مجالس العجمان الرسمي

مجالس العجمان الرسمي (http://www.alajman.ws/vb/index.php)
-   مجلس الدراسات والبحوث العلمية (http://www.alajman.ws/vb/forumdisplay.php?f=41)
-   -   الدعوة العباسية ودورها في نهاية الدولة الأموية (http://www.alajman.ws/vb/showthread.php?t=13599)

د.فالح العمره 16-08-2006 07:18 PM

الدعوة العباسية ودورها في نهاية الدولة الأموية
 
الدكتور/ علي الصلابي 3/1/1427
02/02/2006



أولاً : الجذور التاريخية للعباسيين :
(1) العباس بن عبد المطلب بن هشام :
ينتسب العباسيون إلى العباس بن عبد المطلب بن هشام بن عبد مناف القرشي (1) وهو عّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أسنّ من الرسول بثلاث سنين (2) وكان من أكبر رجال بني هاشم مكانة، وأكثرهم مالاً في الجاهلية (3)، فقلدوه قيادتهم، فكان رئيسهم المُطاع – بعد وفاة أبي طالب – المتوليَّ لأمورهم (4)، وكانت إليه السَّقاية والرَّفادة وعمارة المسجد الحرام (5)، فإنه كان لا يدع أحداً يُسبُّ في المسجد ولا يقول فيه هُجْراً يحملهم على عمارته في الخير، لا يستطيعون لذلك امتناعاً، لأنَّ ملأ قريش كانوا قد اجتمعوا وتعاقدوا على ذلك، فكانوا له أعواناً عليه، وأسلموا ذلك إليه (6)، وقد حضر بيعة العقبة مع الأنصار قبل أن يسلم وشهد بدراً مع المشركين مكرها فأسر فافتدى نفسه ورجع إلى مكة، ثم أسلم وكتم إسلامه، ثم هاجر إلى المدينة قبل الفتح بقليل وشهد فتح مكة وثبت يوم حنين (7) مع النبي صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجله ويقدره وقد كانت وفاته بالمدينة في رجب سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة ودُفن بالبقيع (8)رضي الله عنه.

الأحاديث التي وردت في فضله ومناقبه :
(أ) ما رواه الترمذي وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن العباس مني وأنا منه" (9).
(ب) ما رواه مسلم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة فقيل : منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً، فأغناه الله وأما خالد، فإنكم تظلمون خالداً، فقد احتبس ادراعه واعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي عليّ ومثلها معها" ثم قال : "يا عمر أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه" (10).
(ج) ومن مناقبه رضي الله عنه ثباته وشجاعته يوم حنين فقد روي أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم نفارقه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء، فلمّا التقى المسلمون والكفار، وَلىَّ المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قِبل الكفار، قال عباس : وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكُفُّها إرادة ألاَّ تسرع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أي عباس؛ ناد أصحاب السَّمُرة". فقال العباس – وكان رجلاً صَيَّتاً – فقلت : بأعلى صوتي : أين أصحاب السَّمُرة ؟ قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا : يا لبيك يا لبيك : قال : فاقتلوا والكفّار والدعوةُ في الأنصار، يقولون : يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار ... فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا حين حَميَ الوطيس (11).
(د) ومما يدل على فضله رضي الله عنه ومكانته من النبي صلى الله عليه وسلم توسل عمر رضي الله عنه بدعائه :
فقد جاء في صحيح البخاري عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال : اللهمّ إنّا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا (12)، وإنا نتوسل إليك بعمِّ نبينا فاسقنا قال: فيُسقون (13). فالعباس بن عبد المطلب جد الخلفاء العباسيين وله ينتسبون.
(2) عبد الله بن عباس رضي الله عنهما :
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه لبابة بنت الحارث الهلالية أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين، وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، وكان يقال له الحبر والبحر لاتساع علمه وكثرة فهمه وكمال عقله وسعة فضله ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ولازم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له صلى الله عليه وسلم بالفقه في الدين وعلم التأويل، وكان عمر رضي الله عنه يجله ويكرمه، وقد شهد رضي الله عنه مع علي الجمل وصفين، وكف بصره في آخر عمره فسكن الطائف وكانت وفاته سنة ثمان وستين من الهجرة فرضي الله عنه (14)، وقد وردت في بيان فضائله أحاديث كثيرة منها : ما رواه البخاري بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الخلاء فوضعت له وضوءاً قال من صنع هذا ؟
فأخبر فقال : اللهم فقهه في الدين (15). وقد استفاد العباسيون من انتسابهم إلى جدهم عبد الله بن عباس –حبر الأمة-، فقد سار محمد بن علي العباسي زعيم الدعوة العباسية على فقه جده الحركي، وتتلمذ على معالم مدرسته كما سيأتي بيانه وتفصيله بإذن الله تعالى. وقد ترجمت له في كتابي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ترجمة مستفيضة.
(3) على بن عبد الله بن عباس بن المطلب الإمام القانت أبو محمد الهاشمي المدني السجاد :
ولد عام قُتل الإمام علي، فتسمى باسمه، حدث عن أبيه ابن عباس، وأبي هريرة وابن عمر، وأبي سعيد وجماعة وأمه ابنة ملك كندة مشرح بن عدي وكان جسيماً وسيماً كأبيه طوالاً، مهيباً مليح اللحية يخصب بالوسمة .
وقال ابن سعد : هو ثقة قليل الحديث. قال عكرمة : قال لي ابن عباس ولابنه علي : انطلقاً إلى أبي سعيد الخُدري، فاسمعا من حديثه، فأتيناه في حائط له (16).
وقال الذهبي: القب بالسّجَّاد لكثرة صلاته (17).
كان علي بن عبد الله بن العباس أجل إخوته قدراً وأعظمهم خطراً وكان مثالاً للرجل الكامل في تمام خلقته وحسنه وورعه ونبله (18)، قال ابن سعد : كان أصغر ولد أبيه سناً وكان أجمل قرشي على وجه الأرض وأوسمه وأكثر صلاة وكان يقال له السجاد لعبادته وفضله وكان زاهداً متقشفاً وأثَّرَ في بنيه وحفدته، فنشأوا على هديه وسمته واقتدوا بمذهبه وسيرته، فكانوا أشهر الناس تلاوة وقياماً وصياماً وصلاحاً (19) حتى قبل فيهم : أفضت الخلافة إليهم وما في الأرض أحد أكثر قارئاً للقرآن ولا أفضل عابداً وناسكاً منهم بالحُميمة (20)وكان عالماً له معرفة ورواية عن أبيه (21) وكان سيداً شريفاً بليغاً (22) وكان كبير المحلَّ عند أهل الحجار (23). روي هشام بن سليمان المخزومي : أن عليَّ بن عبد الله كان إذا قدم مكة حاجاً أو معتمراً عطلت قريش مجالسها في المسجد الحرام وهجرت مواضع حلقها، ولزمت مجلس علي بن عبد الله إجلالاً له وإعظاماً وتبجيلاً، فإن قعد قعدوا وإن مشى مشوا جميعاً، ولم يكن يُرى لِقُرَشيَّ مجلس " ذِكْرٍ " يُجتمعُ إليه فيه حتى يخرج علي بن عبد الله من الحرم (24). فقد جمع علي بن عبد الله العباسي صفات الزعامة من علم وعبادة، وهيبة ومكانة في النفوس ... إلخ.

* رحلته إلى الشام :
أوصى عبد الله بن العباس ابنه علياً بإتيان الشام والتنحي عن سلطان ابن الزبير إلى سلطان عبد الملك، ولما توفي أبوه عمل بوصيته ورحل إلى الشام واستقبله عبد الملك واحتفى به، وكان يجلسه على سريره إذا دخل ويحادثه ويسامره وكان يرعاه ويهدي إليه الجواري، ويقضي حوائجه ويقبل شفاعته (25).
* سعيه للخلافة وضرب الوليد له :
علم الوليد بن عبد الملك في عهده أن علياً يطلب الخلافة ويتنبّأُ بانتقالها إلى بنيه فضيق عليه ونال منه وشهر به، ثم جلده وطرده من بلاد الشام (26) وقد تراجعت منزلة علي في عهد الوليد، وساءت حاله واضطربت وقد التمس الوليد الأسباب للانتقام منه والإضرار به فأذَّله واعتدى عليه، وجاوز القصد في ردعه ومعاقبته، فجلده مراراً ونفاه (27).

* في عهد سليمان وعمر بن عبد العزيز وهشام :
لما استخلف سليمان بن عبد الملك ردّه إلى دمشق، وأخلى سبيله، وأزال عنه ما لحق به من ظلم وهوان وربما اعتذر إليه من تعذيب الوليد له، وتنكيله به، وأنصفه وتألفَّه فصلحت حاله واستقامت، ورجع إلى الحميمة، فأقام بها حّراً عزيزاً، وعاود فيها نشاطه لا رقيب له ولا حسيب عليه.
ولما جاء عهد عمر بن عبد العزيز أمر بالكف عن اضطهاد بني هاشم، وقسم فيهم سهم ذي القربى، فانتعشوا وكتبوا إليه : يشكرون له ما فعله من صلة أرحامهم (28). وأخذ علي بن عبد الله بن العباس، ومحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يدفعان عنه ويَزعان الناس في اغتيابه (29).
ولما تولي هشام اعتنى بعلي بن عبد الله بن العباس، وأحسن إليه، فكان يتهلَّل له ويُدينه ويحمل عنه دُيونه إذا وفد عليه، وصبر على نشاطه السياسي وتغافل عنه وتغاضى عن أمله في الخلافة، واستهان بعمله للفوز بها، حتى أخطأ في تقدير خطره وقصّر عن إدراك تهديده لملك بني أمية إذ كان يهزأ بما يبلغه من أخبار نزوعه إلى الخلافة ويستخف بتوقعه لتحولها إلى بنيه، وكان ينسب ذلك إلى فساد عقله وضعف رأيه وأضغاث أحلامه في شيخوخته (30). ويرى بعض المؤرخين أن علي بن عبد الله بن العباس كان أوّل من تمنَّى الخلافة من بني العباس وشرع في تأسيس الدعوة لهم على انتقال الخلافة إليهم، وأظهر ذلك وجهر به (31)، هذا وقد توفي علي بن عبد الله بن العباس عام 118ﻫ (32).

(4) محمد بن علي بن عبد الله بن العباس :
كان محمد بن علي بن عبد الله بن العباس المتوفَّى سنة 125هـ خمس وعشرين ومائة (33)، أنبه إخوته وأفضلهم، وهو الذي رسَّخ قواعد الدعوة لبني العباس، وشيَّد أركانها، ورفع بنيانها، فقد شمَّر لتوطيدها وبثها، فوضع أنظمتها وشعاراتها وأنشأ مجالسها واختار قادتها، ومكّن لها في الكوفة وخراسان، وشحذ عزائم أنصارها وهيَّأهم ليوم إعلان الثورة وتفجيرها، وكان من أجل الناس وأعظمهم قدراً وكان بينه وبين أبيه أربع عشرة سنة، وكان عليُّ يخضب بالسَّواد، ومحمد بالحُمرة، فيظن من لا يعرفهما أن محمداً هو علي (34)، وكان عابداً زاهداً وكان له علم وفقه ورواية وكان ثقة ثبتاً مشهوراً (35)وكان مجاهداً يغزو الصائفة هو وعدة من إخوته ومواليه (36)، وكان سيد ولد أبيه (37)، وخيرهم ديناً، وأسخاهم كفاً وكان سمح النفس شديد الصَّبر (38)، صليب الفؤاد حصين الرأي حسن التدبير، قوي الحُجَّة، سديد المنطق، بليغ القول (39).

(5) علاقته بأبي هشام ووصيته له :
بعد موت محمد بن علي بن الحنفية بالمدينة عام ( 81ﻫ ) افترقت شيعته إلى فرقتين :
الأولى : دامت متمسكة بآرائها الكيسانية، فقد قالت: إنه غائب عنا لكنه حي يرزق بجبله (جبل رضوى) ولا بد من رجعته، فهم لا يوالون غيره، لأنهم ينتظرونه.
والثانية : تحولت إلى القول بإمامة ابنه عبد الله – المكنَّى بأبي هاشم من بعده، وسميت بالفرقة الهاشمية (40). وتعتقد أن أمر الشيعة صار إلى أبي هاشم بوصية من أبيه، وهذه الفرقة تعتبر أكبر الفرق العلوية وأدقها تنظيماً وأكثرها حماساً وقد عرف أبو هاشم هذا برجاحه عقله وسعة علمه، وحسن تدبيره، ومعرفته بأحوال الفرق، فزادت شيعته بعد وفاة والده، فأخذ يدير الأمور، ويبعث الدعاة مع السرية التامة، موضحاً – في نظره – أحقيته بالخلافة، التي هي لهم دون الأمويين ناشراً فظائع ومظالم بعض خلفاء الدولة الأموية (41)، وكان أبو هاشم قدم على سليمان بن عبد الملك بدمشق، فأكرمه وأجازه، وسار أبو هاشم يريد فلسطين أو الحجار، فمرض في الطريق وأحسَّ بالموت، ولم يكن له ولد، فعدل إلى الحُميَمةِ، ونزل على محمد بن علي، فأوصى إليه بالإمامة وسلم إليه كُتُب الدُّعاة وأوقفه على ما يعمل به، وصرف شيعته إليه وأمرهم بالسمع له، وأعلمه أن الخلافة في ولده عبد الله بن الحارثية (42)، وسواء أكانت وصية أبي هاشم صحيحة أم موضوعة فإن بني العباس وشيعتهم اعتمدوا عليها في تقرير حقهم في الخلافة ولم يزالوا يذكرون أن الخلافة أتتهم من جهتها إلى أيام أبي جعفر المنصور (43). وليس من الثابت أن سليمان بن عبد الملك راعه ذكاء أبي هاشم فخافه وفزع منه، ولا أنه أنفذ له من سَمَّهُ بعد أن رحل عنه وإنما مات حتف أنفه (44). وقد أكد جماعة من المؤرخين تحول دعوة أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية إلى العباسيين والتي عمل من أجلها حوالي سبع عشرة سنة، واستقطب فيها كبار الشيعة العلوية من أهل العراق وخراسان وفرقهم على المدن والأقاليم نظم هذه الدعوة ورعاها، وأعدها لليوم المرتقب وقد كانت وفاته عام 98ﻫ بعد موت محمد بن علي بن الحنفية بالمدينة عام ( 81ﻫ ).

(6) أسباب تنازل أبي هاشم لمحمد بن علي العباسي :
وعلى ضوء ما جاء من النصوص التاريخية التي ذكرت تنازل أبي هاشم عن الدعوة لمحمد بن علي العباسي عندما أحس بدنو الأجل، نستطيع أن نقول : ليس هناك ما يمنع من تنازل أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية لمحمد بن علي عن دعوته السرية التي يطلب بها الحق العلوي في الخلافة، لما نراه من أسباب نجملها فيما يلي :
(أ) أن دعوته كانت قابلة للنجاح والفشل، وقد تكون للفشل أقرب، لاسيما وأنها توصف بالغلو (45) وهذا مما يقلل من أهمية هذا التنازل.
(ب) عرف أبو هاشم أنه لا أمل له في الوصول إلى الخلافة، بعد أن عرف قرب أجله، ولم يسعفه الوقت في حرية اختيار شخص آخر ووجد أفضل الخيارات في تلك اللحظة هو محمد بن علي.
(ج) كما أن أبا هاشم لم يكن له ولد يخلفه (46)، فيوصي له بالأمر من بعده.
(د) كان بين أبي هاشم ومحمد بن علي العباسي علاقات ودية ولقاءات علمية وصداقة قوية، الأمر الذي ساعد على تنازل أبي هاشم لمحمد هذا.
(هـ) كان أبو هاشم قد عرف كبار شيعته ودعاته من أهل العراق وخراسان بمحمد بن علي العباسي أثناء ترددهم عليه، كما أخبرهم أن الأمر صائر إليه بعد وفاته (47)، كما تزعم بعض الروايات.
(و) لما عرف عن محمد بن علي العباسي من رجاحة العقل والدهاء، وحسن التدبير والتصرف....، فقد كان أبو هاشم كثيراً ما يستعين بآرائه حول موضوع الدعوة والدعاة، كان محمد بن علي قد عرف برجاحة العقل وسعة الذكاء، ومعرفته بأحوال الرجال والديار وقد استفاد من الأحداث التي جرت في عصره، وبالأخص ما وقع بين أبناء عمه العلويين والأمويين في صراعهم الدامي من أجل الخلافة، فقد درس أسباب الفشل والنتائج لهذه الأحداث، واستغل ما حصل من القتل والتشريد على إثر ذلك. ولما علم كبار الشيعة العلوية في العراق وخراسان بموت زعيمهم عبد الله بن محمد (أبو هاشم) وانتقال الدعوة إلى محمد العباسي، ساروا إلى الحميمة للتعزية بوفاة إمامهم عبد الله ولتهنئة إمامهم الجديد محمد بتولية قيادة الدعوة " دعوة آل البيت " ومبايعته وتقديم العهد له، ببذل أموالهم وأنفسهم من أجل نجاح هذه الدعوة، وقد رأى محمد بن علي العباسي صدق هؤلاء
الأنصار – وتحمسهم ولمس حبهم لآل البيت، وكرههم لبني أمية وتمنيهم لزوالهم (48).
ثانياً : المشروع العباسي في المرحلة السرية :
عندما نتأمل في مفردات المشروع العباسي في المرحلة السرية نلاحظ أنه يتكون، من قيادة حكيمة، وهيكل تنظيمي واضح المعالم، ومرجعية شرعية وتاريخية، ومبادئ قام عليها المشروع، وقدرة فائقة على التخطيط، ولقاءات دورية بين القيادة، والدعاة والنقباء، وكان المشروع العباسي قد استهدف شرائح من المجتمع عانت من ظلم الأمويين مع الأخذ بالجانب الأمني والاهتمام بالبعد الاقتصادي والإعلامي :

(1) القيادة :
تسلم محمد بن علي العباسي التنظيم السري من أبي هاشم وبدأ مسار التنظيم الجديد يتغير عن القديم في بنيته الفكرية والاجتماعية وغيرها ولكن كان ذلك مع التدريج وقد توفرت صفات الزعامة في شخصية محمد بن علي، من قيادة واعية، وقدره على التخطيط الصحيح، وقد برهن على عبقرية فذة في التنظيم والتخطيط للدعوة، مع قناعة الإتباع بزعامته الروحية والعلمية، فقد اشتهر بالعبادة والعلم، واستمر في تشكيل الحركة على أصول العقائد السنية، واستفاد من مدرسة جده عبد الله بن عباس في ذلك كما سيأتي، وعمل على جذب الأنصار والأخذ بأسباب النصر على الأمويين، وقد استفاد من تشكيلات محمد علي التنظيمية كثير ممن جاء بعده ممن سعى لقيام دولة مع التطوير كالموحدين، والفرق الباطنية وغيرها، وقد استطاع محمد علي العباس أن يحكم قبضته على أمور الدعوة من خلال جهاز بالغ الدقة في التنظيم والإدارة وقد استمر في عمله السري حتى وفاته عام 125ﻫ .
وهناك من العلماء من يرى أن تنظيم الدعوة العباسية قام على ثلاثة أفراد من البيت العباسي لم يقدر أن ينالوا ثمرة غرسهم، وأولهم علي بن عبد الله بن عباس الذي رأس الدعوة أكثر من عشرين سنة، وهو الذي نظم الدعاة والنقباء في كل العراق وخراسان، وولي أمر الدعوة بعده ابنه محمد علي ثم ابنه إبراهيم (49). والذي أميل إليه من خلال البحث أن الزعيم القيادي الكبير للدعوة العباسية في المرحلة السرية هو محمد بن علي العباسي (50)، وكان معه فريق عمل من إخوانه وأبنائه وغيرهم.

(2) الهيكل التنظيمي :
انتقل محمد بن علي بعد دراسة وتفكير إلى تنظيم الدعوة تنظيماً محكماً ورسم لكبار الدعوة الطريق الذي سوف يسيرون عليه للوصول بالدعوة إلى غايتها، وكان ذلك في تمام المائة الأولى من الهجرة النبوية الشريفة (51)، وجعل محمد بن علي العباسي الدعوة تتحرك في ثلاثة محاور، فقد جعل قرية الحميمة مكاناً للتخطيط والدراسة، فهي المركز الأول للدعوة والكوفة للإشراف على الدعوة، ولنقل تعاليم الإمام الصادرة من الحميمة إلى الدعاة في خراسان. وأما خراسان، فقد أصبحت مسرحاً للدعوة، كما أصبحت فيما بعد منطلقاً للعمل العسكري، وقد أكد محمد علي العباسي لقادة الدعوة، عدم ذكر اسمه، وأن تكون دعوتهم غاية في السرية، فهو يقول لأبي عكرمة السراج عندما أرسله إلى خراسان : فلتكن دعوتكم إلى الرضا من آل محمد، فإذا وقعت بالرجل في عقله وبصيرته فاشرح له أمركم ... وليكن اسمي مستوراً عن كل أحد، إلا عن رجل عدلك في نفسك ... وتوثقت منه وأخذت بيعته (52). كما حذر محمد بن علي دعاته من أهل الكوفة قائلاً : ولا تستكثروا من أهل الكوفة، ولا تقبلوا منهم إلا أهل النيات الصحيحة (53)، واحتاط لنفسه أن يبعد الشكوك التي تحوم حول الحميمة، فقد جعل دعاة خراسان يتصلون بالكوفة بدل الحميمة، حتى لا يلفت أنظار الأمويين فينكشف أمره. ولضمان السرية التامة لدعوته، فقد أمر كبار دعاته بأن يسلكوا في طريقهم إليه الطرق الرئيسية وأن يحاولوا التستر بزي التجار، كما يقللون التردد على الحميمة ما أمكن، واختار أبو عكرمة السراج بعد ذلك اثنى عشر نقيباً هم (54).
(1) سليمان بن كثير الخزاعي.
(2) مالك بن الهيثم الخزاعي أبو عيينة.
(3) طلحة بن رزيق الخزاعي.
(4) عيسى بن أعين الخزاعي مولى لخزاعة.
(5) عمرو بن أعين أبو الحكم، مولى لخزاعة.
(6) لا هز بن قريظ التميمي.
(7) موسى بن كعب التميمي أبو علي.
(8) عيسى بن كعب التميمي.
(9) القاسم بن مجاشع التميمي أبو نصر.
(10) خالد بن إبراهيم، أبو داود، من بني عمرو بن شيبان بن ذهل.
(11) شبل بن طهمان الربعي أبو علي الهروي الشيباني.
(12) قحطبة بن شبيب الطائي، أبو حمزة (55).

وهؤلاء هم رؤساء النقباء هم الذين يعرفون شخصية الإمام وأسرار الدعوة، ويلي هؤلاء نظراء النقباء وعددهم عدد النقباء، ونظير النقيب يخلف النقيب في حالة سفره، أو وفاته (56)، ثم يأتي بعد ذلك الدعاة وعددهم سبعون داعياً (57)، ثم يليهم دعاة الدعاة وعددهم ما يقارب من 36 داعياً (58)، ونظم محمد بن علي العباسي الدعاة تنظيماً دقيقاً يوحي بأنها دعوة دينية كدعوة الأنبياء والرسل – عليهم السلام – يقول في تنظيم ذلك ما نصه (59). بسم الله الرحمن الرحيم ... إن السنة في الأولين، والمثل في الآخرين، وأن الله يقول " واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا " ثم قال في آية أخرى : " وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا " (المائدة ، آية :) وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وافاه ليلة العقبة سبعون رجلاً من الأوس والخزج فبايعوه، فجعل منهم اثني عشر نقيباً .. فإن سنتكم سنة بني إسرائيل وسنة النبي عليه السلام. وبمقتضى هذا التنظيم الدقيق السري توزع الدعاة في العراق وخراسان، حيث وجه للكوفة ميسرة العبدي ( 102 - 105 (60) ) وخلفه بعد ذلك بكير بن ماهان ( 105 - 127ﻫ) (61).
ثم أبو سلمة الخلال ( 1027 - 132 ﻫ ) (62). وأما دعاة خراسان فقد وجه ثلاثة دعاة دفعة واحدة هم : محمد بن خنيس، وحيان العطار، وأبو عكرمة زياد بن درهم – وهو أبو محمد الصادق (63)، وهؤلاءهم رؤساء الدعوة العباسية في الكوفة، وخراسان، ويسمون – أيضاً - رؤساء النقباء وأراد أبو عكرمة السراج أن يعّرف الإمام على مدى تقبل وفرح أهل خراسان بدعوتهم ودعوة آل البيت، فطلب من زعمائهم أن يكتبوا للإمام محمد بن علي بما يؤكد له إيمانهم وإخلاصهم وحبهم لهذه الدعوة التي تهدف إلى خلاصهم من ظلم الأمويين – كما يرون ذلك – فأرسلها إلى الكوفة حيث ميسرة العبدي الذي دفعها بدوره إلى محمد بن علي في الحميمة (64)، ففرح بها واستبشر وسره أن ذلك أول مبادئ الدعوة (65). وأوصى محمد بن علي الدعاة أن يقضوا حوائجهم بالكتمان، وأن يكون ظاهر عملهم التجارة وغايتهم الدعوة إلى آل البيت قائلاً : انطلقوا أيها النفر فادعوا الناس في رفق وستر، فإني أرجو أن يتم الله أمركم، ويظهر دعوتكم ولا قوة إلا بالله (66) ثم قال لهم : فإن سئلتم عن اسمي فقولوا نحن في تقيه وقد أمرنا بكتمان اسم إمامنا (67). وأرسل محمد بن علي دعاته في الآفاق، يدعون الناس سراً، ظاهر أمرهم الاشتغال بالتجارة وباطنه الدعوة للرضا من آل البيت، واصفين إياه بالتقى والصلاح والزهد والورع، وأن غايته تطبيق شرع الله، شعاره العدل والمساواة، ويحق الحق ويبطل الباطل، وسيملأ الدنيا صلاحاً وعدلاً، كما ملأها بنو أمية فسقاً وجوراً – كما يدعون (68) واستخدم الدعاة مهنة التجارة يستخفون وراءها لنشر الدعوة التي أسندت إليهم، وأخذوا يجوبون البلاد طولاً وعرضاً لاستقطاب أكبر عدد من الناس فكانت مهمتهم أسهل، ومراقبتهم أصعب، ثم إن هؤلاء الدعاة لم يكونوا من عامة الناس، بل تسلحوا بسلاح الثقافة والمعرفة والإخلاص للدعوة والتفاني في سبيلها، فبذلوا الأموال ولاقوا السجن والقتل والتمثيل، وكانت لديهم الحنكة لاجتذاب الأنصار (69). ولم يكن من دعاة بني العباس المشهورين أحد ممن اشتهر بالعلم في ذلك العصر بل أغلب الدعاة كانوا رجال إدارة وأهل قيادة وحرب، كأبي مسلم الخراساني وقحطبة بن شبيب، أو من أهل الشرف واليسار كبكير بن ماهان الذي أغدق على الدعوة بماله، فذكر أنه أنفق في نصرة الدعوة أربع لبنات من فضة ولبنة من ذهب (70)، وورد أنه الذي اشترى أبا مسلم الخراساني لما رأى صلاحه لأمر الدعوة (71)، وكأبي سلمة الخلال الذي ذكر أنه رجل شهم، سائس شجاع، متمول، أنفق أموالاً كثيرة في إقامة الدولة (72). كما أن بعض دعاة بني العباس من الموالي الذي يهمهم القضاء على بني أمية ونجاح الدعوة العباسية التي يرفع قادتها شعار المساواة وإنفاق الموالي (73). ونلاحظ أنَّ الأكثرية الساحقة من النقباء كانوا عرباً (74). وقد ذكر الباحثون أسماء وتشكيلات تنظيمية منها :

(أ) كبير للدعاة بالكوفة :
فقد عين محمد علي العباسي كبيراً للدعاة، وجعل الكوفة موقعاً له ومقاماً، إذ هي أقرب إلى خراسان من الحميمة، وبها شيعة أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية الذين انضموا إلى بني العباس وكان كبير الدُّعاة مسئولاً عن نشر الدعوة والإشراف عليها بخراسان، فكان يرسل إليها وفود الدعاة، وكان يكتب إلى محمد علي بأنباء الدعوة ويعلمه بأحوالها، وكان يلقاه في موسم الحج، وكان يزوره بالحميمة إذا طرأ طارئ واحتاج إلى أن يعرف رأيه فيه، حتى يأخذ به وينفذه. وكان الدعاة من أهل خراسان يمرون بالكوفة، ويعّرجون على كبير الدعاة، فيطلعونه على ما بلغوا في بث الدعوة ويشرحون له ظروفها، ثم يمضون إلى الحجاز، فيقابلون محمد بن علي بالمدينة ومكة في موسم الحج، فيؤدون إليه ما اجتمع لهم من أموال، ويُخبُرونه بأخبار الدعوة ويعرضون عليه مسيرتها ومُلابساتها، ويتشاورون في أمرها حتى يستدركوا النقًّص، ويتلافوا الأخطاء، ويُذلَّلوا الصعاب، ويتجنبَّوا الأخطار، تقوية للدعوة ومداً في تيارها وحماية لها من الانهيار فإذا انقضى موسم الحج زوّدهم بتوجيهاته وإرشاداته، ورجعوا إلى خراسان، فواصلوا القيام بأمر الدّعوة وجدَُّوا في نشرِها (75)، قال البلاذري : (كان محمد بن علي يقدم المدينة في كل سنة فيقيم بها الشهر والشهرين، ويُؤتى بالمال فيفرقه) (76)، ومن أشهر من تولى هذا المنصب في التنظيم العباسي بكير بن ماهان فقد استعمله محمد بن علي العباسي بعد وفاة أبي رباح ميسرة النبَّال، فقد جاء إلى محمد بالحميمة وأخبره عن شيعته بالكوفة، وأوصاه محمد بن علي أن يدعو إلى الرضا من آل محمد، ويذكر جور بني أمية، وأن آل محمد أولى منهم بالأمر، وأوصاه أن يُحذر شيعة بني العباس التحرك في شيء مما يتحرك فيه بنو عمَّهم من آل أبي طالب، فإنَّ خارجهم مقتول، وقائمهم مخذول وليس لهم في الأمر نصيب، وخوّفه جماعة أهل الكوفة وأمره أن لا يقبل منهم أحداً إلا ذوي البصائر، فإنهم لا يُعزُّ به من نصروه ولا يوهنون بخذلانهم من خذلوه (77). وكان بكير بن ماهان رجلاً مُفوَّها، فقام بالدُّعاء وتولى الدعوة بالعراقين. وكانت كتب الإمام تأتيه فيغسلها بالماء، ويعجن بغسالتها الدقيق، ويأمر فيُختبز منه قرص، فلا يبقى أحد من أهله وولده إلاَّ أطعمه منه (78) وهذا يُشير إلى النفوذ الروحي لمحمد بن علي العباسي على أتباعه ولا شك أن هذا الأمر ساهم بشكل كبير في نجاح الدعوة العباسية، وقد أنفق بكير بن ماهان أموالاً طائلة في نصرة الدعوة (79).
(ب) مجالس الدعوة العباسية :
ذكر مصنف أخبار الدولة العباسية أن بكيراً كوّن مجالس الدعوة العباسية المختلفة سنة عشرين ومائة (80)، وفي حديثه عن بعضها تعميم ووهم، فإن مجالس النُّقباء، ومجلس السبعين أُلفا في سنة مائة، روى ذلك أكثر المؤرخين، واتفقوا عليه، ويبدو أن بكيراً جمع رجال المجلسين (81) (81)، وتبادل معهم الرأي في شؤون الدعوة العباسية، وأقرَّهم وأبقاهم في مناصبهم ولم يعزل أحداً منهم، ولا سيما النقباء، فإن أسماءهم عند مُصَنفَّ أخبار الدولة العباسية (82)، وعند غيره من المؤرخين (83) متطابقة، وأما سائر رجال السبعين فإنه استَقَلَّ بسرد أسمائهم إذ لم يشاركه أحد من المؤرخين في ذلك (84)، ويبدو أن بكيراً أنشأ بقية المجالس التي ذكرها مُصَنَّف أخبار الدولة العباسية لأنها لم تُعرف قبل هذا التاريخ، وهي : مجلس نظراء النقُّباء. وهو يتألف من اثنى عشر رجلاً، وقيل من عشرين أو أحد وعشرين رجلاً وقد سمّاهم جميعاً (85) ومجلس الُّدعاة، وهو يتألف من سبعين رجلاً، وقد سمَّى منهم خمسة وستين رجلاً (86) ومجلس دعاة الُّدعاة ولم يُحدَّد عدد رجاله، وقد سَمَّى منهم سبعة وثلاثين رجلاً (87). وفي كل مجلس من هذه المجالس طائفة من رجال مجلس السبعين. ونصَّ على أن النُّقباء الاثنى عشر ليس بين أحد من أهل العلم فيهم اختلاف، فأما نُظراء النُّقباء والسبعون قد اختلف فيهم (88). ثم أخذ بكير البيعة على من حضره من شيعة – بني العباس – على مناصحة إمامهم في السَّر والعلانية، وألا يُطلعوا على أمرهم أحداً خافوا ناحيته ولم يثقوا به، وجمعوا مالاً كثيراً، وأتوه به، وخلف عليهم سليمان بن كثير الخزاعي، وأمرهم إذا حزبهم أمر أن يجتمعوا إليه فيناظروه فيه عنده، وأمرهم أن يأخذوا برأي أبي صالح كامل ابن مظفر فإنه ثقة في رأيه وشفقته، وشخص إلى جرجان، فلما قدِمها أقام بها شهراً، وجمع له شيعتها مالاً وحُلياً ثم سار منها إلى الكوفة، فلما بلغها مكث بها يسيراً، ثم توجَّه إلى محمد بن علي، فدفع إليه ما قدم به (89)، ولبث في الحُميمة زمناً، ثم رجع إلى الكوفة أول سنة (122هـ) اثنين وعشرين ومائة (90) .
(3) البعد التخطيطي وقراءة الواقع عند محمد بن علي العباسي :
إن التخطيط والتنظيم من الأسس المهمة في نجاح الدعوات وقيام الدول، حيث كتب محمد بن علي كتاباً لقادة التنظيم العباسي ليكون لهم مثالاً، وسيرة يسيرون عليها قائلاً : أما الكوفة وسوادها فشيعة علي وولده، وأما البصرة وسوادها فعثمانية تدين بالكف، تقول كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل، وأما الجزيرة، فحرورية ما رقة، وأعراب كأعلاج، ومسلمون في أخلاق النصارى، وأما أهل الشام فلا يعرفون إلا معاوية، وطاعة بني أمية، وعداوة راسخة، وجهلاٍٍ متراكماٍ، وأما مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر، ولكن عليكم بأهل خراسان، فإن هناك العدد الكثير، والجلد الظاهر، وهناك صدور سليمة، وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء، ولم تتوزعها النحل، ولم يقدح فيها فساد، وهم جند لهم ابدان، وأجسام، ومناكب، وكواهل، وأصوات هائلة ... وبعد : فإني أتفاءل إلى المشرق، وإلى مطلع سراج الدنيا، ومصباح الخلق (91).
لقد وصف محمد بن علي للدعاة المكان الذي يمكن أن تنمو فيه الدعوة وتحقق أكبر النجاح للقضاء على الحكم الأموي بعد أن بين الموانع القائمة بكل إقليم على حده، ثم ذكر المؤهلات التي تجعل إقليم خراسان هو المكان المناسب لاحتضان الدعوة العباسية:

هـ. خراسان :
منطقة بعيدة عن عاصمة الدولة وفيها رجال أقوياء حاقدون على الحكم الأموي، والاستقرار في هذه المنطقة شبه مفقود وفيها شيعة متحمسون لنصرة آل البيت وفي خراسان : جمجمة العرب وفرسانها (92)، فقد كانت خراسان موطن المقاتلة العرب الذين مرستهم الحرب الطويلة مع تركستان والذين عبّروا مراراً عن تذمرهم من السياسة الأموية والعسكرية (93)، فقد تضايقوا من سياسة التجمير وهي إبقاء المقاتلة في الثغور وعلى خطوط المواجهة شتاءً في الوقت الذي يرغب المقاتلة في قضاء الشتاء مع عوائلهم.
كان الوالي الأموي يسلبهم حصتهم من الفيء والغنيمة أحياناً أو يأخذ أكثر من حقه منها أحياناً أخرى.
سئمت القبائل من النزاع المستمر بين الشيوخ والرؤساء الطموحين للوصول إلى السلطة حيث خلق هذا بين قبائل خراسان نوعاً من القلق ولذلك وجدت تلك القبائل في الدعوة العباسية أملاً جديداً لحياة أكثر استقراراً ويسراً (94).
ج. الحجاز : فهو إقليم غلب عليه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فأهله يميلون إلى الزهد والعبادة، ويركنون إلى السلم وترك الاشتغال بالسياسة، فهم لا يرون أن الخلافة حقاً من حقوق بني هاشم – وإنما في قريش عموماً – ولهذا فشلت حركة المدينة التي قام بها بعض المعارضين للحكم الأموي، كموقعة الحرة عام 63ﻫ. وفي مكة انتهت خلافة عبد الله بن الزبير عام 73ﻫ دون أن تحقق الهدف المنشود – لأسباب كثيرة مر ذكرها – كما أن أهل الحجاز يعرفون أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وصلوا إلى الخلافة بالشورى، والاختيار والقبول من الأمة الإسلامية من غير تسلط أو سفك دماء.
د. الشام : وأما إقليم الشام " دمشق " التي اتخذها الأمويون عاصمة لدولتهم الإسلامية المترامية الأطراف، وأهل الشام يرون أن عزهم ومجدهم قد جاء عن طريق الأسرة الأموية فهم لا يرون عنها بدلاً.
ب. البصرة : هي في نظر محمد بن علي العباسي لا تصلح لهذه الدعوة، فسكانها خليط من البشر، وفيها عدد من الأجناس والأديان، والبصرة مدينة اقتصادية لا شأن لها بالسياسة، ويقطنها قليل من الشيعة لا يفي بالغرض المطلوب، والكثير منهم منهجهم: "كن عبد الله المقتول".
أ. وأما الكوفة : ففيها شيعة علي وولده، ولا تقبل غير الدعوة لأولاد علي، فأهلها يرون أن الخلافة هي حق من حقوق العلويين دون غيرهم (95).
إن هذا الرأي الذي أدلى به محمد العباسي ليصور بوضوح نزعات الأقاليم الإسلامية ولم يشر هذا الكلام إلى مصر التي كانت قريبة من بلاد الشام فلم يكن بالإمكان اتخاذها مركزاً لحركة معارضة أو لإعلان ثورة (96) أما إفريقيا فلقد كانت قريبة من مصر وبالتالي في قبضة الجيوش الأموية لقربها من الحاميات المتقدمة .

(4) دور "الحميمة" القيادي وأهمية العنصر العربي في البناء التنظيمي :
وقد أتيح للقيادة العباسية من موقعها في " الحميمة " مراقبة الوضع السياسي عن كثب، والتنبه للثغرات والمشكلات فيه دون أن يكون اختيار خراسان سوى نتيجة لذلك وهي الولاية الأثيرة لدى الأمويين ومركز الخلل في دولتهم المترنحة والصورة الأكثر تعبيراً عنها في صراعاتها وانقساماتها. على أنه ثمة مسألة هامة هي أن اختيار خراسان لا يعني انصراف العباسيين عن الشام، كما لا يعني التوجه نحو الموالي واستغلال أحقادهم على الدولة الأموية، على نحو ما روّج له المستشرقون في هذا المجال ولكنه جاء محصلة للمعطيات السابقة، فضلاً عن المعطى الجغرافي، متمثلاً في بُعد الولاية عن مركز الدولة، ذلك أن الدعوة في – أساسها التنظيمي قائم على العرب – وتوجهها الخراساني إنما كان للقبائل العربية اليمنية (97)، القاطنة بأعداد كبيرة في هذه الولاية، هذا إذا لم نتوقف عند عروبة " النقباء " المتحدرين من كبريات القبائل العربية، إذ أن خمسة منهم إلى خزاعة، وثلاثة إلى تميم، واثنين إلى مزينة، فضلاً عن آخرين من طيء وربيعة .. إلخ (98). ولا يعني هذا أيضاً، أن يكون لبروز شخصيات من أصل غير عربي في الدعوة، من أمثال أبي مسلم الخراساني وأبي سلمة الخلال، دلالات تخالف هذا الواقع، إذ أن قيادة الدعوة كانت تحكم قبضتها على كل الأمور، من خلال جهاز بالغ الدقة في التنظيم والإدارة، وسرعان ما لجأت إلى التخلص من هذين الرجلين القويين بعد إنهاء دوريهما المرسومين ومحاولة كل منهما تجاوز خطوطه المحددة (99)، وهكذا في قرية من أطراف الشام تم للعباسيين إخراج مشروعهم إلى حيز التنفيذ، متحالفين مع الوقت، ومتقنين العمل السري، وراصدين ثغرات الحكم الأموي، بما فيها مساوئ الخلفاء وضيق رؤيتهم السياسية، مما حاد بهؤلاء عن الموضوعية واتخاذ المواقف المسئولة، خصوصاً في تلك المرحلة المتأخرة منه (100)، وقد كانت دراستهم العميقة لأسباب النجاح وعوامل إضعاف الأمويين تدرس بحكمة ووعي فائق وذكاء كبير في مركز القيادة بالحميمة.
أهم مبادئ المشروع العباسي والشرائح المستهدفة بالدعوة :
لكل دعوة أو مذهب منظومة فكرية وشعارات خاصة تنادي بها وتجعلها رمزاً يؤمن بضرورة تحقيقه ومن أهم مبادئ وشعارات الدعوة العباسية التي رفعتها ونادت بها :
الدعوة إلى الإصلاح : ومن شعارات الدعوة العباسية الإصلاح، أو الدعوة إلى الكتاب والسنة وهو شعار عام وهو أشمل شعارات الدعوة العباسية والواقع أن أحداثاً كثيرة تركت في النفوس آثاراً مريرة، مثل حصار الكعبة وانتهاك حرمة المدينة المنورة يوم الحرة، وسفك دماء أهل البيت وسياسة القهر واضطهاد المعارضة، والابتعاد عن سيرة السلف الصالح، وحب الترف واللهو وكثرة مظاهره وكثرة المذاهب وتصارعها وظهور أقوال كثيرة غير مألوفة من قبل، والاعتماد على العصبية في الحكم.
المساواة : وهو شعار المساواة بين الشعوب، وهو شعار ساهم في إنجاح الثورة العباسية وأنصف الشعوب التي أسلمت واندمجت في الحضارة الإسلامية وصارت تتطلع إلى المساواة وهذا الشعار في ذاته مبدأ إنساني جليل لا تزال الأجيال تتعلق به منذ القدم وتتخذه مثلاً أعلى، وهو شعار له معنى خاص في ديننا وهو عدم التفرقة بين الناس بحسب ألوانهم أو دمائهم أو تاريخهم، وبيان أن أكرم الناس عند الله أتقاهم وقد تستر خلف هذا المبدأ دعاة العباسيين وشنعوا به على بني أمية وزعموا أنهم انحرفوا عن هذا المبدأ الإسلامي الأصيل (101).
الإمامة للرضى من آل محمد : وهذا الشعار رضي عنه مجموعة كبيرة من الناس سواء من الشيعة أو السنة وهو أن المبايعة للرضى من آل محمد صلى الله عليه وسلم بدون تعيين اسم ولا تعيين هل هو من البيت العباسي أم من الطالبيين وانتبه الشيعة متأخرين إلى أن العباسيين كانوا يخططون لأنفسهم ولكن بعد فوات الأوان (102).
فهذه هي أهم المبادئ بالإضافة إلى العدل، ومحاربة الظلم والانتصار لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. واعتمد محمد علي أسلوباً جديداً في بث الدعوة فأوصى أتباعه بكتمان أمرهم وعدم كشف حقيقته لأحد إلا بعد أن يأخذوا عليه العهود والمواثيق المؤكدة (103)، وحتى لا تثير تحركاتهم شكوك السلطة الأموية أوصى أتباعه أن يجوبوا المدن ويعملوا لدعوته بحجة التجارة وأن يستروا اسمه على الجميع، فلم يكن محمد بن علي طيلة المدة التي تولى بها رئاسة الدعوة يعرفه أحد بنسبه واسمه إلا الدعاة (104)، وحتى هؤلاء فإن لقاءه بهم كان قليلاً (105)، وإذا ما استوجب الأمر أن يلتقي بأحدهم فإن ذلك يتم تحت إجراءات أمنية مشددة وغالباً ما يكون في وقت متأخر من الليل بعد أن يكون الجميع قد دخلوا منازلهم (106)، وقد بالغ محمد بن علي في كتمان أمر الدعوة فأوصى أتباعه أن تكون البيعة لشخص مجهول وهي " للرضا من آل محمد " (107)، ويبدو أن هذا الغموض في المبادئ خدم السياسية العباسية في مدة الدعوة السرية وكان له أثر بالغ في نجاحها فشعار " الرضا من آل محمد " يضيق دائرة الخلاف فيحصرها في أهل البيت من قريش، ويخرج الأمويين منها ويبطل حقهم فيها، وفي الوقت نفسه يجعل للعباسيين نصيباً منها على أساس أنهم أحد فرعي أهل البيت، ويتيح لهم كسب أعداد كبيرة من أنصار أهل البيت ومؤيديهم، وهو من الناحية الأخرى يوقف النزاع بينهم وبين العلويين ولو مؤقتاً ويجمعهم تحت راية واحدة (108)، لذلك فقد تجنب العباسيون في هذه المدة كل ما يبين أنهم قاموا لأخذ محل العلويين، فأظهروا أن غايتهم قلب الدولة الأموية، وأخفوا سعيهم لأخذ الخلافة، وحاولوا أن يبينوا للناس أن قضيتهم هي قضية جهاد الحق ضد الباطل (109).
إن الثورة العباسية شأنها شأن الثورات الكبرى في التاريخ، تظهر بأشكال متعددة وتندفع في مجراها قوى متنوعة على الصعد الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ولا شك أن الموالى كان لهم حضورهم، إلا أنهم كانوا في صفوف الجنود والأتباع، ولم يكونوا قادة إلا في استثناءات، كانت الثورة العباسية هي ثورة اليمانية الكبرى، كما كانت ثورة الشيعة العباسية والمرجئة والقدرية والخوارج وكان لكل من هذه القوى نصيب فيها، وإن كانت العديد من هذه القوى قد تعرض للتصفية على يد أبي مسلم نفسه فيما بعد (110)، ويقول أبو جعفر المنصور موجهاً كلامه لليمانية معترفاً لهم بدورهم المتميز في نجاح الثورة : فيحق لنا أن نعرف لهم حق نصرهم لنا وقيامهم بدعوتنا ونهوضهم بدولتنا (111)... وقد تكون هذه الصورة التي تجعل من الثورة العباسية ثورة يمانية مبالغ فيها، إذ أن القيسيين والمتذمرين من سياسة نصر بن سيار ومروان بن محمد انضموا كذلك إلى صفوف الثوار العباسيين وعملوا بدورهم على إسقاط الدولة الأموية (112).
باختصار كانت الثورة العباسية هي ثمرة حسن استغلال تراكم معارضات عدة بدأت مُنذ لحظة هذه الثورة بواجهات متعددة ورفعت شعارات مختلفة، حاولت فيها كسب كل المتذمرين ضد الحكم الأموي، فانضم إليها الغلاة والمعتدلون، المسلمون وغير المسلمين، العرب وغير العرب (113) إن هذا التعقيد في الثورة العباسية هو سر نجاحها، فالشعارات التي رفعتها كانت عامة غامضة، لا تختلف ربما عن سواها إلا باكتسبت مضموناً مختلفاً عندما تبنتها قوى متعددة ورأت فيها مشروعها للخلاص، وإنما على قاعدة تلك البنية التنظيمية التي صنعها أناس أكفاء استطاعوا الصمود رغم ما أحاط بهم من أشكال القمع، حتى تحقق الانتصار الكبير (114).
وقد استهدفت الدعوة العباسية في رحلتها السرية من أعداء الدولة الأموية والذي من أهمهم :
(أ) المهالبة الذين حاربتهم الدولة الأموية وتتبعتهم بعد مقتل يزيد بن المهلب، والمهالبة يمنيون.
(ب) الموالي، فقد كان هؤلاء يدفعون من الضرائب مقدارً كبيراً، ولا يعاملون بالتساوي مع العرب وكان عليهم ضغط من كل جهة، فكانوا أعداء الدولة بطبيعة الأمر.
(ج) وكان بجانب هؤلاء عدو قوي للأمويين وهم الشيعة، فالشيعة العلوية كانت لا تزال تقوم بين حين وآخر بثورات، وكانت ثوراتها تخمد في كل مرة، فتزداد الكراهة وتشتد العداوة (115) فهذه من أهم الفئات التي استهدفتها الدعوة العباسية، فقد كانت تشكل تربة خصبة لحشد الأتباع والمناوئين للدولة الأموية فأي حركة منظمة تريد أن تسقط نظاماً ما لا بد لها من معرفة أعداء ذلك النظام والعمل على حشد القوى ضده مع ضرورة إمساكها بخيوط الثورة بيدها، فهذه بديهة من بديهات العمل السياسي المنظم. كان على رأس الدعوة العباسية رجال من بني العباس، " دهاة أقويا " منظمين عارفين بما يقومون به : أولهم محمد بن علي وأقرباؤه وابنه إبراهيم، ثم تبعهم عدد من إخوة إبراهيم ومن أعمامه وأقاربه، وقد اشتركوا جميعاً في تنظيم الثورة ووضعوا خططها وأشرفوا عليها ووجَهوها كما يجب أن توجه. نعم إنهم تحالفوا مع أعداء بني أمية جميعاً واستفادوا منهم كل الاستفادة، لكنهم هم الموجهون وهم أصحاب الأمر، أما الدعاة والقادة فإنهم يتلقون أوامرهم وينفذونها بحذافيرها، نعم استفادوا من العناصر المعادية لبني أمية، وكانت تلك العناصر يجمعها هدف واحد هو إزالة بني أمية، و تجمعها فكرة واحدة، وهي أن بني أمية أعداء الدين لذا وجب القضاء عليهم (116).

(5) المرجعية الشرعية للدعوة العباسية :
تعتبر مدرسة عبد الله بن عباس الحركية والشرعية هي المرجعية للدعوة العباسية، فقد اهتم علي بن عبد الله بن العباس بتراث أبيه وعلومه، يروي ابن سعد بسند أن موسى بن عقبة قال : وضع عندنا كريب حمل بعير أو عدل بعير، من كتب ابن عباس، قال فكان علي بن عبد الله بن عباس إذا أراد الكتاب كتب إليه : إبعث إليّ بصحيفة كذا وكذا، قال فينسخها فيبعث إليه بأحدها (117) وقد علق الدكتور صالح أحمد العلي على هذا الأثر فقال : غير أن موسى بن عقبة لم يحدد فيما إذا كانت كتب ابن عباس هذه مما ألفه أو مما امتلكه كما أنه لا يذكر مواضيعها، أي فيما إذا كانت في التفسير أم في علوم أخرى (118). وذكر صاحب الوصية السياسية في العصر العباسي بأن محمد بن علي حين نشأ : ألزمه أبوه أصحاب جده – ابن عباس – فكان كذلك حتى علم وفقه فجلس يوماً يفتي في المسجد الحرام بمثل فتيا جده (119)، وقد أبهرت فتواه سعيد بن جبير رضي الله عنه حين سمعه فقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني رجلاً من ولد ابن عباس يفتي بفتواه (120)والمعلوم لدى الباحثين أن عبد الله بن عباس تقدم في التفسير بسبب عوامل متعددة منها؛ دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بالفقه في الدين والعمل بالتأويل، قرب منزلته من عمر – رضي الله عنه، الأخذ عن كبار الصحابة، قوة الاجتهاد وقدرته على الاستنباط، قدرات ابن عباس التعليمية والتربوية، رحلاته وأسفاره، وتأخر وفاته (121) وكان ابن عباس من علماء المدرسة المكية وقد تميزت هذه المدرسة من بين سائر المدارس بكثرة تناولها للآيات وتفسيرها وأسهمت إسهاماً قيما في الإبانة عن كثير من المعاني التي يحتاج إليها ويرجع ذلك لأسباب عديدة منها؛ إمامة ابن عباس للمدرسة، الأثر المكاني على المدرسة – كونها بمكة – كثرة رحلاتهم وأسفارهم، حرصهم على نشر علمهم، التصنيف والتدوين المبكر لآثار المدرسة (122).. إلخ.

* الفقه الحركي عند ابن عباس :
استفاد العباسيون من فقه جدهم الحركي والذي ظهر عند نصحه للحسين بن علي لما أراد الذهاب للكوفة، فقد قال له : أخبرني إن كانوا دعوك بعد ما قتلوا أميرهم، ونفوا عدوّهم، وضبطوا بلادهم، فسر إليهم، وإن كان أميرهم حيَّا، وهو مقيم عليهم، قاهر لهم، وعماله تجبي بلادهم، فإنهم إنما دعوك للفتنة، والقتال (123)، وفي رواية أخرى أنّه قال له : إنّي أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك، إنّ أهل العراق قوم غدر، فلا تغترنّ بهم، أقم في هذا البلد حتىّ ينفي أهل العراق عدوّهم، ثم أقدم عليهم، وإلا فسر إلى اليمن، فإن بها حصوناً وشعاباً ولأبيك بها شيعة وكن عن الناس بمعزل، واكتب إليهم وبث دعاتك منهم، فإني أرجو إذا فعلت ذلك أن يكون ما تحب (124). ويظهر من فقه ابن عباس الحركي :
(أ) أهمية سيطرة أهل العراق على إقليمهم وتحريره من سلطان بني أمية : وهذا ما قام به العباسيون مع أهل خراسان حيث ضبطوه وحّرروه من سلطان بني أمية فيما بعد .
(ب) استفاد العباسيون من تقييم ابن عباس لأهل العراق ولذلك لم يعتمدوا عليهم في تشكيل القاعدة الصلبة التي قامت عليها دعوتهم.
(ج) بيَّن ابن عباس بأن اليمن بها حصون وشعاب ولأبيك بها شيعة وهذه عوامل مهمة في نجاح الحركة لأن قبضة الدولة الأموية تكون ضعيفة للأسباب الجغرافية والبشرية ولذلك وقع اختيار العباسيين على خراسان، لضعف قبضة الدولة عليها، كما كان بها أنصار لأهل البيت وخصوصاً من القبائل اليمنية المهاجرة هناك.
(د) وبين ابن عباس بأن يكون صاحب الدعوة في بداية أمرها عن الناس بمعزل وأن يكتب إليهم ويبث دعاته فيهم وهذا الذي فعله محمد بن علي العباسي، فقد كان عن الناس بمعزل وكان يكتب للناس ويبث دعاته من خلال تنظيم محكم انتشرت خلاياه الدعوية في جسم الأمة الإسلامية .

(6) انحراف خطير عن منهج الدعوة وموقف محمد بن علي العباس ضده :
في سنة 118ﻫ بعث بكير بن ماهان عمَّار بن يزداد داعية إلى خراسان وكان نصرانياً من أهل الحيرة ثم أسلم وصار معلماً بالكوفة، فلمّا أتى خراسان تسمَّى بخداش بن يزيد، ودعا الناس إلى بني العباس فأجابوه، ثم انحرف عن الدعوة العباسية، وخرج عن مبادئها وقواعدها وشذَّ عن مراميها ومقاصدها فثار عليه شيعة بني العباس وفتكوا به، ويقال : إنَّ أسد بن عبد الله القسْري هو الذي قبض عليه وقتله (125) وقال البلاذري : وجه بكير عماراً هذا فغيّر سُننَ الإمام، وبدل ما كان في سيرة من قبله، وحكم بأحكام منكرة مكروهة، فوثب عليه أصحاب محمد بن علي فقتلوه، ويقال : بل قتله أسد بن عبد الله وصلبه (126)، وفيما روى ابن جرير الطبري من خبر خداش أنه أعلن دين الخُرّمية وأحّلًّ النساء وأباحهن وذكر لشيعة بني العباس أن محمد بن عليَّ أمره بذلك، فأخذه أسد بن عبد الله القسري، ومثّل به ثم قتله (127)، وروى ابن الأثير أن خّداشاً أجاز لشيعة بني العباس ترك الطاعات والفروض وسوّغ لهم ذلك واحتجَّ له احتجاجاً قبيحاً، يقول : قال لهم : إنه لا صوم ولا صلاة ولا حج، وإن تأويل الصوم أن يُصام عن ذكر الإمام فلا يباح باسمه، والصلاة والدعاء له، والحج القصد إليه، وكان يتأوَّل من القرآن (128) قوله تعالى : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتّقوا وآمنوا وعملوا الصالحات " ( المائدة : 93). وكان مروق خِداش من الدَّين وانسلاخه من الإسلام، ومزجه تعاليم الدَّعوة العباسية بتعاليم الخُرَّمّية أكبر الأخطار التي صادفها محمد بن علي، فقد نكب شيعتها وشق صُفُوفهم شقاً وكان من انحازوا إليه منهم كُثراً وكان فيهم بعض النُّقباء والدُّعاة (129)، وروى البلاذري أن محمد بن علي صرف شيعة بني العباس بخراسان عن مقالة خِداش، إذ أرسل إليهم بكير بن ماهان، فرتق فتقهم، ورأب صدعهم، ولم شعثهم وأعادهم إلى منهاج محمد بن علي ودعوته (130)وقد أرسل مع بكير من ماهان رسالة إلى دعاته في خراسان يحذرهم من الدخول في هذه المبادئ المنافية للإسلام، كما أرسل معه رسالة ثانية إلى رؤساء الدعاة (131).
قال في رسالته الأولى : سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ... وأشهد أن الله يبدئ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم فتبارك ذو الفضل العظيم. أما بعد : فإني أوصيكم بتقوى الله الذي لا يزيد في ملكه من أطاع ولا ينقص من ملكه من عصاه، بيده الملك ويبقى ملكه وهو عزيز ذو انتقام وتمسكوا بصالح الذي عاهدتم الله عليه وأدوا الأمانة فيما أمركم به، واعتصموا بحبل الله جميعاً، وخذوا بحظكم منه واشكروا بلاه الذي أصبح بكم من سوابغ نعمه واعتبروا ما بقي بما سلف، وإنما ضرب الله لكم أمثال ما مضى من الأمم لتعقلوا عن الله أمره بأنكم قد رأيتم من الدنيا وتصرفها بأهلها إلى ما صار من مضى منهم، وخير ما يصيب الناس فيما بقي من الدنيا ... ثم اعلموا علماً يقيناً أن لأهل ولاية الله منازل معروفة كأنما ينظرون فيما أعطاهم الله من اليقين إلى عواقب الأمور ومستقرها .. لا تصدقوا كذباً، ولا تجمعوا خبيثاً ولا تخالفوا تقياً ولا تحتقروا يتيماً صغيراً، ولا تنتهيكوا ذمة، ولا تفسدوا أرضاً ولا تشتموا مؤمناً، ولا تقطعوا رحماً، ولا تعصوا إماماً، وأحسنوا مؤازرتهم وصيانة أمرهم، أعينوهم إذا شهدتم وانصحوا لهم إذا رغبتم، اعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله وأوثق التقوى لزوم حقه، وخير الملل ملة إبراهيم وأفضل السنن سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وأعظم الضلالة ضلالة بعد هدى... ونفس تناجيها بتقوى خير من نفس أمارة بالسوء، فاتقوا الله، ولا تكونوا أشباهاً للجناة الذين لم يتفقهوا في الدين ولم يعطوا بالله اليقين وأن الله أنزل عليكم كتاباً واضحاً ناطقاً محفوظاً قد فصل فيه آياته، وأحكم فيه تبيانه، وبين لكم حلاله وحرامه، وأمركم أن تتبعوا ما فيه، فاتخذوه إماماً، وليكن لكم قائداً دليلاً، فعليكم به، ولا تؤثروا عليه غيره ... فإن الله بين لكم ما تأتون وما تتقون، فقال لنبي الرحمة " قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ". وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم " قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد " أسأل الله أن يجعلنا وإياكم مهتدين غير مرتابين . والسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين (132).
وقال في رسالته الثانية التي وجهها إلى رؤساء الدعاة : " أما بعد عهدنا الله وإياكم بطاعته وهدانا وإياكم سبيل الراشدين. فقد كنت أعلمت إخوانكم رأيي في خداش، وأمرتهم أن يبلغوكم قولي فيه، وإني أشهد الله الذي يحفظ ما تلفظ به العباد، زكي القول وخبيثه وإني بريء من خداش، وممن كان على رأيه، ودان بدينه، وآمركم ألا تقبلوا من أحد ممن أتاكم عني قولاً ولا رسالة خالفت فيها كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والسلام (133). ومن خلال الرسائل السابقة تتضح نزعة محمد علي العباسي السنية وبطلان اتهام الدعوة بالعقائد الفاسدة، والباطنية، وعدم صحة ارتباط الدعوة العباسية بالزنادقة كما زعم بعض المستشرقين من أمثال فلهوزن (134)، فهذا الأمر بعيد كل البعد عن الصحة (135).


|1|2|




--------------------------------------------------------------------------------
(1) نسب قريش ص 18 ، طبقات ابن سعد (

4/5 ) ، شذرات الذهب ( 1/38 ) .
(2) طبقات ابن سعد ( 4/5 ) الدعوة العباسية د . حسين عطوان ص 87 .
(3) تاريخ ابن عساكر نقلاً عن الدعوة العباسية ص 87.
(4) طبقات ابن سعد ( 4/32 ) الدعوة العباسية ص 87.
(5) تهذيب التهذيب ( 5/123 ) الدعوة العباسية ص 87.
(6) أسد الغابة ( 3/109 ) الدعوة العباسية ص 88.
(7) العقيدة في أهل البيت ص 154.
(8) الطبقات ( 4/4/5 ) الاستيعاب ( 3/49/101 ) العقيدة في أهل البيت ص 155.
(9) سنن الترمذي رقم 3759 ، المستدرك ( 3/325 ) صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(10) مسلم كتاب الزكاة باب في تقديم الزكاة ومنعها رقم 983 .
(11) مسلم رقم 1775 ، مصنف عبد الرزاق ( 5/379 380 ) ابن هشام 0 4/87 ) .
(12) فتسقينا : أي بدعائه حياً ، ولو كان يتوسل به ميتاً لتوسل به عمر ولما احتاج لعمه العباس ليدعو

له.
(13) البخاري رقم 1010 .
(14) حلية الأولياء ( 1/314 ) العقيدة في أهل البيت ص 158.
(15) البخاري رقم 143.
(16) سير أعلام النبلاء ( 5/284 ) .
(17) المصدر نفسه ( 5/285 ) .
(18) الدعوة العباسية ، حسين عطوان ص 146.
(19) طبقات ابن سعد ( 5/314 ).
(20) البداية والنهاية نقلاً عن الدعوة العباسية ص 146.
(21) تهذيب التهذيب ( 7/357 ) الدعوة العباسية ص147.
(22) وفيات الأعيان 0 3/276 ) الدعوة العباسية ص 147.
(23) وفيات الأعيان ( 3/276 ) الدعوة العباسية ص 147.
(24) أخبار الدولة العباسية ص 140 الدعوة العباسية ص 147.
(25) الدعوة العباسية ص 148 إلى 152.
(26) الدعوة العباسية ، حسين عطوان ص 154.
(27) المصدر نفسه ص 157 أنساب الإشراف ( 3/79 ) .
(28) طبقات ابن سعد ( 5/391 ).
(29) المصدر نفسه ( 5/391 ) .
(30) الدعوة العباسية ص 159.
(31) الدعوة العباسية ص 159.
(32) سير أعلام النبلاء ( 5/285 ) .
(33) الدعوة العباسية ، د . حسين عطوان ص 164.
(34) أخبار الدولة العباسية ص 164.
(35) تهذيب التهذيب ( 9/355 ).
(36) أخبار الدولة العباسية ص 197.
(37) العقد الفريد ( 5/105 ) الدعوة العباسية ص 165.
(38) أنساب الأشراف ( 3/83 ).
(39) نفس المصدر ( 3/83 ) الدعوة العباسية ص 165.
(40) الهاشمية : هي التي قالت بانتقال محمد بن الحنفية إلى رحمة الله وانتقال الدعوة إلى ابنه عبد الله

الملل للشهرستاني ( 1/150 ).
(41) العلويون والعبّاسيون ودعوة آل البيت ص 51.
(42) نسب قريش ص 75 ، طبقات ابن سعد ( 5/328 ) الدعوة العباسية ص 167.
(43) الدعوة العباسية ص 169.
(44) نسب قريش ص 75 ، طبقات ابن سعد ( 5/328 ).
(45) طبيعة الدعوة العباسية ص 125.
(46) نسب قريش ص 75 للزبيدي ، شذرات الذهب ( 1/166 ).
(47) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت ص 56.
(48) المصدر نفسه ص 57 ، 58.
(49) العالم الإسلامي في العصر العباسي، حسن أحمد ص 114.
(50) الثورة العباسية فاروق عمر ص 112.
(51) تاريخ الطبري نقلاً عن العلويين والعباسيين وأهل البيت ص 61.
(52) طبيعة الدعوة العباسية ، فاروق عمر ص 155.
(53) العلوييون والعباسيون وأهل البيت ص 61.
(54) المصدر نفسه ص 62.
(55) المصدر نفسه ص 62.
(56) أخبار الدولة العباسية ص 216 ، تقويم جديد للدعوة العباسية ص 77.
(57) أخبار الدولة العباسية ص 221.
(58) طبيعة الدعوة العباسية فاروق عمر ص 23.
(59) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت ص 63.
(60) الأخبار الطوال ص 332.
(61) المصدر نفسه ص 334.
(62) تاريخ الطبري نقلاً عن العلويين والعباسين ودعوة آل البيت ص 63.
(63) المصدر نفسه ص 63.
(64) الكامل في التاريخ نقلاً عن العلويين والعباسيين ص 64.
(65) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت ص 64.
(66) الأخبار الطوال ص 332.
(67) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت 64.
(68) المصدر نفسه ص 64.
(69) المصدر نفسه ص 64.
(70) تاريخ الطبري نقلاً أثر العلماء في الحياة السياسية ص 600.
(71) البداية والنهاية نقلاً عن أثر العلماء في الحياة السياسية ص 600.
(72) سير أعلام النبلاء ( 6/7 ).
(73) أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية ص 600.
(74) الثورة العباسية ص 117.
(75) الدعوة العباسية ص 172.
(76) انساب الأشراف ( 3/86 ) تاريخ الموصل ص 49.
(77) أخبار الدولة العباسية ص 194 – 200.
(78) الأخبار الطوال ص 333.
(79) الدعوة العباسية ص 189.
(80) أخبار الدولة العباسية ص 213 ، 215.
(81) أخبار الدولة العباسية ص 213.
(82) المصدر نفسه ص 216.
(83) أنساب الأشراف ( 3/115 ) الدعوة العباسية ص 211.
(84) الدعوة العباسية ص 211.
(85) أخبار الدولة العباسية ص 219 – 220.
(86) أخبار الدولة العباسية ص 221 – 222.
(87) أخبار الدولة العباسية ص 222 – 223.
(88) المصدر نفسه ص 220.
(89) أخبار الدولة العباسية ص 223 – 224.
(90) أخبار الدولة العباسية ص 230.
(91) عيون الأخبار ( 1/204 ) العلويون والعباسيون ص 58.
(92) طبيعة الدعوة العباسية ص 156.
(93) الثورة العباسية ص 114.
(94) الخلافة العباسية ، عصر القوة والازدهار ص 15 ، 16
(95) العلويون والعباسيون ص 58 ، 59 ، 60 .
(96) الثورة العباسية ص 114.
(97) تاريخ الطبري ، نقلاً عن تاريخ بلاد الشام ، إبراهيم بيضون ص 228.
(98) تاريخ بلاد الشام ، إبراهيم بيضون ص 228.
(99) الأخبار الطوال ص 359.
(100) تاريخ بلاد الشام ص 228.
(101) حركة النفس الزكية ص 46 .
(102) حركة النفس الزكية ص 46.
(103) الأخبار الطوال ص 355 ، الوصية السياسية في العصر العباس ص 89.
(104) الوصية السياسية في العصر العباسي ص 89ز
(105) المصدر نفسه ص 89.
(106) المصدر نفس ص 89.
(107) أنساب الإشراف ( 3/82 – 136 ) .
(108) أنساب الإشراف ( 3م82 – 136 ) .
(109) العصر العباسي الأول ص 25.
(110) السلطة والمعارضة في الإسلام ص 527.
(111) نقد وتعريف بتاريخ الموصل ، مجلة المكتبة بغداد ص 1968م ص 194.
(112) طبيعة الدعوة العباسية ص 178.
(113) السلطة والمعارضة في الإٍسلام ص 528 .
(114) المصدر نفسه ص 528.
(115) تاريخ عصر الخلافة العباسية يوسف العش 16.
(116) المصدر نفسه ص 26.
(117) طبقات ابن سعد ( 5/216 ) .
(118) دراسات في تطور الحركة الفكرية في صدر الإسلام ص 91.
(119) الوصية السياسية في العصر العباسي ص 76 ، أخبار الدولة العباسية ص 173.
(120) المصدر نفسه ص 76.
(121) تفسير التابعين ( 1/374 إلى 395 ) .
(122) المصدر نفسه ( 1/407 إلى 413 ) .
(123) البداية والنهاية ( 8/172 ) إحداث وأحاديث فتنة الهرج ص 208.
(124) الكامل في التاريخ( 2/546 ) .
(125) الدعوة العباسية ، حسين عطوان ص 203.
(126) أنساب الإشراف ( 3/117 ) .
(127) تاريخ الطبري ( 7/635 ) .
(128) الكامل في التاريخ ( 3/352 ) .
(129) الكامل في التاريخ ( 3/352 ) .
(130) أنساب الأشراف ( 3/118 ) الدعوة العباسية ص 207.
(131) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت ص 66.
(132) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت ص 66.
(133) المصدر نفسه ص 67.
(134) فتة السلطة ص 187 ، الدولة العربية ص 487.
(135) فتنة السلطة ص 188.

د.فالح العمره 16-08-2006 07:21 PM

الدعوة العباسية ودورها في نهاية الدولة الأموية
 
الدكتور/ علي الصلابي 5/1/1427
04/02/2006



ثالثاً : إعلان الثورة العباسية : تعمقت الدعوة العباسية في نفوس الأتباع، وتطلع الناس لها، وانتشرت فكرتها، وعلقوا الآمال عليها، فهي دعوة آل البيت، وهي التي سوف تخلصهم من الدولة الأموية وهي بجانب هذا ستعيد لهم عزهم وسلطانهم التليد، فتمسكوا بها وناصروها فاتسعت خلايا الدعوة، وتعمقت جذورها في السهول والجبال فعمت المدن والقرى والأقاليم وفي هذه الأثناء مات صاحب الدعوة ومنظمها محمد بن علي بالحميمة في ذي القعدة سنة 125 ﻫ وأوصى بتولي أمر الدعوة لابنه إبراهيم الذي تسمى بها بعد بالإمام (136)، وكان رئيس دعاة الكوفة بكير بن ماهان موجوداً في هذا الأثناء بالحميمة فحمل هذه الوصية إلى خراسان وأبلغها إلى النقباء فصدقوه ودفعوا إليه ما اجتمع لديه من نفقات شيعته، ورجع إلى الحميمة، حيث طمأن الإمام عن سير الدعوة في خراسان وأبلغه إخلاص هؤلاء الدعاة لإمامهم الجديد وسلم إليه ما لديه من الأموال فعاد إلى الكوفة (137)، ومعه بعض الشيعة العباسيين بعد أن تعرفوا على إمامهم الجديد، وقد حثوه على تعجيل الثورة المسلحة قائلين : وحتى تأكل الطير لحوم أهل بيتك وتسفك دماؤكم، وتركنا زيداً مصلوباً بالكنانة وابنه " يحي " مطروداً في البلاد، وقد شملكم الخوف، وطالت عليكم مدة أهل البيت السـوء (138).
كان إبراهيم بن محمد، أرفع إخوته مكاناً وأعلاهم شأناً، وكان عظيم القدر عند أهل المدينة ومكة وكان تقياً ورعاً (139)، جواداً، معطاء (140)، حكيماً، حليماً، وحازماً صارماً، وكان له عناية بالحديث ومعرفة بالبلاغة ورواية للشعر (141)، ولما تولى قيادة الدعوة العباسية سعى في بث الدّعوة ونشرها وجدّ في تقويتها وترسيخها واجتهد في تنظيمها وإحكامها (142).
ولما مرض بكير بن ماهان أرسل إلى إبراهيم الإمام يستأذنه بتولية زوج ابنته " أبو سلمة الخلال " رئاسة الدعوة بدلاً منه، فكتب إبراهيم إلى أبي سلمة يأمره بالقيام بعمل بكير بن ماهان، كما أرسل إلى خراسان يخبرهم بتولي أبي سلمة أمر الدعوة، فأجابوه بالطاعة والتصديق له، فمات بكير بعد ذلك بقليل سنة 127ﻫ (143) والحديث عن إعلان الثورة يسوقنا إلى التعرف على شخصية مهمة كانت بجانب إبراهيم الإمام، والتي قامت بأهم أدوار هذا العمل الحربي بعد ذلك في تكوين الدولة العباسية والقضاء على معارضيها في أول الأمر، تلك هي شخصية أبي مسلم الخراساني (144).
1. أبو مسلم الخراساني :
اسمه عبد الرحمن بن مسلم، ويقال : عبد الرحمن بن عثمان بن يسار الخراساني، الأمير صاحب الدعوة، وهازم جيوش الدولة الأموية، والقائم بإنشاء الدولة العباسية، كان من أكبر الملوك في الإسلام. كان ذا شأن عجيب ونبأ غريب من رجل يذهب على حمار بإكافٍ من الشاف حتى يدخل خراسان، ثم يملك خراسان بعد تسعة أعوام ويعود بكتائب أمثال الجبال، ويقلب دولة، ويُقيم دولة أخرى (145)، كان قصيراً، أسمر جميلاً، نقي البشرة، أحور العين، عريض الجبهة، حسن اللحية، طويل الشعر، طويل الظهر، خافض الصوت، فصيحاً بالعربية والفارسية، حلوَ المنطق، وكان راوية للشعر، عارفاً بالأمور، لم يُر ضاحكاً، ولا مازحاً إلا في وقته وكان لا يكاد يُقطب في شيء من أحواله، تأتيه الفتوحات العظام، فلا يظهر عليه أثر السرور، وتنزل به الفادحة الشديدة، فلا يرى مكتئباً، وكان إذا غضب لم يستفزه الغضب (146) قال عنه الذهبي : كان أبو مسلم سفاكاً للدماء، يزيد على الحجاج في ذلك، وهو أوَّل من سن للدولة لبس السواد (147).
(أ) الوضع العام عند إعلان الثورة :
كانت الظروف مواتيه لإعلان الثورة المسلحة في خراسان :
فقد قامت حركات تمرد في أنحاء خراسان ضد السلطة الأموية حيث قام بها زعماء القبائل مثل جديع بن علي الكرماني وهناك ثورة قد اشتعلت بالكوفة قام بها عبد الله بن معاوية من ولد جعفر بن أبي طالب وانضم معه الكثير من الغاضبين مما فت من عضد الدولة وأربكها، وقد دخل فيها بعض أفراد الأسرة العباسية ومن بينهم أبو جعفر، والسفاح، وعمهم عبد الله بن علي الذي ربما قصدوا من ذلك إفشال هذه الثورة، وقد حدث ذلك حيث كانت نهايته على أيدي رجال الدعوة العباسية في خراسان، ولآن خراسان لا تحتمل أكثر من دعوة وهي الدعوة العباسية (148).
* وفي الشام حروب طاحنة بين الأمراء الأمويين على السلطة.
* اشتداد العصبية القبلية في خراسان والعراق والشام، فقد كانت تتخبط بالانقسامات والفوضى، وحتى الأندلس وصلت العصبية فيها إلى حروب طاحنة بين المضرية واليمنية (149).
* خروج الضحاك بن قيس الشيباني في العراق والجزيرة (150).
* ثورة الخوارج في كل مكان في العراق، أو الحجاز، واليمن (151).
* عصيان كثير من المدن، في سوريا وفلسطين والأردن حيث خرجت عن طاعة الخليفة (152).
على ضوء هذه الأحداث وغيرها جد إبراهيم الإمام بعد ذلك إلى نقل الدعوة العباسية السرية، إلى طور العمل والنضال الحربي فعرض القيادة العامة للجيش على " سليمان بن كثير " رئيس دعاة خراسان فرفض ذلك، ثم عرضها بعد ذلك على إبراهيم بن سلمة فرفض هو الآخر هذا الطلب (153)، وكانا بالحميمة موفدين من قبل الشيعة العباسية لطلب الموافقة من إبراهيم الإمام لإعلان الثورة المسلحة وأن الدعوة السرية لا تستحق أكثر من هذا (154).
(ب) تعيين أبي مسلم الخراساني على القيادة العامة :
استقر رأي إبراهيم الإمام على تولية القيادة العامة لأبي مسلم الخراساني وكان ذلك عام 128ﻫ، ولم يتجاوز عمره – آنذاك – تسع عشرة سنة (155)، وقد كتب معه كتاباً إلى شيعته في الكوفة قائلاً : إن هذا أبو مسلم، فاسمعوا له وأطيعوا، وقد وليته على ما غلب عليه من أرض خراسان (156) أخذ أبو مسلم هذا الكتاب ليعرضه على الدعاة وكان أول ما عرضه على أبي سلمة الخلال بالكوفة، وهو في طريقة إلى خراسان، ولكنه لم يجد منه قبولاً، فقد استصغره وحقره، وتوجه إلى خراسان بعد ذلك حيث عرض هذا الكتاب على كبار الدعاة فيها، فتخوفوا من عواقب ذلك وردوه، لأنه غلام عديم التجربة، فلا يمكن أن يكون لمثل هذه الأمور الخطرة، فأرسل وأرسلوا إلى إبراهيم الإمام بالحميمة حول هذا الموضوع، فأجابهم الإمام إلى وجوب الالتقاء به عند موسم الحج (157)، خرج هؤلاء والتقوا بإبراهيم الإمام في مكة، فأخبر أبو مسلم أن هؤلاء رفضوا الطاعة، والانقياد له. فقال لهم الإمام : لقد عرضت هذا الأمر على غير واحد لكنهم رفضوا ذلك فاستقر رأيي علي أبي مسلم لتولي رئاسة الجيش، فأمرهم بالسمع والطاعة له (158).
(ج) وصية الإمام إبراهيم لأبي مسلم :
وكتب إبراهيم الإمام وصية لأبي مسلم جاء فيها : (يا عبد الرحمن إنك رجل منا أهل البيت فاحفظ وصيتي، وانظر هذا الحي من اليمن فأكرمهم، وحل بين أظهرهم، فإن الله لا يسمي هذا الأمر إلا بهم، وانظر هذا الحي من ربيعة فاتهمهم في أمرهم، وانظر هذا الحي من مصر فإنهم العدو القريب الدار، فأقتل من شككت في أمره ومن كان في أمره شبهة ومن وقع في نفسك منه شيء، وإن استطعت ألا تدع بخراسان لساناً عربياً فأفعل، فأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله ولا تخالف هذا – الشيخ – يعني سليمان بن كثير الخزاعي – ولا تعصه، وإن أشكل عليك أمر فاكتف به مني) (159).
إن هذه الوصية غير متفق عليها بين المؤرخين لذلك لا يمكن قبولها دون تمحيص، فالنقد الخارجي للنص يظهر بأنه مذكور دون سلسلة ورواة الطبري، ولا ذِكْر للنص في مصادر مهمة أخرى مثل أنساب البلاذري وأخبار الدولة العباسية، وليس هناك أهمية كبرى لذكرها في كتب تاريخية متأخرة لأن هؤلاء المؤرخين المتأخرين أمثال ابن خلدون وابن كثير وابن الأثير نقلوها ممن ذكرها قبلهم والمهم هنا أن نذكر بأن رواية الدينوري (160)، وكتاب العيون والحدائق (161)لا تذكر النص الذي يأمر فيه إبراهيم أبا مسلم بقتل العرب دون تمييز، ولكن الوارد أن الأمر كان بقتل العرب الذين يرفضون الدخول في الدعوة العباسية أو المشكوك في ولائهم لها : (واقتل من شككت في أمره) (162). أو كما يقول العوفي : لقتل كل المدّعين أو المطالبين بالإمامة (163)، ويؤيد ذلك ما يذكره صاحب أخبار العباس على لسان أبي مسلم : أمرني الإمام أن أترك في أهل اليمن وأتألف ربيعة ولا أدع نصيبي من صالحي مضر وأحذر أكثرهم من اتباع بني أمية وأجمع إليّ العجم (164). ويمكن تلخيص النقد الداخلي للوصية بالنقاط التالية :
* الرواية مجزأة في الطبري إلى قسمين تذكر بينهما حوادث ذات علاقة بتطور الدعوة ولا علاقة لها بالوصية.
* تأتي الوصية تحت عنوان سبب قتل مروان بن محمد لإبراهيم الإمام، مما يدل على أنها أو بعضها على الأقل دعاية ضد العباسيين وضعت من جانب أعدائهم.
* يظهر نص الرواية تناقضات كثيرة فكيف يصح أن يأمر إبراهيم الإمام بقتل كل العرب وهو يدرك أهميتهم ويوصيه في بداية الرواية بتعهد اليمانيين وإلى درجة ما الربعيين.
* وأخيراً لا آخراً فإن سياسة أبي مسلم وسليمان الخزاعي في خراسان لم تسر أبداً حسب الوصية المزعومة فإن الدعاة العباسيين تقربوا لليمانية والربيعية حتى أن أبا مسلم قبل الكثير من المضريين في صفوف الدعوة (165).
(د) موقف سليمان الخزاعي من أبي مسلم :
وأما موقف سليمان الخزاعي من أبي مسلم فلم يكن ودياً أول الأمر حيث طرده ولم يقبله بين صفوف الدعاة قائلاً : (صلينا بمكروه هذا الأمر واستشعرنا الخوف واكتحلنا السهر حتى قطعت فيه الأيدي والأرجل وبريت فيه الألسن جزاً بالسعار وسملت الأعين وابتلينا بأنواع العذاب وكان الضرب والحبس في السجون من أيسر ما نالنا فلما تنسمنا روح الحياة وانفسحت وأينعت ثمار غراسنا طرأ علينا هذا المجهول الذي لا ندري أية بيضة تقلعت عن رأسه ولا من أي عش درج. والله لقد عرفت الدعوة من قبل أن يخلق هذا في بطن أمه) (166). ولكن نفور بعض الدعاة أمثال أبي منصور طلحة بن رزيق وأبي داود خالد بن إبراهيم وغيره من كبرياء سليمان هو الذي دعاهم إلى قبول الشخص الغريب أبي مسلم، فاضطر سليمان إلى الاعتراف بأبي مسلم خوفاً من تشقق الثورة وتصدعها (167). ولعل رفض سليمان الخزاعي لأبي مسلم الخراساني يعود أيضاً إلى حداثة سنه وقلة تجربته التي قد تعرض الدعوة للخطر، هذا بالإضافة إلى أن سليمان طلب من إبراهيم الإمام ممثلاً له : من أهل البيت (168). أي من الهاشميين وخاصة العباسيين ولم يكن يتخيل أنه سيرسل مولى له يمثله في خراسان (169)، وكان موقف أبي مسلم مرناً ويدل على ذكاء حيث تقرب من سليمان وأعلمه بأن الإمام أوصاه بألا يعصي له -أي لسليمان- أمراً ويقدمه في جميع ما يدبرون، وترجّاه كذلك ألاّ يشك فيه : أحسن بي الظن فإني أطوع لك من يمينك. (170) ولم يكن شيعة العباسيين في قرى خراسان ومدنها يطيعون إلا سليمان الخزاعي، صاحبهم والمنظور إليه منهم، ولذلك كتب إليهم سليمان يخبرهم بأمر إبراهيم وإرساله أبي مسلم إلى خراسان (171).
(د) مجلس النقباء في خراسان يرتب أمور الحرب :
عقد مجلس النقباء اجتماعاً لينظروا في أمر المكان الملائم لإعلان الثورة فيه فكان هناك رأي بضرورة إعلانها بخوارزم : فإنها بلاد منقطعة عن نصر بن سيار فإلى أن يرسل عسكره يكون قد تسامع بنا إخواننا فيأتونا ويكثر جمعنا فنقوى على من يأتينا إلا أن عدداً من النقباء عارضوا ذلك وأكدوا على مرو الروذ لأنها : متوسطة بين مرو بلخ. ثم اقترح عدد آخر مرو الشاهجان لأن بها خلقاً كثيراً من إخواننا وبها السلطان قد وهن أمره ومتى يقوى بها أمرنا يقوى في غيرها. وأبو ذلك سليمان الخزاعي قائلاً : إن قوتنا بها أعظم وعددنا أكبر. ووافقه أبو منصور كامل بن المظفر حيث قال : إذا اجتث الأصل فلا بقاء للفرع إذا ظهرتم بغير مرو تفرغ لكم سلطانكم وساعده عدده عليكم. وهكذا اتفق أمرهم على أن مرو الشاهجان أصلح مكان لإعلان الثورة، وأرسل الدعاة ليخبروا الشيعة بالالتقاء والتجمع في مرو في الوقت المحدد وكان في يوم عيد الفطر سنة 129ﻫ (172)وكان نصر بن سيار منشغلاً بالاستعداد لجديع الكرماني فلما سمع بنبأ تجمع الشيعة في مرو وضواحيها قرر أن يكمن لهم ويلتقطهم جماعة جماعة ويقضي عليهم ولما علم سليمان الخزاعي وأبو منصور كامل بن المظفر بذلك أشارا على أبي مسلم بضرورة التجمع وإعلان الظهور قبل الموعد المحدد وإلا تشتت الشيعة وفشلت الحركة. فأعلنها أبو مسلم ولمّا يبقي في رمضان إلا خمسة أيام وعسكر في حُصَين تابع لسليمان الخزاعي حيث أصبح نقطة تجمع أنصار الدعوة لآل البيت (173). وحين فشا خبر أبي مسلم أقبلت الشيعة من كل جانب إلى مرو فأتاهم عيسى بن شبل وأبو الوضاح وأبو مرة في نحو من ألف رجل : وقد كثر جمعهم وسودوا ثيابهم ونصبوا أعلامهم ونشروا راياتهم فصلى بهم سليمان بن كثير الخزاعي يوم العيد وهي أول جماعة كانت لأهل الدعوة (174). وقد قام النقباء بترتيب نوع من التنظيم السياسي للحركة حيث كلف أبو صالح كامل بن المظفر بتدبير الأمور وكتابة الكتب وبجمع الأموال والغنائم وقسمها وإعطاء الجند وهو صاحب السر كذلك، وعين مالك بن الهيثم : يقوم بأمر العسكر ... ويحكم بين أهله وينقي أهل الريب منه فقبلوا ذلك منه واتفقوا عليه. ثم عين حرساً خاصاً لأبي مسلم من عدة رجال ينتخبون أبا مسلم ويكونون رسلاً يرسلون لتدبير بعض الأمور وكان يؤم الناس في الصلوات سليمان بن كثير الخزاعي (175). وفي ليلة الخميس لخمس بقين من شهر رمضان عقد أبو مسلم راية النصر التي بعثها إليه إبراهيم الإمام وهي اللواء – يدعى الظل – على رمح طوله أربعة عشر ذراعاً. والراية – تدعى السحاب – على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعاً وهما سوداوان وهو يتلوه (176)" أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير " ( الحج ، أية 29) ولبس السواد هو وسليمان بن كثير وإخوة سليمان وحميد بن رزين وإخوه عثمان بن رزين، أوقدوا النيران ليلتهم أجمع للشيعة من سكان حزفان : .. وتأويل أسمى الظل والسحاب، أن السحاب يطبق الأرض، وكذلك دعوة بني العباس، وتأويل الظل أن الأرض لا تخلو من الظل أبداً، وكذلك لا تخلو من خليفة عباسي أبد الدهر (177). كانت دعوة شيعة بني العباس في خراسان قوية، فقد ظهر أمرهم وكثر من يأتيهم وجعلت الدّعاية العباسية وحملتهم الإعلامية تستهدف أفعال بني أمية وما نالوا من أمر رسول الله، حتى لم يبق بلد إلا فشا فيه هذا الخبر وظهر الدعاة ورئيت المنامات وتُدورست كتب الملاحم (178)، وكان اختيار اللون الأسود هو الخطوة الأولى، ثم كانت الخطوة الثانية هي إرسال الرايات إلى خراسان، فكان أن بعث بأبي سلمة إليها : بعد أن دفع له ثلاث رايات سود، وأمره أن يدفع واحدة إلى من بمرو من الشيعة، ويدفع واحدة إلى من بجرجان من الشيعة ويبعث بواحدة إلى ما وراء النهر فشخص أبو سلمة إلى خراسان، فكان أول من قدمها بالريات السود (179). وكان وصول الرايات مترافقاً مع حال الفوضى المستشرية في خراسان، وقد أفاد من ذلك أبو سلمة وسليمان بن كثير، وكانت الفتنة التي نشبت بين نصر وعلي الكرماني ثم ابنه جديع الكرماني تتأجج بفعل تأثير السياسات المركزية (180)، ثم فتحت جبهة جديدة لوالي الأمويين بخراسان بقيادة شيبان الحروري، فكانت الفرصة مواتية لأبي مسلم أكثر، فدخل هذا المعترك بعد أن ضعفت قوة نصر بن سيار وانضمت إلى أبي مسلم كل الفئات الغاضبة في خراسان (181).
(2) جهود نصر بن سيار للقضاء على الدعوة العباسية :
في عام 129ﻫ كانت أول صلاة عيد علانية للعباسيين وقد أمر أبو مسلم سليمان بن كثير أن يصلى بالناس ونصب له منبراً، وأن يخالف في ذلك بني أمية ويعمل بالسنة فنودي للصلاة، الصلاة جامعة، ولم يؤذن ولم يقم، خلافاً لهم وبدأ بالصلاة قبل الخطبة وكبّر سبعة في الأولى قبل القراءة لا أربعاً وخمساً في الثانية لا ثلاثاً خلافاً لهم. وابتدأ الخطبة بالذكر والتكبير وختمها بالقراءة وانصرف الناس من صلاة العيد وقد أعّد لهم أبو مسلم طعاماً، فوضعه بين أيدي الناس وكتب إلى نصر بن سيّار كتاباً بدأ فيه بنفسه، ثم قال : إلى نصر بن سيّار، بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد، فإنَّ الله تبارك اسمه عيَّر أقواماً في كتابه فقال : " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلمّا جاءهم تذير ما زادهم إلا نفوراً استكباراً في الأرض ومكر السَّيء ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنت الأوَّلين فلن تجد لسنت الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً " ( فاطر : 42 ، 43 ). فعظم عليه أن قدم اسمه على اسمه، وأطال الفكرة وقال : هذا كتاب له جواب (182)، ثم بعث نصر بن سيار خيلاً عظيمة لمحاربة أبي مسلم وذلك بعد ظهوره بثمانية عشر شهراً، فأرسل أبو مسلم إليهم مالك بن الهيثم الخزاعي، فالتقوا هنالك فدعاهم مالك إلى الرّضا من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبوا ذلك فتصافوُّا من أول النهار إلى العصر، ثم جاءه مدد فقوى مالك عليهم، واستظهر وظفر بهم، وكان هذا أول موقف اقتتل فيه دعاة بني العباس وجند بني أمية (183).. ولما استفحل أمر أبي مسلم بخراسان تعاقدت طوائف من أحياء العرب الذين بها على حربه ومقاتلته، ولم يكره أمره الكرماني وشيبان، لأنهما خرجا على نصر وهذا مخالف له وهو مع ذلك يدعو إلى خلع مروان بن محمد وقد طلب نصر من شيبان أن يكون معه على حرب أبي مسلم أو يكف عنه حتى يتفرغ لحربه، فإذا قتله وتفّرغ منه عاد عدواتهما، فبلغ ذلك أبا مسلم بعث إلى ابن الكرماني يعلمه بذلك، فثني ابن الكرماني شيبان عن ذلك الرأي، وبعث أبو مسلم إلى هَرَاة النضر بن نعُيم، فافتتحها وطرد عنها عاملها عيسى بن عقيل الليثي، واستحوذ على البلد وكتب إلى أبي مسلم بذلك، وجاء عاملها إلى نصر هارباً ثم إن شيبان وادع نصَر بن سيار سنة على ترك الحرب بينه وبينه وذلك عن كره من ابن الكرماني فبعث ابن الكرماني إلى أبي مسلم : إني معك على قتال نصر وركب أبو مسلم إلى خدمة (184) ابن الكرماني فنزل عنده واجتمعا، فاتفقا على حربه ومخالفته وتحّول أبو مسلم إلى موضع فسيح وكثر جنده وعظم جيشه واستعمل على الشرط والحرس والرّسائل والّديوان وغير ذلك مما يحتاج الملك إليه، وجعل القاسم بن مُجاشع التَّميميَّ – وكان أحد النقباء – على القضاء، وكان يُصلي بأبي مسلم الصَّلوات، ويقص بعد العصر، فيذكر محاسن بني هاشم ويذُمُّ بني أُمية. ثم تحول أبو مسلم فنزل بقرية يقال لها آلِينُ (185)وكان في مكان منخفض، فخشى أن يقطع عنه نصر ابن سيار الماء وذلك في سادس ذي الحجّة من هذه السنة، وصلَّى بهم يوم النَّحر القاضي بن مجاشع، وسار نصر بن سيار في جحافل قاصداً قتال أبي مسلم، واستخلف على البلاد نّواباً (186).
(أ) طلب نصر بن سيار المدد من مروان بن محمد :
نشبت الحرب بين نصر بن سيار وبين الكرماني وهو جديع بن علي الكرماني، فقتل بينهما من الفرقين خلق كثير، وجعل أبو مسلم يُكاتب كُلاً من الطائفتين ويستميلهم إليه، يكتب إلى نصر وإلى الكرماني : إنّ الإمام قد أوصاني بكم خيراً، ولست أعدوُ رأيه فيكم. وكتب إلى الكور يدعو إلى بني العباس، فاستجاب له خلق كثير وجمُّ غفير، وأقبل أبو مسلم، فنزل بين خندق نصر بن سيار وخندق جديع الكرماني، فهابه الفريقان جميعاً وكتب نصرُ بن سيار إلى الخليفة مروان بن محمد، الملقب بالحمار يعلمه بأمر أبي مسلم، وكثرة من معه، وأنه يدعو إلى إبراهيم بن محمد وكتب في كتابه :


أرى بين الرّماد وميض جمرٍ *** فأحْرِ بأن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تُذْكى *** وإن الحرب مبْدؤها الكلام
فقلت من التعجب ليت شعري *** أأيقاظ أمية أم نيام


فكتب إليه مروان : الشاهد يرى مالا يرى الغائب : فقال نصر : إن صاحبكم قد أعلمكم أن لا نصرة عنده (187)وبعضهم يرويها بلفظ آخر.


أرى خَلَلَ الرماد وَميضَ نار *** فيو شك أن يكون لها ضِرام
فإن النارَ بالزندين يوُرَى (188) *** وإن الحرب أولها الكلام
لئن لم يُطفِها عقلاء قوم *** يكون وَقودَها جثت وهام
أقول من التعجُّب ليت شعري *** أأيقاظ أمية أم ينام
فإن كانوا لحينهم نياماً *** فقل قوموا فقد حان القيام

وكتب إليه :

أبلغ يزيد وخير القول أصدَقُهُ *** وقد تبّينت أن لا خير في الكذب
بأن خراسانَ أرض قد رأيت بها *** بيضاً لو أفرخ قد حَُّدثتَ بالعجب
فِراخ عامين إلا أنها كبرت *** لمّا بُطِرنَ وقد سُرْبِلْنَ بالزَّغَبِ
فإن يطرن ولم يُحْتَلْ لهنّ بهَا *** يُلهبن بِنيرانَ حرب أيَّما لَهَب (189)

فبعث ابن هبيرة بكتاب نصر إلى مروان (190).
(ب) دعاية نصر بن سيار ضد دعوة أبي مسلم الخراساني :
شنّ نصر بن سيار حملة دعاية قوية ضد شيعة بني العباس ووصفهم بأنهم أخلاط من الناس لا أصول لهم، ولا ذمم عندهم، فهم غرباء مجهولون ودُخلاء مغمورون، لا ينتمون إلى العرب المذكورين، ولا إلى الموالي المعروفين، واتهمهم بأنهم ليسوا من المسلمين ولا من الكتابييَّن فهم يعتنقون نحلة مخالفة لكل الأديان، وزعم أنهَّهم يبتغون إبادة العرب واستعبادهم، ويرومون سبي نسائهم وهتك أعراضهم وانتهاك حرماتهم (191) حيث قال :


أبلغ ربيعـــة في مرو وإخوتهـم *** فليغضبوا قبل أن لا ينفع الغضب
ولينصبوا الحرب إن القومَ قد نصبوا *** حربا يُحّرق في حافاتها الحطـب
ما بالكم تَلْحِقون الحرب بينكـم *** كأن أهل الحِجاَ عن فِعِلكم غُيُبُ (192)
وتتركون عدّواً قد أحاط بكــم *** فيمن تأشَّبَ (193) لا دين ولا حسب
لا عرب مِثلُكُم في الناس تعرفهـم *** ولا صريح موالٍ إن هم نُسِبـُوا
من كان يسألني عن أصل دينهـم *** فإن دينهم أن تهلك العـــرب
قوم يدينون ديناً ما سمعــت به *** عن النبي ولا جاءت به الكتـب
ويقسم الخُمس من أموالكم أُسَراً *** من العلوج ولا يبقى لكم نَشَبُ (194)وينكحوا فيكم قسْراً بناتكــم *** لو كان قومي أحراراً لقد غضبوا
ذروا التفرق والأحقاد واجتمعوا *** لِيُوصل الحبل والأصهار والنَّسَبُ (195)
إن تُبعدوا الأزده مِنّا لا نُقَّربها *** أو تدن نحمدهم يوماً إذا اقتربوا
أتخذِلُون إذا احتجنا وننصُرُهم *** لبئس والله ما ظنُّوا وما حسبوا (196)

ولكن الرَّبعية لم يعبأوا بنداء نصر في أول الأمر ولم يبالوا بدعوته، ولم يكترثوا لتحذيره بل مضوا يتشبثون بمخالفتهم اليمانية، واستمروا يساندون ابن الكرماني ويعينونه، ويقاتلون المضريَّة معه، فعاد نصر إلى رمي أبي مسلم وشيعة بني العباس بالكفر وألحّ على القدح في عقيدته، ولحَّ في التشهير بغاياتهم، يريد أن يُبغضهم إلى الناس ويُكرههم إليهم ويحملهم على الطعن فيهم، ويدفعهم إلى مكافحتهم، ويحمسهم على محاربتهم فجعل يقذفهم بأنهم وثنيُّون مشركون وأنهم يأمنون بالمانوّيه والمجوسيَّة وغيرهما من الملل الفارسية القديمة وراح يشيع في أصحابه أنهم يقصدون إلى نسف قواعد الإسلام، وهدم دعائمه وتحطيم أركانه وطمس معالمه واستئصال آثاره وأنهم يستهدفون لتقويض سلطان العرب وتمزيق قبائلهم، وقتل رجالهم واسترقاق أبنائهم وأسر بناتهم، ولم يزل يذيع ذلك فيهم ويزينه لهم (197). وقد تأثر الناس بدعاية نصر بن سيار. وبعث نصر إلى القراء، والفقهاء، والأتقياء الذين اعتزلوا الحرب، فجمعهم وقال لهم : (إنكم كرهتم مشاهدتنا في حربنا هذه، وزعمتم أنها فتنة القاتل والمقتول فيها في النار، فلم نرد عليكم رأيكم في ذلك، وهذا حدث قد ظهر بحضرتكم. هذه المُسّوَّدَة، وهي تدعو إلى غير ملتنا وقد أظهروا غير سُنَّتنا وليسوا من أهل قبلتنا، يعبدون الّسنانير، ويعبدون الرؤوس، علوج وأغتام (198)، وعبيد سُقّاط العرب والموالي فهلُمُّوا فلنعاون على إطفاء نائرتهم (199)، وقمع ضلالتهم ولكم أن نعمل بما في كتاب الله وسنة نبيه وسنة العمرين بعده)، فأجابوه إلى مظاهرته على حرب أبي مسلم والجِدَّ معه في ذلك (200).
(ج) الدعاية المضادة للأمويين :
لقد أقلقت هذه الدعاية الأموية الشيعة العباسية، حيث إنهم خشوا تأثر العلماء، والأتقياء، وكذلك العامة من الناس بها، ولذلك قاموا بدعاية مضادة للأمويين حيث عقد اجتماع عام بايع فيه المجتمعون لسليمان الخزاعي واتفقوا على أن يعلنوا مبادئهم وكان من مبادئهم العمل بالكتاب والسنة وتحقيق العدل ورفع الظلم والمساواة بين المسلمين وإنصاف المستضعفين، والبيعة للرَّضا من آل محمد، ثم أعلنوا مبادئهم في معسكرهم وأخذوا البيعة عليها من شيعتهم. فنفوا أراجيف نصر عن دعوتهم ونجوا من تدبيره بالإيقاع بهم، وأزالوا الشبهات عن أنفسهم... وأخذ الناس يقبلون عليهم وينضمون إليهم (201) كما وأن أبا مسلم اتبع أسلوباً آخر ليقابل به دعاية الأمويين فقد كان يحرر الأسرى من الجيش الأموي بعد أن يريهم مدى تقوى الشيعة العباسية وتمسكهم بالإسلام وبعد أن يعاملهم معاملة حسنة وذلك من أجل أن يذهبوا إلى معسكر نصر فيرووا ما شاهدوا. وهذا ما فعله مع يزيد مولى نصر الذي أسر في معركة مع العباسيين بقيادة مالك الخزاعي ثم أطلق سراحه فعاد وامتدح سيرة أبي مسلم وأتباعه وصدق إسلامهم (202).
(د) أسر إبراهيم الإمام صاحب الدعوة العباسية وقتله :
استطاع الأمويون أن يلقوا القبض على إبراهيم الإمام وتعددت أسباب القبض ومن هذه الأسباب قيل : إن إبراهيم الإمام شهد الموسم عام 131ﻫ واشتهر أمره هنالك، لأنّه وقف في أبهة عظيمة، ونجائب كثيرة وحُرْمة وافرة، فأنِهيَ أمره إلى مروان، وقيل له : إن أبا مسلم يدعو الناس إلى هذا ويُسمُّونه الخليفة. فبعث إليه في المحرم من سنة ثنتين وثلاثين وقتلة في صفر من هذه السنة (203)، وقيل ألقى القبض عليه عام 129ﻫ بعدما أطلع على كتاب من إبراهيم الإمام إلى أبي مسلم الخُراساني يأمره فيه بأن لا يُبقي أحداً بأرض خراسان ممّن يتكلم بالعربية إلا أباده، فلمّا وقف مروان على ذلك سأل عن إبراهيم، فقيل له : هو بالبلقاء. فكتب إلى نائب دمشق أن يحضره وبعث رسولاً في ذلك ومعه صفته ونعته، فذهب الرسول، فوجد أخاه أبا العباس السفَّاَّحَ فاعتقد أنه هو، فأخذه فقيل له : إنه ليس هو وإنما هو أخوه، فُدلَّ على إبراهيم، فأخذه وذهب معه بأم ولد له يُحبُّها وأوصى إلى أهله أن يكون الخليفة من بعده أخوه أبو العباس السَّفَاحُ وأمرهم بالمسير إلى الكوفة فارتحلوا من فورهم إليها كانوا جماعة، منهم أعمامه السَّتةُ، وهم عبد الله ، وداود ، وعيسى وصالح، وإسماعيل ، وعبد الصمد بنو عليٍّ، وأخواه أبو العباس عبد الله، ويحي ابنا محمد بن علي وابناه محمد وعبد الوهاب وخلق سواهم، فلما دخلوا الكوفة أنزلهم أبو سلمة الخلاَّل دار الوليد بن سعد مولى بني هاشم في بني أوْدٍ وكتم أمرهم نحوا من أربعين ليلة من القواد والأمراء ثم ارتحل بهم بعد ذلك إلى موضع آخر، حتى فتحت البلاد ثم بويع للسَّفاح (204). كانت الدعوة العباسية قد ترسخت جذورها في الأرض، وبات القضاء عليها في منتهى الصعوبة، فلم يغير إلقاء القبض على إبراهيم بن محمد الإمام من الواقع شيئاً أو يُحدث خللاً في مسار الدعوة، إذ جاء الأمر متأخراً (205)، وقد كان إبراهيم هذا كريماً مُمدَّحاً، له فضائل وفواضل، رَوَى الحديث عن أبيه وجدَّه وأبي هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية وعنه أخواه عبد الله أبو العباس أبو هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية وعنه أخواه عبد الله أبو العباس السَّفاح، وأبو جعفر المنصور وأبو مسلم عبد الرحمن بن مسلم الخراساني، ومالك ابن الهيثم ومن كلامه الحسن : قوله : الكامل المروءة من أحرز دِينه، ووصل رحمه، واجتنب ما يُلام عليه (206) وقد رثاه أحد الشعراء فقال :


قد كنت أحسبني جلداً فضعضعني *** قبراً بحّرانَ فيه عصمةُ الدين
فيه الإمام وخير الناس كلهم *** بين الصفائح والأحجار والطين
فيه الإمام الذي عمت مصيبته *** وعَيَّلتَ كلّ ذي مال ومسكين
فلا عفا الله عن مروان مظلمة *** لكن عفا الله عمّا قال آمين (207)

(3) سيطرة أبي مسلم على خراسان :
سعى نصر بن سيار للوصول إلى هدنة مع ابن الكرماني وشيبان الصغير للقضاء على أبي مسلم واستطاع الأخير أن يفسد تلك المساعي بدسائسه ومكره وخداعه فقد أسرع أبو مسلم فاعترف بابن الكرماني أميراً على خراسان وبدأ هو وأصحابه يصلي وراءه وهكذا نجح أبو مسلم في إشباع رغبة ابن الكرماني المتعطشة للسلطة والإمارة فلم يكن الوقت وقت منافسة على السلطة بل كان الهدف هو ضمان كسب اتباع ابن الكرماني إلى جانب الثورة العباسية وقد كانت هذه خطورة بارعة لضمان وحدة الجند الخرسانية في كتلة واحدة ولما يأس نصر من العون من العراق كتب إلى مروان رسائل لحثه على إمداده ولكن بدون جدوى، ولانشغال مروان بالحروب الداخلية في بلاد الشام والعراق والحجاز وبعد أن فشل نصر في محاولته الأولى لكسب ابن الكرماني وفي محاولته الثانية لكسب شيبان الصغير حاول هذه المرة أن يتقرب نحو أبي مسلم في نفس الوقت الذي ينتظر فيه الإمدادات من الخليفة لقد أمل نصر أن يفرق بين أبي مسلم وابن الكرماني فدبر أمر اجتماع حضرته وفود نصر المضرية ووفود ابن الكرماني ومندوبون عن أبي مسلم الذين امتدحوا وفد ابن الكرماني، وفضلوه على وفد نصر حيث قرر سليمان الخزاعي وطلحة الخزاعي ومزيد السلمي التحالف مع ابن الكرماني ضد نصر وبذلك كسبت الدعوة العباسية مصدر القوة في خراسان إلى جانبها ألا وهو القبائل العربية من أتباع ابن الكرماني (208).
(أ) خطة أبي مسلم للاستيلاء على العاصمة مرو :
كانت خطة أبي مسلم وابن الكرماني الآتية هي الاستيلاء على العاصمة مرو. وتختلف الروايات التاريخية في كيفية فتح مرو ولكن الظاهر أن أبا مسلم كان حذراً ومرناً في موقفه تجاه كتلة نصر وكتلة ابن الكرماني فرغم اعترافه بأن ابن الكرماني والياً على خراسان، فإنه كان يؤمل أن يكسب نصراً أو أتباعه إليه بطريقة أو بأخرى فضمن الحماية لوفد نصر الذي حضر الاجتماع الآنف الذكر، كما سمح نصر للشيعة العباسية بالتسوق من أسواق مرو دون مهاجمتهم، ولكن حدث وأن قام نزاع بين بكر بن وائل من ربيعة وبين بعض المضريين في سوق مرو، فساعد نصر المضرية بينما أنجد ابن الكرماني الربعية ودعى ابن الكرماني أبا مسلم إلى مساعدته والانضمام إليه، إلا أن أبا مسلم تشاغل حتى تأكد من احتدام الصراع العنيف فتدخل إلى جانب ابن الكرماني حيث دخلت قواتهما مرو في 130ﻫ وعلى المقدمة أسيد الخزاعي وعلى الميمنة مالك الخزاعي وعلى الميسرة القاسم التميمي وهو يتلو : "ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه " ( القصص، أية : 15). وأمر بالكف عن القتال (209)وأرسل أبو مسلم وفداً إلى نصر يعده الأمان إذا سلم نفسه ولكن نصر شاغل الوفد وهرب إلى نيسابور. ويروى أن لاهز بن قريضى حذر نصر من الاستسلام بتلاوة الآية : " إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك" ( القصص، أية : 20) وقد قتل لاهز جزاء عمله (210) وبدا الآن الوجه الحقيقي للدعوة بالظهور بصورة تدريجية ألا وهو الوجه العباسي، فحين جُمع الأنصار لتقديم الولاء أكد أبو مسلم على " الشيعة الهاشمية " مما يشير إلى أن هؤلاء الذين كانوا جند العقيدة العباسية المخلصين هم عماد الثورة وليس الجماعات الأخرى التي استغلت من قبل الثورة وقد أصبحت مرو الشاهجان العاصمة وقراها ثم مرو الروذ وهيرات وابيورد تحت نفوذ الشيعة العباسية (211).
(ب) مقاومة بلخ للقوات العباسية التي وجدت صعوبة في احتلالها وذلك لأسباب ثلاثة.
* أن المقاتلة العرب في بلخ كانوا متحدين لم تتنازعهم العصبية القبلية ولذلك فإن أسد بن عبد الله القسري وطنّهم فيها ككتلة واحدة دون الأخذ بخطة الأخماس التي كانت مستعملة في البصرة ولذلك كان العرب في بلخ موالين للأمير ومخلصين للأمويين.
* أن الجند السوري في بلخ وعدده 2500 كان موالياً لنصر بن سيار.
* أن السكان المحليين في طخارستان وأقاليم أخرى في بلاد ما وراء النهر أظهروا مساعدتهم للوالي الأموي وعلى حدّ قول الطبري، فقد اتفقت مضر واليمن وربيعة والعجم في بلخ على قتال المسودة (212).
إن مقاومة بلخ للدعوة العباسية ظاهرة مهمة وذلك لأنها ربما كانت من أول الأحداث السياسية التي تميط اللثام عن بعض أساليب الدعوة العباسية، فنحن نلاحظ أولاً بأن الدعوة أستغلت العصبية القبلية فنجحت حيث وجدت العصبية وفشلت في بلخ حيث كان العرب متحدين على اختلاف قبائلهم ومخلصين لواليهم الأموي، ثم إن هذه الحادثة تظهر ثانياً بأن الدعوة العباسية لم تكن فارسية موجهة ضد العرب ذلك لأن السكان المحليين الإيرانيين وقادتهم في بلخ وقفوا إلى جانب الأمويين ضد العباسيين. وقد قاتل الموالي مع العرب جنباً إلى جنب لاسترداد بلخ من المسودة، كما وأنها تكشف ثالثاً خطأ ما ذهب إليه بعض المؤرخين من أنه كان هنالك في إيران تذمر عميق ضد الحكم العربي الإسلامي الذي لم يعط الموالي حقهم. فلو كان الأمر كذلك لهبت خراسان وبلاد ما وراء النهر عن بكرة أبيها لتدعم حركة المسودة (213).
رابعاً : تعين قحطبة الطائي قائداً لجيش خراسان المتقدم نحو العراق :
صدرت أوامر إبراهيم الإمام قبل سجنه بتعيين قحطبة بن شبيب الطائي قائداً عاماً للجيش الخراساني المتقدم نحو العراق وبلاد الشام (214)، وكان ذلك بعد استقرار الأمور في خراسان لصالح العباسيين وكانت قيادة الدعوة تهدف من وراء هذا التعيين أمور جد خطيرة منها ألا يتجاوز أبو مسلم خراسان مهما كانت الأحوال، ومنها أن من المناسب أن يكون القائد العام لدخول العراق من أصول عربية، ونلاحظ بعد تولي أبي العباس الخلافة سارع إلى انتزاع القيادة من العسكريين المظفرين إلى أبناء البيت العباسي من الأخوة والأعمام (215).
وبعد خروج نصر بن سيار من مرو أخذ يتنقل بين المدن يتخذها مقراً له من سرخس، إلى قومس، إلى خوار الري، وينتهز الفرصة للانقضاض على أبي مسلم في مرو، ولما لم يتمكن من استرداد مرو كتب إلى ابن هبيرة مستنجداً فلم يجبه، ثم كتب إلى الخليفة مروان بن محمد، الذي كتب بدوره إلى ابن هبيرة، فأمده بثلاثة آلاف فارس، عليهم القائد ابن غطيف اليماني، فأخذ هذا القائد يتباطأ في سيره ويطيل في الطريق (216). وفي هذه الأثناء كان قحطبة بن شبيب الطائي يلحق الهزيمة تلو الآخري بجيش ابن هبيرة، وكانت آخر معركة لنصر بن سيار في خوار الري حيث اقتتل مع جيش الحسن بن قحطبة، وكاد يقتل لولا أن بعض جند العرب في جيش الحسن انضموا إلى صفوف نصر بن سيار، فهُزم جيش الحسن (217)، ولما لم يصل مدد ابن هبيرة ركب نصر بن سيار جواده وسلك المفازة بين الري وهمذان فمات في جبالها، في شهر المحرم سنة 131ﻫ.
(1) تصفيات في خراسان :
وبعد موت نصر بن سيار زعيم المضرية قضى أبو مسلم على علي بن جديع الكرماني زعيم اليمانية، الذي، كان له دور كبير في انتصار الثورة، ودخل مرو فاتحاً ثم قَّدمها لأبي مسلم، وقد قتل أبو مسلم علياً بن جديع وأتباعه (218)، كما قتل النقيب لاهز بن قريض التميمي بتهمة السماح لنصر بن سيار بالخروج من دار الإمارة، ولأنه كان يعارض تأمير أبي مسلم على الثورة، يوم مؤتمر مكة (219)، كما قتل أبو مسلم عبد الله بن معاوية الطالبي، الذي احتمى بجيش أبي مسلم بعد أن هرب أمام الجيش الأموي من أصبهان إلى خراسان، إما لأنه صاحب ثورة يخشى جانبه، أو لأنه من أصحاب أبي جعفر خصم أبي مسلم (220)، ثم بدأ أبو مسلم بمحاربة شيبان الحروري الذي رفض المبايعة للإمام العباسي، فاستطاع أن يدحره ويشتت شمله (221).
(2) الاتصالات المستمرة بين المراكز الثلاثة للثورة :
ولما سُجن إبراهيم الإمام في حران استمرت الاتصالات بين المراكز الثلاثة للثورة في الحميمة، والكوفة، وخراسان. ففي الحميمة كان أبو جعفر وأخوه عبد الله بن الحارثية وجماعة من أولاد علي بن عبد الله بن العباس، وكان أنشطهم أبو جعفر الذي كان يتصل إذا اقتضى الأمر بسجن حّران (222). أما في الكوفة فقد كاد النقيب أبو سلمة الخلال، وزير الدعوة، الذي ما إن سمع بمقتل إبراهيم الإمام حتى أخذ يبحث عن زعيم علوي يقلده أمر الدعوة إلا أنه فشل ويأتي الحديث عن ذلك عند دراستنا للدولة العباسية بإذن الله تعالى. وشهدت الحميمة مشاورات سرية حول من يخلف إبراهيم الإمام، إذا طرأ عليه طارئ في سجنه، ولا يُعرف مصير هذه المشاورات، فربما أوصى الإمام لأخيه عبد الله بن الحارثية، وقد تداخل الشك أبا مسلم حول صحة الوصية وربما أن العباسيين في الحميمة أجمعوا على عبد الله فعلاً، وربما لأنه الأكثر قبولاً عند أبي مسلم، أو لأن أخواله من العرب اليمانية، ومنهم عدد كبير من جيش الثورة، بما فيهم القائد الأعلى قحطبة بن شبيب الطائي ومجموعة من نقباء الدعوة خاصة سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم وغيرهما (223).
(3) جيوش قحطبة الطائي تدخل العراق :
ما إن جاء عام 132ﻫ حتى كانت جيوش قحطبة الطائي تحتل خراسان بأجمعها مع البلاد التي حولها، بعد حروب شديدة، ثم اتجه قحطبة بجيش الثورة غرباً يريد العراق، فتحرك إليه الخليفة مروان بن محمد بعد أن أمر بقتل إبراهيم الإمام في سجنه واتجه إلى الموصل فنزل على نهر الزاب الكبير، وأمد عامله يزيد بن هبيرة بثلاثين ألف فارس لقتال قحطبة المتقدم إلى الكوفة، حيث التقي جيش ابن هبيرة مع جيش قحطبة قرب الفلوجة، على نهر الفرات وقتل في المعركة القائد قحطبة الطائي، ولكن ابنه الحسن بن قحطبة تولى القيادة، في حين اضطر ابن هبيرة للانسحاب نحو واسط (224)، ودخل الحسن بن قحطبة بجيشه الكوفة التي سيطر عليها محمد بن خالد القسري، ودعا الناس إلى بيعة الرضا من آل محمد (225).
(4) أبو سلمه الخلال يتولى إدارة الأمور :
أخرج محمد بن خالد القسري أبا سلمة الخلال من مخبئه، وأجلسه مجلس الإمارة، وقدم له الطاعة، ووضع الجيش تحت تصرفه، وأقام أبو سلمة معسكره في حمام أعين في ظاهر الكوفة، ووجه الحسن بن قحطبة إلى واسط ومعه ستة عشر قائداً، لحصار ابن هبيرة ولمنعه من الاتصال بالخليفة مروان ووجه الفرق والكتائب لفتح المدن العراقية؛ إذ بعث حميد بن قحطبة للمدائن ومعه اثنان من القادة مع جنودهما والمسيب بن زهير الضبي ومعه خالد بن برمك إلى دير قنىّ، وبسام بن إبراهيم إلى الأهواز، وشراحبيل إلى عين التمر، وسفيان بن معاوية المهلبي إلى البصرة (226)، وأقر أبو سلمة محمد بن خالد القسري على الكوفة (227). ثم وزع أبو سلمة عماله؛ فقد ولّى عمر بن الزيات حجابته، والمغيرة بن الريان ولاّه الخراج، ثم نقله إلى ديوان الرسائل، فيما ولّى يوسف بن ثابت ديوان الخراج، وعبد السلام بن عبد الرحمن الغامدي ولاّه الصوافي، والقطائع، والخزائن، وولىَّ أبا سلمى بيت المال، وأعطى الجند من ديوان بني العباس، وبعث عمال الخراج إلى الكور (228). كان أبو سلمة قد استقبل إخوة إبراهيم الإمام وأولاده وأعمامه خارج الكوفة وأدخلهم سراً – بعد سجن إبراهيم – وأخفى أمر مجيئهم عن الشيعة العباسية وقادة الجيش، وطلب منهم كتم أمرهم إلى أن يستتب الأمر في واسط لوجود جيش ابن المحاصر، وفي البصرة لوجود جيش أموي بقيادة سلم بن قتيبة بن مسلم الباهلي (229). ولكن حقيقة الأمر بالنسبة لإخفاء أمر العباسيين في الكوفة من قبل أبي سلمة الخلال، هو انتظار لنتائج اتصالاته السرية لأحفاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والتي جاءت مخيبة للآمال، فقد رد جعفر الصادق على أبي سلمة : إن صاحبكم بأرض الشراة، أما عبد الله بن الحسن فقد فكّر أن يسند الأمر إلى ابنه محمد بن عبد الله " النفس الزكية " ولكن الإمام جعفر الصادق نهاه عن ذلك لما شاوره (230).
خامساً : إعلان قيام الدولة العباسية :
بقى العباسيون في معزلهم بالكوفة مدة أربعين يوماً إلى أن علم بأمرهم بعض قادة الجيش في معسكر حمام أعين، وعلى رأسهم القائد أبو الجهم بن عطية ومعه من القادة موسى بن كعب التميمي وإبراهيم بن محمد الحميري، وأبو غالب عبد الحميد بن ربعي، وسلمة بن محمد، وعبد الله الطائي واسحاق بن إبراهيم، وشراحبيل، وعبد الله بن بسام وغيرهم، وجاءوا إلى العباسيين وبايعوا أبا العباس عبد الله بن الحارثية، وسلموا عليه بالخلافة في 12 ربيع الأول 132ﻫ ثم أخرجوه إلى منبر المسجد لإعلان خلافته، وتسمى أبو العباس بأمير المؤمنين بينما اتخذ أبو سلمة الخلال لقب وزير آل محمد (231)، وجاء في رواية : أن أبا سلمة الخلال عندما ما أراد إخراج الخليفة العباسي نزل إلى السَّرداب وصاح يا عبد الله، مُدَّ يدك، فتبارى إليه الإخوان. فقال أيُّكما الذي معه العلامة ؟ قال المنصور : فعلمت أني أخرت، لأني لم يكن معي علامة، فتلا أخي العلامة وهي : " ونريد أن نمن على اللذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ... " ( القصص : 5 ) فبايعه أبو سلمة وخرجوا جميعاً إلى جامع الكوفة، فبُويع وخطب الناس (232) فكان أول ما نطق به : (الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه فكّرمه وشرّفه وعظمَّه واختاره لنا، وأيَّده بنا، وجعلنا أهله وكهفه والُقوَّام به والذَّابيَّن عنه، والناصرين له وألزمنا كلمة التقوى، وجعلنا أحق بها وأهلها خضَّابرحم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته واشتقنَّا من نبعته ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع، وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتاباً يتلى عليهم فقال : " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " (الأحزاب: 33) وقال : " قل لا أسئلكم عليه أجراً إلا المودة في القربي " (الشعراء : 214).
وقال : "ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى" (الحشر، : 7). فأعلمهم الله عز وجل فضلنا وأوجب عليهم حقنا ومودَّتنا وأجزل من الفيء – والغنيمة نصيبنا، تكرمة لنا، وفضلة علينا، والله ذو الفضل العظيم وزعمت السَّبئيَّة الضلال أن غيرنا أحقُّ بالرَّياسة والسيَّاسة والخلافة منا، فشاهت وجوههم بم ولم أيها الناس ؟ وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم وبصَّرهم بعد جهالتهم وأنقذهم بعد هلكتهم وأظهر بنا الحق وأدحض بنا الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسداً، ورفع بنا الخسيسة، وأتّم النَّقيصة، وجمع الفرقة، حتى عاد الناس بعد العداوة أهل تعاطف وبرَّ ومواساة في ديناهم، وإخواناً على سُرُر متقابلين في أُخراهم، فتح الله ذلك مِنَّةً ومنحة لمحمد صلى الله عليه وسلم، فلما قبضه الله إليه قام بذلك الأمر من بعده أصحابه وأمرهم شورى بينهم، فحَوَوْا مواريث الأمم فعدلوا فيها ووضعوها مواضعها، وأعطوها أهلها وخرجوا خِماصاً منها، ثم وثب بنو حرب ومرون فابتزوُّها وتداولوها، فجاروا فيها، واستأثروا بها وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حينا حتى آسفوه (233)، فلمّا آسفوه انتقم منهم بأيدينا، وردّ علينا حقَّنِا، وتدارك بنا أمَّتَنا وولى نصرنا والقيام بأمرنا؛ ليَمُنَّ بنا على الذين استضعفوا في الأرض وختم بنا كما افتتح بنا وإني لأرْجُو أن لا يأتيكم الجَور من حيث جاءكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصَّلاحُ، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله، يا أهل الكوفة، أنتم محلُّ محبَّتنا ومنزل مودَّتنا، وأنتم أسعد الناس بنا وأكرمهم علينا وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا فأنا السَّفَّاح الهائج والثائر المبير) (234)، وكان به وعك فاشتَّد عليه حتى جلس على المنبر ونهض عمُّه داود فقال : (الحمد لله شُكراً شُكراً شكراً الذي أهلك عدوَّنا، وأصار إلينا مِيراثنا من نبينَّا، أيها الناس الآن انقشعت أرْضُها وسماؤها وطلعت الشمس من مطلعها، وبزغ القمر من مبزعه ورجع الحقُّ إلى نصابه في أهل بيت نبيكم، أهل الرَّأفة والرّحمة بكم والعطف عليكم، أيها الناس، إنا والله ما خرجنا في طلب هذا الأمر لنُكثر لجُيناً (235) ولا عقيانا (236)، ولا لنحفر نهراً ولا لنبني قصراً، وإنما أخرجنا الأنفة من ابتزازهم حقَّنا والغضب لبني عمَّنا ولُسوءٍ سيرة بني أمية فيكم، واستذلالهم لكم واستئثارهم بفيئكم وصدقاتكم، فلكم علينا ذمة الله وذمة رسوله وذمّة العباس، أن نحكم فيكم بما أنزل الله، ونعمل بكتاب الله، ونسير في العامّة منكم والخاصَّة بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تبَّاً تّبَاً لبني أمية وبني مروان؛ آثروا العاجلة على الآجلة والدارَ الفانية على الدار الباقية، فركبوا الآثام وظلموا الأنام، وارتكبوا المحارم وغشوا الجرائم وجاروا في سيرتهم في العباد وسُنَّتِهم في البلاد التي بها، استلذُّوا تسربل الأوزار، وتجلبُب الآصار، ومَرِحوا في أعنَّة المعاصي وركضوا في ميادين الغيَّ جهلا باستدراج الله، وأمنا لمكر الله، فأتاهم بأس الله بياتاً وهم نائمون، فأصبحوا أحاديث، ومزَّقوا كل مُمَّزق، فبُعدا للقوم الظالمين وأدالنا (237)، الله من مروان، وقد غرَّه بالله الغرور، وأرسل لعدوَّ الله في عنانه حتى عثر في فضل خطامه أظن عدو الله أن لن نقدر عليه ؟ فنادى حزبه، وجمع مكايده، ورمى بكتائبه، فوجد أمامه ووراءه وعن يمنيه وشماله من مكر الله وبأسه ونقمته ما أمات باطله ومحق ضلاله، وجعل دائرة السَّوءِ به وأحيا شرفنا وعِزنا وردَّ إلينا حقَّنا وإرثنا، ... فادعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية، فقد أبدلكم الله بمروان عدوَّ الرحمن وخليفة الشيطان، المُتَّبع للسَّفلة الذين أفسدوا في الأرض بعد صلاحها، الشابَّ المتكهَّل المقتدى بسلفه الأبرار الأخيار، الذين أصلحوا الأرض بعد فسادها بمعالم الهُدى ومناهج التُّقى).
قال : فعجّ الناس له بالدعاء ثم قال : (وأعلموا يا أهل الكوفة أنه لم يصعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب وأمير المؤمنين عبد الله بن محمد هذا – وأشار بيده إلى السَّفَّاح – وأعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا حتى نُسلَّمه إلى عيسى ابن مريم عليه السلام والحمد لله رب العالمين على ما أبلانا وأولانا)، ثم نزل أبو العباس وداود حتى دخلا القصر ثم دخل الناس يُبايعون إلى العصر ثم من بعد العصر إلى الليل (238). وخرج أبو العباس يوم السبت من الكوفة إلى معسكره في " حمام أعين " مع الأمير أبي سلمة وجعل على حجابته عبد الله بن بسام، وجعل على الكوفة وأعمالها عمه داود بن علي (239)، وجهز أبو العباس جيشاً قوامه ثلاثون ألفاً لمواجهة جيش الخليفة مروان بن محمد بقيادة الخليفة نفسه في الموصل، وقد أسند أبو العباس قيادة هذا الجيش لعمه عبد الله بن علي ومعه يزيد بن عيسى بن موسى، فتحرك الجيشان للمواجهة فالتقيا على نهر الزاب الأكبر في معركة حاسمة (240).
سادساً : انتصار العباسيين على الأمويين في معركة الزاب : 132ﻫ .
قال تعالى " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير " ( آل عمران ، أية : 26 ). حان وقت زوال ملك بني أمية وساق الله لذلك الأسباب ومنها الانهزام الكبير لجيوشهم في معركة الزاب، فقد تحركت جيوش العباسيين لملاقاة جيوش الدولة الأموية التي كان يقودها الخليفة الأموي مروان بن محمد الذي تخندق بين دجلة والزاب الكبير وكان جيشه مؤلفاً من أهل الشام، والجزيرة الفراتية على شكل كتائب منها الصحصحية، والراشدية، والمحمرة، والدوكانية، كما انضم إليه البدو وبعض قبائل الجزيرة. ولقد كانت القوات الأموية والعباسية بنفس العدد تقريباً بين 20000 – 24000 ألف جندي، على أنهم لم يكونوا بنفس الانسجام والقوة المعنوية التي تميز بها جند الدعوة العباسية، وقد عملت العصبية القبلية عملها في جيش مروان الذي كان يتكون في غالبيته من القبائل القيسية (241) وكانت المعركة يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة من سنة 132ﻫ فقال مروان لأهل الشام، قِفوا لا تبدءوهم بقتال، فخالفه الوليد بن معاوية بن مروان – وهو ختن مروان على ابنته – فحمل فغضب مروان وشتمه فقاتل أهل الميمنة، ونودي في الجيش العباسي الأرض فنزل الناس وأشرعوا الرَّماح وجثوا على الرُّكب وقاتلوهم، وجعل أهل الشام يتأخّرون، كأنما يُدفعون، وجعل عبد الله بن علي يمشي قدماً وهو يقول : ياربَّ حتى متى نقتل فيك ؟ ونادى يا أهل خُراسان، يالثارات إبراهيم يا محمد، يا منصورن واشتد القتال بين الناس جدَّاً. فأرسل مروان إلى قضاعة يأمرهم بالنزول فقالوا : قل لبني سليم فلينزلوا. وأرسل إلى السكاسِكِ أن أحملوا. فقالوا : قل لبني عامر فليحملوا، فأرسل إلى السَّكون أن احِمْلوا. فقالوا : قل لغطفان فليحملوا. فقال لصاحب شرطته انزلْ : فقال لا والله لا أجعل نفسي غرضاً. قال : أما والله لأسوءَنك قال : وودت والله أنك قدرت على ذلك (242).
ثم انهزم أهل الشام واتَّبعهم أهل خُراسان في أدبارهم يقتلون ويأسرون، وكان من غرق من أهل الشام أكثر ممن قُتل، وقد أمر عبد الله بن علي بعقد الجسر واستخراج من هلك من الغرقى وجعل يتلو قوله تعالى : " وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون " ( البقرة : 50 ). وأقام عبد الله بن علي في موضع المعركة سبعة أيام وقد قال رجل من ولد سعيد بن العاص في مروان وفراره يومئذ :

لج الفرار بمروان فقلت لـــه *** عاد الظلوم ظَليماَّ هَمُّه الهَـرَبُ
أين الفِرار وترك الملك إذ ذهبت *** عنك الهُوين فلا دين ولا حسب
فراشة الحلم فرعون العقاب وإن *** تطلب نداه فكلب دونه كلـب

واحتاز عبد الله ما كان في معسكر مروان من الأموال والأمتعة والحواصل ولم يجد فيه امرأة سوى جارية كانت لعبد الله بن مروان، وكتب إلى أمير المؤمنين أبي العباس السَّفاح يخبره بما فتح الله عليه من النّصِر، وما حصل لهم من الأموال؛ فصلَّى السَّفَّاح ركعتين شكراً لله عز وجل، وأطلق لكلَّ من حضر الوقعة خمسمائة خمسمائة، ورفع في أرزاقهم وجعل يتلو (243) قوله تعالى : " فلما فصل طالوت بالجنود " ( البقرة : 249 ).
كانت هذه المعركة من المعارك الحاسمة فقد بدأت دولة جديدة هي دولة بني العباس، وأنهت دولة قديمة هي دولة بني أمية (244)لقد أرتكب مروان خطأ استراتيجياً كبيراً بعبوره إلى الساحل الأيسر من الزاب الكبير فبسبب ذلك فقد سيطرته وموقعه الحصين ولذلك خسر المعركة وانسحب باتجاه الموصل التي أغلقت أبوابها فاضطر إلى الانسحاب إلى الشام يتبعه عبد الله بن علي العباسي وقد حاول مروان أن يستنجد بالقبائل الشامية في قنسرين وحمص ولكنها لم تستجب له بل على العكس هاجمته لغرض سلب مؤنه وأرزاقه، ولم يستطيع مروان البقاء طويلاً في دمشق حيث انقسم الناس إلى قسمين بين مؤيد للأمويين ومعارض لهم، بل أقسمت بعض القبائل اليمانية يمين الولاء لبني هاشم، فتركها متجها نحو فلسطين فمصر (245)، وسيأتي الحديث عن مقتله بإذن الله تعالى. وقد حصد مروان الثاني ثمار سياسته القبلية باعتماده على قيس وأخذه الناس بالشك والشبهة حتى تفرقوا عنه وقال قولته المشهورة وهو يتراجع باتجاه مصر : انفرجت عني قيس انفراج الرأس ما تبقى منهم أحد وذلك أننا وضعنا الأمر في غير موضعه (246).
وأما دمشق فلم تستسلم أول الأمر لعبد الله بن علي وأعتصم أهلها وراء أسوار المدينة ولكن عبد الله دعى اليمانيين في المدينة وأغراهم ووعدهم خيراً قائلاً : إنكم وإخوانكم من ربيعة كنتم بخراسان شيعتنا وأنصارنا ... فانصرفوا وخلوا بيننا وبين مضر (247). فانضموا إليه ودخل الجيش العباسي مدينة دمشق (248).
(1) حصار واسط ومقتل ابن هبيرة :
أرسل أبو العباس أخاه أبا جعفر لقيادة الحصار المضروب على يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري الذي حصن نفسه في واسط ورفض الاقتراح بالهجوم على الكوفة، كما رفض الالتحاق بمروان الثاني وكان الحسن بن قحطبة قائداً للجيش الخراساني ولكن الخليفة رأى من الأفضل إرسال عباسي لقيادة الجيش وكتب رسالة إلى الحسن الطائي قائلاً : إن العسكر عسكرك والقواد قوادك ولكن أحببت أن يكون أخي حاضراً فاسمع له وأطع وأحسن مؤازرته (249) وكتب إلى أبي نصر مالك بن الهيثم بمثل ذلك، فكان الحسن المدبر لذلك العسكر بأمر أبي جعفر (250). وكان جيش ابن هبيرة كبيراً يتكون من الجند السوري الموجود في العراق ومن أهل خراسان الموالين لبني أمية ومن أهل العراق اليمانيين والقيسيين. على أن ضعفه كان بارزاً يتمثل في العصبية القبلية التي شقته فشلت حركته ولذلك لم يصمد مع ابن هبيرة على القتال إلا الصعاليك والفتيان وقد استطاع أبو جعفر أن يكسب اليمانية في واسط بإغرائهم قائلاً : السلطان سلطانكم والدولة دولتكم. فانشق زياد الحارثي مع اليمانية عن ابن هبيرة وجذب معه شيوخاً آخرين، ويظهر أن هؤلاء الشيوخ كانوا قد سئموا الأمويين وأملوا الخير العميم من دولة ( أهل البيت ) الجديدة (251). لقد دام الحصار حوالي 11 شهراً ولما يفكر ابن هبيرة بالاستسلام حتى سمع بنبأ نهاية مروان فلم يبق مبرر للمقاومة فجرت محادثات للصلح وأعطى أبو جعفر أمانا لابن هبيرة شاور فيه ابن هبيرة الفقهاء والعلماء أربعين يوماً حتى يرى نقاط الضعف والقوة فيه، ثم وافق عليه، وأرسله إلى أبي جعفر لأخذ موافقة الخليفة عليه وقد أورد ابن أعثم الكوفي نص الأمان. على أن السلطة العباسية لم تكن لتحتمل ذلك القائد والوالي ذا النفوذ القبلي الكبير والذي كان يعامل أبا جعفر وكأنه مساوياً له من حيث المنزلة وكان يحف به في ذهابه وإيابه 800 مقاتل بين فارس وراجل (252).
والواقع فإن أبا جعفر أراد أن يكسبه للدولة الجديدة فكان يقول : عجباً لمن يأمرني بقتل مثل هذا. كما أنه كان يستشيره فيشير إليه قائلاً : إن دولتكم هذه جديدة فأذيقوا الناس حلاوتها وجنبوهم مرراتها لتسرع محبتكم إلى قلوبهم ويعذب ذكركم على ألسنتهم (253)، على أن الخليفة أمر أبا جعفر بقتله لأسباب سياسية وتعددت الروايات التاريخية في أسباب قتله فمنهم من يذكر أنه كان بتحريض من أبي مسلم الذي كتب إلى الخليفة : أنه قلّ طريق سهل تلقى فيه حجارة إلا ضّر ذلك بأهله ولا والله لا يصلح طريق فيه ابن هبيرة (254) وقد تردد أبو جعفر في قتله وقال : لا أفعل وله في عنقي بيعة وأمان : فأجابه أبو العباس : والله لتقتلنه أو لأبعثن إليك من يخرجه من عندك ويتولى ذلك عنك (255) وواضح أن الخليفة رأي في ابن هبيرة خطرا على الدولة الجديدة ووافقه في ذلك أبو مسلم (256) قال الذهبي في مقتل ابن هبيرة .. فحاصره المنصور مدة ثم خدعه المنصور وآمنه، ونكث فدخلوا عليه داره فقتلوه صبراً وابنه داود ومماليكه وحاجبه، فسجد لله فنزلوا عليه فهبروه (257)، وكان بطلاً، شجاعاً، سائساً، جواداً، فصيحاً خطيباً (258)، وكان رزقه في السنة ست مائة ألف وكان يفرقها في العلماء والوجوه (259). وهكذا قضى العباسيون على جيب من الجيوب الأموية في العراق وسقطت مدينة واسط (260).
(2) استسلام البصرة :
اعتصم مسلم بن قتيبة الباهلي بالبصرة ودافع عنها بصفته الوالي الأموي وظل مسلمٌ فيها حتى علم بمقتل ابن هبيرة وحينئذ ترك البصرة إلى الحجاز وعين بدله أحد الهاشميين واليا على البصرة حيث استبدله أبو العباس سفيان المهلبي وبهذا سيطر العباسيون على البصرة، لقد استطاع العباسيون أن يقضوا على فلول الأمويين ومراكزهم الحصينة في العراق وبلاد الشام، وقضوا على آخر خلفائهم مروان الثاني (261).
سابعاً : مقتل مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين 132ﻫ
استولى عبد الله بن علي العباسي على الجزيرة والشام وهرب مروان بن محمد إلى مصر، فتبعته الجيوش العباسية وعبر مروان النيل فلحقه صالح بن علي عّم السَّفَّاح، فأدركه بقرية من قرى الفَيُّوم من أرض مصر يقال لها بُوصير (262)، فوافاه صائماً وقد قدّم له الفطور، فسمع الصائح فخرج وسيفه مصلت، فجعل يضرب بسيفه ويتمثل بقول الحجَّاج بن حكيم :


متقلَّدين صفائحاً هندية *** يتركن من ضربوا كأن لم يولد
وإذا دعوتهم ليوم كريهة *** وأفوك بين مكبر ومـــوحَّد


فقصدته الخيول من كل جانب (263)، وبقي يقاتل حتى قتل وكان من كلامه قبل أن يقتل : (إن الجزع لا يزيد في الأجل وإن الصبر لا ينقص الأجل) وكان يتمثل بهذين البيتين كما جاء في بعض الروايات :

ذلُّ الحياة وهــول الممات *** وكـــلاَّ آراه وخيماً وبيلا
فإن كان لا بـد من ميتة *** فسيري إلى الموت سيراً جميلاً (264)

وكان أهله وبناته في كنيسة هناك فأقبل خادمه بالسيف مصلتا يريد الدخول عليهم، فأخُذ وسئل عن مراده فقال : إن مروان أمرني إذا تيقنت موته أن أضرب رقاب نسائه وبناته فأرادوا قتله، فقال : إن قتلتموني لتفقدن ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم – قالوا : فدلنا على ذلك إن كنت صادقاً، فخرج بهم إلى رمل هناك، فكشفوه فإذا فيه القضيب والبُرد والقَعبُ... فأخذوه وكان الذي تولى قتله عامر بن إسماعيل الخُراساني، وهو صاحب مقدمة صالح ولما قتله دخل بيته، وركب سريره، ودعا بعشائه، وجعل رأس مروان في حجر ابنته، وأقبل يوبخَها، فقالت له : يا عامر، إن دهراً أنزل مروان عن فراشه وأقعدك عليه حتَّى تعشيت عشاءه لقد أبلغ في موعظتك، وعمل في إيقاظك وتنبيهك إن عقلت وفكرت، ثم قالت : وا أبتاه وا أمير المؤمنيناه، فأخذ عامراً الرُّعب من كلامها، وبلغ ذلك أبا العباس السَّفَّاح، فكتب إلى عامر يوبخَّه ويقول : أما في أدب الله ما يخرجك عن عشاء مروان والجلوس على مهاده (265). وكان مروان بطلاً شجاعاً، ظالماً، أبيض، ضخم الهامة، ربعة، أشهل العين، كث اللحية أسرع إلى الشيب، ذكره المنصور مرّةً فقال : لله درُّه ما كان أحزمه وأسوسه، وأعفَّه عن الفي (266). وكان نقش خاتمه : أذكر الله يا غافل (267). وقد قيل : إن مروان قتل يوم الإثنين لثلاث عشرة خلت من ذي الحجَّة سنة ثنتين وثلاثين ومائة، وقد جاوز الستين (268)وبموته زال ملك بني أمية، وجميع خلفاء بني أمية من لدن معاوية إلى مروان بن محمد أربعة عشر رجلاً، وكانت مدة خلافة بني أمية منُذ أن خلص الأمر لمعاوية، وإلى أن قتل مروان بن محمد إحدى وتسعين سنة وتسعة أشهر وخمسة (269) أيام منها – خلافة – ابن الزبير تسع سنين وعشرون يوماًثم تفرقت بنو أمية في البلاد هرباً بأنفسهم وهرب عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس وبايعه أهل الأندلس عام 138ﻫ (270)... لقد انقضت تلك السنون وأهلها، فكأنهم على ميعاد (271)وهكذا انتهت دولة بني أمية في المشرق التي عّمرت في الأرض عقوداً مديدة وأعواماً عديدة، وأقاموا فيها المدن المنيعة، والقصور الرفيعة، ولكن ذهبوا وتركوا كل ذلك، ولقد لحقتهم دول وشعوب وأمم وإليك هذا التصوير عن تلك النهايات التي فيها الدروس والعبر لمن ألقى السمع وهو شهيد قال الشاعر أبو العتاهية :


أين القرون الماضية *** تركوا المنازل خالية
فاستبدلت بهم ديارهم *** الرياح الهاوية
وتشتت عنها الجموع*** وفارقتها الغاشية
فإذا محل للوحوش
درجوا فما أبقت صروف *** الدهر منهم باقية
لم يبق بعدهم *** إلا العظام البالية (272)

قال تعالى : " لقد كان في قصصهم عبرة لأُولى الألباب .." ( يوسف ، آية : 111).


|1|2|


--------------------------------------------------------------------------------
(136) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت ص 83.
(137) المصدر نفسه ص 83.
(138) طبيعة الدعوة العباسية ص 83.
(139) أنساب الأشراف ( 3/125 ) الدعوة العباسية ص 236.
(140) أنساب الأشراف ( 3/260 ) الدعوة العباسية ص 236.
(141) مروج الذهب ( 3/260 ) الدعوة العباسية ص 236.
(142) الدعوة العباسية ص 236.
(143) تاريخ الطبري نقلاً عن العلويين والعباسيين ودعوة أهل البيت ص 84.
(144) العلويون والعباسيون ودعوة أهل البيت ص 84.
(145) سير أعلام النبلاء ( 6/48 ) .
(146) المصدر نفسه ( 6/48 ) .
(147) المصدر نفسه ( 6/49 ) .
(148) العلويون والعباسيون ودعوة إلى البيت ص 85.
(149) تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس ص 160 إلى 170.
(150) تاريخ الطبري ( 8/233 إلى 236 ).
(151) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت ص 85.
(152) تاريخ الطبري ( 8/198).
(153) تاريخ الطبري نقلاً عن العلويين والعباسيين ص 86.
(154) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت ص 86.
(155) الكامل في التاريخ ( 3/453 ) العلويون العباسيون ص 86.
(156) الكامل ( 3/453 ) العلويون والعباسيون ص 86.
(157) تاريخ الطبري ( 8/243 9 العلويون والعباسيون ص 87.
(158) العلويون والعباسيون ودعوة آل البيت ص 87.
(159) تاريخ الطبري نقلاً عن العلويين والعباسيين ص 87.
(160) الأخبار الطوال ص 352.
(161) العيون والحدائق ص 184.
(162) الثورة العباسية ص 124.
(163) المصدر نفسه ص 124.
(164) الثورة العباسية ص 122.
(165) الثورة العباسية ص 124.
(166) الثورة العباسية ص 124.
(167) الثورة العباسية ص 124.
(168) المصدر نفسه ص 124.
(169) المصدر نفسه ص 125.
(170) المصدر نفسه ص 125.
(171) المصدر نفسه ص 125.
(172) تاريخ الطبري ( 8/245 ) ، الثورة العباسية ص 125.
(173) الثورة العباسية ص 125.
(174) تاريخ الطبري ( 8/247 ).
(175) الثورة العباسية ص 131.
(176) تاريخ الطبري ( 8/246 ) .
(177) تاريخ الطبري ( 8/247 ) .
(178) السلطة والمعارضة في الإسلام ص 523 .
(179) أخبار الدولة العباسية ص 245.
(180) السلطة والمعارضة في الإسلام في 523.
(181) العلويون والعباسيون ص 88.
(182) البداية والنهاية ( 13/226 ) .
(183) المصدر نفسه ( 13/227 ) .
(184) الخدمة : حلقة القوم وجماعتهم.
(185) ألين : من قرى مرو على أسفل نهر خارقان معجم البلدان ( 1/66 ).
(186) البداية والنهاية ( 13/229 ) .
(187) البداية والنهاية ( 13/230 ) .
(188) الزندان : هما خشبتان يُستقدح بهما فالسفلى زندة والأعلى زند .
(189) البداية والنهاية ( 13/231 ) .
(190) المصدر نفسه ( 13/231 ) .
(191) الدعوة العباسية ص 208.
(192) الحجا : العقل والفطنة.
(193) تأشب : أي اجتمع إليه والتفَّ عليه من أخلاط الناس.
(194) العلوج : أ ي اجتمع إليه والتفَّ عليه من أخلاط الناس.
(195) أخبار الدولة العباسية ص 313 الدعوة العباسية ص 280 ، 281.
(196) الأخبار الطوال ص 332 ، الدعوة العباسية ص 281.
(197) الدعوة العباسية ص 281 ، أخبار الدولة العباسية ص 282.
(198) الاغتام : جمع أغتم ، وهو الذي لا يفصح ، أي العجمي .
(199) النائرة : الفتنة والشر والشحناء والعداوة .
(200) أخبار الدولة العباسية ص 290 الدعوة العباسية ص 282.
(201) الدعوة العباسية ص 283.
(202) الثورة العباسية ص 133.
(203) البداية والنهاية ( 13/248 ) .
(204) المصدر نفسه ( 13/247 ) .
(205) تاريخ بلاد الشام، بيضون ص 229.
(206) البداية والنهاية ( 13/248 ).
(207) تاريخ الطبري ( 8/339 ).
(208) الثورة العباسية ص 134 ، 135 ، 136.
(209) تاريخ الطبري ( 8/272 ) .
(210) المصدر نفسه ( 8/279 ).
(211) الثورة العباسية ص 137.
(212) الثورة العباسية ص 137 ، نقلاً عن تاريخ الطبري .
(213) الثورة العباسية ص 138.
(214) تاريخ الطبري نقلاً عن الثورة العباسية ص 144.
(215) العالم الإسلامي في العصر العباسي ص 49.
(216) الكامل في التاريخ ( 3/479 ) الجيش في العصر العباسي الأول ص 50.
(217) الكامل في التاريخ ( 3/479 ) .
(218) تاريخ الطبري ( 8/280 ) .
(219) تاريخ الطبري ( 8/279 ) الجيش في العصر العباسي ص 51.
(220) داهية العرب أبو جعفر المنصور ص 94.
(221) البداية والنهاية ( 13/235 ).
(222) الجيش في العصر العباسي الأول ص 51.
(223) المصدر نفسه ص 52.
(224) داهية العرب أبو جعفر المنصور ص 97.
(225) سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية ص 193.
(226) داهية العرب أبو جعفر المنصور ص 98.
(227) سقوط الدولة الأموية للثعالبي ص 194.
(228) تاريخ بلاد الشام ص 259.
(229) العصر العباسي الأول ، عبد العزيز الدوري ص 43.
(230) داهية العرب أبو جعفر المنصور ص 98 – 99.
(231) الجيش في العصر العباسي الأول ص 55 .
(232) سير أعلام النبلاء ( 6/78 ) .

د.فالح العمره 29-09-2006 05:51 AM

الدوله العباسيه
 
الدولة العباسية

يتفق بعض المؤرخين على تقسيم الدولة العباسية الى عصرين متميزين : عصر عباسي أول يعبرون عنه بالعصر الزاهي ، ويمتد من نشأة الدولة عام 132هـ حتى أيام الخليفة الواثق بن المعتصم سنة 232هـ وبموته انتهى العصر الذهبي للدولة العباسية ، وعصر ثان هو عصر التدهور والإنحلال ، ابتدأ بخلافة المتوكل على الله سنة 232هـ وانتهى بسقوط الدولة العباسية على أيدي التتار سنة 656هـ .
ويعمد فريق من المؤرخين الى جعل العصور العباسية أربعة تبعا للنفوذ السياسي الذي شهدته بغداد وللأوضاع السياسية التي كانت سائدة :
العصر العباسي الأول : دام نحوا من قرن ، امتاز بالنفوذ الفارسي ، حكمه سبعة خلفاء، وهو عصر القوة والزهو.

العصر العباسي الثاني : دام نحوا من قرن ، امتاز بالنفوذ التركي مع الخليفة المعتصم ، وفيه كان بدء الضعف.

العصر العباسي الثالث : دام نحوا من قرن ، امتاز بالنفوذ البديهي وهو عصر الضعف الفعلي وقيام الدويلات ومنها : الحمدانية في الموصل وحلب ، البويهية في شيراز ، الأخشيدية في الفسطاط بمصر …الخ.

العصر العباسي الرابع : دام نحوا من قرنين ، وهو عصر الانحلال الذي انتهى بسقوط بغداد في أيدي المغول سنة 656هـ (1258م ) ، كما امتاز بالنفوذ السلجوقي .

وقد أخذ العباسيون باستخدامهم الأعاجم ، بدلا من العصبية العربية التي اعتمدتها الدولة الأموية اعتمادا كليا .. واحتاج العباسيون في اصطناعهم الأعاجم الى المال ، فوقعوا تحت نفوذ الأغنياء كما أصبح الأعاجم من الفرس والترك والديلم والصغد وغيرهم ، يتسابقون الى الإستئثار بالنفوذ عن طريق المال .

وحكمت الدولة العباسية زهاء خمسة قرون ساست فيها العالم .. وفي ذلك يقول الفخري صاحب الآداب السلطانية : " واعلم أن هذه الدولة من كبريات الدول ساست العالم سياسة ممزوجة بالدين والملك، فكان أخيار الناس وصلحاؤها يطيعونها تدينا ، والباقون يطيعونها رهبة أو رغبة .. لقد كانت دولة كثيرة المحاسن ، جمة المكارم أسواق العالم فيها قائمة وبضائع الآداب فيها نافقة ، وشعائر الدين فيها معظمة ، والخيرات فيها دارة ، والدنيا عامرة ، والحرمات مرعية ، والثغور محصنة .. ومازالت على ذلك حتى أواخرها ، فانتشر الجبر واضطرب الأمر ، وانتقلت الدولة ".

د.فالح العمره 29-09-2006 05:52 AM

أبو العباس السفاح .. مؤسس الدولة العباسية
هو أول من جلس على عرش الدولة العباسية سنة 231 هـ، وفي يوم الجمعة أقام أبو العباس الخطبة على المنبر قائماً، وكان بنو أمية يخطبون قعوداً ، فحياه الناس وقالوا: " أحييت السنة يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم". وختم خطبته بقوله: "أنا السفاح المبح، والثائر المبيد"، فعرف من ثم بالسفاح .. وقد قضى السفاح معظم عهده في محاربة قواد العرب الذين ناصروا الدولة الأموية، وقضى على أعقاب الأمويين، حتى أنه لم يفلت منهم إلا عبدالرحمن الداخل مع نفر من أهله .. كذلك وجه السفاح همته إلى الفتك بمن والوا عبد الرحمن الداخل وساعدوه على تأسيس دولته في الأندلس، فقتل أبا سلمة الخلال، وهم بقتل أبي مسلم لولا أن المنية عاجلته .. وكان أبو العباس جميلاً وسيماً كريماً وقوراً سخياً، كثير الجباء .. وقد بقي في الخلافة أربع سنوات وتسعة أشهر ومات بالجدري في مدينة الأنبار التي اتخذها قاعدة لخلافته سنة 631 هـ، وكان ابن ثلاث وثلاثين سنة.




د.فالح العمره 29-09-2006 05:52 AM


خلفاء العصر العباسي الأول
بعد السفاح تولى أبو جعفر المنصور الخلافة ( شقيقه ) ويعد المنصور المؤسس الحقيقي للدولة العباسية لأنه أحكم الرابطة بين القوة الزمنية والسلطة الدينية .. ومن أهم أعماله بناء بغداد وتحصين الحدود بينه وبين الروم .. واتخذ خالد بن برمك وزيراً له ، فبدأت عظمة البرامكة الذين قاموا بأعباء الوزارة في صدر الدولة العباسية، وكانوا من أكبر دعائم التقدم والرقي .. وكان المنصور يشرف على أعمال الدولة بنفسه، ويستعرض الجند، ويفتش الحصون، ويراجع الداخل والخارج، ويحاسب عماله حساباً دقيقاً.
ولما أنهكت الأعمال صحته، قصد مكة ليقضي فيها بقية حياته، فمات على بعض ساعات منها، وذلك سنة 851 هـ.
تولى المهدي ابنه الخلافة وقد رسخت قدم الدولة وثبتت دعائمها، وسكن الناس إلى حكمها .. وكان المهدي كريماً رحيماً، فعزم على محو كل إساءة اقترفها المنصور، فعفا عن المسجونين السياسيين، ورد إلى بني هاشم ما كان والده قد أخذه منهم، ووسع المدارس وزاد من عددها، كما وسع الحرم النبوي في المدينة المنورة، وأنشأ القصور على الطريق من بغداد إلى مكة، وسعى في توفير الماء على طول هذه الطريق، كذلك رتب البريد بين مكة والمدينة. وكان يعاصر المهدي في غرب أوروبا الامبراطور شارلمان، فصادقه واستمرت المودة بين الدولتين إلى زمن الرشيد. أما الدولة الرومانية الشرقية فكان العداء مستحكماً بين المهدي وبينها، فقامت الحرب بينهما براً وبحراً، وانتهى الأمر بأن تقدم المهدي وابنه هارون الرشيد إلى البوسفور، فصالحته الملكة "ايريني" على دفع جزية سنوية.
وجاء بعد المهدي ابنه موسى الهادي سنة 169 هـ، فلم يعمر أكثر من أربعة عشر شهراً وقد حاول أن يخلع أخاه الرشيد من ولاية العهد وينقلها إلى ابنه جعفر وبينما هو يسعى لاتمام ذلك عاجلته منيته سنة 170 هـ.

هارون الرشيد :

مع تولي الرشيد الخلافة 170 هـ بلغت الدولة العباسية غاية قوتها وتجلى عصرها الذهبي في أسمى مظاهره فلم يكن على وجه الأرض دولة تضارعها في عظمة السلطان وضخامة الثروة ونشر العلوم والآداب وشيوع النعيم والترف واستتباب الأمن .. ويعد الرشيد من أكبر حكام العالم، فقد قام متمسكاً بدينه، تقياً محسناً محباً مع هذا لمظاهر العظمة، ماهراً في قيادة الجيوش .. ومن أجل هذا كان أبوه يؤثره على أخيه الهادي .. وكان كثير التجول في أملاكه، بقصد القضاء على الفوضى، وتوطيد الأمن، والتعرف على أحوال الرعية فسارت الطرق آمنة، وتقلب فيها التجار والحجاج والعلماء من أقصاها إلى أقصاها .. وقد شيد الرشيد من المساجد والمدارس والمستشفيات والقناطر والترع، ما يشهد له بالحرص على مصالح رعيته، والهمل على راحتهم .. وفي عصره عظمت بغداد وكثرت فيها القصور الفخمة التي أبدع المهندسون تنسيقها .. وعظمت كذلك الرصافة المقابلة لها على الشاطئ الشرقي لنهر دجلة، وذلك بفضل ما أنشأه البرامكة من قصور ومساجد وحمامات .. وفي عهده اتسع عمران العاصمة حتى بلغ مليوني نسمة، وصارت ملتقى التجارة بين الهند والصين والشام والجزيرة وبحر المشرق .. وقد زاد تبعاً لذلك خراج الدولة، فأخذ الخليفة ووزراؤه يغدقون بدون حساب على الشعراء والعلماء والكتاب والمحتاجين، وينفق هؤلاء عن سعة .. فراجت التجارة، وكثر التأنق في المعيشة، وبلغ الترف مبلغه الذي سارت به الأمثال في أنحاء المعمورة، ولم ينقطع تغني الشعراء به حتى وقتنا هذا .. وعهد هارون لأبنائه الأمين، ثم المأمون، ثم القاسم، وأخذ عليهم العهود بألا يغيروا هذا الترتيب .. ومات الرشيد بعد أن حكم ثلاثاً وعشرين سنة، بلغت فيها شهرته الآفاق البعيدة، حتى اتصل بامبراطور الصين، وتبادل شارلمان معه الهدايا، فأرسل إليه الرشيد هدايا كثيرة تشهد بما كانت عليه الدولة من الثروة والتقدم، ولاسيما الساعة التي دهش لها الأوروبيون وحسبوها سحراً .. ثم تولى الأمين الخلافة بعد أبيه سنة 193 هـ، فكان مسرفاً، مغرماً بالبذخ والترف .. وقيل أن وزيره الفضل بن الربيع أغراه بخلع أخويه ونقل العهد إلى أبنائه دونهما .. فأرسل الأمين جيشاً يأتيه بالمأمون فانهزم عند الري وأعلن المأمون نفسه خليفة بالبذخ والترف .. وقيل أن وزيره الفضل بن الربيع أغراه بخلع أخويه ونقل العهد إلى أبنائه دونهما فأرسل الأمين جيشاً يأتيه بالمأمون فانهزم عند الري وأعلن المأمون نفسه خليفة ، وقبلته فارس بأجمعها .. وحاصر المأمون بغداد إلى أن سلم الأمين نفسه لأخيه .. ولكن بعض الجند الفرس قتلوه، وقد أكرم المأمون أبناء أخيه وزوجهم من بناته .. وكان المأمون مولعاً بالعلوم والفلسفة والآداب، فكان عصره أرقى العهود في العصر العباسي .. وظهر فيه علماء مشهورون من أهل الحديث وعلماء الكلام، وجعل لهم المأمون مجالس للمناظرة .. وكانت الترجمة عن الفرس واليونان والهنود قد بدأت من قبل، وبخاصة الطب، فنقلت عن اليونانية أيام المنصور كتب أبقراط وجالينوس في الطب، وترجم ابن المقفع كتاب كليلة ودمنة عن البهلوية، كما ترجم المجسطي لبطليموس.

فلما كان عصر الرشيد غرف المترجمون من كنز العلوم اليونانية، فحملت الكتب إلى بغداد ونقلت إلى العربية برعايته وتشجيع البرامكة فنشأ المأمون متشبعاً بتلك العلوم، مقتنعاً بفائدتها، فنشطت حركة النقل نشاطاً كبيراً، بفضل تعظيمه العلماء وما كان يغدقه عليهم من الأرزاق .. وكان للمأمون شغف خاص بأرسطاطاليس، فأرسل في طلب كتبه جماعة إلى القسطنطينية، ممن يعرفون اليونانية، ومعهم صاحب "بيت الحكمة". وقد أصلح علماء العرب أخطاء اليونان وشرع بعضهم يضع مؤلفات علمية وفلسفية جديدة.

وقد راجت علوم الأقدمين واشتغل بها المتعلمون في بغداد وخارجها من حواضر الإسلام، فكان المأمون حامل لواء العلوم على أنواعها، وسبب تلك النهضة الكبرى.

توفي المأمون في آخر غزواته ببلاد الدولة البيزنطية سنة 218 هـ، إذ أصابته الحمى فقضت عليه، وكان قد أوصى بالخلافة بعده إلى أخيه المعتصم .. وقد أوصى المأمون أخاه المعتصم وصية جاء فيها: "يا أبا إسحاق، أدن مني، واتعظ بما ترى، وخذ بسيرة أخيك في القرآن، واعمل على الخلافة إذا طوقكها الله عمل المريد لله، الخائف من عذابه وعقابه، ولا تغتر بالله ومهلته، فكأن، قد نزل بك الموت، ولا تغفل أمر الرعية، والعوام العوام، فإن الملك، الملك بهم، والمنفعة فيهم وفي غيرهم من المسلمين".




د.فالح العمره 29-09-2006 05:53 AM


قوة ونفوذ الأتراك
لما تولى الخليفة المعتصم أراد أن يكبح جماع جيوشه، فكون جيشاً جديداً من الأتراك يقودهم ضباط بينهم، تحت إمرة الخليفة مباشرة .. ولما ضاقت بهم بغداد انتقل المعتصم وجيشه إلى مدينة "سر من رأى" أو "سامراء" التي أصبحت حاضرة خلافته الجديدة .. وتقع سامراء شرقي دجلة على بعد ستين ميلاً شمالي بغداد .. وسرعان ما أصبح لهؤلاء الأتراك من القوة ما جعلهم يهيمنون على الخلافة، حتى أصبح بيدهم عزل الخلفاء وتعيينهم.

د.فالح العمره 29-09-2006 05:54 AM


أسباب سقوط الدولة العباسية
مع موت الواثق سنة 232 هـ انقضى عهد عظمة العباسيين، إذا لم يخلفه إلا رجال يرتقون الخلافة ولا حول لهم ولاقوة، ويموتون غير مأسوف عليهم، يوليهم الأتراك أو الفرس ذو النفوذ ويعزلونهم، أو يقتلونهم متى أرادوا .. على أن اسم الخلافة العباسية استمر ببغداد حتى سنة 656 هـ (1258م) حين أغار عليها هولاكو المغولي، وقتل المعتصم آخر خليفة عباسي في بغداد، فانقضت بذلك الدولة العباسية .. أما أسباب سقوط هذه الدولة فكثيرة نجملها بما يأتي:

1- تفوق العناصر غير العربية: كان الأمويون يعتمدون على العرب، ويولونهم المناصب العالية كلها، مما أثار حفيظة [غيظ] الموالي من الفرس فعملوا على القضاء على دولتهم، لعلهم يستردون شيئاً من سابق نفوذهم وسلطانهم القديم فأخذوا ينشرون الدعوة لبني العباس، وتمكنوا في النهاية من انتزاع الخلافة من الأمويين، فجاءت دولة العباسيين فارسية الصبغة وقد عمل الفرس على اقصاء العصبية العربية عن الخلفاء بحجة أن العرب يطمحون إلى الخلافة، فأصبح الفرس يحكمون الدولة، كما نرى ذلك مممثلاً في سطوة البرامكة ولما خشي المعتصم مغبة الأمر استكثر من المماليك الأتراك واتخذ منهم جنداً استعان بهم على الفرس والعرب معاً.

2- سوء الحالة الإقتصادية : بعد أن وطد خلفاء العصر العباسي الأول أركان الملك، جاء من بعدهم حكام اخلدوا إلى الدعة [الراحة والهدوء]، وامعنوا في الترف وجر ذلك إلى كثرة في النفقات وزيادة الضرائب، فانحطت موارد الثروة وقل ايراد الحكومة، وضعفت بالتالي شوكة الدولة وعجزت عن تحصيل ضرائبها.

3- ظهور الدويلات المستقلة: تمكن العلويون من اقتطاع أجزاء من الدولة العباسية أصبحت مستقلة عنها ومنها دولة الأدارسة في المغرب، والدولة الفاطمية التي امتدت من المحيط الأطلسي إلى اليمن والحجاز، ودولة بني بويه التي سيطرت على بغداد، وغير ذلك من الدول في العالم الإسلامي ويضاف إلى ذلك أن اتساع الرقعة العباسية حمل الخلفاء على تعيين حكام من أعوانهم على المناطق النائية، فعمد أولئك الحكام إلى الاستقلال بمقاطعاتهم عن بغداد.

4- تعدد الأجناس والمذاهب: لم يكن تعدد الأجناس وظهور مذاهب دينية معروفاً أيام الأمويين، بل سرت إلى الإسلام في العصر العباسي من الديانات القديمة كالمجوسية والمانوية والمزدكية وقد أدى ذلك إلى كثرة الملل والنحل، كما أذكى نار العداوة بين المسلمين فتفرقوا مللاً وأحزاباً، تحسبهم جميعاً وقلوبهم مشتتة.




د.فالح العمره 29-09-2006 05:55 AM


في بلاد الهند :
لما قامت الدولة العباسية ولى أبو جعفر المنصور هشام بن عمر التغلبي بلاد السند .. وفي عهده فتحت كشمير وهدم معبد "بوذا" وبني في موضعه مسجد .. وقد تقدمت هذه البلاد في عهد هشام التغلبي واستقر بها الأمن وتوطدت أركانه .. وفي عهد الخليفة المهدي غزا المسلمون بلاد الهند 901 هـ وحاصروا مدينة "باربد" وضربوها بالمنجنيق وفتحوها عنوة على أن هذه الغزوة كانت كارثة على جند العباسيين، فقد فشا الموت فيهم وقضى على عدد كبير من المقاتلين، ثم دمرت الزوابع سفنهم في الخليج العربي فغرق كثير من الجند .. وفي عهد الخليفة المأمون توسعت فتوحات المسلمين في السند والهند، وفي عهد المعتصم انتشر الإسلام في البلاد الواقعة بين كشمير وكابول والملتان.

مع البيزنطيين :

لم تنقطع الحرب بين العرب والروم منذ ظهور الإسلام. فلما انتقل الحكم إلى العباسيين تغيرت وجهة الحرب بينهما وأصبحت عبارة عن غارات، الغرض منها الهدم والتخريب وإتلاف النفس والمال وهذا ما كان يخالف ما كانت عليه الحال أيام الأمويين الذين كانت لهم سياسة مرسومة لمحاربة البيزنطيين بغية احتلال القسطنطينية وبقيت الحرب بين العباسيين والبيزنطيين تشتعل من حين إلى آخر حتى سنة 551هـ، حين طلب الإمبراطور قسطنطين الرابع الصلح مع العباسيين على أن يؤدي لهم جزية سنوية.

وفي سنة 951 هـ خرج الخليفة المهدي على رأس جيش كثيف لغزو بلاد الروم، ووصل إلى "البردان" وعسكر به، وأرسل العباس بن محمد فبلغ أنقرة، وفي سنة 561 هـ أعاد المهدي الكرة على البلاد البيزنطية فجمع جيشاً كثيفاً وعبر الفرات وجعل عليه ابنه هارون فوصل هذا الجيش إلى سواحل البوسفور وأرغم الملكة "ايرين" أرملة "ليو" الرابع، وكانت وصية على ابنها قسطنطين السادس أن تدفع للمسلمين تسعين ألف دينار جزية سنوية، وأن تقيم لهم الأسواق والأدلاء في الطريق عند عودتهم إلى بلادهم، وأن تسلم أسرى المسلمين وانتهت هذه الغزوة بهدنة بين الفريقين لمدة ثلاث سنوات ولما تولى الرشيد الخلافة سار بنفسه سنة 181 هـ على رأس جيش كبير إلى آسيا الصغرى، فانتصر على البيزنطيين في معارك كثيرة وظل يتابع فتوحه حتى وصل إلى القسطنطينية فسارعت الامبراطورة "ايرين" إلى طلب الهدنة مقابل دفع الجزية السابق ذكرها غير أن نقفور الذي اعتلى العرش بن ايرين أرسل إلى الرشيد سنة 781 هـ كتاباً ينتقض فيه الهدنة، ويلح في استرداد الجزية من جديد. ولم يقتصر الرشيد في حروبه مع الروم على آسيا الصغرى، بل تعداها إلى البحر المتوسط ففي سنة 190 هـ غزا جزيرة قبرص وأسر منها عدداً كبيراً من بينهم أسقفها.

أما عصر المأمون فقد اكتفى بتشجيع توماس الصقلبي الثائر على الامبراطور "تيوفيليوس"، وعمل على تتويجه امبراطوراً على الدولة البيزنطية نفسها ولكن سرعان ما اكتشفت حملة توماس ولم يتم له ما أراد وقد اتبع الامبراطور البيزنطي السياسة نفسها مع الخليفة العباسي، فجل بلاد الروم موئلاً للخرمية أتباع بابك الخرمي الفارسي الذي ثار سنة 102 هـ على المأمون وقد استطاع المعتصم القضاء على بابك، ثم تفرغ لمحاربة الروم، فسار من فوره إلى أنقرة في جيش ضخم، وهزم الامبراطور البيزنطي واستولى على أنقرة. ثم تابع المسير حتى وصل عمورية حيث انتصر على البيزنطيين سنة 322 هـ، واقتحم عمورية وخربها وعاد إلى سامراء حيث استقبل استقبالاً باهراً وفي هذه المناسبة نظم أبو تمام قصيدة مشهورة جاء فيها:

السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب

بيض الصفائح لا سود الصحائف ... في متونهم جلاء الشك والريب

فيما بعد ساءت الحال في الدولة العباسية، فاستبد الأتراك والبويهيون بالسلطة دون الخلفاء فوجد البيزنطيون في ذلك فرصة سانحة للإغارة على المناطق الخاضعة للدولة العباسية فقد استولوا على ساحل مصر سنة 832 هـ، كما أغاروا في زمن المتوكل على مدينة "عين زربا" سنة 142 هـ، وعلى الأراضي الواقعة شمالي العراق فبلغوا آمد وأسروا كثيراً من المسلمين ولكن الخليفة المتوكل عول على الانتقام، فاستولى على بعض المناطق البيزنطية جنوبي آسيا الصغرى وأسر أحد البطارقة، واستولى على مدينة لؤولؤة ومنذ عهد الخليفة المعتمد كانت الخلافة العباسية قد تقلصت إلى حدود الجزيرة والعراق، وتجدد النزاع بين المسلمين والروم الذين راحوا يعبثون ببعض بلاد الدولة العباسية .. وكانت شوكة الدولة البيزنطية قد قويت وانتشر فيها الأمن منذ اعتلاء باسيل الأول العرش سنة (352 هـ) 768م، فتمكن من احراز النصر على بعض أمراء المسلمين، ساعده على ذلك ضعف الخلفاء أو استبداد القوط بهم وثورة الجند عليهم.

الحروب في مصر :

كان من أثر تحول الخلافة من الأمويين إلى العباسيين أن قامت حضارة جديدة حلت مكان الفسطاط، هي العسكر وقد قام الجند العرب في مصر بدور مهم في شؤون الدولة السياسي. فقد اشتركوا في كثير من الفتن والثورات، مثل فتنة محمد النفس الزكية في عهد المنصور وعاونوا "دحية" في خروجه على العباسيين في الصعيد، في عهد الخليفة المهدي كذلك كان للجند العرب في مصر نصيب كبير في الفتنة التي قامت بين الأمين والمأمون وغدا اشتراك هؤلاء الجند في الثورات مألوفاً حتى في الحالات التي لم يكن ثمة ما يدعو إلى الاشتراك فيها وقد دعت هذه الحال الخليفة المعتصم سنة 812 هـ إلى أن يسقط أسماء الجند العرب في مصر من ديوان العطاء وبذلك اندمج العرب بالمصريين فاحترفوا الزراعة والصناعة وغيرها، وبذلك قضي تماماً على العصبيات العربية والشعوبيات في مصر وهذا أمر لم يحدث في أي اقليم آخر من الأقاليم التابعة للدولة الإسلامية.

في بلاد النوبة :

اتصل العرب اتصالاً وثيقاً بالبجة في القرن الثاني للهجرة عن طريق البحر الأحمر، وعن طريق وادي النيل، وخاصة اقليم أسوان، بعد أن عقد مع ابن الحبحاب معاهدة هدنة وحسن جوار غير أن البجة لم يحافظوا على العهد الذي قطعوه على أنفسهم مه ابن الحبحاب، وكثرت غاراتهم على جهات أسوان عهد الخليفة المأمون فقامت بين الفريقين مواقع عدة انتهت بإبرام هدنة جديدة، كان من أهم شروطها أن تكون بلاد البجة من حدود أسوان، وعلى أن تكون منطقة السودان ملكاً للخليفة العباسي، وأن يدفع ملك البجة كل عام الخرج، وهو مائة من الإبل أو ثلاثمائة دينار وأن يحترم البجة الإسلام ولا يمنعوا أحداً كل عام من المسلمين الدخول في بلادهم للتجارة، وإذا نزل البجة صعيد مصر مجتازين أو تجاراً فلا يظهرون سلاحاً ولا يدخلون المدن والقرى بحال.

في بلاد المغرب :

غدت أفريقيا مسرحاً للفتن والقلاقل في العصر العباسي، وذلك لبعدها عن السلطة المركزية في بغداد، ولجهل البربر في ذلك العصر، وعدم استعدادهم لقبول الحضارة الإسلامية وبغضهم ولاتهم من العرب وفرضهم الضرائب الفادحة عليهم وقد ساعد هذا الواقع على قيام دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى سنة 271 هـ، كما ساعد الأغالبة في تونس على تأسيس دولتهم، وكان الرشيد قد أقطع ابراهيم بن الأغلب تونس سنة 481 هـ.

أما عن جهل البربر وعدم استعدادهم للحضارة الإسلامية، فكان من آثاره أن السلام لم يتوطد بين البربر والعرب النازلين في بلادهم منذ أن امتدت الفتوحات الإسلامية إلى هذه البلاد وهذا يفسر لنا انتشار مذهبي الخوارج والشيعة في بلاد المغرب، وقيام البربر في وجه العباسيين بين الحين والآخر. وأما عن بغض البربر لولاتهم من العرب فيرجع إلى فداحة الضرائب التي أثقلت كاهل الأهلين .. والحق أن قيام الخوارج من البربر في وجه العباسيين لم يكن خروجاً على الدين بل كان خروجاً على السلطة الحاكمة لظلم الولاة لهم وفرضهم عليهم الضرائب الفادحة.

استمرت قبائل البربر في أفريقيا تناوئ سلطان العباسيين، حتى بعث إليهم الرشيد سنة 181 هـ هرثمة بن أعين على رأس جيش كثيف استطاع أن يضعف قوتهم على أن هرثمة رأى بثاقب نظره وطول خبرته تأصل العداء في نفوس البربر، فأرسل إلى الرشيد يعتذر عن البقاء بالمغرب بعد أن وليها سنتين ونصف السنة .. ثم ولى الرشيد محمد بن مقاتل، فأساء معاملة الأهلين، فتجددت ثورات البربر والعرب، وتمكن البربر من دخول القيروان .. إلا أن ابراهيم بن الأغلب تمكن من طردهم، وأعاد إلى الرشيد ولايته .. وكان من أثر العداء الذي اضمره البربر للأمويين والعباسيين، وانضمام بعض العرب إلى مذهب الخارجين أن قامت الفتن والقلاقل في هذه البلاد، وعمل بعض زعمائهم على الاستقلال عن الدولة العباسية، فتأسست ولايات من البربر، على يد زعماء من العرب، استقلت استقلالاً يكاد يكون تاماً ومن الولايات التي استقلت ولاية تاهوت وولاية سلجمانة (تافيلالت الحالية) التي أسسها بنو مدرار، وولاية تلمسان التي أسسها الصنهاجيون، وولاية برغواطة في تامسنا (الشاوية الحالية) على ساحل المحيط الأطلسي، ودولة الأغالبة في تونس، ودولة الأدارسة في المغرب الأقصى.

في بلاد الأندلس :

تقلص سلطان العباسيين عن بلاد الأندلس بعد أن أفلت عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك وانتقل إلى الأندلس ولكن أبا جعفر المنصور لم يهدأ باله من ناحية عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) ، فعمل على القضاء عليه، وأرسل إليه العلاء بن مغيث ولكن الداخل هزمه وقتله واحتز رأسه وأرسله إلى المنصور .. فغير المنصور بعد ذلك سياسته مع الداخل وعمل على استمالته، وكثيراً ما كان يظهر اعجابه بشخصيته، وقد لقبه بصقر قريش .. وكان الخليفة المهدي يضمر العداء للداخل فأرسل من يحرض عبدالرحمن بن حبيب الفهري عليه فراح يحث الناس على الدخول في طاعة العباسيين، واتصل بسليمان بن يقظان من أجل ذلك ولكن سليمان خذله وحاربه وقضى عليه وبذلك لم تنجح سياسة المهدي في إعادة الأندلس إلى الدولة العباسية .. وقد حكم عبد الرحمن الداخل ثلاثاً وثلاثين سنة، وعاصر من الخلفاء العباسيين: المنصور والمهدي والهادي والرشيد.

د.فالح العمره 29-09-2006 05:55 AM


الأدب في العصر العباسي
وصلت الحياة الفكرية في العصر العباسي إلى ذروة التطور والازدهار، ولاسيما في العلوم والآداب .. وقد عرف العصر حركات ثقافية مهمة وتيارات فكرية بفضل التدخل بين الأمم .. وكان لنقل التراث اليوناني والفارسي والهندي، وتشجيع الخلفاء والأمراء والولاة، وإقبال العرب على الثقافات المتنوعة، أبعد الأثر في جعل الزمن العباسي عصراً ذهبياً في الحياة الفكرية .. ونحاول فيما يأتي التعرف إلى الإنتاج الأدبي، شعره نثره، على اختلاف فنونه، وما لحقه من خصائص وتطورات.

في العصر العباسي كانت العربية قد أصبحت اللغة الرسمية في البلدان الخاضعة لسيطرة المسلمين، وكانت لغة العلم والأدب والفلسفة والدين لدى جميع الشعوب. وقد كتب النتاج بمجمله في اللغة العربية مع أن قسماً كبيراً من أصحابه ليسوا من العرب !!

تركت الثقافات الدخيلة أثراً عميقاً في علوم العرب وفلسفتهم، ولكن آداب الأعاجم لم يكن لها مثل هذا الأثر فالعرب لم ينقلوا إلا جزءاً ضئيلاً من الآداب الأعجمية، لأنهم لم يشعروا بحاجتهم إليها ولم يكن أدباء العرب وشهراؤهم يتقنون لغات غربية، فظل أدبهم في مجمله صافياً بعيداً عن التيارات الأجنبية.
وقد غلب الطابع العربي على الأعاجم الذين نظموا وكتبوا بالعربية، فتأثروا بالاتجاهات الأدبية العربية وانحصر تجديدهم ضمن القوالب التقليدية فالعصر العباسي حمل الأدب كثيراً من التجديد، ولكن ضمن الأطر التقليدية.

في العصر العباسي انتشرت المعارف، وكثر الاقبال على البحث والتدوين، وأنشئت المكتبات وراجت أسواق الكتب وقد وضعت المؤلفات في مختلف فروع المعرفة، في التاريخ والجغرافيا، والفلك والرياضيات، والطب والكيمياء والصيدلة، والصرف والنحو، واللغة والنقد، والشعر، والقصص والدين، والفللسفة والسياسة، والأخلاق والاجتماع وغير ذلك .. ويكفي أن نقرأ كتاب الفهرست لابن النديم لنعرف إلى أي مدى كانت حركة التأليف مزدهرة .. وأقبل الأدباء على الثقافات الجديدة يكتسبون منها معطيات عقلية، وقدرة على التعليل والاستنباط وتوليد المعاني، والمقارنة والاستنتاج .. فالأدب العباسي جاء أغنى مما سبقه، ويدلنا على هذا الغنى ما نراه في شعر أبي نواس وأبي تمام وأبي الطيب والمتنبي وأبي علاء، وما نراه في نثر ابن المفقع والجاحظ وبديع الزمان وسواهم .. ثم ان عمق الثقافة ساعد على عمق التجربة الانسانية، فجاءالأدب العباسي زاخراً بالمعطيات الانسسانية من حيث تصويره لجوهر الانسان وما يتعقب على النفس من حالات اليأس والأمل، والضعف والقوة، والحزم والفرح وغير ذلك .. كما رسم الأدب العباسي المشاكل العامة في الاجتماع والفكر والسياسة والأخلاق .. وهذا كله ظهر في خمريات أبي نواس وخواطر الرومي، وحكم المتنبي، ووجدانيات أبي فراس، وتأملات المعري، وأمثال ابن المفقع، وانتقادات الجاحظ .. فضلاً عن ذلك عرف العصر مدارس أدبية شعرية ونثرية، منها مدرسة أبي نواس ومدرسة أبي تمام، ومدرسة أبي العتاهية، ومدرسة المعري في ميادين الشعر.
وفي النثر عرفت مدرسة ابن المفقع، ومدرسة الجاحظ، ودرسة القاضي الفاضل، ومدرسة بديع الزمان الهمذاني وكل من هذه المدارس خصائصها واتجاهاتها، وقد كان لها الفضل في إعلاء شأن الحياة الأدبية في العصر العباسي.

ازدهر الشعر السياسي في العصر الأموي لأسباب متعددة أهمها قيام الأحزاب السياسية وتناحرها .. ولكن هذا اللون انحسرت أهميته في العصر العباسي بسبب ضعف الأحزاب والعصبيات القبلية .. وقد ازدهر بالمقابل شعر المدح بفعل ازدهار الحياة الاقتصادية وتطور الحياة الإجتماعية، مع ميل الخلفاء إلى الترف وحب الإطراء .. فأقبل الشعراء يمجدون الخلافة والأمراء وأصحاب النفوذ، مقابل العطايا السنية وهذا ما جعل الشعراء يحملون بالثروات الطائلة، فيقصدون بغداد والعواصم الأخرى للإقامة في جوار القصور .. وقوي الهجاء كذلك بدافع تحاسد الشعراء، وإلحافهم في طلب الجوائز، وضمنوا هجائهم الكلام المقنع أحياناً.

أما الغزل فقد مال به أصحابه بصورة عامة، إلى التهتك والإباحية، والفحش في الألفاظ وكثر في العصر العباسي الخلعاء من الشعراء الماجنين، وأهمهم أبو نواس، وحماد عجرد، ومطيع بن اياس، والضحاك، ووالبة بن الحباب .. إلا أن فئة من المتعففين حافظ أفرادها على العذرية في الشعر، من أمثال البحتري وأبي تمام وابن الرومي وأبي فراس الحمداني والشريف الرضي فهؤلاء جاءت قصائدهم الغزلية صادرة عن وجدان صحيح فيه الصدق والبراءة والمحافظة على الآداب العامة .. ثم ان الفخر الذي بني في الجاهلية على العصبية القليلة ضعف شأنه مع ظهور الإسلام، إلا ما كان منه جماعياً وبالدين الإسلامي وأهله .. أما العصر العباسي فقد تحول فيه الفخر إلى العصبية العنصرية أو القومية، ولكنه لم يكن قوياً في العصر الأول والثاني.
وقد ازدهر الفخر في العصر الثالث مع اضطراب الأحوال السياسية وكثرة المغمرين والاعتداد بالنفس وأبرز شعراء الفخر أبو الطيب المتنبي وأبو فراس و الشريف الرضي .. وهذه الموضوعات الشعرية كانت معروفة في العصور السابقة وحافظ الشعراء العباسيون على قوتها إلا أن البيئة العباسية ساعدت على ازدهار فنون جديده كانت من قبل ضعيفة أو غير معروفة .. وأهم هذه الفنون شعر المجون الذي كان وليد انتشار الزندقة وتفشي الفساد بفعل اختلاط الشعوب ، واتيان الأعاجم بفنون من الخلاعة والفحش وردئ العادات .. أما شعر الخمر فقد ارتقى على أيدي أبي نواس وصحبه ، وأصابه من معطيات العصر ما جعل الشعراء يبدعون فيه .. ومن دوافع ازدهار شعر الخمر الثقافة التي تيسرت للعباسيين فعمقت تجربتهم وكثفت شعرهم .. فأبو نواس تجاوز الأعشى والأخطل والوليد بن يزيد في هذا الفن ، واهتدى الى معان وصور وآفاق وأساليب صار معها حامل لواء التجديد في الشعر العباسي وجعل من الخمريات رمزا لهذا التجديد وأساسا لنشر الآراء وفلسفة الحياة والوجود .. وبعد أبي نواس استمرت الخمريات فنا شعريا راقيا اشتهر فيه ابن المعتز ومعز الدولة البويهي والغرائي وسواهم.
ومن الفنون الشعرية التي حافظت على رواجها وتطورت في العصر العباسي فن الوصف التي شمل الطبيعة المطبوعة والطبيعية المصنوعة .. ولهذا اهتم الشعراء بالرياض والقصور، والبرك، والأنهار، والجبال، والطيور، والمعارك، ومجالس اللهو، وغير ذلك.

في العصر العباسي تطورت المعاني الشعرية عمقاً وكثافة ودقة في التصوير، فجاءت شاملة للحقائق الانسانية وقد انصرف الشعراء عن المعاني القديمة إلى معان جديدة، يساعد على ذلك ما كسبه العقل العباسي من الفلسفة وعلم الكلام والمنطق، وما وصلوا إليه من أساليب فنية قوامها المحسنات اللفظية والمعنوية ومثال ذلك أن أبا تمام يجمع في قصيدة "فتح عمورية" بين العملية الفكرية والعملية الفنية، فأخرج من القصيدة شعراً جديداً راقياً، فيه من القديم مسحة ومن الجديد أخرج معاني وصوراً طريفة وكثرت في الشعر العباسي الأمثال والحكم (المتنبي والمعري)، وبرز فيه المنطق والأقيسة العقلية، وترتيب الأفكار (أبو تمام، وابن الرومي، المتنبي). كما ظهر الإبداع في التصوير والاعراب في الخيال، ومجاراة الحياة والفنون في الزخرفة والنقش، والاهتمام بالألوان (ابن الرومي، والبحتري).

امتاز الشعر العباسي بدقة العبارة وحسن الجرس والايقاع، وذلك بتأثير الحضارة ورفاه العيش كما امتاز بخروجه على المنهجية القديمة في بناء القصيدة وترتيب أجزائها. وكثيراً ما ثار الشعراء على الأساليب القديمة، وفي ذلك ذلك يقول المتنبي:

إذا كان شعر فالنسيب المقدم ... أكل بليغ قال شعراً متيم

وتمتاز القصيدة العباسية بوحدة البناء، وفيها صناعة وهندسة، مع استخدام الصور البيانية، فضلاً عن التجديد في الألفاظ المستعملة والموحية.

النثر العباسي :

خطا النثر العباسي خطوات كبيرة، فواكب نهضة العصر وأصبح قادراً على استيعاب المظاهر العلمية والفلسفية والفنية كما أن الموضوعات النثرية تنوعت فشملت مختلف مناحي الحياة .. فالكتابة الفنية توزعت على ديوان الرسائل والتوقيعات وغيرها .. وكان المسؤولون يختارون خيرة الكتاب لغة وبلاغة وعلماً لتسلم الدواوين، ولاسيما ديوان الرسائل الذي كان يقتضي أكثر من غيره اتقان البلاغة والتفنن ، و مستوى رفيع من الثقافة فضلاً عن ذلك النثر الفني القصص و المقامات و النقد الأدبي ، و النوادر ، و الأمثال و الحكم ، و التدوين ، و الرحلات ، و التاريخ ، و العلوم.
وظهرت الرسائل الأدبية التي تضمنت الحكم و جوامع الكلم و الأمثال و الفكاهات و كانت موضوعات الرسائل تتراوح بين الأخبار و الأخوانيات ، والاعتذار وغير ذلك وراجت الرسائل الطويلة في العصر العباسي فتناولت السياسة والأخلاق والإجتماع، كرسالة الصاحبة لابن المقفع، ورسالة القيان ورسالة التربيع والدوير للجاحظ، ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري.
وعظم شأن القصص في العصر العباسي، فاتسع نطاقه وأصبح مادة أدبية غزيرة، وتنوعت المؤلفات القصصية فأقبل الناس على مطالعتها وتناقلها ومنها ما اهتم بالحقل الديني ككتاب قصص الأنبياء المسنى بالعرائس للثعلبي، وقصص الأنبياء للكسائي، وقصة يوسف الصديق، وقصة أهل الكهف، وقصة الإسراء والمعراج ومنها القصص الاجتماعية والغرامية والبطولية ككتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، وقصص العذريين، وسيرة عنتر، وحمزة البلوان، وسواها ومنها القصص التاريخية التي تناولت سير الخلفاء والملوك والأمراء كما عرف العصر العباسي القصص الدخيلة المنقولة، نذكر منها كليلة ودمنة، وكتاب مزدك، وكتاب السندباد، وبعضاً من ألف ليلة وليلة، وأكثره خيالي خرافي يدور بعضه على ألسنة الحيوان.

وإلى جانب القصة ازدهر أدب الأقصوصة، وكتاب البخلاء للجاحظ خير مثال على هذا النوع من الأدب وقد امتاز الأدب القصصي العبسي بدقة الوصف والتصوير وبراعة الحوار، والقدرة على استنباط الحقائق وتصوير مرافق الحياة، وتسقط العجائب والغرائب، والكشف عن العقليات والعادات والتقاليد.
وفي العصر العباسي ظهر فن المقامة، وضعه بديع الزمان الهمذاني، ولقي كثيراً من الرواج في العصر العباسي وما بعده .. وهو سرد قصصي يتناول الأخلاق والعادات والأدب واللغة، ويمتاز بألأسلوبه المسجع وأغراقه في الصناعة وكثرة الزخارف والمحسنات المتنوعة .. وفضلاً عما ذكرنا اهتم النثر العباسي بتدوين العلوم على أنواعها وهذه العلوم كانت إما عربية إسلامية كعلوم الشريعة والفقه والتفسير والحديث والقراءات والكلام والنحو والصرف والبيان وغير ذلك، وإما أجنبية التأثير كالمنطق والفلسفة والرياضيات والطب والكيمياء والفلك وعلم النبات والحيوان وغير ذلك. بهذا حاولنا أن نلقي نظرة على الأدب العباسي، شعره ونثره، وأن توضح أهم ما تناوله من موضوعات وما امتاز به من خصائص عامة.




د.فالح العمره 29-09-2006 05:59 AM


الفنون والآثار والمباني والمدن
بدأت الخلافة العباسية قوية، واختار عبد الله [السفاح] بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس العراق مقراً ليكون قريباً من بلاد فارس صاحبة الفضل في تكوين الخلافة واتخذ مدينة الكوفة عاصمة له في أول الأمر ، ثم انتقل منها الى الهاشمية التي أنشأها بالقرب من الكوفة ثم جاء الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور (أخوه) وأسس مدينة بغداد، وهي كلمة فارسية الأصل ومعناها "عطية الله" وقد بدئ العمل بإنشائها سنة 541هـ ، وانتقل اليها المنصور في العام التالي وأسماها دار السلام ، ولكنها ظلت تعرف باسمها الفارسي .
وتقع بغداد قرب مدينة "طيسقون" عاصمة الدولة الساسانية والتي استولى عليها سنة 636م.
من أقدم الآثار المعمارية التي ما تزال باقية حتى الآن من بغداد القديمة القصر العباسي .. ومن المرجح أن يكون هذا القصر هو قصر التاج الذي وضع أساسه الخليفة المعتمد سنة 289هـ ، وأتمه الخليفة المكتفي .. ويقع القصر على الضفة الشرقية لنهر دجلة قرب القصر الحسني الذي كانت تقيم فيه بوران بنت الحسن بن سهل زوجة الخليفة المأمون .. ويصف ياقوت الحموي قصر التاج فيقول إن واجهته كان يتقدمها خمسة عقود وكل عقد يرتكز على عمودين من الرخام.
ويشغل القصر مساحة كبيرة ، وتتوسطه حديقة تحيطها الغرف المقبية ، وقاعات ذات قباب ، وكثير من الأروقة والدهاليز، وفي الجهة الجنوبية مجموعة من الغرف تعرف باسم غرف الحريم..
لما ضاقت بغداد القديمة بساكنيها امتدت المباني الى خارجها ، وخاصة على الضفة الشرقية لنهر دجلة ولذلك فقد بني سور آخر في القرن الخامس الهجري سنة 488هـ (1095م) يحيط ببغداد ، وما يزال هذا السور باقيا حتى اليوم .. وأهم أجزاء هذا السور باب الشرجة وباب المعظم .. ولما جدد السلاجقة هذا السور في القرن السابع الهجري بنوا بابين ، باب الطلسم الذي نسفته الحكومة التركية سنة 1917، وباب الوسطاني الذي رممته مديرية الآثار مؤخرا وحولته الى متحف حربي .
من مدن العراق المهمة مدينة الرقة التي فتحها العرب سنة 18هـ ثم أنشأ الخليفة المنصور مدينة جديدة تبعد عن القديمة نحو 300 قدم الى غربها ، وسماها "الرقيقة" ، ووضع فيها حامية حتى يؤمن حدود البلاد الشمالية ضد غزوات البيزنطيين . وفي وسط الرقيقة بنى المنصور مسجدها الجامع ، وكان عبارة عن مستطيل تحيطه الأروقة من جهته الأربعة ، وقد بني من الطوب اللبن (الطين) .. وقد تهدم المسجد ولم يبق منه الى مئذنته التي ترجع الى القرن السادس الهجري .

شيدت شمالي بغداد بأمر الخليفة المعتصم سنة221هـ ثاني عواصم الدولة العباسية في العراق واتخذها عاصمة للخلافة ، وخطط فيها القطائع لأصحاب الحرف والجنود والقواد وسائر أفراد الشعب .. وفي عصر الخليفة المتوكل ارتفع في وسط المدينة جامعه المشهور التي ما تزال مئذنته باقية وتعرف باسم "ملوية" .. وقد راعى الخلفاء في بناء مدينة سامراء أن تكون قطائع (أحياء) الجند يبعدون عن الأسواق وعن قطائع أصحاب الحرف المختلفة.

يعتبر الفن الإسلامي الفن الوحيد الذي اتخذ من الفن عنصرا زخرفيا مهما ، ولعل مرجع ذلك ما أصدره خلفاء الدولة الأموية من أوامر صارمة جعلت الكتابة على الطراز (النسيج والورق) أمرا ضروريا .. ولذلك تطور الخط العربي بسرعة واتخذ له أشكالا زخرفية متنوعة وأسماء فنية متعدده ، أقدمها الخط الكوفي الصلب ذو الزوايا ..

تعتبر المدرسة المستنصرية آخر مخلفات العصر العباسي المعمارية في العراق وقد عرفت بالمستنصرية نسبة الى بانيها المستنصر بالله الذي تولى الخلافة من 623-640 . والد المستعصم آخر العباسيين في [بغداد][640-656هـ] وبقتله ودخول التتار بغداد سقطت الخلافة العباسية .. وقد أنفق على بنائها زهاء 700 ألف دينار ذهباً ، وأوقف لها نحواً من مليون دينار يدر عليها دخلا سنويا قدره 70 ألف دينار.
والمدرسة مستطيلة الشكل يتوسطها صحن كبير ، وفيها أربعة إيوانات في أضلاعها الأربعة ومن ملحقات المدرسة المستنصرية دار مجاورة تقع في شمالها ، تتكون من إيوان كبير وعدة إيوانات أخرى ، منها دار الحديث الشريف ودار القرآن وكان يدرس في هذه الدور علم الطب والرياضيات ، وقد استمر التدريس فيها حتى القرن العاشر الهجري.

وكانت الكتابة تزين مدخل المدرسة المستنصرية الأصلي، فهي من الآجر وبالخط الثلث على أرضية نباتية مزهرة غاية في الدقة والإبداع ونقرأ في الصف الثاني : " التي أعدها الذين آمنوا وعملوا الصالحات " وفي السطر الثالث:"وأمر أن تجعل مدرسة للفقهاء على المذاهب الأربعة " ، وفي السطر الرابع:"سيدنا ومولانا إمام المسلمين وخليفة رب العالمين " ، وفي السطر الخامس :"أبو جعفر المنصور المستنصر بالله أمير المؤمنين".
الأخيضر
من القصور المهمة التي بنيت في العصر العباسي قصر الأخيضر ، وهو يقع في الصحراء جنوبي غربي بغداد ، كما يبعد عن كربلاء نحو 45 كلم .. ويبدو في تخطيط هذا القصر التأثر الواضح بالعمارة الساسانية المتمثلة في إيوان كسرى الذي كان مايزال سليم في العصر العباسي .. كما يبدو في قصر الأخيضر التأر بالأساليب المعمارية في قصور المنابرة بالحيرة ويتكون قصر الأخيضر من مستطيل يبلغ طوله 175م وعرضه 170م ،وفي منتصف كل ضلع بوابة كبيرة ، وفي أركان المستطيل أربعة أبراج ، وبين كل برجين كبيرين عشرة أبراج صغيرة ، كما يحيط البوابة برجان كبيران ، لذلك فإنه يبدو من الخارج كأنه قلعة والقصر مبني بالحجر الجيري والجبس للجدران الخارجية ، أما الأقبية والقباب فهي من الطوب المحروق وعندما نمر من البوابة الرئيسية في الواجهة الشمالية ، فإننا ندخل دهليزا مغطى بقبو ويؤدي الى قاعة العرض وهذه القاعة مغطاة بسقف من الطوب المحروق ، أما جدرانها فقد زخرفت بحنيات ترتكز على أعمدة مبنية هي أيضا من الطوب وهذه الأعمدة ، فضلا عن دورها في زخرفة القاعة وتجميله ، تخفف من قوة الضغط على الجدران ..

مدينة الموصل :

تعد الموصل من مدن العراق المهمة ، فقد كانت في العصر الأموي قاعدة للجيوش العربية التي توغلت في أذربيجان وأرمينيا وكذلك ازدهرت الموصل ثانية في القرن الرابع الهجري ، في عهد الحمدانيين الذين اتخذوها عاصمة لهم ، كما استمرت عاصمة حكم الى الأتابكة ، ولعل من أهم آثارها الباقية مئذنة مسجدها الجامع والتي تعرف باسم "الحدباء".

المنسوجات العباسية :

كانت المنسوجات الصوفية والحريرية من أهم الصادرات في العصر العباسي ، وذلك لكثرة عدد المصانع .. وتدل أسماء بعض أنواع الأقمشة التي ما تزال باقية حتى اليوم على مدى انتشار المنسوجات العربية وجودتها .. وبعض هذه الأسماء استعملها الأوروبيون في العصور الوسطى وبقيت حتى اليوم مثل نسيج "موسلين" نسبة الى مدينة الموصل.

التحف الخشبية :

كانت صناعة التحف الخشبية من الأعمال البارزة في تاريخ الفنون الإسلامية وقد تأثرت الى حد كبير بالفنون الساسانية والبيزنطية والهندية ثم تطورت في العصر العباسي حتى أصبح للفن الإسلامي أساليبه الخاصة في هذا الميدان.

المدن العباسية :

أراد العباسيون أن يتخذوا من العراق موئلاً لخلافتهم، فاتخذ عبدالله السفاح "الهاشمية" مقراً للدولة .. ولم يلبث أبو جعفر المنصور أن اختار قرية صغيرة على الضفة الغربية من دجلة لتكون حاضرة الخلافة، وهي بغداد .. ويروي بعض المؤرخين أن كلمة "بغداد" فارسية الأصل، وهي مكونة من كلمتين: "بلغ" ومعناها بالفارسية بستان و"داد" بمعنى يعطي (أي الله) .. وقد سماها المنصور مدينة السلام أو دار السلام، وفي هذا الإسم إشارة إلى الجنة، وقد اقتصر استعمال هذا الإسم في الشؤون الرسمية، وبه ضربت السكة، ولكن الناس عامة كانوا يفضلون اسم "بغداد".

تخطيط المدينة :

شرع المنصور في بناء حاضرته الجديدة في موضع بغداد القديمة، وأمر باحضار المهندسين والبنائين، والفعلة، والصناع من النجارين، والحدادين، والحفارين، من الشام والموصل والكوفة وواسط وبلاد الديلم، حتى بلغ عددهم مائة ألف على ما ذكره المؤرخون .. وقد وضع المنصور حجر الأساس في الوقت الذي اختاره المنجمون، وكان الطالع في الشمس، وهي في القوس، فأخبره المنجمون بما تدل عليه النجوم من طول بقائها، وكثرة عمارتها، واحتياج الناس إلى ما فيها .. واحتفل الخليفة العباسي ببدء العمل احتفالاً كبيراً حضره رجال الدولة من الأمراء والوزراء والعلماء والقادة والأعيان .. وقد روى الطبري وغيره أن المنصور لما عزم على بناء بغداد أحب أن يعرف رسمها فأمر أن تخط طريق المدينة بالرماد ،ثم دخل من موضع كل باب ، ومر في طرقات المدينة ورجالها وهي مخططة بالرماد .. ثم أمر أن يوضع على تلك الخطوط حب القطن ، ويصب عليه النفط وتوقد فيه النار ، فنظر والنار تشتعل ، وبذلك أمكنه الوقوف على رسم مدينته الجديدة .. وقد أمر بحفر الأساس مكان الخطوط ، وكان ذلك في سنة 541هـ .. جعل المنصور مدينة بغداد مستديرة الشكل ، وبنى داره وجامعه في وسطها ، حتى لا يكون أحد أقرب اليه من الآخر وهذا نوع من البناء جديد عند المسلمين ، ويبدو أنهم أخذوه عن الفرس ولم يجعل المنصور حول القصر والجامع بناً إلا الدار التي بناها للحرس من ناحية باب الشام ، وسقيفة كبيرة ممتده على عمد مبنية بالآجر والجص ، خص قسما منها لصاحب الشرطة وقسما آخر لصاحب الحرس. واتخذ حول ذلك قصور الأمراء ، ورجال الدين ، ودواوين الحكومة ، ومطبخ العامة .. وأخذ البناءون يبنون حول الدواوين ودور الأهالي تتخللها الأسواق ،وجعل للمدينة شوارع رئيسية أربعة تتفرع منها شوارع أخرى ... وأمر المنصور أن يبنى للمدينة سوران : سور داخلي عرضه من أسفله خمسون ذراعا ومن أعلاه عشرون ذراعا ، وسور خارجي ارتفاعه ثلاثون ذراعا وعرض كعرض السور الداخلي ، وليس عليه أبراج وحوله من الخارج خندق عميق تجري فيه الماء من القناة التي تأخذ من نهر كرفايا ، وحافتا الخندق جعلتا من الجص والآجر ، وفوق الخندق 361 برجاً .. سمك كل منها خمس أذرع ، وكان بالسور الخارجي أربعة أبواب .

أبواب السور الخارجي :

هي باب الكوفة في الجنوب الغربي ، وباب البصرة في الجنوب الشرقي ، وباب خرسان في الشمال الشرقي وكان على نهر دجلة ويتصل بقنطرة السفن ، كما عرف هذا الباب باسم باب الدولة لإقبال قوة الدولة العباسية من خرسان ، وباب الشام في الشمال الغربي ، وكان قطر مدينة بغداد من باب خرسان الى باب الكوفة 2200 ذراعا ، ومن باب البصرة الى باب الشام كذلك . وبين السورين ستون ذراعا ، وتعرف المسافة بين السورين "الفيصل" وكان وزن كل لبنة جعفرية (نسبة الى أبي جعفر المنصور) مما استعمل في البناء 117 رطلاً .. وقد ذكر اليعقوبي أن وزن اللبنة المربعة التي بلغ طولها ذراعا وعرضها ذراعا مائتا رطل ، واللبنة المنصفة التي يبلغ طولها وعرضها مائة رطل .. وذكر صاحب كتاب "مناقب بغداد" أن الطوب المستعمل هو اللبن والآجر .. وكان بين السورين دهاليز تصل السور الخارجي بالداخلي ، فإذا دخل أحدهم من باب خرسان مثلا عطف الى يساره في دهليز طليت جدرانه بالجص الأبيض ، وهكذا الحال مع سائر الأبواب.

قصر الذهب :

بنى المنصور قصره المعروف باسم "قصر الذهب" في وسط بغداد ، وبنى المسجد الجامع قبالته ، وقد بلغت مساحة القصر 160000 ذراع مربع ، وساحة الجامع 40000 ذراع مربع ويعتبر قصر الذهب والجامع مركز الدائرة ، ومن هذا المركز تفرعت أربعة شوارع رئيسية متجهة نحو أبواب الأسوار .. وقد أقيمت على جانبي هذه الشوارع الأبنية العالية وجاءت منسقة ومتشابهة في الشكل وأسلوب البناء والجدير بالملاحظة أنه إذا وقف الإنسان في نهاية أحد شوارع بغداد يمكنه أن يرى قصر الخلافة ، على أن بغداد سرعان ما ازدحمت بالعلماء والتجار والصناع الذين أقبلوا عليها من كل حدب وصوب، فلم يرى بداً من الإقامة خارجها في مكان طيب الهواء ،فبنى في عام 157هـ قصر الخلد .

القطائع والأرباض :

بعدما فرغ المنصور من بناء مدينته ، أقطع الأعيان قطائع من الأرض ، رغبة في تخفيف الضغط على بغداد من جهة ، ومكافأة لهم على ما قدموه من خدمات ، وسرعان ما عمرت هذه القطائع وازدحمت بالسكان .. وقد عرفت كل قطعة باسم الرجل أو المجموعة التي تسكنها .. وجعل المنصور أرباض بغداد (ضواحيها) أربعة أقسام ، وعين لكل ربض مسؤولاً عهد إليه ، عدا مهمة الإشراف، أن يقيم سوقاً محلية تفي بحاجة السكان ، كما أمر أن تخط الشوارع والدروب وتنتظم حولها المباني ، وأن يسمى الشوارع أو الدروب باسم القائد أو الرجل النابه الذي يقيم فيه .. وسرعان ما عمرت الأرباض وكثرت فيها المساجد والحمامات.

سكك بغداد ودروبها :

أسهب المؤرخون في الكلام على سكك بغداد (أزقتها) ودروبها فنجد سكة الشرطة ، وسكة المطبق ، وسكة الربيع وذكر المؤرخون أمثال اليعقوبي أن عدد السكك والدروب بلغ ستة آلاف ، وأن عدد الحمامات بلغ عشرة آلاف، والمساجد ثلاثين ألفاً .. ويروي أن أحد بطارقة الروم وفد على المنصور ، فأمر الخليفة حاجبه الربيع بن يونس أن يطوف به المدينة ويصعده الأسوار ، ويريه قباب الأبواب والطاقات ليرى ما عليه حاضرة الخلافة من الأبهة والعمران .. وبعد انتهاء جولته سأله المنصور عن رأيه في مدينته فقال: "يا أمير المؤمنين، انك بنيت بناء لم يبنه أحد قبلك وفيه ثلاثة عيوب .. أما أول عيب فبعده عن الماء ولابد للناس من الماء لشفاههم، أما العيب الثاني فإن العين خضرة وتشتاق الى الخضرة وليس في بنائك بستان، وأما العيب الثالث فإن رعيتك في بنائك، وإذا كانت الرعية مع الملك فشا سره".
وما أن خرج البطريق حتى أمر المنصور بمد قناتين من دجله ، وغرس العباسية ، ونقل الناس الى الكرخ.

بناء الكرخ :

قام ببناء الكرخ الربيع بن يونس من مال المنصور الخاص ، ويقع هذا الحي غربي بغداد،وحولت الى الكرخ أسواق المدينة .. وعمد الخليفة المنصور بتصميمها على قطعة من قماش عين عليها مواضع الأسواق، كما عين موضع المسجد الجامع .وقد أفرد لكل حرفة سوقاً خاصة ، ثم أخذ حي الكرخ في الإتساع حتى اتصل بمدينة بغداد.

الرصافة :

حقق بناء بغداد الغرض الذي كان يرمي اليه المنصور ، من منع وصول العدو اليه غير أنه لم يحل دون ما قد يحدث اذا ثار عليه الجند .. الواقع أن الخليفة لم يكن آمناً على نفسه باقامته في بغداد، اذ ثار الجند وحاربوه على أبواب بغداد .. ولما أخمدت ثورتهم أمر ببناء الرصافة.

اتخذت الرصافة في الأصل ثكنات للجيش وسميت: رصافة بغداد ، وبغداد الشرقية ، لوقوعها في الجهة الشرقية من دجلة والمقابلة لبغداد وبنى لها المنصور سوراً وحفر حولها خندقاً ، وجعل فيها ميداناً فسيحاً ، ومسجداً وبستاناً ، وأجرى اليها الماء ، وقد تم بناؤها في خلافة ابنه المهدي 159هـ .. وسرعان ما عمرت الرصافة حتى قاربت في الإتساع فظهرت فيها الحدائق والمتنزهات والميادين الواسعة والمباني الفخمة ، حتى بدت بغداد بجانبها كأنها البلد العتيق تجتمع في جزء من محاسن المدينة التي أحدثت في جواره.

اتساع بغداد :

بلغ اتساع بغداد والرصافة والكرخ اتساعا عظيما ، حتى غدت أشبه بمدن صغيرة متلاصقة وأصبحت بغداد من مدائن الشرق في ذلك العصر ، وبلغ عدد سكانها مليوني نسمة .. وازدهرت فيها الفنون المتنوعة ، وانتشرت منها الحضارة الى سائر أنحاء العالم .. وقد عني المنصور بتنظيف مدينته ، فكانت الأزقة والشوارع والساحات تكنس ويحمل التراب خارج المدينة .. وكانت المياه تؤمن على هور البغال ، وفيما بعد أمر بإيصال الماء الى قصره وأحياء المدينه.

نفقات بناء بغداد :

تكلف بناء بغداد أموالاً طائلة إذ أن المنصور عمل على تحصينها تحصيناً منيعاً وبنى فيها القصور الفخمة ، حتى تحاكي حواضر العالم الكبرى جمالاً وقوة ، وخاصة القسطنطينية حاضرة الروم .. وقد بلغت نفقات المدينة وما اليها من أسوار وأبواب ، والقصر ، والمسجد الجامع ، والأسواق ، والقباب ، والخنادق وغيرها 81 مليون دينار من الذهب ، وعلى رواية الطبري .. وهكذا تأسست مدينة بغداد في عهد أبي جعفر المنصور ، وقد حافظت على رونقها حتى سنة 656هـ حين خربها التتار بقيادة هولاكو..




موقع الشامسي


الوقت في المنتدى حسب توقيت جرينتش +3 الساعة الآن 09:08 PM .

مجالس العجمان الرسمي