على أيدى الأتراك الذين أخرجوه من "الجوسق" الذى حبسه فيه المهتدى، وكان كما يقول السيوطى: "أول خليفة قهر وحجر عليه ووُكِّل به".
نفوذ أخيه الموفق:
ولا عجب فقد شل أخوه "أبو أحمد الموفق طلحة" يده عن مباشرة أمور الدولة حتى أصبح مسلوب الإرادة، وكانت دولته عجيبة الوضع، فقد كان هو وأخوه الموفق كالشريكين فى الخلافة، للمعتمد الخطبة والسكة والتسمى بإمرة المؤمنين ولأخيه طلحة الأمر والنهى، وقيادة العساكر، ومحاربة الأعداء، ومرابطة الثغور، وترتيب الوزراء والأمراء، وكان المعتمد مشغولا عنه بلذاته، وكان أخوه الموفق أمير جيوشه وصاحب الفضل فى القضاء على ثورة الزنوج، وأمام هذا الوضع الغريب لم يكن أمام المعتمد إلا أن يترضى الأتراك، ويصانعهم، وخاصة قائدهم موسى بن بغا، وقسم دولته بين ابنه جعفر وسماه المفوض وخصه بالبلاد الغربية، وضم إليه موسى بن بغا فحكمها باسمه، وولى أخاه أبا أحمد طلحة بعد ابنه المفوض، وسماه الموفق، وخصه بالبلاد الشرقية، وبذلك ضعفت الخلافة فى عهد المعتمد الذى أصبح مسلوب السلطة أمام أخيه الموفق والأتراك. ولقد شهد عصره ثورة الزنج التى استمرت أربع عشرة سنة وأربعة أشهر، وراح ضحيتها الكثير، وأمكن فى عهده القضاء عليها سنة 270هـ/ 884م.
ثورة القرامطة:
كما شهدت آخر سنتين فى خلافته ثورة "القرامطة" بالكوفة وقد تحركوا سنة 278هـ/ 891م، وهم ينسبون إلى قرمط بن الأشعث، وقد استجاب له جمع كثير، وتعد فرقة القرامطة من الزنادقة لانحراف تفكيرهم، وحرصهم على هدم الدين الإسلامى والقضاء عليه.
وليس من العجيب أن نرى القوى الهدامة تتعاون على هدم الإسلام، فقد سار قرمط إلى صاحب الزنج قبل هلاكه ليتفق معه على هدم الإسلام وتخريب دياره، وقد تحركت جموعهم إلى بلاد الحجاز ودخلوا المسجد الحرام، وسفكوا دم الحجيج، واقتلعوا الحجر الأسود، وذهبوا به إلى بلادهم سنة 317هـ/ 929م.
الانتصار على الروم:
أما بالنسبة للروم فقد أقدمت الروم فى سنة 259هـ/873م على مهاجمة "سميساط"، ثم "ملطية" من مدن الثغور، ولكن أهلهما قاتلوا عنهما قتالا شديدًا، وهزموا الروم، بل وقتلوا بطريقًا من بطارقة الروم كان مع الجيش الغازى يبارك خطواته!
وظلت الحرب سجالا بين الروم والمسلمين حتى كانت سنة 270هـ/ 884م ؛ حيث انتصر المسلمون انتصارًا ساحقًا فى سنة 270هـ/884م على الروم حين أقبلوا فى مائة ألف مقاتل، ونزلوا قريبًا من "طرسوس"، فخرج إليهم يازمان الخادم حتى قتلوا منهم سبعين ألفًا، وقتل قائدهم الذرياس وهو بطريق البطارقة، وجرح أكثر الباقين، وغنم المسلمون غنائم عظيمة، منها صلبانهم الذهبية المكللة بالجواهر.
وهكذا طالت أيام ملك أحمد المعتمد بن جعفر المتوكل. والحق يقال: إن أخاه "الموفق" عاونه معاونة كبيرة على قهر أعدائه.






خلافة المعتضد
(279-289هـ/892 - 902م)
تولى الخلافة بعد وفاة عمه المعتضد. يقول المؤرخون: لما ولى "المعتضد" حسنت آثاره، وعمر الدنيا، وضبط الأطراف، وأحسن السياسة. وقيل: إنه أفضت إليه الخلافة وليس فى الخزانة إلا سبعة عشر درهمًا، ومات وخلّف ما يزيد على عشرين ألف ألف دينار.
رحمه الله، ففى عهده انتعشت الخلافة العباسية، ودبت فيها الحياة من جديد حتى أصبحت الدولة قوية مهيبة تخشاها الدول.
ويقول الإمام السيوطي: "لقد كانت أيامه طيبة، كثيرة الأمن والرخاء، وكان قد أسقط المكوس- ما يشبه الضرائب فى العصر الحديث-، ونشر العدل، ورفع الظلم عن الرعية، كما كان يسمى السفاح الثانى لأنه جدد ملك بنى عباس، وكان من ذوى الرأى والصلاح.

د.فالح العمره 29-09-2006 01:46 PM

خلافة المكتفى بالله
(289-295هـ/ 902-908م)
لقد مات "المعتضد" و"المعتمد" من قبله، ميتة طبيعية بعكس الخلفاء الذين فتك بهم الأتراك، وقد آلت الخلافة من بعد المعتضد إلى ابنه أبى محمد على الذى تلقب بـ"المكتفى بالله" سنة 289هـ/ 902م، واستمرت خلافته حتى سنة 295هـ/ 908م.
ولقد بدأ عهده بداية طيبة؛ فأمر بهدم المطامير "السجون" التى كانت معدة للمسجونين، وأمر ببناء جامع مكانها، وأمر برد البساتين والحوانيت التى كانت قد أخذت من بعض الناس؛ فأحبه الناس لسيرته الحسنة، وأعماله المجيدة.
القضاء على القرامطة:
ولكن لم يخلُ عهده -كسابقيه- من ثورات، والحديث عن الثورات فى عهد الخلفاء متجدد، وعدوان الروم متواصل، ولا يكاد خليفة يتفرغ للإصلاح والتعمير حتى يفاجأ بمثل تلك الثورات، وذلك العدوان، إنها المؤامرات على الإسلام والمسلمين، التى تستهدف إعاقة المسيرة، وهدم الدولة، وإفساد العقيدة.
لقد حاصر "القرامطة" دمشق، وضيقوا عليها حتى أشرف أهلها على الهلاك، وكان ذلك فى سنة 290هـ/ 303م، وتواصل عدوانهم على البلاد المجاورة، وخرجت جيوش من مصر للدفاع عن دمشق، وتحركت نجدة من بغداد، وكان القرامطة قد عاثوا فى الأرض فسادًا وقتلوا الحجاج، واعتدوا على أعراض المسلمات، وقويت شوكتهم، ولم تستطع النجدات سحقهم وقطع دابرهم حتى سنة 291هـ/ 304م؛ حيث استطاع جيش الخليفة أن يرد كيدهم فى نحرهم، ويقضى على معظمهم بعد أن بلغه ما فعلوه بالحجاج.
تبادل الأسرى مع الروم:
وأغار الروم على البلاد، وكان الرد حاسمًا وعنيفًا، وختمت العلاقات بين المسلمين والروم فى خلافة المكتفى، بتبادل الأسرى وفدائهم، وقد استنقذ ثلاثة آلاف نسمة من أيدى الروم ما بين رجال ونساء وأطفال.
زلزال وريح وفيضان:
رحم الله المكتفى لم يسلم عهده من زلزلة عظيمة هزت بغداد كلها، ودامت أيامًا، وذهب ضحيتها خلق كثير، وهبت ريح بالبصرة لم يُرَ مثلها، وزادت مياه دجلة زيادة كبيرة ففاض الماء وأغرق الأرض، وخرب الديار والزروع، لقد دامت خلافة المكتفى ست سنوات وستة أشهر، ولقى ربه سنة 295هـ/ 908م، وروى أنه قال عند موته: والله ما آسى إلا على سبعمائة ألف دينار صرفتها من مال المسلمين فى أبنية ما احتجت إليها، وكنت عنها مستغنيًا، أخاف أن أسأل عنها، وإنى أستغفر الله منها.

د.فالح العمره 29-09-2006 01:47 PM

خلافة المقتدر
(295-320هـ/9 08-932م)
ولما حضرت المكتفى الوفاة، أحضر أخاه "المقتدر" وفوض إليه أمر الخلافة من بعده، وأشهد على ذلك القضاة.
ترى كم كان عمر هذا "المقتدر" حين عهد إليه بالخلافة، خلافة أكبر دولة على الأرض آنذاك ؟
كان عمره ثلاث عشرة سنة وشهرًا واحدًا وواحدًا وعشرين يومًا. ولم يلِ الخلافة قبله من هو أصغر منه.
ويرجع السبب فى اختياره إلى صغر سنه ليكون أسلس قيادًا، ولكن "المقتدر" لم يلبث أن خلع، وبويع "عبد الله بن المعتز" ولقب "الغالب بالله"، إلا أن أتباع الخليفة المخلوع أعادوه إلى العرش، ولم يمكث "عبد الله بن المعتز" الذى كان شاعرًا رقيقًا فى الخلافة إلا ليلة واحدة.
قيادة النساء:
نحن الآن إذن مع "المقتدر" وعهده، يقول المؤرخون: إن عهده كان عهد فتن وقلاقل، فقد ترك النساء يتدخلن فى أمور الدولة، ويصرِّفن شئونها، فقد ذكر ابن الأثير أن هذا الخليفة اشتهر بعزل وزرائه، والقبض عليهم، والرجوع إلى قول النساء والخدم، والتصرف على مقتضى آرائهن. ولاعجب، فقد أصبح الأمر والنهى بيد أمه التى يطلق عليها المؤرخون اسم "السيدة".
ويا ويل من غَضِبَ عليه من الوزراء، إن أقل مصير ينتظره هو العزل، ولا تسل عن الأحوال، فالخطاب يقرأ من عنوانه؛ لقد اضطربت أحوال الدولة العباسية فى عهد "المقتدر" فخرج عليه "مؤنس الخادم" أحد القواد فى سنة 317هـ/ 929م، وأرغم هذا الخليفة على الهرب، وبايع هو وغيره من الأمراء "محمد بن المعتضد" ولقبوه: "القاهر بالله" ، وطلب الجند أرزاقهم فى الوقت الذى قامت فيه الاحتفالات بتقليد الخليفة الجديد للخلافة، وحملوا المقتدر على أعناقهم، وردوه إلى دار الخلافة، وعزلوا القاهر، فأخذ يبكى ويقول: الله الله فى نفسى!
وهنا استدناه "المقتدر" وقبله، وقال له: يا أخى، أنت والله لاذنب لك، والله لا جرى عليك منى سوء أبدًا فطب نفسًا.
قوة القرامطة:
وكان لابد أن يتحرك القرامطة فى خلافة المقتدر فنزلوا البصرة سنة 299هـ/ 912م، والناس فى الصلاة، وخرج أهلها للقائهم وأغلقت أبواب البصرة فى وجوههم.
ولكنهم عادوا سنة 311هـ/ 924م، واقتحموا أسوارها، وسعوا فيها فسادًا مدة سبعة عشر يومًا يقتلون ويأسرون ويستولون على الأموال، ثم قفلوا راجعين إلى "هجر" بالبحرين.
وفى سنة 313هـ/ 926م، قام القرامطة باعتراض الحجيج بعد أن أدوا الفريضة فقطعوا عليهم الطريق، وأسروا نساءهم وأبناءهم.
وثار الناس فى بغداد، وكسروا منابر الجوامع يوم الجمعة، وناحت النساء فى الطرقات، وطالبن بالقصاص من القرامطة وأعوانهم.
وظل مسلسل عدوان القرامطة على المدن والحجاج يتكرر فى كل عام، وليس هناك من يؤدبهم أو يوقفهم عند حدهم، فلم تسلم منهم مدينة حتى مكة - البلد الحرام - اعتدوا عليها وعلى مقدساتها فى سنة 317هـ/ 929م، وجلس أميرهم على باب الكعبة وهو يقول -لعنه الله-: "أنا الله وبالله أنا الذى يخلق الخلق وأفنيهم أنا". وكان الناس يفرون منهم، ويتعلقون بأستار الكعبة، وقلعوا الحجر الأسود، وصاح أحدهم متحديًا: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟ ومكث الحجر الأسود عندهم اثنتين وعشرين سنة حتى ردوه فى سنة 339هـ/ 951م.
ولعله يجىء سؤال: لماذا نزل عذاب الله بأصحاب الفيل، ولم ينزل بالقرامطة؟
والإجابة كما قال ابن كثير: لقد أراد الله أن يشرف مكة عندما كانت تستقبل خاتم الأنبياء وأفضل الرسل العظام، ولم يكن أهلها يومئذ مسلمين مأمورين بحماية البيت، وصد المعتدين عنه، فتدخلت العناية الإلهية بالحفظ والرعاية، ألم يقل عبد المطلب: للبيت رب يحميه ؟!
ولهذا لما سئل أحد العلماء، وكان بالمسجد الحرام وقت أن دخله القرامطة: ألم تقولوا فى بيتكم هذا ومن دخله كان آمنا.. فأين الأمن ؟
فرد قائلا: إن الله يريد أن يؤمنه المسلمون.
إن المسلمين جميعًا مسئولون عما فعله المجرمون فى البيت الحرام، وعما اقترفوه من آثام.
وربنا سبحانه قد يؤخر عقوبته ليوم تشخص فيه الأبصار، فقال:( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ. مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ )[آل عمران: 196 -197].
الانتصار على الروم:
وماذا عمَّا تم على الجبهة بين المسلمين والروم فى خلافة المقتدر ؟
لقد أتاحت خلافة المقتدر الطويلة فرصًا عديدة لمحاربة الروم وفتح بعض المدن والحصون على الرغم من انشغال الدولة بمواجهة القرامطة وغيرهم من الفسقة الخارجين، ولقد بدأ اللقاء بين المقتدر والروم سنة 297هـ/910م، وظلت الحرب سجالا بين المسلمين الروم حتى انتهت اللقاءات القوية بينهم فى خلافة المقتدر، وكان النصر عظيمًا للمسلمين.
لقد كانت "الخلافة" -على ما كان يعتريها من ضعف أحيانًا أوتجاوزًا ومخالفة- خير معين على مواجهة الأخطار المحدقة بالمسلمين من كل جانب، ومجابهة الصعاب التى تعترض طريقهم، وتهدد حاضرهم ومستقبلهم.
إنها تجمع كل المسلمين نحو غاية واحدة، وهدف واحد، فتتضافر الجهود، وتتوحد القلوب، وتنطلق الجموع من جميع الأرجاء تغيث الملهوف، وتؤمن الخائف، وتهدئ من روعة المذعور، وتنصر أى مسلم فى أية بقعة من بقاع الأرض وفجاجها، وكان هذا ملموسًا فى كل المعارك بين المسلمين والروم؛ حيث كان المسلمون -على الرغم من ضعف الخلافة-، كالجسد الواحد على من عاداهم، والدول الإسلامية الآن يُعتدى عليها، وتُهان وقد غاب عنها منصب الخلافة، والذئب إنما يأخذ من الغنم الشاردة.
سيطرة البويهيين:
وفى هذه السنوات شهدت الدول الإسلامية زوال سيطرة الأتراك وبداية سيطرة البويهيين، وشهدت هذه الفترة أكثر من عدوان للروم على الدولة الإسلامية، ولا يوجد من يتصدى لهذه الحملات، ويواصل الجهاد ضدها فى تلك الفترة المظلمة من تاريخ الخلافة.
صراع القرامطة:
وظهر القرامطة أيضًا على مسرح الأحداث فى سنة 323هـ، وزاد خطرهم فى سنة 323هـ/ 939م، حين دخلوا بغداد مهددين الخليفة نفسه، ويشاء الله أن يجعل بأسهم بينهم شديدًا، فاقتتلوا وتفرقت كلمتهم، وكفى الله المؤمنين القتال، ويريح الله المسلمين من الملعون الكبير رئيس القرامطة سليمان الجنابى الذى قتل الحجيج حول الكعبة، واقتلع الحجر الأسود من موضعه؛ حيث هلك سنة 332هـ/ 944م.


موسوعة الاسره المسلمه

د.فالح العمره 29-09-2006 01:49 PM

عصر الأمراء
( 324 - 334هـ/ 936 - 946م )
لقد ازداد ضعف الخليفة العباسى منذ أوائل القرن الرابع الهجرى لازدياد شوكة القواد الأتراك، وتفاقم خطر الدول المستقلة، فقد ازدادت شوكة "على بن بويه" في فارس، وأصبحت الرى وأصبهان وبلاد الجبل في يد أخيه الحسن بن بويه، كما استقل بنو حمدان بالموصل، وديار بكر، وديار ربيعة ومضر، أما مصر فقد استقل بها محمد بن طغج الإخشيد، واستقل بخراسان نصر بن أحمد الساماني، ولم تكن الحال في المغرب أحسن منها في المشرق، فقد أعلن عبد الرحمن الثالث الأموى بالأندلس نفسه خليفة، وتلقب بلقب أمير المؤمنين الناصر لدين الله، وأصبح في العالم الإسلامى في ذلك الوقت ثلاث خلافات.





خلافة القاهر
(320 - 322هـ/ 932 - 934م)
ولم يكن حظ القاهر أقل سوءًا ممن سبقه من الخلفاء العباسيين، فقد انتشرت في عهده الفتن الداخلية، وتمرد عليه جنده، واتفق رجال دولته، وعلى رأسهم قائده مؤنس ووزيره "ابن مقلة" على خلعه، فسالت عيناه على خده، ثم حبس، وقد ساءت حالته حتى إنه خرج يومًا يطلب الصدقة بجامع المنصور، فأعطاه بعض الهاشميين خمسمائة درهم، وأمر به فحبس وظل في الحبس حتى مات في خلافة الطائع سنة 339هـ/ 951م.




خلافة الراضى
(322 - 329هـ/ 934 - 941م)
نفسه- إزاء ضعف الوزراء وازدياد نفوذ كبار القواد، وتدخلهم في أمور الدولة -مضطرّا إلى استمالة أحد هؤلاء الأمراء، وتسليم مقاليد الحكم إليه، ولم يعد للوزراء عمل يقومون به، وأصبح هذا الأمير وكاتبه هما اللذان ينظران في الأمر كله، وهذا الأمير هو أمير الأمراء، وأصبحت الخلافة في عهد الراضى من الضعف بحيث لم يعد الخليفة قادرًا على دفع أرزاق الجند، أويحصل على ما يكفيه حتى مات سنة 329هـ/ 491م.




خلافة المتقى
(329-333هـ/ 941 -945م)
ويأتى الخليفة المتقى؛ ليستنجد بالحمدانيين الذين لم يلبثوا أن دخلوا بغداد، وتقلدوا إمرة الأمراء سنة (330-331هـ/942- 943م) ولكن "توزون" التركى يطردهم سنة (331هـ/ 943م) ويتقلد هو أعباء هذا المنصب الخطير، ويا ليته أبقى على الخليفة، لكنه لم يلبث أن قبض على الخليفة "المتقى" وفقأ عينيه وولى "المستكفى بالله".





خلافة المستكفى
( 333 - 334هـ/ 945 - 946م )
ويضيق المستكفى ذرعًا بتوزون، ويستنجد ببنى بويه لوضع حد لهذه المنازعات التى لم تنتهِ بين هؤلاء الأمراء للاستئثار بالسلطة، وتولى إمرة الأمراء، وانتزاع النفوذ والسلطان من الخليفة الذى لم يعد له من الأمر شىء سوى السلطة الدينية؛ حيث يذكر اسمه فى الخطبة، ونقشه على النقود، والتسمى بأمير المؤمنين، كل ذلك ليحتفظ هؤلاء الأمراء بمراكزهم أمام الجمهور.
وانطوت صفحة من تاريخ الدولة العباسية، ومر هذا العصر بطيئًا متثاقلا.
لقد ذهب زمن أولئك الخلفاء الأقوياء كأبى جعفر والهادى والرشيد والمأمون والمعتصم، لقد كانوا مسيطرين على الدولة، مسيرين لشئونها.
ورحم الله أيامهم وعهدهم، لقد ذهبوا وتركوا نماذج هزيلة ضعيفة لا تستطيع السيطرة على شئون الدولة، بل إن منهم من لم يكن نفوذه يتعدى حدود العاصمة، بل كان لا يملك حق التصرف حتى فى قصره.


موسوعة الاسره المسلمه

د.فالح العمره 29-09-2006 01:51 PM

العصر العباسى الثالث
عصر نفوذ البويهيين
(334 - 447هـ/ 946 - 1056م)
ها هى ذى الخلافة الإسلامية تزداد ضعفًا، فقد ظل الخليفة مجرد اسم فقط، ولا يملك من أمر نفسه شيئًا، فقد استطاع البويهيون أن يتحكموا فى الخليفة، ويسيطرون على الدولة، ويديرونها بأنفسهم، ففى أيام "معز الدولة" جردوا الخليفة من اختصاصاته، فلم يبقَ له وزير وإن كان له كاتب يدير أملاكه فحسب!! وصارت الوزارة لمعز الدولة يستوزر لنفسه من يريد!!
أصل البويهيين:
وكان من أهم أسباب ضعف الخلافة وغروب شمسها، أن البويهيين (الديلم) كانوا من المغالين فى التشيع، وهم يعتقدون أن العباسيين قد أخذوا الخلافة واغتصبوها من مستحقيها، لذلك تمردوا على الخليفة، والخلافة بصفة عامة، ولم يطيعوها ولم يقدروها قدرها.
وتطلع بنو بويه إلى السيطرة على العراق نفسها -مقر الخلافة- إن أصلهم يرجع فيما يقال إلى ملوك ساسان الفارسيين الذين شُرِّدوا، فاتخذوا من إقليم الديلم الواقع فى المنطقة الجبلية جنوبى بحر قزوين ملجأ لهم ومقرّا.

وتزعَّم أبو شجاع بويه قبائلَ البويهيين-فى خلافة الراضى العباسى سنة (322 - 329هـ)-، والذى ينتهى نسبه إلى الملك الفارسى "يزد جرد" وقد أنجب ثلاثة من الذكور، هم : عماد الدولة أبوالحسن علي، وركن الدولة أبو على الحسن، ومعز الدولة أبوالحسين أحمد.
قوة البويهيين:
وكانت بداية الدولة البويهية باستيلاء عماد الدولة أبى الحسن علىِّ بن بويه على أرجان وغيرها، وقد دخل عماد الدولة شيراز سنة 322هـ ، وجعلها عاصمة لدولته الجديدة، كما دخل فارس، وأرسل إلى الخليفة الراضى أنه على الطاعة.
واستولى معز الدولة أبو الحسين أحمد بن بويه سنة 326هـ على الأهواز، (وهى الآن خوزستان) وكاتبه بعض قواد الدولة العباسية، وزينوا له التوجه نحو بغداد، وفى سنة 334هـ/ 946م، اتجه أحمد بن بويه نحو بغداد بقوة حربية، فلم تستطع حاميتها التركية مقاومته، وفرت إلى الموصل، ودخل بغداد فافتتحها فى سهولة ويسر.
ولقب الخليفة المستكفى أبا الحسن أحمد بن بويه بمعز الدولة، ولقّب أخاه عليّا عماد الدولة، ولَقب أخاه الحسن ركن الدولة، وأمر أن تكتب ألقابهم على الدراهم والدنانير، ولكن أحمد بن بويه لم يكتف بهذا اللقب الذى لا يزيد على كونه "أمير الأمراء". وأصر على ذكر اسمه مع اسم الخليفة فى خطبة الجمعة، وأن يُسَكّ اسمه على العملة مع الخليفة، ولقد بلغ "معز الدولة" مكانة عالية ؛ فكان الحاكم الفعلى في بغداد مع إبقائه على الخليفة، غير أنه مالبث أن قبض عليه، وفقأ عينيه سنة 334هـ/ 946م. "








خلافة المطيع
(334-363هـ/946- 976م)
وأصبح المطيع هو الخليفة بعد المستكفى، وكان مطيعًا بحق، وإن شئت فقل : كان اسمًا على مُسَمّى، جديرًا باسمه، فلقد كان أداة طيعة في أيدى البويهيين، يأمرونه فيطيع، ويحقق لهم كل ما يريدونه منه، ثم استولى "معز الدولة" على البصرة 336هـ/ 948م، كما استولى ركن الدولة على الرى 335هـ وطبرستان وجرجان 336هـ/ 948م.
وقد بلغ البويهيون قوتهم أيام عضد الدولة بن بويه الذى تولى بعهد من أبيه عماد الدولة الذى توفى سنة 336هـ/ 948م، واتخذ لنفسه لقب "شاهنشاه" (أى ملك الملوك)، لقد كان بنو بويه يكتفون بألقاب التبجيل والتفخيم مثل: "عماد الدولة"، "وركن الدولة"، أما"عضد الدولة"فقد فاق أسلافه قوة وعظمة. لقد تزوج من ابنة الخليفة الطائع، وكان ذا جبروت شديد ونفوذ واسع، واستطاع "عضد الدولة"أن يضم إلى سلطانه مختلف الدويلات الصغيرة المجاورة التى ظهرت على عهده فى فارس والعراق، وفى عام 369هـ عمَّر عضد الدولة بغداد بعد خرابها من توالى الفتن، وأعاد عمارتها وجدد أسواقها، وأجرى الأرزاق على الأئمة والخطباء والمؤذنين.
ورغم بقاء بَلاطه فى شيراز فإنه اهتم ببغداد، ولكنه اتخذ هو وخلفاؤه قصورًا لهم فى العاصمة العباسية القديمة، وغدت هذه القصور تسمى "دار الخلافة".
إظهار المذهب الشيعى:
وكان من الطبيعى أن يتعمد البويهيون-وهم من غلاة الشيعة-إظهار مذهبهم ونشره بما ترتب على ذلك من معاداة لأهل السنة، وتجاوز للحدود والحقوق.
ولقد أثار ذلك أهل السنة، ونشأ عن ذلك حدوث فتن كثيرة، وكثيرًا ما كان الشيعة يثيرون أهل السنة بلعنهم الصحابة -رضوان الله عليهم-، وكتابة هذا على أبواب المساجد، ولم يكن هذا التطاول مقصورً ا على بغداد وحدها، بل تجاوزها إلى كل بلد حَلَّ بها البويهيون، وفى كل بلد تخضع للشيعة، وقد وقعت فتنة بين أهل "أصبهان" و "قم" بسبب سَبِّ أهل "قم" الصحابة -رضوان الله عليهم- مما جعل أهل أصبهان يثورون عليهم، ويقتلون منهم خلقًا كثيرًا، وينهبون أموال التجار؛ مما أثِار غضب ركن الدولة "الحسن البويهي"، فراح يصادر أموال أهل أصبهان، وينتقم لأهل "قم" منهم، وراحت نيران هذه الفتنة تشتعل فى كل مكان، فى الكرخ، وفى بغداد، وفى البصرة، فقُتل فى ذلك خلق كثير.
هؤلاء هم البويهيون، وهذا هو مذهبهم، ومنذ دخلوا بغداد لم نجد لهم موقفًا مشرفًا تجاه الروم، ففى عهدهم لم يحدث أن خرج جيش غاز كما كان يحدث فى عهد مَنْ قبلهم، وشَنَّ الروم غارات كثيرة على الثغور والشواطئ ولكن لا مدافع!! ولقد أدت هذه الغارات إلى تخريب المدن والمساجد وقتل الكثيرين من الرجال والنساء والأطفال؛ بينما كانت الدولة البويهية فى سبات عميق.
وتحرك الفقهاء سنة 362هـ/ 973م، وراحوا يُحرِّضون عز الدولة بختيار بن أحمد بن بويه على غزو الروم، وتحرك الجيش إلى بلاد الروم لمواجهتهم، وقتل منهم عددًا كثيرًا، وبعث برءوسهم إلى بغداد، وقد كان "عز الدولة بختيار" شريرًا فاسدًا، وكثرت فى عهده الفتن والاضطرابات، وإراقة الدماء.
وهنا سكنت أنفس الناس، وكأنما كانت هذه المعركة ذرّا للرماد فى أعين أهل السنة من المسلمين.
انتشار الأوبئة والفتن:
لقد سكتوا على مضض بعدما رأوا بأعينهم نشاط الروم خلال سنوات نفوذ البويهيين ببغداد والعراق يقابل بصمت رهيب، التزم به البويهيون فى هذا الصراع وهم الذين يسيطرون على الدولة ويتحكمون فيها! فى وقت ظهر فيه اللصوص ومارسوا السلب والنهب بصورة علنية، بينما انتشرت الأوبئة، واشتد الغلاء، فى الوقت الذى اهتم فيه البويهيون المنحرفون بالاحتفال بعيد الغدير (غدير خم) الذى يزعمون أن الرسول ( عهد عنده بالخلافة إلى على بن أبى طالب، وهو بدعة منكرة باطلة، وكذلك دفعوا العوام للطم الخدود والنواح والعويل فى العاشر من المحرم حزنًا على استشهاد الحسين بن علىّ وهو ما لا يرضاه الشرع، ولم تلبث الدولة البويهية أن أخذت فى الانهيار بسبب النزاع على السلطة بين الأخوين "بهاء الدولة"، و"شرف الدولة"، وامتد هذا النزاع إلى سائر أفراد الأسرة، مما عجّل بالقضاء على البويهيين، وساعد على ذلك مذهبهم الشيعى الذى بغضهم إلى أهل السنة من أهل بغداد.

***

د.فالح العمره 29-09-2006 01:54 PM

العصر العباسى الرابع
عصر نفوذ السلاجقة
(447 - 656هـ/ 1055 - 1258م)
فى عهد المقتدر (295-320هـ) أشرفت الدولة العباسية على الانحلال والموت بظهور سلطان المستقلين فى أطراف الخلافة والثغور.
وحسب القارئ أن يعدد هذه الدويلات التى أعلنت سلطانها فى أجزاء الخلافة الإسلامية؛ ليعلم ما وصلت إليه الحال من خلل وتفسخ وانحدار ! لقد قامت فى فارس دولة بنى بويه، وبسط الإخشيديون سلطانهم على مصر وسورية، وأعلن الفاطميون سيادتهم فى إفريقية والمغرب، وساد الأمويون فى إسبانيا، واستقلّ بنو سامان فى خراسان وما وراء النهر، والقرامطة بمنطقة البحرين وما حولها من ثغور وبلاد، واستقر الديلم فى جُرجان وطبرستان، وأعلن أحد أمراء العراق واسمه البريدى حكمه على البصرة وواسط.
وقامت دولة الحمدانيين فى الموصل وديار بنى ربيعة وقسم كبير من أراضى العراق.
وكانت الدولة الإسلامية تغلى غليانًا فى جحيم الاضطرابات والدسائس!كل منهم يحارب الآخر حربًا لا هوادة فيها، ويحفر مقبرة الخلافة بهذا التفكك الذى أطمع البيزنطيين أن يعيدوا الكَرَّة على بلاد الإسلام، فدخلوا كليكيا وسورية على يد القائد البيزنطى نقفور، الذى اشتبك فى معارك دامية مع سيف الدولة على أبواب حلب مما سيأتى تفصيله.
وكانت البلاد تواجه خطرين: خطر الانقسامات الداخلية، وخطر هجمات الروم الخارجية. وشاءت الأقدار أن تتقد نيران هذه الاضطرابات، وقد عقمت الأرض عن أن تلد منقذًا يقضى على هذه المطامع، وظلت الأمور بين أيدى خلفاء ضعاف أقصى أمنياتهم من الحياة بعض هذه الأموال التى يدرها العمال عليهم؛لينعموا مرفهين برغد الحياة.
أصل السلاجقة:
من أولئك السلاجقة ؟ وكيف امتد نفوذهم حتى وصلوا إلى بغداد ؟ إنهم أتراك ينتسبون إلى جدهم سلجوق، وينتمون إلى قبيلة تركية كبيرة تسمى "الُغزّ".
وقد نزلوا على نهر "سيحون"، واتصلوا بخدمة التركمان فى بلاد ما وراء النهر، وراح جدهم "سلجوق" يتقدم فى خدمة ملك الترك حتى وصل إلى قيادة الجيش، وكان بارع الحديث، كريمًا، فاستمال الناس إليه، وجمعهم مِن حوله، فانقادوا له وأطاعوه.
وخافت زوجة ملك الترك على زوجها منه، فأغرته بقتله، وعرف "سلجوق" ما يدبِّر له فى الخفاء، فجمع مَنْ حوله، وسار بهم حتى مدينة "جَنَد"، وأقام هناك فى جوار المسلمين ببلاد تركستان.
ولما جاور سلجوق المسلمين، وتعرف على أخلاق الإسلام أعلن إسلامه على مذهب أهل السنة، واعتنق الغُزُّ الإسلام معه.
وعندئذ بدأ فى غزو "كفار الترك"، وكان ملكهم يأخد إتاوة من المسلمين فى تلك الديار، فقطعها سلجوق وطرد نوابه.
كان لسلجوق من الأولاد أربعة هم: أرسلان، وميكائيل، وموسى، ويونس.
انتصارات طغرل":
ولقد أعد سلجوق أبناءه وأحفاده للغزو والفتح، فلقد استطاع أحد أحفاده وهو "طغرل" أن يستولى على إقليم مرُو "خراسان" سنة 429هـ فى الشمال الشرقى من فارس، ثم استولى على نيسابور 432هـ، وعلى حَرَّان وطبرستان عام 433هـ، وعلى خوارزم عام 434هـ، وأصبهان عام 438هـ/1047 م.
واستمر "طغرل" يتقدم فى بلاد فارس والعراق، وفى سنة 447هـ/ 1055م وقف طغرل على رأس جماعة من جنده الأتراك أمام أبواب بغداد، كما وقف "بنو بويه" قبله، فسلمت له المدينة دون مقاومة، واستقبل الخليفةُ طغرل زعيمَ السلاجقة كما استقبل أحمد أبا شجاع من قبل، وراح الخليفة العباسى "القائم" يعترف بطغرل سلطانًا ويمنحه لقب "ملك المشرق والمغرب".
نشر المذهب السنى:
تدفقت القبائل التركية على العراق بعد انتصار طغرل، ولقد سخَّر السلاجقة مركزهم -إلى جانب الخلافة العباسية- لخدمة الإسلام، فراحوا يعملون على توسيع سلطانه، ولم يكن هدفهم تقوية مركز الخليفة العباسي، وإنما عمدوا إلى نشر المذهب السنى الذى دانت به الخلافة العباسيَّة، ومحاربة الشيعة الفاطميين، أملا فى إعادة وحدة الأمة ومواصلة نشر الإسلام فى أرمينيا وآسيا الصغرى، ويحسب لهم أنهم احترموا منصب الخلافة، وأجلُّوا الخلفاء واحترموهم، فلم يسيئوا إليهم، ولم يعتدوا عليهم كما كان الأتراك فى العصور السابقة.
جيوش "ألب أرسلان":
وتولى "ألب أرسلان" ابن أخى طغرل القيادة العليا للجيوش السلجوقية سنة456هـ/ 1063م، وجعل جيشه ثلاث شعب: شعبة منه سارت إلى الشام، وشعبة ثانية إلى بلاد العرب، وكلتاهما تابعة للدولة الفاطمية الشيعية. أما الشعبة الثالثة فقد كان هو رأسها واتجه بها نحو "أرمينيا الصغرى" و"آسيا الصغرى"، وهى "بلاد الروم" كما كان يسميها المؤرخون المسلمون.
موقعة ملاذكرد:
واستولت الجيوش السلجوقية على "حلب" سنة 463هـ/ 1070م، واستعادت "مكة" و"المدينة" بعد ذلك بقليل، بينما انتصر "ألب أرسلان" على الإمبراطور البيزنطى "رومانوس ديوجينيس" سنة 464هـ/ 1071م، فى موقعة "ملاذكرد" فى الشمال الشرقى من بحيرة "فان"، وأباد معظم الجيش البيزنطى حتى باتت آسيا الصغرى تحت سيطرته، فانتشرت جيوشه فيها إلى قرب "البسفور" و"الدردنيل"، ومن هذه الفتوح تأسست دولة سلاجقة الروم فيما بعد.
ويموت ألب أرسلان عام 465هـ/ 1072م مقتولا، وقد قال وهو على فراش الموت : "ما كنتُ قط فى وجه قصدتُه ولا عدّو أردتُه إلا توكلتُ على الله فى أمرى، وطلبت منه نصرى، وأما فى هذه النوبة، فإنى أشرفت من تلّ عالٍ، فرأيت عسكرى فى أجمل حال، فقلت أين من له قدرة مصارعتي، وقدرة معارضتي، وإنى أصل بهذا العسكر إلى آخر الصين، فخرجتْ علىَّ منيَّتى من الكمين".
وهكذا اتسعت رقعة الدولة السلجوقية عامًا بعد عام، وعلى الرغم من أن السلطة الفعلية فى بغداد كانت لهم، فإنهم لم ينتقلوا من "أصفهان" إلى "بغداد" ويتخذوها عاصمة لهم إلا سنة 484هـ/ 1091م، وكان ذلك فى عصر ملكشاه السلجوقى.
نهضة علمية وعمرانية:
وفى عهد ملكشاه بلغت الدولة السلجوقية أقصى عظمتها، فبنى ملكشاه المساجد، وأنشأ الخانات (الفنادق) على طرق القوافل لنزول المسافرين، ومهد طرق الحجاج إلى مكة، وزودها بالحراس.
وأمر بتجميل بغداد وتنظيمها، وإقامة شبكة لتصريف مياه الحمامات إلى غير نهر دجلة.
وكان يساعده فى إدارة المملكة وزيره "نظام الملك"، الذى ألف كتابًا فى "فن الحُكْم" يعرف باسم "سياسة نامة"، وراح يشجع الشخصيات المشهورة فى العلوم والآداب، فتمتع "عمر الخيام" بعطفه، وهو العالم الكبير، والشاعر الفارسى الشهير.
وأنشأ المجامع العلمية فى بغداد، وأشهرها المدرسة النظامية التى تم بناؤها سنة 460هـ/ 1067م.
وحسب هذه المدرسة التى أنشأها نظام الملك وزير ملكشاه السلجوقى أن من تلاميذها السعدى مؤلف "بستان السعدى"، وعماد الدين الأصفهانى، وبهاء الدين بن شداد (الذى كتب سيرة صلاح الدين)، وهما اللذان خدما صلاح الدين والدولة الأيوبية فى مصر، وعبد الله بن تُومَرْت الذى أسس دولة الموحِّدين فى إفريقية والمغرب، ومن أساتذتها أبو إسحاق الشيرازى مؤلف كتابى "المهذب" و"التنبيه" فى الفقه الشافعى، والغزالى العالم المتصوف، وإذا كانت عظمة السلاجقة قد استندت إلى ما قاموا به من أعمال، وإلى شخصية سلاطينها، فإن الدولة قد أخذت فى التفكك بعد وفاة ملكشاه سنة 485هـ/ 1092م.
تفكك السلاجقة:
ولم تظهر بعد ذلك من البيت السلجوقى شخصية قوية تملأ فراغ ملكشاه، وراح أبناء البيت السلجوقى يقتسمون تلك المملكة الواسعة الأطراف، ويستقل كل منهم بنصيبه منها.
وفى ظل هذا التفكك ساد الضعف، واضطربت الأحوال لكثرة الحروب الداخلية إلى أن زال نفوذها سنة 590هـ/ 1194م، وهكذا الأيام، تذهب دولة لتأتى أخرى. فقد حلت محلَ دولِة السلاجقة دولة "الأتابكة" بالعراق وفارس، كما حلت دولة الأتراك العثمانيين محل سلاجقة الروم بآسيا الصغرى سنة 700هـ/1300م.
كلما ذكرنا "سلاجقة العراق وكردستان" الذين حكموا من سنة 511هـ/ 1118م إلى سنة 590هـ/ 1194م، لا يمكن أن ننسى السلاجقة العظام الذين كانوا يحكمون فارس والأهواز والرى وخراسان والجبل من سنة (429 - 552هـ/ 1038 - 1060م) من أسرة خوارزم شاه.
كما أننا لا ننسى "سلاجقة الشام " الذين حكموا حلب ودمشق من سنة (487 - 511هـ/ 1094 - 1108م)، وخلفهم البوريون والأرتقيون (من الأتابكيين).
وإلى جانب هؤلاء، "سلاجقة كرمان" الذين حكموا من سنة (433 - 583هـ/ 1042 - 1187م) وخلفهم التركمان الغز.
ويبقى سلاجقة الروم الذين حكموا آسيا الصغرى من سنة (470 - 700هـ/ 1078 - 1300م) وخلفهم المغول والأتراك وغيرهم.
موقف السلاجقة من الإسلام:
كان الفرق واضحًا بين معاملة البويهيين للخلفاء العباسيين ومعاملة السلاجقة لهم !
فعلى العكس من معاملة البويهيين للخلفاء العباسيين أظهر السلاجقة الاحترام الكامل، والأدب الجم، والمعاملة الحسنة الطيبة للخلفاء العباسيين، وكانوا صورة للإنسان الفطرى الذى هذبه الإسلام، وليس أدل على ذلك من قول "طُغْرُلْبِك" حين دخل على الخليفة "القائم" سنة 449هـ/ 1057م: "أنا خادم أمير المؤمنين، ومتصرف على أمره ونهيه، ومتشرف بما أهّلنى له، واستخدمنى فيه، ومن الله أستمد المعونة والتوفيق". وهنا ألبسه الخليفة "الخلع" فما كان من "طغرلبك" إلا أن قَبَّل يد الخليفة أكثر من مرة. وراح الخليفة يوصيه بتقوى الله والعدل فى الرعية، وزادت أواصر القربى بينهم، فقد تزوج الخليفة "خديجة" ابنة أخى السلطان "طغرلبك" بينما تزوج طغرلبك من ابنة الخليفة القائم سنة 454هـ/ 1062م.
وإذا كانت السلطة الفعلية قد أصبحت فى يد السلاجقة فإن الاحترام صاحبَ هذه السلطة. وقد حاول الخلفاء استعادة سلطتهم الفعلية إلى جانب زعامتهم الروحية، فتمكنوا من ذلك أحيانًا، وساعد على ذلك اختلاف السلاجقة على أنفسهم بعد وفاة ملكشاه سنة 485هـ/ 1092م، وتعد أقوى هذه المحاولات محاولة الخليفة الناصر لدين الله، كما أن خلافته تعد أطول مدة فى تاريخ الخلفاء العباسيين.
السلاجقة والباطنية:
من يُقلب صفحات التاريخ فى الدولة العباسية يجد أن هناك فروقًا كثيرة ودعوات باطلة فاسدة، وأفكارًا غريبة وعقائد ضالة، كانت وراء الفتن والاضطراب والحروب فى المجتمع الإسلامى آنذاك.
وقد كانت "الباطنية" مصدر خطر كبير على الإسلام والمسلمين منذ أن وجدت، فكانت بعقائدها الباطلة وفتنها الماكرة لونًا جديدًا من الأفكار الضالة للنيل من الإسلام والمسلمين، وذلك بالتستر وراء حب "آل البيت"، والعمل على إفساد عقيدة الإسلام وأركانه وشريعته.
ومن يقرأ تاريخ الباطنية يتبين له أنها تضرب بجذورها إلى "عبد الله بن سبأ"، وأنها تشمل خليطًا من أصول دعوات فاسدة تحتويها، منها: القرامطة، والدروز، وإخوان الصفا، والإسماعيلية، وغيرها من مذاهب باطلة ظهرت فى تاريخنا الإسلامى.
وفى عهد ملكشاه وفى سنة 483هـ/ 1090م راح "الحسن بن الصباح" يدعو الناس إلى التشيّع والزندقة، واستولى على قلعة "الموت" فى نواحى قزوين، وزاد خطره، وكثر أتباعه، فأرسل إليه نظام الملك مَنْ يحاصر قلعته، ولكنه بعث من قام باغتيال نظام الملك، وفك الحصار عن القلعة.
وتمر السنون بعد وفاة ملكشاه، وتقع معارك مع الباطنية يقوم بها أبناؤه وأحفاده من بعده، ينجحون فيها بفضل الله فى تقليم أظافرهم الشرسة، ولو تتبعنا اللقاءات الحربية بين الباطنية والزنادقة وبين المسلمين لطال ذلك وامتد، ولكن الملاحظ أن "الباطنية" لم يكتفوا بقتل القواد والعلماء والقضاة فى بلاد فارس وما وراء النهر، بل كانت منهم باطنية ببلاد الشام لعبوا الدور نفسه مع حكام المسلمين، وقادتهم وفقهائهم وعلمائهم، فقتلوا منهم عددًا كبيرًا.
ويشهد الله، كم كانت الباطنية خِنْجرًا مسمومًا فى ظهر قادة الإسلام، وزعماء المسلمين، وفقهائهم، وحسبهم تلك الأفكار المنحرفة التى تدعو إلى: نفى صفات الله، وإبطال النبوة والعبادات، وإنكار البعث، وإبطال نسبة القرآن إلى الله، وتأويل أصول الدين تأويلاً قاطعًا يخرج بالواحد منهم إلى الكفر، وغير ذلك من الأفكار الضالة المضلة.
المغول وسقوط الخلافة:
من هم المغول؟ كيف كان ظهورهم الهمجى على صفحة التاريخ؟ فى عهد مَنْ مِن الخلفاء كانوا؟
هذه سنة الحياة فى الناس والأشياء، فبعد أن ظلت بغداد عاصمة لبنى العباس على مدى خمسة قرون راحت تتهاوى تحت ضربات المغول والتتار، وتسلم الراية لهم، ليملئوا الدنيا قتلا وتشريدًا ونهبًا وسلبًا وفسادًا!
أصل المغول:
إنهم قبائل تركية آسيوية كانت تسكن فى الجزء الشرقى من "بلاد التركستان" وما يليها شرقًا من "غرب بلاد الصين"، وهم بدو رعاة يدينون بالوثنية، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ويبحثون عن الرزق أينما وجد، وينتقلون وراءه حيث كان، ويقتتلون من أجل الحصول عليه، نساؤهم فى هذا كرجالهم سواء بسواء.
المغول والتتار:
وكانت بين "قبائل المغول" و"قبائل التتار" أواصر نسب وجوار، ولكن على الرغم من هذا، فإن محاولة الحصول على الرزق كانت تدفعهم إلى التنازع والتناحر والتقاتل، وتسفر المواجهة بينها عن انتصار "التتار" وهزيمة "المغول"، ويعود المغول فينتصرون على "التتار" ولكن الزعيم التترى "جنكيز خان" جمع شمل هذه القبائل لتصبح النقطة السوداء فى التاريخ الإنسانى بسبب ما أنزلوه به من الكوارث التى لم يحدث مثلها.
انتصارات جنكيز خان:
فكيف كان هذا الذى حدث؟ وما قصة خروج التتار إلى بلاد الإسلام والمسلمين؟ وكيف تهاوت الخلافة على أيديهم بهذه الصورة المهينة؟!
إن "ابن الأثير" المؤرخ الكبير حين أراد أن يسجل تلك الأحداث فى كتابه "الكامل" تمنى أن يكون قد مات قبل أن يسمع عنها أو يراها، فيقول : "لقد بقيت عدة سنين مُعْرِضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا بها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدم رِجْلا وأؤخر أخرى، فمن الذى يسهل عليه أن يكتب نعى الإسلام والمسلمين، ومن الذى يهون عليه ذكر ذلك، فيا ليت أمى لم تلدنى، ويا ليتنى مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيّا، إلا أَنى حثنى جماعة من الأصدقاء على تسطيرها، وأنا متوقف، ثم رأيت أنَّ ترك ذلك لا يجدى نفعًا، فنقول: هذا الفعل يتضمن الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التى عقمت الأيام والليالى عن مثلها، عمت الخلائق، وخصت المسلمين، فلو قال قائل : إن العالم منذ خلق الله-سبحانه وتعالى- آدم إلى الآن لم يُبتلَ بمثلها كان صادقًا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها".
وهكذا فعندما تمكن "جنكيز خان" من إخضاع القبائل المجاورة له فى دهاء واقتدار محطِّمًا خصومه مستوليًا على كل ما يملكون، مُدَعِّمًا جيشه بالمحاربين راح يتطلع إلى "إمبراطورية الصين" التى كانت شرقى بلاده.
واستطاع أن يستولى على معظم أجزاء "الإمبراطورية الصينية" المتداعية سنة 612هـ/ 1215م.
واجتمعت كل ملل الكفر من الصليبيين والبوذيين والرافضة من أهل الشيعة.
لقد ظنوا فى هؤلاء الأشرار من المغول والتتار المعاول القادرة على هدم الإسلام وحضارته.
اجتماع الصليبيين والمغول:
لقد كان الصليبيون يحتلون بلاد الشام، وكان المجاهدون المسلمون قد أنزلوا بهم فى عهد عماد الدين زنكى، ونور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبى هزائم ساحقة، ولولا ضعف المسلمين بعد موت صلاح الدين لكانت نهاية الصليبيين بالشام قد تحققت.. ولكن الصليبيين ظلوا يعانون الضعف البالغ ويصمدون رغم ذلك فى مواجهة المسلمين حتى ظهرت قوة المغول، وتأكَّد عداؤهم للإسلام وما أنزلوه بأهله من هزائم ومصائب فى بلاد خراسان وفارس على أنقاض دولة السلاجقة هناك، فاجتمعت مصالح الفريقين الصليبيين والمغول فى عداء المسلمين وحربهم، وبدأت الاتصالات بينهم لتنسيق الجهود فى هذا الصراع.
وأعمل الصليبيون حيلهم الخبيثة، فعرضوا على التتار النصرانية، فتنصَّر منهم عدد كبير، وجعلوا يزوجونهم من النصرانيات الحاقدات على الإسلام وأهله، فاشتعل الحقد الصليبى والبوذى فى الهمجية الشرسة، وانطلقت جحافل التتار تدمر الخير فى كل مكان.
وإذا كان ضعف الدول يغرى بالعدوان عليها، فإن "جنكيز خان" قرر أن يتجه إلى "تركستان"، وراح يستولى على المدن والعواصم واحدة بعد أخرى حتى استولى على جميع تلك البلاد، نذكر منها "كاشغر" و"بلا سفون".
وراح يفكر من جديد: إن "إمبراطورية الخطا" غربى بلاده تقع حائلا بينه وبين "المملكة الخوارزمية" فما العمل؟ وكيف السبيل إلى مملكة خوارزم، ومن بعدها كل بلاد المسلمين؟
راح يستولى على أجزاء من "ملك الخطا" ويقترب بذلك من "المملكة الخوارزمية المسلمة".
وكان لابد له من مهاجمتها بما لديه من قوة ساحقة ماحقة ليصنع ملكًا على أنقاض الحضارات وأشلاء الإنسانية، وهكذا كانت الأحلام تراوده!
مواجهة المسلمين للتتار:
من هنا بدأت اللقاءات الدامية بين التتار والمسلمين، فلقد أرسل "جنكيز خان" خطابًا إلى السلطان "علاء الدين محمد خوارزم شاه" يتباهى فيه بقوته، ويحيطه علمًا بأنه فى الطريق إليه للاستيلاء على مملكته. وكان لابد من أن يبادر "خوارزم شاه" بالخروج لملاقاة التتار فى عقر دارهم. ويصل "خوارزم شاه" إلى بيوتهم فلا يجد فيها إلا النساء والصبيان.
ويبعث بمن يأتيه بأخبارهم فيعلم أنهم خرجوا لمحاربة "ملك من ملوك الترك"، وهزموه، وغنموا أمواله، وهاهم أولاء فى طريق العودة.
وعلى الطريق التقى الجيشان: جيش "جنكيز خان"، وجيش "خوارزم شاه" واستمر القتال ثلاثة أيام دون أن يحقق أحدهما نصرًا على الآخر، وقد قتل من المسلمين فى هذه الوقعة عشرون ألفًا، فعاد "جنكيز خان" إلى بلاده، وعاد "خوارزم شاه" هو الآخر إلى بلاده، وكلاهما ينتظر اللقاء الحاسم، وأصدر "خوارزم شاه" أوامره إلى أهل "بخارى" و"سمرقند" بالاستعداد لحرب قادمة، وعليهم أن يجمعوا الذخائر، ويستعدوا لحصار قد يطول، وعاد هو إلى خراسان، ومرت خمسة أشهر، وفجأة خرج التتار إلى أهل بخارى مقاتلين محاصرين، ودارت بين الفريقين معركة شرسة استمرت ثلاثة أيام، سقطت بعدها "بخارى" فى أيدى التتار أعداء الإسلام والمسلمين.
فظاعة التتار:
وراح التتار يرتكبون جرائم يشيب لها الولدان، وراحوا يقتلون الفقهاء والعلماء، ويسبون النساء، وينتهكون أعراضهن أمام أهليهن، وقد ثار لذلك كثير من المسلمين، وكانوا يفضلون الموت على رؤية هذا الجرم الفاحش والسكوت عليه، فكان كثير من المسلمين يقاتلون التتار حتى الموت، ومن كان يسكت على ذلك فإنه رغم سكوته يمثل به ويعذب بأشد أنواع العذاب، ويلقى فى النار.
ومن الذين ثاروا لذلك الإمام الفقيه ركن الدين إمام زاده وولده، فإنهما لما رأيا ما يفعل بالحرم قاتلا حتى قتلا، وكذلك فعل القاضى صدر الدين خان.
وأخذوا يشردون الأبرياء، ويهدمون المساجد والمدارس، ويحرقون كل المصاحف التى وجدوها فى مساجد بخارى.
وأخذ التتار بعض الأسرى من "بخارى" وعلى رأسهم واليها من قبل خوارزم شاه فى أقبح صورة إلى سمر قند، ومن لم يقدر على السير معهم قتلوه.
ولما وصلوا إلى "سمر قند" كانت هناك مفاجأة، لقد وجدوا عددًا كبيرًا من أهلها ومعهم خمسون ألفا من الخوارزمية قد استعدوا لمواجهة التتار.
ولكن التتار عمدوا إلى المكر والخديعة، للتغلب على أهل سمرقند ومن معهم من الخوارزميين، لقد أظهروا الخوف منهم، وراحوا يتراجعون أمامهم، وراح المسلمون يتقدمون وراءهم ويتابعونهم، وهنا قام جيش التتار بمحاصرة المسلمين والقضاء عليهم وإبادتهم، فلم يسلم منهم أحد، واستشهدوا جميعًا، وكانوا سبعين ألفًا.
ولم يكتف التتار بهذا، بل تقدموا ودخلوا "سمرقند"، يقتلون من بقى من أهلها، وفعلوا بسمرقند ما فعلوه ببخارى من نهب وسلب، وقتل وسبى، وحرق للمساجد، وهتك لأعراض المسلمات! وكان ذلك فى عام 617 هـ.
وفاة خوارزم شاه:
ويصدر "جنكيز خان" قائد التتار أوامره إلى رجاله أن يأتوه برأس "خوارزم شاه" فعبروا النهر الفاصل بين سمرقند وخراسان، ولكنهم لم يظفروا به، ولم يمكنهم الله منه، فقد صعدت روحه إلى باريها ولقى ربه سنة 617هـ/1220م، بعد حياة حافلة بخدمة الإسلام والمسلمين، وكان ملكه ممتدّا من حدود العراق إلى تركستان إلى جانب "غزنة" وبعض بلاد الهند، وسجستان، وكِرمان، وطبرسان، وجرجان، وبلاد الجبل، وخراسان، وبعض فارس، والخطا.
لقد كان "خوارزم شاه" عالمًا فقيهًا، معظِّما لأهل الدين، مكرّمًا لهم، مقبلا عليهم، كما كان يعمل للآخرة، فلم يركن إلى الدنيا ويغنمها، ولم يقبل على الشهوات أو ينهمك فى الملذَّات. رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام خير الجزاء.
زحف التتار:
لم يتوقف "التتار" عند هذا الحد من العدوان على بلاد الإسلام والمسلمين، بل واصلوا الزحف نحو "مازندان" فملكوها، وسقطت فى أيديهم "الرَّى" و"همذان" وساروا إلى "أذربيجان" حتى وصلوا إلى "تبريز"، فلم يخرج إليهم صاحب "أذربيجان" لاشتغاله بملذاته وشهواته، وإنما أرسل إليهم الهدايا وصالحهم على مال وثياب ودواب، ففارقوه إلى بلاد "الكرج" وأوقعوا بهم الهزيمة.
وظل التتار ينتقلون من بلد إلى آخر يقتلون ويشردون، وما استعصى عليهم من المدن تركوه إلى حين.
وعاد التتار إلى "همذان" فقاومهم أهلها مقاومة باسلة جبارة، حتى فكروا فى العدول عنها لكثرة ضحاياهم، لكنهم تماسكوا حتى غلبوا "أهل همذان" ولم يَنْجُ منهم إلا من اتخذ له نفقًا فى الأرض، ومن "همذان" انتقل التتار إلى "أذربيجان" فاستولوا على بعض مدنها، وصالحوا ما كان منها محصنًا.
وانتقل التتار بعد ذلك إلى "دربند شروان"، وفيها أمم كثيرة وطوائف لا حصر لها من الترك، فقتلوا منهم الكثير، وبخاصة فى "بلاد القفجاق"أو (القفقاس) التى اتخذ منهم الملك "الصالح نجم الدين أيوب"مماليكه البحرية وهم ملوك مصر بعد الدولة الأيوبية، وهم "المعز أيبك"، و"المظفر قطز" و "المنصور قلاوون" وغيرهم.
وانتقل التتار من "بلاد القفجاق" إلى بلاد الروس مما يجاورها فظفروا بها، ثم قصدوا "بلاد بلغار"، فلما سمعوا بقدوم التتار إليهم، خرجوا وكمنوا لهم فى الطريق، وخرجت إلى التتار مجموعة استدرجتهم حتى جاوزوا مواضع الكمين، فخرج عليهم الكمناء من الخلف، فأصبح التتار محصورين، فقتلهم أهلها، وفرَّ التتار إلى ملكهم، ورجع من سلم منهم إلى بلادهم.
ويعود التتار بعد غزوهم الوحشى إلى القلاع الحصينة التى كانت قد استعصت عليهم، ليفتحوها بعد قتل وأسر وسبى ونهب وتدمير وإحراق، ويتجهون إلى "خراسان"، فأخذ أهلها يقاتلون ببسالة وشجاعة ليلا ونهارًا، حتى قتلوا من التتار خلقًا عظيمًا، فاشتكى التتار إلى جنكيز منعتها، فسار إليها بنفسه ومن معه، ولما عجز عنها أمر بجمع أكبر قدر ممكن من الحطب، فكان يضع صنفًا من الحطب وصنفًا من التراب، حتى صار هذا الحطب بارتفاع القلعة، فدخلها التتار وفر المقاتلون المسلمون منها، فسبى التتار النساء ونهبوا الأموال وانتهكوا الأعراض، واستولوا على "غزنة" وبلاد "الغور"، ويشاء الله أن يواجههم "جلال الدين بن خوارزم شاه" ومعه من سلم من عسكر أبيه فى "بلق" وأن ينهزم التتار بعد معركة حامية، ويغنم المسلمون ما مع التتار، ولم يكن قليلا بل كان كثيرًا وعظيمًا.
والتقى التتار مع المسلمين ثانية عند "كابُل" وكان النصر للمسلمين، فغنموا من الغنائم ما غنموا، وفكوا أسراهم واستنقذوهم من أيدى أعدائهم الذين لارحمة فى قلوبهم ولا إنسانية.
وكان كل شىء يوحى بأن التتار مصيرهم إلى الانهيار، وأن المسلمين سوف يعلو أمرهم، ويعود لهم مجدهم من جديد، لكن فتنة الغنائم والأموال قضت على وحدة الصف، وفرقت الشمل، فنجد أميرين من أمراء الخوارزمية يختلفان على الغنائم ويقتتلان، وتمتد اليد الآثمة، فتقتل أخا الأمير "سيف الدين"، وهو ممن أبلوا بلاء حسنًا فى حرب التتار، ويغضب "سيف الدين" لمقتل أخيه بعد أن هزم التتار وكاد يقضى عليهم، ويفارق الجيش، ومعه ثلاثون ألفًا، سار بهم إلى الهند، ويحاول "جلال الدين بن خوارزم شاه" إنقاذ الموقف؛ فذهب إلى سيف الدين، وذكره بالجهاد، وخوفه من الله، وبكى بين يديه وقبلهما، لكن ذلك لم يؤثر فيه، ولم يجعله يتراجع.
ولما يئس "جلال الدين" وقل العدد معه، أخذ من معه من الجند وسارعوا نحو الهند، وحاولوا عبور النهر، فلم يجدوا سفنًا، فأدركهم "جنكيز خان"، وقتل "جلال الدين" ومن معه، ثم سار إلى خوارزم، فخربها ودمرها.
وهكذا يكون لشهوات النفس والثأر لغير الله أثر كبير فى ضياع ملك المسلمين وتخريب ديارهم.
لقد تم بذلك لجنكيز خان مملكة عظيمة واسعة مترامية الأطراف تبتدئ شرقًا من بلاد الصين، وتنتهى غربًا إلى بلاد العراق وبحر الخزر وبلاد الروس، وجنوبًا ببلاد الهند، وشمالا بالبحر الشمالى.
تم كل ذلك فى مدة قصيرة مما جعل المؤرخ "ابن الأثير" وقد عاصر تلك الأحداث، يقول: "لقد جرى لهؤلاء التتار ما لم يسمع بمثله فى قديم الزمان وحديثه، طائفة تخرج من حدود "الصين"، لاتنقضى عليهم سنة حتى يصل بعضهم إلى بلاد "أرمينية" من هذه الناحية ويجاوروا العراق من ناحية "همذان"!
وتالله لا شك أن من يجىء بعدنا-إذا بَعُد العهد-، ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها، ويستبعدها، والحق بيده، فمن استبعد ذلك فلينظر أننا سطرنا نحن وكل من جمع التاريخ فى أزماننا هذه، فى وقت كل من فيه يعلم هذه الحادثة، استوى فى معرفتها العالم والجاهل لشهرتها".
فلما أحس جنكيز خان بقرب نهاية أجله راح يقسم مملكته بين أبنائه الأربعة إلى أربعة أقسام، فقد أراد أن يملك أولاده الدنيا بأسرها، ولا يبقى فيها لغيرهم كلمة ولا سلطان.
ولولا ما حصل بعده من الخلاف لتم كل ما توقعه، وفى سنة 624هـ/ 1227م أدركته منيته، وكان ذلك فى عهد الخليفة العباسى المستنصر بالله وهو المنصور بن محمد الظاهر (623هـ-640هـ).
وظهر من آل جنكيز خان أربعة بيوت، ورثت الملك، وتممت الغزو الغاشم حتى تهيأ لها أن تملك معظم بلاد المسلمين، وجزءًا كبيرًا من أوربا، وامتد سلطان "التتار" على الجزيرة والشام وبلاد الروم.
سقوط الخلافة العباسية:
وقعت هذه الحوادث وخليفة بغداد لاهٍ، بينما التتار يسيرون فى بلاد المسلمين قتلا وأسرًا وتخريبًا، ثم سارت جيوش هولاكو قاصدة بغداد فى عهد المستعصم. ففى منتصف المحرم سنة 656هـ/ 1258م، نزل بنفسه على بغداد، وأعد عدة الحصار، ولم يكن عند الخليفة ما يدفع به ذلك السيل الجارف، واكتفى بإقفال الأبواب، فجدَّ المغول فى القتال حتى ملكوا الأسوار بعد حصار لم يزد على عشرة أىام. وبملك الأسوار تم لهم ملك البلد.
وهنا برزت صفحة دنيئة من الخيانة التى مثلها الوزير الشيعى الرافضى محمد بن العلقمي، ذلك الذى كان يراسل التتار، ويرغبهم فى دخول بغداد، وكان يعمل جهده فى تقليل قوة المسلمين بتسريح جيشهم وإهمال شأنه حتى لم يعد قادرًا أن يقف ولو ظاهريّا أمام التتار، وكان هذا الوزير أول من خرج لاستقبال هولاكو لما أحاط بالمدينة، ثم عاد ينصح الخليفة بالخروج لاستقبال هولاكو، وأن يجعل للتتار نصف خراج العراق.
فخرج الخليفة ومعه العلماء والقضاة والفقهاء والأمراء، وحمل له الخليفة الذهب والحلى والمصاغ والجواهر والأشياء النفيسة.
أشار ابن العلقمى والرافضة على هولاكو ألا يقبل من الخليفة نصف الخراج، بل أشار على هولاكو أن يقتله، وقد كان هولاكو رغم وثنيته وكفره يتهيب قتل خليفة المسلمين، لكن هذا الوزير الشيعى الرافضى هون عليه أمر الخليفة فقتله، وقتل كل العلماء والفقهاء، فعل ابن العلقمى كل ذلك طامعًا أن يزيل السنة.
ولم يبق آمنًا من هذه المذبحة الرهيبة غير اليهود والنصارى الذين عملوا أدلاء لجحافل التتار الكافرة، يدلونهم على من اختفى من علماء المسلمين أو تجارهم ليذهبوا إليهم فى مخابئهم فيذبحوهم، وكان هذا هو الجزاء الذى تلقاه المسلمون على تسامحهم العظيم مع أهل الذمة من اليهود خاصة.
وبهذا القتل كسفت شمس الخلافة العباسية بعد أن مكثت مشرقة 524 سنة.
***

موسوعة الاسره المسلمه

د.فالح العمره 29-09-2006 01:57 PM

الدولة المستقلة عن الخلافة العباسية
فى عهد الخلافة العباسية استقلَّت بعض الدول عنها استقلالا تاما، بينما أخذ بعضها يتجه نحو استقلال جزئى تصبح البلاد فيه تابعة للخلافة اسمًا (فقط) بحيث تستمد منها مكانتها الروحية وقدرها العظيم فى نفوس المسلمين.
ويقف المؤرخون والمحللون أمام قيام بعض الدول وانهيار أخرى وقفات تأملية يبحثون عن الأسباب والعوامل التى أدت إلى قيام هذه وانهيار تلك.
وعلى كلّ، فقد كان قيام الدويلات نتيجة لضعف الخلافة، وسببًا لمزيد من الانحلال، وخطوة على طريق النهاية، لقد قامت أولى هذه الدويلات فى أقصى الغرب؛ لبعده عن عاصمة الدولة، ومركز السلطان فيها، فقامت دولة الأمويين فى الأندلس، وبقيامها فى سنة 137هـ/756م ضعف نفوذ العباسيين على الغرب، وسرعان ما نشأت الدويلات فى شمال إفريقية.
وحين تطرق الضعف إلى جسد الخلافة العباسية جميعًا، نشأت الدويلات فى بقية أجزاء الدولة، وقد تسببت هذه الدول فى ضعف الدولة العباسية وانحلالها؛ ذلك لأنَّ علاقة هذه الدويلات بالدولة العباسية كانت مختلفة اختلافًا كبيرًا، فقد انفصل بعضها عن الدولة انفصالا تامّا، ونافسها بعضها على تولى الخلافة نفسها.
كما ظل قسم آخر على علاقة اسمية بالدولة، فيكفى الخليفة أن يذكر اسمه على المنابر، ويصك اسمه على العملة، وفى حقيقة الأمر أنها دولة مستقلة تمامًا لا تخضع له فى شىء. وهناك دويلات ظلت على صلة متغيرة بالدولة، تقوى حينًا، وتضعف حينًا آخر تبعًا لتغير الأحوال.
وفيما يلى نذكر هذه الدول والإمارات، التى انفصلت عن دولة الخلافة العباسية، وهى:
أولا: الإمارة الأموية فى الأندلس.
ثانيًَا: الدول فى بلاد المغرب وهى:
1- الدولة الرستمية.
2- دولة الأدارسة.
3- دولة الأغالبة.
ثالثًا: الدول فى بلاد الشرق، وهى:
1- الدولة الطاهرية.
2- الدولة الصفارية.
3- الدولة السامانية.
4- الدولة الغزنوية.
رابعًا: الدول فى مصر والشام، وهى:
1- الدولة الطولونية.
2- الدولة الإخشيدية.
3- الدولة الحمدانية.
4- الدولة الفاطمية.
5- الدولة الأيوبية.
6- الدولة المملوكية.
***

د.فالح العمره 29-09-2006 01:58 PM

الإمارة في الأندلس
(138-422هـ/ 750-1031م)
عبدالرحمن الداخل:
لما قامت الخلافة العباسية طارد العباسيون الأمويين، ويشاء الله أن يفلت من أيديهم واحد من بنى أمية : أتدرى من هو؟ إنه عبدالرحمن بن معاوية بن هشام حفيد هشام بن عبد الملك عاشر الخلفاء الأمويين.
لقد هرب إلى فلسطين، ومنها إلى مصر ثم المغرب بعد خمس سنوات من التجول والتخفى عن عيون العباسيين ومكث عند أخواله الذين أكرموه.
ومن هناك راح ينتقل من "برقة" إلى "المغرب الأقصى" حتى وصل إلى مدينة "سبتة" سنة 137هـ/ 755م، وراح يُعِدّ العدة ويلتقط أنفاسه، ويرسم الخطوط العريضة لإقامة دولة يحيى بها مجد آبائه وأجداده الأمويين.
وأخذ يتطلع إلى "الأندلس الإسلامية" ليقيم فيها الخلافة الإسلامية الأموية من جديد، فهى البلاد التى فتحها الجيش الإسلامى بقيادة طارق بن زياد وموسى بن نصير، زمن الأمويين منذ سنة 92هـ/711م، وإليهم يرجع الفضل فى فتحها!
ولقد استقرت بها طوائف من أهل الشام وجُنْدِه الموالين للبيت الأموى.
وهنا أرسل "عبد الرحمن" أحدَ أتباعه، وهو مولاه "بدر"؛ ليجمع كلمة الذين يدينون لبنى أمية بالولاء والانتماء، ورَحّبَ به أنصارُ بنى أمية، ورأَوْا فيه شخصًا جديرًا بأن يتولى زعامتهم بدلا من ذلك الوالى العباسى، وعبر البحر إلى شاطئ الأندلس، وهناك انضمّ إليه أنصارُ بنى أمية، فقد انتهز عبد الرحمن الداخل فرصة الخلافات بين العرب المُضَريِّين والعرب اليمنيين فى الأندلس، فانضم إلى اليمنيين لأنهم كانوا مغلوبين على أمرهم، وهزم المضريين بقيادة يوسف الفهرى فى موقعة "المصارة" فى 138هـ/ 756م، فاستولى على مدن البلاد الأندلسية الجنوبية دون مقاومة، ثم راح يستولى على "قرطبة" عاصمة "ولاية الأندلس" سنة 141هـ/ 759م، بعد هزيمة الوالى العباسي، وأعلن نفسه أميرًا، وأصدر عفوّا عامًا غداة دخوله قرطبة ليمكن لنفسه فى البلاد، وتم له ما أراد بعد بضع سنوات فقط من تولى العباسيين عرش الخلافة فى بغداد، وبهذا انفصلت ولاية الأندلس، عن الخلافة فى بغداد انفصالا رسميّا.
ولكن ماذا كان موقف العباسيين من هذا الذى زاحمهم فى الأندلس، بل وأنهى حكمهم هناك؟
ظل "عبد الرحمن الأموى" يعمل طوال مدة حكمه التى استمرت ثلاثة وثلاثين عامًا على تأمين مركزه فى جميع أجزاء دولته الجديدة، فأخمد الفتن، وأحبط الدسائس، وقضى على تلك المحاولات التى قام بها العباسيون لإخراجه من الأندلس.
صقر قريش:
لقد أرسل أبو جعفر المنصور إليه جيشًا بقيادة العلاء بن مغيث لإخضاع، الأندلس فهزمه عبد الرحمن بن معاوية وقتل العلاء.
فماذا فعل المنصور؟ وكيف كان رد الفعل؟
لم يحاول المنصور العباسى أن يُعيِّن على الأندلس أحدًا بعد هذا الذى قُتل.
ولم يحاول أن يرسل جيشًا لحربه، بل فَضَّل أن يقر بالأمر الواقع ويعترف له بلقب: "صقر قريش"، فقد أطلق عليه أبوجعفر المنصور هذا اللقب لاعترافه بشجاعته وقوته، فيروى أن أبا جعفر قال يومًا لبعض جلسائه: "أخبرونى من صقر قريش من الملوك،؟ قالوا ذلك أمير المؤمنين الذى راضى الملوك، وسكن الزلازل، وأباد الأعداء، وحسم الأدواء (يقصدون أبا جعفر المنصور). قال : ما قلتم شيئًا. قالوا : فمعاوية ؟قال: لا. قالوا: فعبد الملك بن مروان؟ قال ما قلتم شيئًا. قالوا: فمن يا أمير المؤمنين ؟ قال صقر قريش عبدالرحمن بن معاوية الذى عبر البحر، وقطع القفر، ودخل بلدًا أعجميّا منفردًا بنفسه فمصَّر الأمصار، وجنّد الأجناد، ودَوَّن الدواوين، ونال ملكًا بعد انقطاعه بحسن تدبيره وشدة شكيمته، إن معاوية نهض بمركب حمله عمر وعثمان عليه وذلَّلا له صعبه، وعبد الملك ببيعة أبرم عقدها، وأمير المؤمنين بطلب عترته واجتماع شيعته، وعبد الرحمن منفرد بنفسه، مؤيد بأمره مستصحب لعزمه، فمد الخلافة بالأندلس، وافتتح الثغور وقتل المارقين وأذل الجبابرة الثائرين".
أخلاق عبدالرحمن:
وقد كان عبد الرحمن جوادًا بسيطًا متواضعًا، يؤثر لبس البياض، ويصلى بالناس الجمع والأعياد، ويحضر الجنائز، ويعود المرضى، ويزور الناس ويخاطبهم، وكان نقش خاتمه "عبد الرحمن بقضاء الله راض " و "بالله يثق عبد الرحمن به يعتصم"، وكان شاعرًا بليغًا عالمًا بأحكام الشريعة.
ولقد اكتفت الخلافة العباسية ببقاء عبد الرحمن الأموى بعيدًا عنها فى إمارته.
النهضة العمرانية:
وراح عبد الرحمن يبنى، ويعمر، ويُعيدُ الحياة الآمنة الهادئة إلى ربوع الأندلس أكثر من ثلاثين سنة.
ولقد قابلته صعوبات وعقبات، منها تلك الفتن التى نشبت بين المضرية واليمنية، وهما من العرب، وكان هناك خطر جاثم يتمثل فى "دولة الفرنجة" (فرنسا الآن)، وكانت هناك أسبانيا النصرانية التى استطاعت أن تكون مملكة فى الشمال الغربى من شبه جزيرة أيبيريا (أسبانيا).
ولقد استطاع أهل مدينة سرقسطة مع واليهم أن يصدوا هجوم شارلمان سنة 161هـ/ 778م.
وقد استطاع عبد الرحمن أن ينافس العباسيين فى بغداد، وفاقت حضارة بلاده حضارات الدولة الأوربية المعاصرة لها، فقد أعاد عبد الرحمن بناء مسجد قرطبة، وأنشأ فيها الحدائق والبساتين والقصور، واهتم بالعلم والعلماء.
وعاش من فى الأندلس من مسيحيين ويهود عيشة هانئة آمنة سعيدة فى ظل التسامح الإسلامى، حتى توفى عبد الرحمن سنة 172هـ/97_م، وعاشت الدولة من بعده قرنين ونصف قرن من الزمان!ترى من سيخلف "عبد الرحمن الأموي" وهل سيصفو الجوُّ لَهُ كما صفا لمن سبقه؟
هشام الأول:
لقد حكم الأندلس بعد وفاة "عبد الرحمن الداخل" ابنه "هشام الأول"، وكان وَرِعًا تقيّا يتشّبه بعمر بن عبد العزيز -رضى الله عنه-، وكان شغفه بالجهاد، وإعلاء كلمة الدين من أخص مظاهر تقواه، فقد أرسل الحملات الكثيرة التى هزمت الفرنجة، واستولى على مدنهم، ونشر الإسلام فيها، وكان ينفق الأموال الطائلة فى افتداء أسرى المسلمين حتى لم يَبْقَ فى قبضة العدو منهم أحد، رتب فى ديوانه أرزاقًا لأسر الجند من الشهداء، وفى عهده جُعلت اللغة العربية لغة التدريس فى معاهد اليهود والنصارى، وكان ذلك سببًا فى استقرار البلاد وهدوء الخلافات بين النصارى والمسلمين، ووقوف النصارى على حقيقة الإسلام، ودخول الكثيرين منهم فى الإسلام.
وكان يحب مجالس العلم والفقه والأدب، وكان معاصرًا للإمام مالك، وكان الإمام مالك يحبه ويعجب بسيرته، ولذلك انتشر مذهب الإمام مالك فى الأندلس فى عهد هشام، ولشدة عدله وتقواه قصده كثير من العلماء والفقهاء.
وكان يرسل الوعاظ إلى جميع أجزاء مملكته للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وكان يعود المرضى، ويخرج فى الليالى العاصفة وهو يحمل الطعام لأحد الزهاد، حتى إذا بلغ داره جلس بجانبه يؤنسه ويرعاه، ويرسل من يثق فيهم من رجاله إلى بلاد الأندلس ومدنها، يسألون الناس عن أحوالهم وسيرة عماله فيهم، فإذا انتهى إليه أن أحدهم أسرف عزله عن عمله، وكان يهتم بالزكاة فيجمعها وينفقها فى وجوهها. ولقى هشام ربه سنة 180هـ/ 796م.
الحكم الأول:
وجاء بعد هشام ابنه الحكم الأول، وكان حازمًا شجاعًا قويًا على أعدائه، كريمًا يميل إلى العفو، فطنًا، حسن التدبير، واسع الحيلة، يؤثر العدل، ويحرص على إقامته، ويختار لقضائه أفضل الناس وأكثرهم نزاهة وورعًا، وكان يسلط قضاته على نفسه وولده وخاصته، وكان قاضيه محمد بن بشير من أعظم القضاة نزاهة واستقلالا فى الرأى والحكم، وكان الحكم خطيبًا مفوهًا وشاعرًا مجيدًا، نظم الشعر فى مناسبات مختلفة.
واهتم بالعمران والصناعة والزراعة، وكان محبّا للثقافة، نصيرًا للعلوم والآداب، يحشد حوله جمهرة من أكابر العلماء والأدباء والشعراء، مثل العلامة الفلكى الشهير عباس بن فرناس.
وقد اشتهر ببره بأهل بيته، وإغداقه النعم على أقربائه، وكان يعشق الفلك، ويهتم بدراسته، وكان ابن فرناس، وعبيد الله بن الشمر من أساتذته فى هذا الفن، وكان يقربهما ويجرى عليهما الأرزاق.
وفى عهده ازداد شأن الحكومة الإسلامية عند بلاد الفرنجة، وصارت لها مكانتها ومنزلتها بين حكومات هذه البلاد الفرنجية، وصارت الدولة الإسلامية توفد سفاراتها إلى كل هذه الدول، وتوفى سنة 206هـ/228م.
عبدالرحمن الثانى:
ويتولى الأمر فى "الأندلس" عبد الرحمن الثانى (الأوسط) ولكن الوضع فى عهده كان يختلف عمن قبله.
لقد امتاز عهده بالهدوء والسلام الداخلى بعد أن قضى على الثورات والفتن الداخلية، وقضى على غارات النورمان على الأندلس، فنهض لإصلاح البلاد؛ مما أدى إلى ازدهار الحياة بها ونمائها حتى راحت تنافس دولة العباسيين فى النهضة العلمية، وفى التقدم الاقتصادى والحضارى. وقد أنشأ دارًا كبيرة فى أشبيلية لصناعة السفن، كانت نواة للأسطول الإسلامى الأندلسى الذى ازدهر فى أيام عبد الرحمن الناصر.
وظلت الأندلس تنعم بحياة مزدهرة حتى لقى الأمير عبد الرحمن الأوسط ربه سنة 238هـ/ 853م.
ثلاثة أمراء:
وتمر السنوات سراعًا فيتغير حال الأندلس، وتضطرب الأمور نتيجة للثورات الداخلية، ويتوالى على الحكم ثلاثة من الأمراء:
الأول: محمد بن عبد الرحمن (الأول)، وكان فاضلا مهتمّا بأحوال المسلمين، والعناية بمصالحهم وثغورهم، حاول الحفاظ على الدولة الإسلامية بالأندلس من التفكك والضعف. ولكن الأحداث كانت تجرى على غير ما يشتهى، ومع ذلك فقد أرسل الحملات الكثيرة لتأديب الثائرين وقمع المعتدين، وكان يخرج بنفسه على رأس حملات لغزو النصارى ورد كيدهم، وقوّى الجيش وأعد الحصون، وخفف الضرائب عن الناس رغم كثرة الحروب، واكتفى بدعوتهم للتطوع للجهاد فى سبيل الله، وكان يُقرب العلماء والفقهاء، ونال الفقهاء فى عصره كثيرًا من الرعاية، ومع أن مدته كانت حربًا عسكرية فإنه قام بالعديد من الإصلاحات، مثل بعض التجديدات والإضافات الكثيرة فى المسجد الجامع بقرطبة.
الثانى: المنذر بن محمد وكان قويّا شجاعًا حازمًا مع زعماء الفتنة يخافونه ويهابونه، ولولا وفاته المفاجئة لقضى على هذه الفتن، وكان من أصلح أمراء بنى أمية وأحسنهم خلقًا، وكان يؤثر مجالس العلماء والشعراء ويعظمهم، وكان يلجأ إلى أهل العلم لاستشارتهم.
الثالث: عبد الله بن محمد الذى استمر حكمه حتى سنة 300هـ/913م.
وكان الوضع السياسى خلال فترة هؤلاء الثلاثة منذرًا بأسوأ حال، فلقد تمزقت وحدة البلاد، وانحسر الحكم الأموى عن البلاد، ولم يبقَ فى يد الأمراء المسلمين إلا قرطبة، بينما انقسمت الدولة الأندلسية إلى دويلات مستقلة حتى قيض الله لها فى القرن الرابع الهجرى، العاشر الميلادى من يأخذ بيدها، فقد بلغت البلاد من القوة والازدهار وذيوع الصيت ما لم تبلغه من قبل فى عهد عبد الرحمن الناصر (300 - 350هـ/ 913 - 961م) كذلك كانت ولاية حكم المستنصر(350-366هـ/961-977)، والأسرة العامرية خيرًا وبركة على الدولة الإسلامية حتى نهاية القرن الرابع الهجرى.
ملوك الطوائف:
شاء الله أن تدخل الأندلس فى القرن الخامس الهجرى، الحادى عشر الميلادى دورًا طويلا من التفكك الداخلى بين أجزائها على أيدى ملوك مسلمين أَطلق عليهم التاريخ اسم "ملوك الطوائف"، وما زال هؤلاء الملوك يتناحرون فيما بينهم حتى سقطت طُلَيْطِلَة فى أيدى الأسبان، وهنا ظهر المرابطون، وهم جماعة من البربر الأشداء ظهروا فى بلاد المغرب، واستطاعوا حكمها حتى استنجد بهم المسلمون فى الأندلس بعد سقوط طليطلة، فأوقعوا بالأسبان الصليبيين هزيمة ساحقة على يد الزعيم المرابطى العظيم يوسف بن تَاشَفِين، ومضى خلفاء يوسف على ذلك العهد من الجهاد للأعداء والحفاظ على الأندلس حتى ضعفت دولتهم، وورثها الموحدون وهم يشبهون المرابطين فقد كانوا أيضًا من البدو الذين حكموا المغرب، ثم عبروا إلى الأندلس مجاهدين ليمدوا فى عمر المسلمين هناك عصورًا أخرى من الغزو والحضارة، فلما ضعف الموحدون انقسمت الأندلس بين زعمائها حتى ظهر بنو الأحمر فى "عُمْر ناقة" فأقاموا بها ملكًا عظيمًا.
مظاهر الحقد الصليبى:
لقد ظهر الحقد الصليبى فى أبشع صوره بعد سقوط طليطلة، فقد حولوا جامعها إلى كنيسة على يد الفونس السادس، الحاكم الأسبانى، ولم يسلم مسلم من أذاهم، وتجلى حقدهم الأعمى على الإسلام والمسلمين، فأعملوا فيهم القتل والتعذيب والإحراق، وما تزال صحائف محاكم التفتيش السود تنطق بما حَلّ بالمسلمين، تلك التى أقاموها للمسلمين بعد أن زال سلطان المسلمين نهائىّا من أسبانيا عندما استسلم أبو عبد الله ملك "غرناطة" سنة 898هـ/ 1492م. وضاع ذلك "الفردوس" من أيدى المسلمين. لقد كان البيزنطيون يقيمون المذابح فى البلاد القريبة من الحدود البيزنطية فى الشام والجزيرة من بلاد العراق. كما ارتكبت الجرائم على أيدى الصليبيين الذين غزوا مصر والشام. وراح التتار يشنون حرب إبادة وتعذيب فى بلاد ما وراء النهر وخراسان والعراق والشام. كلهم تكالبوا على المسلمين، ونكلوا بهم، بينما كان الفتح الإسلامى كله عدل ورحمة ومحبة وتسامح وحرية للأديان، واحترام لحقوق الإنسان. لقد هدموا المساجد فى الأندلس التى تدل على تاريخ المسلمين بها، بينما بقيت الكنائس فى كل البلاد التى ظلت تحت حكم الإسلام والمسلمين، ألا فلتشهد الدنيا سماحة الإسلام والمسلمين!
ترى هل تعود الأندلس إلى أحضان المسلمين ثانية؟ لن تعــود إلا بالعمل الجاد والإيمان العميق والعلم والتقدم، ووحدة الصف الإسلامي.
لقد رفضت الدولة الرومانية الدعوة السلمية التى بعث بها رسول الله ( إلى ملكها ليدخل فى دين الله، وتحركت بدافع صليبى لمحاولة القضاء على الإسلام، فنشأ الصراع الحربى الذى انتهى بدخول المسلمين الشام ثم آسيا الصغرى، بالإضافة إلى مصر والنوبة وشمال إفريقية وإجلاء الرومان عنها، فزادت الضغينة، وتراكمت المرارة فى قلوب الصليبيين، فظلوا يتربصون لهذا الدين، يتمنون فرصة مواتية يكرُّون عليه فيها، ويُجْلونه عن الأماكن التى فتحها وفتح قلوب أهلها للحق.
لكنهم ما كانوا يفكرون فى ذلك والدولة الإسلامية فى قوتها وسطوتها أيام الأمويين، وأيام قوة الدولة العباسية .
فلما انتشر الترف؛ تراخى المسلمون عن رسالتهم وسادت النزاعات والشقاقات فيما بينهم.
وهنا جاءت الصليبية، واستولت على ساحل الشام فى القرنين الخامس والسادس الهجريين، ثم هب الشرق ممثلا فى الأتراك العثمانيين فأسقط الدولة البيزنطية، واستولى على البلقان.وعاد الغرب فى القرنين التاسع عشر والعشرين ممثلا فى الاستعمار الأوربى ليستولى على كثير من بلاد الشرق.
***

د.فالح العمره 29-09-2006 01:59 PM

الدولة الرستمية
(160-296هـ/ 777-909م)
قامت الدولة الرستمية فى المغرب الأوسط (الجزائر)، وتنسب إلى مؤسسها "الرحمن بن رستم " زعيم الخوارج الإباضية، ومنذ خرج "الخوارج" على "على بن أبى طالب" -رضى الله عنه- وتسببوا فى قتله على يد الخارجى "عبد الرحمن بن ملجم"، وهم يتبنون سياسة الخروج والثورة على الخلافة الإسلامية، يكفِّرون من خالفهم من المسلمين، وتستبيح بعض فرقهم دماءهم!
وكان الخوارج قد فروا فى مرحلة مبكرة من الأمويين بدمشق والشام إلى المغرب.
وحاول الخوارج نشر مبادئهم هناك، وكانت الدولة العباسية كالدولة الأموية تحاول القضاء على الخوارج بسبب أفكارهم الغريبة ومعتقداتهم، واستقر عبد الرحمن بن رستم فى إقليم "تاهرت" بالمغرب الأوسط، وقام بنشر مذهبه هناك حتى بويع بالإمامة سنة 160هـ/777م، فأعلن قيام دولته التى صارت ملجأ لإباضية العراق وفارس وغيرهما، وهم أحد الفرق المعتدلة؛ حيث تتعايش مع خصومها وتعدل عن قتلهم.
نجح عبد الرحمن بن رستم فى توطيد دعائم دولته خلال الفترة التى قدر له أن يحكمها (144-168هـ) وقد خلفه من بعده ابنه عبد الوهاب الذى بقى فى حكم الدولة الرستمية عشرين سنة، ثم "أفلح بن عبد الوهاب" الذى حكم أكثر من خمسين عامًا (188-238هـ)، ثم تتابع فى حكم الدولة الرستمية خمسة من الأمراء، هم: أبوبكر بن أفلح، وأبو اليقظان، فأبو حاتم، فيعقوب ابن أفلح، فاليقظان ابن أبى اليقظان آخر أمرائهم.
وظل أتباع هذه الدولة يتصارعون ويختلفون حتى انقرضت الدولة الرستمية سنة 296هـ/ 909م، فى عهد اليقظان بن أبى اليقظان على يد داعى الفاطميين أبى عبد الله الشيعي.
لقد كانت علاقة الدولة الرستمية متوترة مع الأغالبة الذين يمثلون الدولة العباسية، ولكنهم كانوا على علاقة طيبة بالأمويين فى الأندلس، وذلك لأن الأمويين كانوا يبادلون العباسيين الكراهية والعداء.
وانتهت دولة الرستميين رغم ما تمتعت به من حياة سهلة رغيدة مدة من الزمان؛ لأن الذى يخرج عن جسم الأمة لابد أن تحاصره النهاية.
وكانت هنا دويلة أخرى قامت فى جنوب المغرب الأقصى إلى جانب دولة الأغالبة والأدارسة والدولة الرستيمة، إنها دولة سجلماسة (أو الدولة المدارية) فى جنوب المغرب الأقصى (140-296هـ/ 758-909م) وقد يتساءل البعض عَمْن أسسها؟ وكيف كانت علاقة هذه الدولة بجيرانها؟
لقد أسسها "موسى بن يزيد المكناسي" وهى دولة كالرستمية أسسها خوارج لكنهم على المذهب الصفري، ولهذا توطدت العلاقات بين هذه الدولة والدولة الرستمية فى شتى المجالات، ومؤسسها سودانى بنى العاصمة "سجلماسة"، وقد قضى الفاطميون عليها كما قضوا على غيرها.
***

د.فالح العمره 29-09-2006 02:00 PM

دولة الأدارسة
(172-364هـ/789-975م)
ذُكِرَ أنه فى أيام الخليفة الهادى قامت ثورة "علوية" فى الحجاز، وهى من تلك الثورات التى كان العلويون يشعلون نارها طوال خلافة العباسيين. وقامت قوات "الهادي" بالقضاء على هذه الثورة فى موقعة "فخ". ولكن بعض رءوس هذه الثورة وقادتها قد أفلتوا من أيدى العباسيين وهربوا إلى أماكن نائية بعيدًا عن أيديهم.
وكان ممن هربوا عَلَوِى يسمى "إدريس" بن عبد الله بن الحسن ابن على -رضى الله عنه-. وراحت قوات العباسيين تطارده، عيونهم وجواسيسهم تبحث عنه، فظل ينتقل من قطر إلى قطر آخر حتى وصل إلى مصر. وفى مصر التقى بصاحب البريد، وكان قلبه مع العلويين، فدبر لإخفائه، واحتال حتى أرسله إلى أبعد أجزاء الدولة حتى يكون فى مأمن من سطوة الخليفة.
وكان له ما أراد فوصل إلى أقصى المغرب.
وهناك أعلن أنه من سلالة النبى (، فأسرع البربر بالالتفاف حوله غير أن جيش أنصار الخليفة العباسى تمكن من هزيمته، ولكن ابنه إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن على تمكن من جمع أهل المغرب من حوله، وما أسرع ما بايعوه، ولم يجد صعوبة فى قيادتهم والاستيلاء على الإقليم جميعه، والقضاء على أى أثر للنفوذ العباسى فيه، واتخذ عاصمته فى فاس، وأقام دولة هناك نُسبت إليه فعُرفت بدولة الأدارسة، وهى نموذج للدولة المعادية للدولة العباسية، وهى أول دولة شيعية تظهر فى التاريخ، على أنَّ تَشَيُّعَها لم يكن يتجاوز حب آل بيت رسول الله > والولاء لهم، وهى صفة يشترك فيها السنة والشيعة معًا، وإن بالغ فيها أهل التشيع.
فلم يكن تشيع هذه الدولة ينال من حقيقة الإسلام الصافية شيئًا. ولهذا أحبها أهل السنة وانتصرت بهم، وكانت القبائل البربرية السنية فى المغرب حاميتهم وعماد دولتهم، ولهذا أيضًا عاشت دولة الأدارسة نحوًا من قرنين من الزمان.
لقد كانت "دولة الأدارسة" ضعيفة نسبيّا وذلك لسببين:
أولهما: أنها كانت محصورة بين الصحراء والمحيط والأمويين فى الأندلس ثم الأغالبة فى إفريقية.
ثانيهما: هو أنها كانت تعتمد على البربر وهم متقلبون يؤيدونها اليوم بينما يثورون عليها غدًا.
وكانت سياسة الدولة نفسها متقلبة تميل مع مصالحها لتضمن البقاء والاستمرار، فهى يومًا تميل مع الفاطمين، فتدعو لهم، وتعتمد عليهم، وعندما يهددها الأمويون فى الأندلس تميل معهم وتدعو لهم، وهذا يفسر لنا بوضوح سر ضعف دولة "الأدارسة".
وأراك تسألنى عن نهايتها، وأقول: لقد كانت نهايتها كنهاية دولة "الأغالبة" فى تونس -التى سيأتى ذكرها- على يد الفاطميين سنة 364هـ/ 975م بعد أن عاشت ما يقرب من قرنين، وأدت دورًا حضاريّا رائعًا فى المغرب الإسلامي، إذ انتشر بهم الإسلام فى المغرب بين البربر، وأسّسوا جامع القرويين الذى كان منارة للثقافة الإسلامية، وكانت فى المغرب كالأزهر فى المشرق.
***

د.فالح العمره 29-09-2006 02:01 PM

دولة الأغالبة
(184-296هـ/800-909م)
هل تعلم أن نية العرب يوم فتحوا شمالى إفريقية كانت تتجه إلى توحيد إدارتها وإدارة الأندلس فى ولاية واحدة أسموها "إفريقية" وعاصمتها "القيروان"؟!
ولكن موقف "البربر" المتقلب، والبعد عن الخلافة، ونفوذ الأمويين فى الأندلس، كل ذلك ساعد على قيام الدويلات، فقامت "دولة الأدارسة" فى المغرب كما عرفتَ، وحاول الرشيد أن يوقف نفوذهم وتقدمهم، فاختار صديقًا له يدعى "ابن الأغلب" وولاه على القيروان (تونس). وأفهمه أن مهمته الأولى هي: إيقاف "الأدارسة" عند حدهم. واستطاع إبراهيم بن الأغلب بعد أن وصل إلى "القيروان" أن يوقف زحف الأدراسة العلوية، وأن يقى الدولة العباسية شر غزوات البربر والإغارة على الأقاليم الشرقية للدولة، وحقق إبراهيم بن الأغلب للرشيد ما أراد.
وكانت هذه الدويلة تمثل الدويلات ذات العلاقة الاسمية بالدولة العباسية بخلاف دولة الأدارسة التى كانت معادية للخلافة العباسية. لقد استطاع "إبراهيم بن الأغلب" أن يوقف الأدارسة. وبعد مناوشات بين الطرفين اقترحوا عليه ألا يعتدى أحد الطرفين على الآخر، وأن يبقى كل فى إقليمه، فقبل "ابن الأغلب".
واستقل "إبراهيم بن الأغلب" بالإقليم، ولكنه ظل على علاقة بالخلافة العباسية، فهو يذكر اسم الخليفة فى خطبة الجمعة، ويضع اسمه على العملة، ولكن فيما عدا هذين الأمرين فليس للخليفة العباسى أى نفوذ على دولة الأغالبة، فهم يتوارثونها أبًا عن جد، ويصرِّفون أمورها كما يشاءون دون رقيب.
ولما قويت شوكة الأغالبة بدءوا التوسع، ولكن الأدارسة حدوا من توسعهم غربًا، والصحراء حدتهم جنوبًا، والعباسيون شرقًا، فلم يبقَ لهم سوى الاتجاه شمالا حيث البحر!
فهل توقف الأغالبة؟ كلا، فها هم أولاء ينشئون أسطولا ضخمًا، يبنونه فى سنوات معدودات، ويبدءون جهادهم المبارك ضد الصليبيين بقيادة "أسد بن الفرات" فى البحر الأبيض المتوسط، ترى إلى أين؟ هاجموا جزيرة "صقلية" مرارًا على مدى ثمانين عامًا حتى استطاعوا القضاء على مقاومة الرومان من أهل الجزيرة وحكامها، وضموها لأراضى المسلمين، ثم استولوا على جزيرتى "مالطة" و"سردينيا" ونزلوا بعد ذلك فى كثير من السواحل الأوربية، وبخاصة سواحل إيطاليا الجنوبية والغربية، والسواحل الجنوبية لفرنسا.
لقد عاشوا أكثر من قرن من الزمان يحكمون تونس وملحقاتها، ويحكمون صقلية، ويفرضون هيبتهم على الدول الأوربية.
وقد استطاعوا فى بعض هذه السواحل إقامة حاميات وحصون دائمة، وإن لم يستطيعوا التوغل فى بعض هذه البلاد والاستيلاء عليها من أيدى أهلها.
وقد يتساءل البعض: ما قيمة هذه الفتوح وهى ليست إلا بعض جزر، وبعض نقاط السواحل؟
إنها فى حقيقة الأمر على جانب كبير من الأهمية، ذلك أن هذه الجزر والسواحل الضيقة كانت جسرًا عبرت عليه الحضارة الإسلامية إلى أوربا فى زمن كانت فيه أوربا فى ظلام حالك.
كما أن السيطرة على هذه الجزر كان يؤمن التجارة الإسلامية فى غرب البحر المتوسط وكانت الثقافة الإسلامية الضوء الوحيد فى العالم الذى أنار وجه الأرض حينذاك.
وعاشت دولة الأغالبة قرنًا وتسعة أعوام من سنة800م إلى سنة 909م، وازدهرت الحياة الاقتصادية والعمرانية فى تونس على عهدهم، ولعبت مساجدهم فى تونس دورًا كبيرًا فى دعم الحضارة الإسلامية، وكان جامع الزيتونة جامعة إسلامية عظيمة.
وقد انتهت حياتها على يد الفاطميين يوم دخلوا القيروان فاتحين.
***

د.فالح العمره 29-09-2006 02:03 PM

الدولة الطاهرية
(205-259هـ/821-873م)
قامت هذه الدولة فى خراسان، وقد أسسها طاهر بن الحسين أحد كبار قواد الجيش فى عهد الخليفة المأمون.
ولكن كيف يتسنى له أن يقيم دولة والدولة العباسية فى أول عهدها، وفى عصر المأمون الذى يعد العصر الذهبى للدولة العباسية؟!
إن لقيام هذه الدولة قصة، فقد كان لإقليم خراسان وضع خاص فى الدولة العباسية منذ نشأتها، إذ كان هؤلاء الخراسانيون-كما علمتَ فى قيام الدولة العباسية-يشعرون بأنهم أصحاب فضل على الدولة العباسية، وبأن سيدهم "أبا مسلم الخراساني" هو المؤسس الأكبر لهذه الدولة، ورغم ذلك لم يحسن العباسيون جزاءهم حين قتل المنصور أبا مسلم.
والواقع أن الخلافة العباسية كانت تتجاوز كثيرًا عن الخراسانيين، وتحاول إرضاءهم؛ اعترافًا بفضلهم على الدولة. وفى عصر المأمون، كان طاهر بن الحسين وابنه عبد الله من كبار رجال الدولة وخيرة قادتها فى ذلك الوقت؛ الذى بدأ فيه الصراع بين الأمين والمأمون.
ولقد وقف طاهر بن الحسين إلى جوار المأمون فى كثير من المواقف الحرجة حتى تمكن من الخلافة. ولم يمرَّ إلا عامان حتى أقدم "طاهر بن الحسين" على خطوة جريئة فى سنة 207هـ/ 823م. أتدرى ما هي؟ لقد قطع الدعاء فى الخطبة للمأمون، وكان قطع الدعاء يعنى الاستقلال عن الخلافة.
ولكن يشاء الله أن يموت طاهر فى العام نفسه، ترى هل تعود الدولة الطاهرية إلى الدولة العباسية بعد موت مؤسسها؟
لقد تولى ابنه طلحة بعد أبيه بأمر من الخليفة المأمون، وظل الطاهريون يحكمون خراسان، ولكنهم يتبعون "الدولة العباسية" تبعية اسمية مما جعل الخلافة العباسية تلجأ إلى الطاهريين، تلتمس منهم المؤازرة والمساندة ضد الخارجين على سلطانهم.
لقد حارب عبدُالله بن طاهر نصرَ بن شبث حين قام بثورة فى شمال حلب سنة 209هـ، وأتى به أسيرًا إلى المأمون. وظل الطاهريون على ولائهم للعباسيين حيث اشترك عبد الله بن طاهر فى إخماد فتنة وقعت فى عهد المعتصم بطبرستان، وهكذا استقل الطاهريون استقلالا داخليا هادئًا فى خراسان، وظلوا يتولون أمرها، ويتوارثون الإمارة فيها، ولم يمنعهم استقلالهم من مساندة الخلافة العباسية، ومساعدتها فى كل ما واجهته من فتن وثورات.
ولكن عندما جاءت سنة 259هـ/ 873م، استطاع يعقوب الصفار أن يقيم دولته على أنقاض دولة الطاهريين.
***

د.فالح العمره 29-09-2006 02:04 PM

الدولة الصفارية
(254-290هـ/ 868-903م)
قضى يعقوب بن الليث الصفار على الدولة الطاهرية، وأقام دولته على أنقاضها، وقد لقب بهذا اللقب؛ لأنه كان فى بداية أمره يحترف صناعة النحاس الأصفر بسجستان، ثم اشتهر بالفروسية، فتطوع لقتال الخوارج مع رجل صالح كان يظهر التطوع لقتال الخوارج فى سجستان بجنوب خراسان، فقاتل معه يعقوب، ثم مع من خلفه حين مات، فصار الأمر إليه، فراح يحارب الخوارج فى "سجستان" معلنًا ولاءه للخليفة المعتز، ومظهرًا شجاعة خارقة فى قتال الخوارج حتى سيطر على سجستان، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وصار يمد نفوذه على الأقاليم المجاورة حتى ملك "هراة"، وكانت تابعة للدولة الطاهرية.
وقد توجه "الصَّفَّار" إلى "كِرْمَان"، وبسط نفوذه عليها، ثم توجه إلى فارس فأخذها بعد قتال عنيف مع غريمه "على بن الحسين" الذى وقع أسيرًا جريحًا فى يده.
ولم يكتفِ بهذا، بل توجه إلى خراسان، وحاصر العاصمة "نيسابور" ودخلها سنة 259هـ/ 873م -خلافًا لما أمره به الخليفة- بحجة أن أهل خراسان طلبوه للضعف الذى يعانيه الطاهريون فى عهد الخليفة العباسى "المعتمد"، وقبض على جميع الطاهريين بها، واستولى على البلاد التى كان يحكمها الطاهريون.
وتقدم "الصّفار" فى البلاد بعد أن هزم خصومه، وذهب إلى "طَبَرِسْتان" فدخلها سنة 260هـ/874م، وهزم صاحبها "الحسن ابن زيد العلوي" الذى عاد إليها مرة أخرى فى نفس العام 261هـ/875م.
ويدرك الخليفة خطره، فقد اتجه إلى بغداد، ولم يبْقَ فى يد الخليفة إلا هي، بعد استيلائه على "الأهواز"، فأمر الخليفة أن يجهز جيشًا بقيادة أخيه الموفق لمواجهة "يعقوب"، وذلك فى عام 262هـ/ 876م
ويشاء الله أن تدور الدائرة على يعقوب فيهزم، ولكن "المعتمد" يرى الاحتفاظ بولائه للخلافة، فمثله يمكن الاعتماد عليه فى مواجهة الثورات والانتفاضات، فبعث إليه يستميله ويتَرضَّاه، ويقلده أعمال فارس وغيرها مما هو تحت يديه، ويصل رسول الخليفة إليه، وهو فى مرض الموت، ولكن بعد أن كَوَّنَ دولة، وبسط سلطانه عليها.
ويظهر أخوه (عمرو) من بعده ولاءَهُ للخليفة، فيوليه الخليفة خراسان، وفارس، وأصبهان، وسجستان، والسند، وكرمان، والشرطة ببغداد، وكان "عمرو" كأخيه ذا أطماع واسعة، فانتهز فرصة تحسن العلاقة بينه وبين الخليفة وراح يتمم رسالة أخيه.
لقد اتجه بنظره إلى إقليم ما وراء النهر الذى كان يحكمه السامانيون، ولكن قوتهم لا يستهان بها، فما العمل؟
كتب إلى الخليفة المعتضد ليساعده على تملك هذا الإقليم، ولكنْ على الباغى تدور الدوائر، وما طار طائر وارتفع إلا كما طار وقع، لقد هُزم عمرو بن الليث الصفار هزيمة ساحقة ماحقة، ووقع أسيرًا فى أيدى السامانيين، وأُرسل به إلى بغداد ليقضى عليه فيقتل سنة 289هـ/ 902م.
ولم تكد تمر ثمانى سنوات حتى كان السامانيون قد قضوا نهائيا على الصفاريين واستولوا على أملاكهم، والأيام دول.
***

موسوعة الاسره المسلمه

د.فالح العمره 29-09-2006 02:04 PM

الدولة السامانية
(266-389هـ/ 880-999م)
تنتمى الدولة السامانية إلى "نصر بن أحمد الساماني" الذى ولاه الخليفة "المعتمد" على ما وراء النهر سنة 261هـ، وكان لنصر هذا أخ يدعى "إسماعيل الساماني" فولاه الخليفة بخاري.
وقد عرف أن السامانيين كانوا فى بلاد ما وراء النهر، وأنهم قضوا على الصفاريين واستولوا على أملاكهم.
حتى إذا جاء عام 279هـ/893م، مات نصر فقام أخوه إسماعيل مقامه فى بلاد ما وراء النهر، فوطَّد أمرها، وثبت قواعدها، وقام بحملة عسكرية ضد المجاورين له من المسيحيين؛ لأنهم كانوا يهاجمون المناطق الإسلامية من حين إلى آخر، وقد نتج عن هذه الحملة انتصاره فى هذه الحروب، ودخول كبار قادة هذه البلاد فى الإسلام، وتبعتهم فى ذلك الجماهير التابعة لهم، لقد كان إسماعيل يحب الخير والعلم، فقرب إليه العلماء، ونشر الخير فيمن حوله.
وفى عهده، تم القضاء على الدولة الصفارية، وامتد نفوذه إلى خراسان، واستولى على طبرستان بعد أن انتصر على واليها العلوى "محمد بن زيد" عام 287هـ/ 900م، وصرعه فى أثناء القتال.
وتمكن إسماعيل بعد ذلك من ضم الرى وقزوين إلى حوزته وتحت سيطرته.
وتوارثت الأجيال السامانية الولاية بعد إسماعيل السامانى حتى سنة 389هـ/ 999م ؛ حيث سقطت الدولة السامانية بسبب الأطماع والخلافات؛ مما أطمع القواد والعمال فى الخروج على الحاكمين من السامانيين.
ولا ينسى التاريخ أن يذكر للدولة السامانية اهتمامها بالعلم والعلماء ورعايتها للآداب، وقيامها بنهضة فنية رائعة فى العمارة، وصناعة الخزف والمنسوجات الحريرية، وصناعة الورق التى انتشرت فى سمرقند، ومنها انتشرت فى بقية العالم الإسلامي، وكان اهتمامهم باقتناء الكتب عظيمًا، فالمطلع على مكتبة الدولة يجد مالا يوجد فى سواها من كتب المعارف والعلوم.
***

د.فالح العمره 29-09-2006 02:06 PM

الدولة الغزنوية
(351-582هـ/ 962-1186م)
هل سمعت أو قرأت أحد هذين الاسمين؟ "سُبُكْتِكين" و"البُتْكِين"؟
إنهما اسمان تركيان، أما أولهما فتنسب إليه الدولة الغزنوية، وقد كان أحد مولى الثاني. وكان الثانى أميرًا على مدينة "هراة" التابعة لخراسان، ويصدر أمر عبد الملك السامانى بعزله، فأين يذهب؟ ذهب إلى "غزنة" واستولى عليها سنة 352هـ/963م، ويحل محله بعد موته على إمارة غزنة ابنه إسحاق، ويموت إسحاق وليس هناك من يرثه.
لقد جاء الدور على "سبكتكين" أحد موالى "البتكين" الذى كان معروفًا بالتدين والمروءة، ورجاحة العقل، وكان لابد من توسيع رقعة مملكته لتشمل "بشاور" فى الهند، وخراسان التى كان يليها أول الأمر نائبًا عن السامانيين.
ويتولى الأمر بعد "سبكتكين" ابنه إسماعيل، ثم تولى الأمر بعده أخوه محمود.
ولم تجئ سنة 388هـ/ 998م حتى كان محمود الغزنوى قد شرع فى مهاجمة "نيسابور" بعد أن ملك غزنة.
ويتمكن محمود فى سنة 389هـ/ 999م من الاستيلاء على خراسان معلنًا ولاءه للخليفة العباسى القادر بالله.
ويولى "محمود بن سبكتكين" أخاه "نصرًا" قيادة جيوش خراسان، ويسير إلى "بلخ" فيجعلها دار ملكه. ويصبح "محمود الغزنوي" من الشخصيات العظيمة فى التاريخ الإسلامى بسبب جهاده المتواصل فى اتجاه الهند. لقد قاد سبع عشرة غزوة على الهند مكنته من ضم إقليم "البنجاب"، وجزء من "السند" إلى بلاده.
إن المسلمين فى الهند وباكستان يذكرون "محمودًا الغزنوي" ولا ينسونه، وكيف ينسى وهو الذى حمل النور إليهم ونشر الإسلام بينهم؟!
لم يكتفِ محمود بهذا، بل أخضع "الغور" وهى تجاور "غزنة" ونشر الإسلام هناك، فيا لها من جهود تُذكر فتُشكر! وإلى جانب فتوحاته فى كشمير وبنجاب نراه قد استولى على بخاري، وما وراء النهر آخذًا بعض ممتلكات بنى بويه كالرى وأصفهان، وحتى إقليم سجستان أخضعه لسلطانه، وهكذا كان محمود الغزنوى رحمه الله، محبّا للجهاد والغزو ونشر دين الله فى ربوع الأرض.
لقد لقى محمود ربه سنة 421هـ/ 1030م، وكان خَيرًا، عاقلا، دَينًا، عنده علم ومعرفة، قصده العلماء من أقطار البلاد، وكان يكرمهم، ويقبل عليهم، ويحسن إليهم، وكان عادلا، كثير الإحسان إلى رعيته ملازمًا للجهاد، كثير الغزوات.
ويتولى مسعود بن محمود أمر البلاد بعد أبيه، ويسير على نهج أبيه، ولكن الدول تضعف فى أواخر عهده ؛ وينتهى أمر هذه الدولة الفتية عام 582هـ.
وبعد.. فما أكثر الدول التى قامت فى فارس ! إننا لا ننسى الدولة البويهية (323-447هـ/ 935-1055م)، وتنسب إلى أبى شجاع بن بويه، الذى كان رئيسًا لقبيلة من الديلم تسكن جنوبى بحر قزوين وتحترف الجندية.
لقد قامت دولتهم فى فارس والرى وهمذان وأصبهان، وكان مؤسسوها من الفرس، وعندما نذكر الدولة البويهية نذكر "الدولة السلجوقية" التى قامت فى فارس وهمذان والعراق، ومؤسسوها من الأتراك.
وقد عرفت أنهم قوم بدو نزحوا من بلاد التركستان إلى بخاري، واعتنقوا المذهب السني، وظلت دولتهم قائمة من سنة (429-700هـ/1038-1301م).
وخلفهم المغول فى حكم البلاد، ويأتى الحديث عن الدول المستقلة عن الخلافة العباسية إلى ذكر "الدولة الأيوبية" التى حاربت الصليبيين، وكانت مستقلة عن الخلافة العباسية أيضًا وإن ظلت على الولاء الظاهرى لها، "والدولة المملوكية" التى سقطت الخلافة فى عهدها على يد التتار، فقامت بإحيائها فى القاهرة على يد الظاهر بيبرس البندقداري.
وتبقى الدولة العثمانية التى أخذت الخلافة من الخليفة العباسى فى مصر، وظلت تقوم بمهام الخلافة إلى أن نجحت المؤامرات فى إسقاطها، وانفرط عقد الوحدة إلى يومنا هذا.
***

د.فالح العمره 29-09-2006 02:07 PM

الدولة الطولونية
(254-292هـ/ 868-905م)
فى عهد الخليفة الواثق، كانت مصر من نصيب "باكباك" التركى حيث ازداد نفوذ الأتراك، وأخذوا يتولون المناصب الكبري، ويتقاسمونها فيما بينهم.
ولكن "باكباك" فَضَّلَ أن يبقى فى العاصمة "بغداد" ويبعث من ينوب عنه فى ولاية مصر.
ووقع الاختيار على أحمد بن طولون، ذلك الشاب الذى نشأ فى صيانة وعفاف ورياسة ودراسة للقرآن العظيم مع حسن صوت به، وكان والده مملوكًا تركيا بعث به وإلى بلاد "ما وراء النهر" إلى الخليفة "المأمون العباسي" ولما مات والده تزوج باكباك أمه.
وجاء أحمد بن طولون ليحكم مصر نيابة عن "باكباك" التركي، ولكن موقع مصر الجغرافي، وبُعد المسافة بين العاصمة المصرية "الفسطاط" والعاصمة العباسية "بغداد" شجع وإلى مصر الجديد على الاستقلال بها.
فلم يكد أحمد بن طولون يستقر فى مصر سنة 254هـ حتى أخذ يجمع السلطة كلها فى يده.
لقد عزل الموظف العباسى المختص بالشئون المالية فى مصر واسمه "عامل الخراج" وصار هو الحاكم الإدارى والمالى والعسكري.
وكان له ما أراد، فأقر الأمور فى البلاد، وقضى على الفتن، ونشر الطمأنينة فى ربوع الوادي، وعَمَّ البلاد الرخاء.
استقلال مصر عن الخلافة:
ولقد أتاحت له الظروف أن يعلن استقلاله بالبلاد فى عهد الخليفة المعتمد العباسي، عندما بعث ابن طولون بإعانة مالية للخلافة مساعدة منه فى القضاء على "ثورة الزنج". ولكن "طلحة" أخا الخليفة بعث يتهم ابن طولون بالتقصير فى إرسال المال الكافي، ويتهدده ويتوعده، وهنا كان رد ابن طولون قاسيا وعنيفًا، ولم يكتف بهذا بل أعلن استقلاله بالبلاد.
وتأسست فى مصر "الدولة الطولونية" نسبة إلى منشئها أحمد ابن طولون، وراح أحمد بن طولون يعدّ جيشًا قويا لحماية البلاد داخليا وخارجيا؛ وقد بلغ جيش مصر فى عهد أحمد بن طولون مائة ألف جندي.
القطائع عاصمة مصر:
وراح يفكر فى اتخاذ عاصمة له غير "الفسطاط" تضارعها وتنافسها، فاتخذ الأرض الواقعة بين السيدة زينب والقلعة وسماها "القطائع"، وعليها أقام جامعه الكبير الذى ما زال موجودًا حتى الآن، وجعله معهدًا لتدريس العلوم الدينية، وكان ابن طولون رجل صلاح وبرٍّ، يتصدق من خالص ماله فى كل شهر ألف دينار.
وقد رابطت فى العاصمة الجديدة طوائف الجند حيث أقطعهم أحمد بن طولون أرضًا يقيمون عليها.
حماية الثغور:
وأمام ما وصل إليه أحمد بن طولون من قوة، كان لابد أن تتقرب إليه الخلافة العباسية ليقف إلى جانبها فى مواجهة الروم البيزنطيين، الذين لا يكفُّون عن الإغارة من آسيا الصغري.
إن شمال الشام منطقة حساسة، وكانت المناطق الملاصقة للروم فيه تعرف باسم "إقليم العواصم والثغور" فهى تشتمل على المنافذ والحصون القائمة فى جبال طوروس.
فليس عجيبًا إذن أمام ضعف الخليفة وقوة أحمد بن طولون أن يعهد إليه بولاية الثغور الشامية للدفاع عنها ورد كيد المعتدين.
لقد كان أحمد بن طولون مهيأً لهذه المهمة وجديرًا بها، فبعث بجزء من جيشه وأسطوله ليرابط هناك على الحدود، يحمى الثغور، ويؤمن المنافذ والحصون.
الوحدة بين مصر والشام:
ثم يتوفى والى الشام التركى سنة 264هـ، فيضم أحمد بن طولون البلاد إليه لكى يستكمل وسائل الدفاع على إقليم الثغور.
وصارت مصر والشام فى عهد الدولة الطولونية وحدة لها قوتها فى الشرق العربي، تحمل راية الدفاع عن أرض الإسلام ضد الروم، بينما عجزت الخلافة العباسية فى ذلك الوقت عن مواجهة قوى الشر والعدوان، وأمام قوة أحمد بن طولون وقيامه بتوحيد الشام ومصر تحت إمرته خشى أباطرة الروم سلطانه، وخافوا سطوته، فبعثوا إليه يودون أن يعقدوا هدنة معه، بل لقد حدث أكثر من ذلك، لقد عزم الخليفة العباسى "المعتمد" على مغادرة البلاد سرّا فرارًا من سيطرة أخيه الموفق "طلحة"، فأين يذهب يا تري؟!
لقد قرر اللجوء إلى أحمد بن طولون صاحب القوة الجديدة فى مصر والشام، ولكن أخاه الموفق أعاده إلى عاصمة الخلافة بالعراق.
وظلت الوحدة بين الشام ومصر قائمة فى عهد أحمد بن طولون، وراحت قواته البحرية والبرية تحمى هذه الوحدة وتعلى قدرها فى شرق البحر الأبيض المتوسط.

ولاية خمارويّه:
ويتولى ابنه "خُمارويه" بعده حاملاً راية الدفاع عن مصر والشام كما كان أبوه. ولكن "طلحة" أخا الخليفة "المعتمد" يعود إلى محاولاته ودسائسه لإعادة مصر والشام إلى سيطرة الخلافة العباسية.
ويعد خمارويه جيشًا يتولى قيادته بنفسه، ويهزم قوات أخى الخليفة عند دمشق فى معركة "الطواحين" سنة 273هـ/ 887م، فلا يملك إلا أن يعقد مع "خمارويه" صلحًا اعترفت فيه الخلافة العباسية بولاية خمارويه على مصر والشام، ولأبنائه من بعده لمدة ثلاثين سنة. وكان نصرًا رائعًا أتاح له أن يسيطر على منطقة العواصم والثغور، وأصبح "خمارويه" قوة يرهبها الروم.
مصاهرة الخليفة:
وهكذا القوة تكسب أصحابها الاحترام والسيطرة والنفوذ، وتزداد العلاقة بين خمارويه والخلافة العباسية قوة، حيث يتزوج الخليفة المعتمد "العباسة" بنت خمارويه المعروفة باسم "قطر الندي"، وهى التى جهزها أبوها بجهاز لم يسمع بمثله.
وراح خمارويه يهتم بمرافق الدولة، ويخصص الأموال لمساعدة الفقراء والمحتاجين، ويشيد القصور الضخمة فى عاصمة أبيه "القطائع". وظل خلفاء خمارويه فى الحكم ما يقرب من عشر سنوات بعد وفاته مقتولا عام 282هـ/ 895م.
إعادة الدولة إلى الخلافة:
لقد ولى مصر بعد خمارويه ثلاثة من آل طولون لم يسيروا على نهجه، بل انغمسوا فى اللهو والملذات، فكثر الطامعون فى الحكم، وانتشرت الفوضي، وانتهى الأمر بعودة جيوش الخلافة العباسية لاسترداد مصر من يد رابع الولاة الطولونيين عليها.
وفى سنة 292هـ/ 905م دخلت الجيوش العباسية القطائع تحت قيادة محمد بن سليمان وقد قبض على الطولونيين وحبسهم وأخذ أموالهم وأرسلهم إلى الخليفة، وأزال بقايا الدولة الطولونية التى حكمت مصر والشام مدة ثمانية وثلاثين عامًا.
***

د.فالح العمره 29-09-2006 02:07 PM

الدولة الإخشيدية
(323 - 358هـ/ 935 - 969م)
عادت مصر بعد سقوط الدولة الطولونية إلى الخلافة العباسية وعلى الرغم من ذلك ظلت ثلاثين عامًا تعانى من الاضطراب والفوضى والفتن الداخلية. وظل النفوذ العباسى غير مستقر فى مصر بعد زوال الدولة الطولونية. ويتطلع أحد القادة الأتراك فى الجيش العباسى فى مصر إلى الانفراد بالسلطة وحده دون القادة المتنازعين، والولاة العباسيين.
فيا ترى من هو؟ إنه "محمد بن طُغج الإخشيد"، لقد ساعده على ذلك ما قدمه من خدمات فى الدفاع عن البلاد ضد هجمات الدولة الفاطمية التى قامت فى تونس، وراحت تهدد مصر من جهة الشمال الإفريقي، وذلك فى عام (321-324هـ/ 933- 936). وفى سنة 323هـ/ 935م تولى الإخشيد ولاية مصر وصار الحاكم المطلق فى البلاد.
سبب التسمية:
ولكن من أين "لمحمد بن طغج" هذا اللقب "الإخشيد" وهو لقب إيراني؟
لقد رغب الخليفة "الراضي" العباسى فى اكتساب مودة محمد بن طغج إلى جانبه، فمنحه لقب "الإخشيد" وهو لقب إيرانى تلقب به الأمراء.
ويدل هذا على مكانة الإخشيد فى مصر وما بلغه من سلطان واسع ونفوذ كبير.
توحيد مصر والشام وبلاد العرب:
لقد أصبح "محمد بن طغج" مؤسس الدولة الإخشيدية فى مصر وإليه تنتسب أسرته. وظلت الأمور على ما يرام بين محمد بن طغج الإخشيد والخلافة العباسية حتى جاء اليوم الذى أرسل فيه الخليفة الراضى جيشًا بقيادة "محمد بن رائق" إلى الشام لانتزاع مصر من الإخشيد سنة 328هـ/ 940م.
وعندئذ ألغى الإخشيد اسم الخليفة العباسى من الخطبة وأعلن استقلاله بمصر، واستطاع هزيمة القائد ابن رائق والاحتفاظ بملكه سليمًا.
وكان ابن رائق قد هزم محمد الإخشيدى فى بداية الأمر، وانشغل جنود ابن رائق بجمع الأسلاب، فخرج كمين لابن الإخشيد عليهم، وهزمهم، وفرقهم، وتفرغ الإخشيد بعد هزيمة قائد الخليفة إلى الداخل، فنجح فى القضاء على الفتن والقلاقل الداخلية، وراح يعمل على دراسة أحوال العالم العربى المجاور لمصر.
وأخذ يفكر فى وحدة تقف فى وجه العدوان الخارجى من قبل الروم.
وبعد سنتين من قيام الدولة الإخشيدية ضم الإخشيد إليه الشام بعد موت ابن رائق سنة 130هـ ؛ ليعيد القوة إلى الشرق العربي، وليتسنى له الوقوف فى وجه الروم البيزنطيين، وهنا خاف أباطرة الروم، وأسرعوا يخطبون وده كما فعلوا مع أحمد بن طولون.
وفى العام التالى لهذه الوحدة، مد الإخشيد نفوذه إلى مكة والمدينة، وراح يتولى أمر الحجاز ويشرف على الحرمين الشريفين.
ولقى الإخشيد ربه سنة 334هـ/469م.
إمارة كافور:
وبعد وفاته تولى وزيره أبو المسك كافور الوصاية على ولديه الصغيرين، وأثبت هذا الوصى مقدرة فى إدارة شئون البلاد والدفاع عنها ضد الأخطار التى تهددها من طائفة "القرامطة"، وأفلح فى القضاء عليها.
فلقد حافظ على وحدة مصر والشام وبلاد العرب، وامتد سلطان الدولة الإخشيدية إلى "جبال طوروس"، فى أقصى شمال الشام وصارت قوية الجانب يرهبها البيزنطيون.
وأبو المسك كافور هذا هو الذى خلع عليه الشاعر المتنبى أجمل قصائد المدح، ثم عاد وهجاه؟
نعم، إنه هو بعينه، فلقد كان المتنبى يطمع فى أن يوليه كافور "ولاية" تنافس مملكة سيف الدولة بن حمدان، فمدحه لينال رضاه، فلما لم يولِّه هجاه.
لقد بلغت إمارة كافور على مصر ثلاثًا وعشرين سنة حكم فيها باسم أبناء الإخشيد عدا سنتين انفرد فيها بالأمر وظل اسمه طوال هذه المدة موضع الهيبة والإجلال، ويدعي له من منابر المساجد من طرسوس بأطراف الشام ومصر والحجاز، ولقد كان كافور شهمًا جيد السيرة.
ترى من يخلفه بعد وفاته؟ وهل تظل الدولة الإخشيدية بعده رافعة أعلامها؟!
سقوط الدولة بعد كافور:
لقد لقي كافور ربه فخلفه "أبو الفوارس أحمد بن علي أبو الحسن" حفيد الإخشيد، وكان طفلا لم يبلغ الحادية عشرة من عمره، وكان لابد في مثل هذه الظروف أن تعود الفوضى إلى البلاد، وأن يكثر من حولها الطامعون.
واشتدت هجمات الفاطميين من بلاد المغرب على مصر حيث حاول الخليفة المعز لدين الله الفاطمي الاستيلاء عليها، وعجزت الدولة العباسية عن الوقوف إلى جانب الإخشيديين، فلم يكن بد من استيلاء الفاطميين عليها سنة 358هـ/ 969م، ليحلوا محل الدولة الإخشيدية.
***

د.فالح العمره 29-09-2006 02:08 PM

الدولة الحمدانية
(317-399هـ/ 929-1009م)
ينتسب الحمدانيون إلى قبيلة تغلب، وكان بنو تغلب بن وائل من أعظم بطون ربيعة بن نزار، وكانوا من نصارى العرب الجاهلية الذين لهم محل في الكثرة والعدد.
وكانت مواطنهم في الجزيرة وديار ربيعة، ثم ارتحلوا مع هرقل إلى بلاد الروم، ثم رجعوا إلى بلادهم، وفرض عليهم عمر بن الخطاب الجزية، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لا تذلنا بين العرب باسم الجزية، واجعلها صدقة مضاعفة ففعل.
وعلى هذا فالحمدانيون من بني تغلب ينحدرون من أصل عربي أصيل من العدنانية التي ولدت العربية في كنفها.
وما زالوا يتنقلون بماشيتهم وأموالهم وخيامهم على مثل حالة القبائل العربية من تهامة إلى نجد إلى الحجاز إلى أرض ربيعة إلى ضفاف الفرات حيث نزلوا ساحل "الرقَّة" الفسيح، ومنها انتقل حمدان بن حمدون إلى "الموصل".
وكان حمدان جد الأمراء الحمدانيين رئيس قبيلة أنجبت عدة أولاد اعتمدوا على أنفسهم، وألقوا بأنفسهم في ميادين المغامرة والحرب، فانتصروا وخذلوا، وكانت حياتهم تتصف بالعنف والقوة، ولا تعرف الهدوء والسلم إلا قليلا.
وقد رافقت نشأة الحمدانيين ضعف الدولة العباسية، وغروب شمسها .
ويشاء الله أن يشهد الحمدانيون الأحداث التي هزت الإمبراطورية الإسلامية هِزَّة انتهت إلى فرط عقدها وظهور دويلات وإمارات مستقلة على يد الأتراك، والفرس، والكرد، وبعض القبائل العربية، وشهدوا تقلص نفوذ العرب وذوبانه تحت سيطرة الدخلاء بشكل يدعو للأسف، فرأوا أن يقوموا بنصيبهم من حمل هذا العبء، وأن يصونوا التراث العربي، وأن يردوا ما استطاعوا هجمات الروم عن الثغور الإسلامية.
يرافق ظهور الأسرة الحمدانية ارتقاء "المتقي"عرش الخلافة، وقد تسلمها وهي على ما هي عليه من التفكك والانحلال، على يد الأتراك أصحاب وظيفة "أمير الأمراء" في بغداد ؛ حيث استبد أولئك الأمراء بالسلطة دون الخليفة العباسي، وراحت بعض القبائل العربية التي سكنت بادية الشام ووادي الفرات تستغل ضعف الخلافة العباسية، وتستقل بالمدن والقلاع الواقعة في أرضها.
ويعتبر ما قامت به قبيلة "تغلب" مثلا لهذا الذي كان يقع في فترة ضعف الخلافة وسيادة الأمراء.
الدولة الحمدانية في الموصل:
لقد استطاعت "قبيلة تغلب" بفضل أبناء زعيمها "حمدان بن حمدون" أن تؤسس دولة في شمال العراق، وأن تتخذ من مدينة "الموصل" عاصمة لها (317-358هـ/ 929-969م).
وتعصبت هذه الدولة للعروبة، وساءها استبداد الأتراك بالخلافة العباسية، فجاء زعيمها "الحسن بن عبد الله الحمداني" إلى بغداد، ومعه أخوه لمناصرة الخليفة المتقي بالله سنة 330هـ/ 942م.
وكافأ الخليفة هذا الزعيم الحمداني بأن عينه في وظيفة "أمير الأمراء"، ومنحه لقب "ناصر الدولة"، ثم منح الخليفة المتقي أخاه لقب "سيف الدولة الحمداني".
موقف توزون:
وعاش الأخوان: "ناصر الدولة" و"سيف الدولة" ببغداد إلى جانب الخليفة الذي عرف لهما قدرهما، ولكن ذلك لم يعجب الأتراك، فاستطاعوا بزعامة قائدهم "توزون" أن يطردوا الحمدانيين، وأن يحملوهم على العودة إلى الموصل سنة 321هـ/ 933م.
الدولة الحمدانية في حلب:
وتطلع سيف الدولة بعد خروج الحمدانيين من بغداد إلى القيام بمغامرة حربية تعلي من شأن دولته بالموصل فسار سنة 323هـ/ 935م إلى شمال الشام واستولى على "حلب" وأخرج منها حاكمها التابع للدولة الإخشيدية، صاحبة السيادة حين ذاك على مصر والشام.
وكانت هذه النزاعات بين أقاليم الأمة المسلمة الواحدة وراء التعجيل بنهاية هذه الدولة، وأصبح سيف الدولة بذلك صاحب الدولة الحمدانية وعاصمتها حلب التي استمرت في شمال الشام حتي سنة 399هـ/ 1009م.
ومن يقلِّب صفحات التاريخ يجد مجالس سيف الدولة الحمداني تضم أولئك المشهورين في تاريخ الحضارة الإسلامية وعلى رأسهم الشاعر أبو الطيب المتنبي، والمؤرخ أبو الفرج الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني، والخطيب الفصيح ابن نباتة، والفارابي الفيلسوف المشهور، والشاعر أبو فراس الحمداني.
قتال البيزنطيين:
وكان قيام الدولة الحمدانية على طول منطقة الأطراف الإسلامية المتاخمة لأراضي الدولة البيزنطية في جنوب آسيا الصغرى وفي شمال العراق حاجزًا ضد هجمات البيزنطيين في وقت أضحت الدولة الإسلامية نهبًا للفوضى والقلاقل الداخلية، وليس لديها قوة حربية كافية!
ولقد خلد التاريخ اسم "سيف الدولة" من خلال حروبه المتكررة ضد البيزنطيين، والتصدي لأعمالهم العدائية على أرض المسلمين.
لقد بدأ إغارته على آسيا الصغرى سنة 337هـ/ 949م دون أن تمر سنة واحدة بغير تجهيز حملة حربية لهذا الغرض النبيل، ولقد تسنى له أن يستولي على كثير من الحصون البيزنطية مثل "مرعش" وغيرها من مدن الحدود.
ومن بطولات سيف الدولة: استيلاؤه على قلعة الحدث (وهي قلعة متاخمة لحدود الدولة البيزنطية) كان سيف الدولة قد بناها، وهجم عليها الرومان فخربوها، وهدموها فأعد سيف الدولة جيشًا قويا، وهزم الروم هزيمة ساحقة، واستولى على قلعة الحدث، وقد قال المتنبي في ذلك قصيدة طويلة في مدح سيف الدولة وبطولته في هذه المعركة، منها:
يكلف سيف الدولة الجيش همـــه وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم
سقوط حلب في أيدي البيزنطيين:
ولقد عاصرت حركات سيف الدولة قيام أعظم إمبراطورين عسكريين عرفتهما الدولة البيزنطية في هذه الآونة، فقد استطاع نقفور فوقاس أن يستولي على "حلب" نفسها عاصمة سيف الدولة سنة 351هـ/ 962م ودخل أنطاكية بجنوده، وقتل فيها ما يقرب من عشرين ألفًا، غير أن الدولة البيزنطية انسحبت منها بعد ثمانية أيام بسبب المقاومة الحمدانية. وقد اتجه الإمبراطور الروماني "حنا شمشيق" إلى الاستيلاء على "بيت المقدس"، وتوغل كثيرًا في أراضي الشام، ولكنه عاد سريعًا من غارته الخاطفة بفضل مقاومة الحمدانيين في حلب، ومقاومة الفاطميين في سائر الشام.
سعد الدولة:
ولقد تولى "سعد الدولة" ابن سيف الدولة بعد أبيه سنة (357- 381هـ/ 967 - 991م)، لكن الدولة دخلت في مرحلة الضعف والنزاع الداخلي، وذلك بعد أن اعترف منصور بن لؤلؤة والي الحمدانيين على حلب بسلطان الفاطميين على حلب عام 383هـ وأصبحت إمارة فاطمية بعد أن كانت حارسة على أطراف الدولة الإسلامية في وقت لم يدرك الخلفاء العباسيون في بغداد قيمة الدفاع عنها.
ولجأ بعض المتنازعين على السلطة من الحمدانيين إلى الخلافة القائمة في مصر والشام وقت ذاك على حين ظلت الخلافة العباسية غارقة في الضعف والفوضي.
ورغم كل ذلك سقطت الدولة الحمدانية التي تمثلت كل عظمتها في شخص "سيف الدولة".
***


الوقت في المنتدى حسب توقيت جرينتش +3 الساعة الآن 01:56 AM .

مجالس العجمان الرسمي