أبو الطيب المتنبي في الشعر العربي المعاصر ( دارسة )
أبو الطيب المتنبي في الشعر العربي المعاصر - ثائـر زيـن الديـن - دراسة - من منشورات اتحاد الكتاب العرب 1999
المــدخـــل لعلَّ من نافلة القول اليوم محاولة إثبات العلاقة بين الشاعر العربي المعاصر وتراث أمّته؟ فقد قام بهذه المهمّة عددٌ من الباحثين (1)، ممّن تلمّسوا مظاهرَ حُضور التُراث العربي في قصائد شعرائنا المعاصرين، خاصة شعراء الحداثة منهم، فأشاروا إلى المصادر التُراثية لهؤلاء الشعراء وهي: -التراث الديني: القرآن الكريم، الكتاب المقدّس، الأحاديث الشريفةِ وغيرها. -التاريخ العربي (الإسلامي وماقبل الإسلامي): الأحداث التاريخيّة، الشخصيّات، أسماء المدن وغيرها. -التراث الشعبي: الحكايات، التقاليد الشعبيّة، الأغنيات والمواويل الشعبية، ألعاب الأطفال -التراث الأدبي: شعراً ونثراً. -الموروث الأسطوري للمنطقة العربيّة: فرعوني، سوري، بابلي وآشوري وسومري، جاهلي، وغيرها. وقد رصَدَ بعض هؤلاء الباحثين (2) طرق وتقنيات استحضار هذا التُراث، حتى وصلَ الأمرُ بأحدهم لأن يقول: "إن الشعر المعاصر عنيَ بالتراث- دعك الآن من ثورتهِ على أشكالِه وقوالبه ولغتهِ ومجازاته- فلكل عصر مفاهيمه وطرائقه في التعبير- كما لم يعنَ بهِ شعرٌ من قبل، لقد استكشف آفاقه وطاقته وفجّر من خلال النص هذه الآفاق والطاقات، وأعادهُ إلى ضمير العصر حيّاً نابضاً، يتجاوب أو ينفعل ويفعل بهِ الإنسان"(3). وهو محقٌ فقد وصلَ الشعر العربي المعاصر إلى هذا الأمر بعد سنوات طويلةٍ من التطور، وبجهدِ مجموعةٍ هامةٍ موهوبةٍ من الشعراء إبداعاً ونقداً، بالإضافة لتظافر جهود هؤلاء وتفاعلها مع بعض المشاريع الفكريّة والنقدية لعددٍ هامٍ من المفكرين، واشتداد حركةِ الترجمة والمثاقفةِ وحوار الحضاراتِ، في إطارِ تغيّرات تاريخية وسياسيّة واجتماعيّة، مرّت بها المنطقة العربيّة منذُ بدايةِ هذا القرن حتى الآن. وسيبدو لنا هذا الأمر جليّاً من خلالِ متابعة الأعمال الإبداعيّة والنقديّة لمجموعة من شعرائنا المعاصرين حيثُ سنرى أن التراث لدى هؤلاء "ليسَ تركةً جامدة، ولكنهُ حياة متجدّدة، والماضي لا يحيا إلا في الحاضر، وكل قصيدة لا تستطيع أن تمد عمرها إلى المستقبل لا تستحق أن تكون تراثاً، ولكل شاعرٍ أن يتخيّر تراثهُ" (4). وسنرى أنهم رأوا في التراث نهراً يتجهُ من الماضي نحو المستقبل وهو بذلك "يكتسب أصالةً جديدة في مساره، مُميّزاً بين دلالاتهِ الثابتة التي تمثل الانقطاع والدلالات المتغيّرة التي تكفل التواصل" (5). وسنسمع أحدهم يُعلن "حاولنا أن نحدث ثورةً تجعل الشعر الحديث ينفصلُ عن التراث الشعري العربي، بقدرِ ما يتصل به، وكان كل منّا يحاول الانطلاق مما يراه عناصر حيّة في التراث، وأعتقد أن كل نهضة شعرية، في أمةٍ تحملُ تراثاً شعرياً عريقاً مُتراكماً، لابُدَّ لها من العودة إلى الينابيع الأصلية التي كانت مصدر كل نهضة في الماضي، وهذهِ العودة تختلفُ عَمّا يُدعى بالسلفية الشعرية، وذلك أنها ليست عودة لإحياء الأنماط والنماذج التي استقرّت في قوالب جامدة بل إلى الينابيع التي تفجّرت فيها روح حيويّة تولدُ أنماطاً ونماذج، ولهذا كان في شعرنا مايشبه الاستلهام لروح الفطرة في الشعر العربي" (6). حتى أولئك الشعراء الذين يقولون: "العربي لا يحب المغامرة، لا يتجرأ. التراث العربي في الأخير الأخير تراث جثث. نحن نقدّس الجثة. عندما يولد لنا ولد لا نهتم بهِ، كما نهتم بالجثّة. إننا لا نعرفُ الدفن" (7). نراهم يعلنونَ بعدَ قليل أن هناكَ جزءاً حيّاً هاماً من تراثنا "والحيُّ لا يُدفن" (8). لقد فهمَ شُعراؤنا كما يعبّر بلند حيدري أن الحداثة الأصيلة إنما "تنمو وتخرج من التراث، وتضيف إليه، كما خرجت الانطباعيّة من الرومانسيّة، وكما خرجتِ السُرياليّة من الرومانسيّة أيضاً... " (9). ولا يفوتُ أدونيس أن يؤكد أن "المجددين لم يلحّوا على التجديد، إلا لأنّهم أجادوا في فهم أسلافهم" ثُمّ يضيفُ بعد ذلك: "الواقع أننا نفهم آثارنا القديمة أكثر من أي وقتٍ مضى، والصلةُ اليوم بيننا وبين أسلافنا جوهريّة لا شكليّة، وعميقة لا سطحيّة" (10). ويؤكّدُ أمل دنقل "أن العودة إلى التراث هي جزء هام من تثوير القصيدة العربيّة، وهذا الاستلهام للتراث يلعبُ دوراً هاماً في الحفاظ على انتماء الشعب لتاريخه. ولكن يجب التنبه إلى أن العودة للتراث، لا يجوز أن تعني السكن فيه، بل اختراق الماضي كي نصل إلى الحاضر استشرافاً للمستقبل" (11). ويقولُ حسب الشيخ جعفر: " في أي شعرٍ عالمي، لدى أية أمّة، الأساس هو التراث، لم نجد يوماً ما شاعراً مهمّاً جاء منقطعاً عن جذورهِ أبداً. أنتَ تستطيع أن تلاحظ هذا جيداً في إضافة السيّاب، نازك. عبد الصبور. لم تجئْ هذهِ الإضافة إلا عبرَ عناقهم الحار مع التراث الشعري العربي" (12). ونستطيع أن نستمرَ طويلاً في تقديم آراء نقديّة ونصوص إبداعيّة لشعراء مُعاصرين من أجيال مختلفة تبيّن أنهم يمتلكون مواقف ناضجة واعية من التراث مدفوعينَ بمجموعة من الدوافع الفكرية والاجتماعيّة والنفسيّة والفنيّة، التي تآزرت و استطاعت أن تجعل واحدهم يتعامل مع تراث أمته كينبوع غني للقيم الروحيّة الإنسانية، القادرة على رفد الشعر بمزيدٍ من الحيويّة والأصالة، وتخليصه من العفوية الساذجة، والارتقاء بهِ فنياً ووجدانياً وفكرياً، لكن هذه الدراسة لا تسعى -كما ألمحتُ أعلاه- إلى إثبات علاقة قائمة أصلاً بين الشاعِر العربي المعاصر وتراث شعبه؛ بقدرِ ماتطمح إلى إضاءة جانب هام من هذا العنوان العريض، وهو مسألة استدعاء الشخصيّات التراثية في القصيدة؛ وذلك من خلالِ استدعاء شخصيّة واحدة على غايةٍ من الأهميّة في تاريخنا الأدبي هي شخصيّة أبي الطيّب المتنبي. لماذا اخترتُ هذا الموضوع للدراسة؟ لأنني أولاً أراهُ جديداً، ولم يعطَ حقّهُ من البحث خاصة في الجانب التطبيقي. وثانياً: لأن مسألة استلهام الشخصيات التراثية هي أحد الأشكال الأكثر رقيّاً من الناحيّة الفنيّة للتعامل مع التراثُ؛ وإن كانت قد بدأت على ما أعتقد بسبب تضيق الخناق على حُريّة التعبير في الوطن العربي؛ بالإضافة للدافع القومي الكامن وراء استحضار الكثير من شعرائنا لتلك الشخصيات كرد فعلٍ على ما تعرّضَ ويتعرّض له الوطن العربي من احتلالٍ وتقسيم ونهبٍ لثرواتهِ وما إلى ذلك... مع أننا لا نستطيع أن نغفَل تأثير الشعر الأوربّي على شُعرائنا في هذا الباب خاصةً الروّاد؛ حيثُ راحوا يستخدمون الأساطير كشكلٍ من أشكال التعبير، فاستخدموا: سيزيف وأوليس وبرومثيوس وأوديب وأورفيوس وغيرها من رموز الميثولوجيا الأوربيّة، وشيئاً فشيئاً حَلّت مجموعة من رموزنا التُراثية (إسلاميّة ومسيحيّة وسواها) مكان هذه الرموز في قصائد الجيل الثاني ومن تلاه؛ فأصبحنا نرى: علي بن أبي طالب، والحسين، مريم، إلعازر، المسيح، الحلاّج، زرقاء اليمامة، المتنبي، كليب، مهيار، الحجّاج، عثمان، الرشيد، صقر قريش، وغيرها من الرموز. حتى أن قارئ الشعر بدأ يُلاحظ أن أكثر الشعراء رغبةً في خلق رموزهم الخاصة بهم دون نبش التاريخ والتُراث، كانوا في لحظات معيّنة و تحت تأثير حالاتٍ وجدانيةٍ واجتماعيةٍ وسياسية مختلفة يجدونَ الرمز التُراثي أو الشخصيّة التراثية يتسللانِ إليهم ويأخذان بأيديهم (13) نحوَ غاياتهم. أما لماذا اخترتُ المتنبي دون سواه؟ فلسببين أحدهما موضوعي يتمثّلُ بأهميّة المتنبي كشاعرٍ وكشخصيّة محيّرةٍ فريدةٍ في تاريخنا الأدبي، ولأهميّة المرحلة التاريخيّة التي عاش فيها؛ بالإضافة لحضورهِ الكثيف في قصائدنا منذُ الثلثِ الثاني من هذا القرنِ حتى الآن. والسبب الثاني ذاتي: فقد كتبتُ ذات يوم قصيدة (14) استلهمتُ فيها هذه الشخصيّة، وكنتُ أظن أن من فعلوا ذلكَ قبلي؛ ليسوا بتلك الكثرة وعلى رأسهم: البياتي والبردوني وأمل دنقل ومحمود درويش، ولكنني وبعد أن نشرتُ قصيدتي بدأتُ أنتبه؛ أن عدداً كبيراً من الشعراء تعامَلَ مع المتنبي، فصرتُ أبحثُ عن هذهِ القصائد وأحاول أن أعللَ نفسي بأنني لمستُ جانباً لم يلمسهُ الآخرون، حتى كانت هذهِ الدراسة المتواضعة. |
هوامش المدخل:
1- من هؤلاء الباحثين عز الدين اسماعيل في كتابهِ "الشعر العربي المعاصر- قضاياهُ وظواهره الفنية والمعنوية"، انظر الفصل الذي عنوانه "الشعر بين العصرية والتراث". الصفحات 9-40. جامعة البعث- حمص 1994، وإحسان عباس في مقاله "الموقف من التراث"؛ انظر كتابه "اتجاهات الشعر العربي المعاصر"، الصفحات 137-173، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 1978، وأحمد بسام ساعي في مقالة "القصيدة والرمز". من كتابه "حركة الشعر الحديث في سوريا- من خلال اعلامه"، دار المأمون للتراث، دمشق 1978- الصفحات 302-377. ونعيم اليافي في مقاله "الشعر العربي الحديث والتراث- بين الهروب والاستدعاء" من كتابه "أوهاج الحداثة- دراسة في القصيدة العربية الحديثة"، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1993، الصفحات 47-93. 2-من أهم هؤلاء علي عشري زايد، انظر: توظيف التراث العربي في شعرنا المعاصر، مجلة الفصول، القاهرة، المجلد 1، العدد 1، 1980 الصفحات 203-219. 3-نعيم اليافي، أوهاج الحداثة، مصدر سابق، ص81. 4- صلاح عبد الصبور، حياتي في الشعر، دار العودة، بيروت، 1977، ص 208. 5- عبد الوهاب البياتي، تجربتي الشعرية، دار العودة، بيروت، 1968، ص186. 6-محيي الدين صبحي، مقابلة مع خليل حاوي، مجلّة المعرفة، العدد 122، عام 1973، ص 97/ نقلاً عن نعيم اليافي، أوهاج الحداثة، مصدر سابق. 7-جهاد فاضل، أسئلة الشعر، لقاء مع يوسف الخال، الدار العربيّة للكتاب، مغفل التاريخ، ص379. 8-المصدر السابق، ص379. 9-المصدر السابق، لقاء مع بلند الحيدري، ص58. 10- أدونيس، مقدّمة للشعر العربي، دار العودة، بيروت ط1، 1971، ص136. 11-المصدر (7)، لقاء مع أمل دنقل، ص43. 12-المصدر السابق، لقاء مع حسب الشيخ جعفر، ص75. 13- انظر على سبيل المثال لا الحصر قصيدة نزيه أبي عفش "البرزخ" في كتابهِ الأخير "مايشبه كلاماً أخيراً"، الصادر عن دار المدى، دمشق، 1997، ص59-70، وقصيدة فؤاد كحل "مرثية الروح"، في ديوانٍ يحملُ العنوان نفسه، صادر عن اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1992، ص27-42. حيث استحضر الأول امرأ القيس، بينما استحضر الثاني مالك بن الريب. 14-انظر قصيدتي "بين المتنبي وضميره"، مجلّة العربي، العدد 439، يونيو 1995، الكويت. ص154. |
أولاً -لـماذا المتنـــــبي؟
يلفتُ الانتباه هذا الحضور الكثيفُ لشخصيّة المتنبي، في أعمالِ عددٍ كبير من شعراء العربيّة المعاصرين؛ وهو حضورٌ متعددٌ ومتنوّع، ويختلفُ من شاعرٍ لآخر؛ حتى أن الدارس ليجد صعوبةً في رصدِ جوانبهِ، إذا انبرى لذلك. إن المتنبي الذي ظهَرَ في القرن الرابع الهجري، بشخصيتهِ الطاغية الجبّارة، فملأَ الدنيا، وشغل الناس، وكانَ موضوع حركةٍ نقديةٍ جديدةٍ في حينها، يعودُ إلينا بصور وأشكال جديدة؛ ولو شئنا التأنّي في النظر إلى هذا الحضور الجديد، لربطناهُ بنظرةِ الشعراء المعاصرين إلى تراثهم، وطرقِ تعاملهم معه، وموقفهم منهُ بشكلٍ عام؛ بينَ شاعرٍ ينطلقُ من موقف المحافظةِ على التراث والاعتصام بهِ، والهروب إليه، وآخر يرفضه ويسعى إلى القطيعة معه، وثالث يستلهمُهُ؛ فيستدعي مايخدمُهُ فنياً وفكرياً فيصبحُ لديهِ روحاً وطاقةً جديدةً، ولا يتاحُ ذلك للشاعرِ إلا إذا واجهَ تراثَهُ مواجهةً شجاعة فألقاهُ عن ظهرهِ، وتأمّلهُ وأخذَ منهُ مايصلحُ لمستقبل الأيام. (1). لعلَّ من حقنا أن نتساءل في البداية: لماذا يختارُ شعراءٌ كالأخطل الصغير وعبد الله البردوني ومحمود درويش وأمل دنقل وسليمان العيسى وفايز خضور وعبد الوهاب البياتي وآخرونَ وآخرون شخصيّة المتنبي من بين ذلك الكم الهائل من الشخصيات التُراثية الهامة لتكونَ في قصائدهم صورةً أو رمزاً أو قناعاً أو سوى ذلك؟! الإجابة ليست واحدة على الإطلاق، إنها مختلفة كاختلافِ هؤلاء الشعراء، ولو حاولنا أن نجدَ شيئاً منها في بعض ماقالوه، أو كتبوه، لكان لنا ذلك؛ ها هو محمود درويش -على سبيل المثال- يقولُ في حوار معهُ: "كتبتُ حوالي المئة قصيدة، ثمّ انتبهتُ إلى أن المتنبي قال: (على قلقٍ كأن الريحَ تحتي). أنا كل ما أردتُ أن أقولَهُ، قالَهُ هو في نصف بيت (على قلقٍ كأن الريحَ تحتي). المتنبي ليسَ فقط مخلصاً لكل ما سبقهُ في الشعر العربي، وإنّما هو مؤسّس لكل الحداثة الشعرية التي تلت؛ ونحنُ نسبَحُ في فضاء المتنبي" (2). أما أدونيس فيكتب: "المتنبي يفرزُ نفسَهُ ويعرِضُها عالماً فسيحاً من اليقين والثقة والتعالي في وجه الآخرين- وضدّهم، وهو في ثنايا شعره كلّهُ يحتضنُ ذاتَهُ ويناجيها ويحاورها بنبرةٍ من العبادة. إن شعرَهُ كتابٌ في عظمةِ الشخص الإنسانيّة؛ يسيّرُهُ الجدلُ بين اللاّنهايةِ والمحدوديّة: الطموحُ الذي لا يعرفُ غايةً ينتهي عندها... لقد خلَقَ المتنبي طبيعةً كاملةً من الكلماتِ، وفي مستوى طموحِهِ: ترجُّ، تتقدّمُ، تجرفُ، تهجُمُ، تقهرُ، تتخطّى..." (3). أمّا البيّاتي فقد قال في معرضِ حديثِهِ عن استحضار الشخصياتِ التُراثية: "إن شخصيّة الحلاّج والمعّري والخيّام وديك الجن وطرفة بن العبد وأبي فراس الحمداني والمتنبي والاسكندر المقدوني وخيفارا... وغيرها، التي اخترتُها، حاولتُ أن أقدّمَ البطل النموذجي في عصرنا هذا، وفي كل العصور (في موقفِهِ النهائي)، وأن أعبّرَ عن النهائي واللاّنهائي، وعن المحنةِ الاجتماعيّة والكونيّة التي واجهها هؤلاء، وعن التجاوز والتخطّي لما هو كائن، إلى ما سيكون، ولذلك اكتسبتْ هذهِ القصائد هذا البعدَ الجديد، الذي يجعلها تولدُ من جديد، كلّما تقادمَ بها العهد" (4). ويلخّصُ أمل دنقل موقفهُ ليسَ فقط من استدعاء الشخصيات التراثية بما فيها المتنبي، بل من استلهام التراث بشكلٍ عامٍ فيقول: "إن استلهام التراث في رأيي ليسَ فقط ضرورة فنيّة، ولكنهُ تربيّة للوجدان القومي؛ فإنني عندما أستخدم أو ألقي الضوء على التُراث العربي والإسلامي الذي يشمل منطقة الشرق الأوسط بكاملها(1)، فإنني أُنمّي في المُتلقّي روح الانتماء القومي، وروح الإحساس بأنه ينتمي إلى حضارة عريقة، لا تقلُّ إن لم تزدْ عن الحضارات اليونانيّة والرومانيّة"(5). شخصيّة المتنبي واحدة من مئات الشخصيات في تُراثنا العربي، وهي كلها مطروحة أمام الشعراء لاستحضارها والتحدّث من خلالها؛ فما الذي يُغريهم بهذهِ الشخصيّة أو تلك؟ إن ما يغريهم -من وجةِ نظري- هو مقدار ماتحملُهُ هذهِ الشخصيّة من سمات القدرةِ على التجدّدِ والحداثة، وتلك القيم الحضاريّة التي يمكن أن تشي بها، بالإضافةِ لقدرتها على التقاطع مع زمن آخر غير زمانها؛ وهنا يأتي دور الشاعر وقدرته على الاختيار؛ وموهبته في مُلامسةِ السمات المميّزة والدالة في الشخصيّة التُراثية؛ وهذا لا يعني أن تكون الشخصيّة -في الأساس- إيجابيّة فما الذي يمنع شاعِراً مُبدعاً من أخذِ شخصيّة عرقوب مثلاً أو أبي رغال أو قابيل أو غيرها؛ ألم يستحضر أمل دنقل شخصية كُليب وجعَلَ منهُ رمزاً للمجد العربي القتيل أو للأرضِ المسلوبة (6) - على حد تعبيره- رغم أننا قد نختلف معه بشأنها، حتى شخصيّة الزير؛ هل كانت في سياقها التاريخي التُراثي مُلائمة لدورها في قصيدة الشاعِر؟ الحقيقة لا!، لكن موهبة أمل دنقل ألبست هاتين الشخصيتين لبوساً مقنعاً وجميلاً، وخرجت بهما عن الحكايةِ التُراثيةِ نسبيّاً وبنت لهما ولبقيّة الشخوص عالماً فنيّاً موازياً لعالم الحكاية. إن بعض الشعراء الذين استحضروا شخصيّة المُتنبي -بغضّ النظر عن مدى النجاح الذي أصابوه، أو التقنية التي استخدموها- أرادوا أن يتحدّثوا بصوتِهِ ولسانِهِ، فساعَدَهم ذلك على تقديم تجاربهم المختلفة في الطموح والانكسار والغربة والنفي وغيرها، من خلالِ هذهِ الشخصيّة النادرة والمتعدّدة الجوانب. ولو سمحتُ لنفسي أن أتقصّى أسبابَ استدعاء شخصيّة المتنبي أو استلهامِها في قصائدنا المعاصرة؛ انطلاقاً من النماذج التي بين يديّ لوجدتُ صعوبةً كبيرةً في ذلك؛ والسبب هو أنكَ -بشكلٍ عام- تكادُ تجدُ أن لكلِ شاعِرٍ أسبابَهُ ودوافِعَهُ الذاتية والموضوعيّة؛ وعليهِ فسأُحاولُ أدناه، أن أرصَدَ أهم الأسباب الموضوعيّة تاركاً للقارئ أن يلتقطَ تلكَ الأسباب الذاتية حين ننتقلُ لرصدِ أشكالِ حضورِ المتنبي في نماذج كثيرة من الشعر العربي المعاصر: 1-لعلَّ من أهم تلك الأسباب هو النزعة العربيّة التي كان يحملها المتنبي وتجلّت في معظم أشعاره، فقد كانَ كما يُعبّر حسين مروّة: "أعظم شاعِر عربي غنّى معاركَ النضال العربي، في زمن كانَ هذا النضال يحملُ أثقالَهُ فارسُ بني حمدان وحده من أمراء العرب" (7). 2-لقد كانت الحقّبة التي قُدّرَ لأبي الطيب أن يظهَرَ فيها (وهي القرن الرابع الهجري) حقبة عصيبة من تاريخ العرب، كانت البلادُ خلالها عُرضةً لهجمات الروم الطامعين، وكانت الانقسامات في الداخل شديدة، والاحترابُ على قدمٍ وساقٍ بين الأمراء، بالإضافة للانتفاضاتِ و الثورات المختلفة. 3-عادَ المتنبي من الباديةِ إلى الكوفة يحملُ فكرةَ الثورة، سواء لاتصالِهِ وتأثّرهِ بالقرامطة، أو لغير ذلك. لقد عادَ وقد امتلأت نفسُهُ بأمرٍ كبيرٍ يدعوهُ أن "يرى الموتَ في الهيجا جنى النحلِ في الفمِ"، "كانَ في ذلكَ الحين على شعورٍ بأنه يحملُ قضية هي أكبر من قضيتِهِ الخاصة، وأن هذهِ القضية ذات صلة بنظام الحكم، أو بالأشخاص الذين يُديرونَ أمر الدولة في وطنِهِ وقومِهِ" (8). 4-تميّز المتنبي بإحساسِهِ العميق بتلكَ الصلة الغامضة بين قضيّتِهِ الخاصة، وهي قضية فقرهِ وحرمانه، و قضية مجتمعِهِ من جهةٍ أُخرى بما يعنيهِ ذلك من الأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة العامة التي يفرضُها نظام دخله الفساد، أو حكامٌ فاسدونَ مفسدُون. 5-في شعر المتنبي على حد تعبير محيي الدين صُبحي "من الرؤيا- ما يفوقُ أي شاعِر آخر بالعربيّة. ففي أحسن حالاتِهِ يجعلنا المتنبي نعيشُ بين الحلمِ و الواقع، بين المثال والحقيقة، بين الموتِ والحياة، وأخيراً بين الخلودِ والحدوث" (9). 6-إن شعر المتنبي في طموحِهِ وغربتِهِ ينقلنا- على حد تعبير أدونيس- "إلى طموح الإنسان وغربته في كل وقتٍ، لا إلى طموح المتنبي وغربته وحسب إنه هنا وهناك يجعلُ من اللحظةِ أبداً ويشيعُ الأبدَ كلّهُ في لحظةٍ واحدة" _(10). 7-شخصيّة المتنبي شخصيّة مُحيّرة ومتعدّدة الجوانب وعلى قدرٍ كبير من الإغراء للفنانين والشعراء وهي لازالت مثيرة للجدلِ والخصومةِ حتى الآن. (1) التاريخ العربي والإسلامي لا يشمل فقط الشرق الأوسط. ومن الغريب أن نسمع شاعراً كأمل دنقل يقول ذلك. |
ثانياً- أشــــكال حضــور المتنــبي في الشعر العربي المعاصر(11)
لعلَّ من الصعوبةِ بمكان، أن نرصدَ كل القصائد التي تعاملت مع شخصيّة المتنبيّ، أو أن نذكَرَ كل الشعراء الذينَ استلهموها أو أفادوا منها، أو اقتبسوا عنها، ولكنني سأسعى إلى تحديد أنماط استخدام هذه الشخصيّة الهامة، دارساً مثالاً على الأقل، على كل نمط، ومذكّراً -منذُ البداية- أن هذهِ الأنماط، إنّما وضعت انطلاقاً من تجارب الشعراء أنفسهم، ومن طرائق تعاملهم مع الشخصيّة التراثية، وسنحسُّ لاحقاً أن الحدود والفواصل بين هذهِ الأنماط ليست نهائية وثابتة، وقد نشعر أن بعض القصائد قادرة على تخطي نمطها لتجمَعَ إليه غيره. ولقد كانَ للناقد علي عُشري زايد في كتابه "استدعاء الشخصيات التُراثية في الشعر العربي المعاصر" الفضل في تحديد أربعة أنماط (12) هي: -استخدام الشخصيّة عُنصراً في صورةٍ جُزئيّة. -استخدام الشخصيّة مُعادلاً تُراثياً لبعد من أبعاد التجربة. -استخدام الشخصيّة محوراً لقصيدة. -استخدام الشخصيّة عنواناً على مرحلة. بينما يختزل عبد السلام المسّاوي هذهِ الأنماط في نمطين جامعين هما: الاستدعاء العَرَضي للشخصيّة، والاستغراق الكلي فيها. في دراستي هذه سأتكئُ على أنماط علي عُشري زايد مُضيفاً إليها نمطين لم يحددهما الناقد هما: -الاستهلال بنص للشخصيّة التُراثية. -استخدام الشخصيّة محوراً لكتاب. والحقيقة إن محاولة وضع هذه الأنماط ليست غاية لذاتها، بقدر ماهي وسيلة لمنهجَة رصد تلك الأشكال التي كان لشخصيّة المتنبي أن تتجلى فيها في شعرنا المعاصر، ولتسهيل عملية دراسة النماذج الموجودة لدينا، وسيكون لدارسٍ آخر أن يرصد أشكالاً أخرى لاستدعاءِ بعضِ الشخوص من تُراثنا، انطلاقاً من قصائد جديدة تفرزُ أنماطها الخاصة. وسأتركُ لنفسي لاحقاً أن أعيدَ ترتيب تلكَ الأنماط، ولن أقفَ عند تضمين الشعراء المعاصرين لأبيات المتنبي، أو الإفادة من معانيهِ، إلا إذا جاءَ هذا الأمر ضمنَ تقنيةٍ ماتفيدُ في استدعاء الشخصيّة وتوظيفها، لأن هذا الأمر من وجهة نظري هو الأضعف في التعامل مع هذهِ الشخصيّة. |
الاستهلال بنصٍ للمتنبي
إن استهلالَ نصٍ أدبي ما، بنصٍ آخر هو أمرٌ كثير الشيوع في الأدب المعاصرِ عامةً؛ وفي الشعرِ على وجهِ الخصوص، وهو وإن كان شديد الشبه بالتناص الثقافي؛ من حيث هو تعالق بين النص الذي يبدعُهُ الأديب ومجموعة النصوص الأخرى الهامة والشائعة، حين يستدعي السياق الدلالي ذلك، فتلتحمُ بالنص وربّما ذابت فيهِ، إلا أن النص الذي يستهلُّ بهِ الشاعرُ قصيدتُهُ -على سبيل المثال- يبقى خارجيّاً لا يندغمُ بالمتن الشعري ولا يذوب فيه. الاستهلالُ تقنية على غايةٍ كبيرةٍ من الأهميّة، إنه في كثيرٍ من الأحوال يضَعُ بين يدي المتلقي مفتاحاً ما للنص، أو يضيءُ جانباً كانَ من شأنِهِ أن يكونَ مُظلماً، وربّما يُساهِمُ في رفد النص الجديد بأبعاد نفسيّة وجماليّة واجتماعيّة، ما كان لهُ وحيداً أن يمتلكها، وقد يكون بذرة الإبداع الأولى التي أنتَشتْ ونمت فقدّمت للشاعر الجديد قصيدته الجديدة وما إلى ذلك. لكن هذهِ التقنية الهامة قد تُصبح أحياناً في غير صالح القصيدة؛ وذلك حين يكون النص المقبوس طويلاً جداً فيصبحُ عالةً على القصيدة، وتنوء بحملِهِ، وقد نرى أحدهم يستهلُّ قصيرةً أو متوسطة بمجموعةِ نصوص لشعراءَ أو متصوّفينَ أو مفكرينَ من عصرٍ ما وكأنَهُ يُريد لقصيدتِهِ تلك أن تقولَ كل مافي الدُنيا من أفكارَ وهواجسَ ومضامين؛ قَدْ يأتي الاستهلالُ تزينيّاً وزائداً أحياناً، وهذهِ مسائلُ يستطيعُ الشاعِرُ بحسّهِ وذائقتِهِ وخبرتِهِ ألا يقعَ فيها، أو أن يتجاوزها قبلَ أن يظهَرَ عملُهُ للناس. يستهلُّ محمود درويش ديوانه "هي أغنية... هي أغنية" الصادر سنة 1986 بشطرٍ من شعر المتنبي - "على قلقٍ كأنَ الريحَ تحتي"، وحين نعلمُ أن قصائد هذهِ المجموعة كُتبت بين عامي (1984-1985)، وسيطَرَ عليها نَفَسٌ شعريٌّ مخذولٌ وحزين، إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وحصار عاصمتها، وما تلا ذلك من هزيمة للمقاومة الفلسطينية، وتخلٍّ عربي عنها، وخروجها إلى البحر ، فسندرك أن المسألة ليست فقط مسألة إعجاب درويش بشطرٍ من بيتٍ للمتنبي، يمثّلُ حال الثاني وهواجسهُ في مرحلة معيّنة من مراحِلِ حياتِهِ الشاقة، لا. الأمرُ أعقد من ذلك. أرادَ درويش أن يضعَ بين يدي المتلقي -وقبل أن يسمحَ لهُ بالدخول إلى عالمِهِ الخاص- تجربةً مشابهةً إلى حدٍ بعيد؛ مشابهة في الرحيل الدائم والمستمر حتى لكأن الرِحال هي أرضُ الشاعِر، مشابهة في ضياع الحُلم، وانكسار بقاياه، في الخذلان، وتنكّر الأصدقاء والإخوان، في الهزيمةِ وغيرها، ولو عُدنا إلى قصيدة المتنبي؛ تلك التي اجتزأَ منها درويش ذلك الشطر لوقعنا على الكثير مما قلت: وحُسنَ الصبرِ زمّوا لا الجمالا بقائي شاءَ ليسَ هُمُ ارتحالا تهيّبني ففاجأني اغتيالا تولّوا بَغْتَةً فكأنَ بيناً وسيرُ الدمعِ إثرهُمُ انهمالا فكانَ مسير عيسهِمِ ذَميلاً مُناخاتٍ فلّما ثرنَ سالا كأن العيس كانت فوق جفني قتودي والغُرَيْريَّ الجُلالا ألفتُ تَرَحّلي وجعلتُ أرضي ولا أزمعتُ عن أرضٍ زوالا فما حاولتُ في أرضٍ مُقاماً أوجهها جنوباً أو شمالا (13) على قلقٍ كأن الريحَ تحتي وحين نترك المتنبي وندخلُ عالم محمود درويش تطالعنا قصيدتُهُ التي عنوانها "سنخرج": "سنخرجُ؛ قلنا: سنخرجُ؛ قلنا لكم: سوفَ نخرجُ مِنا قليلا، سنخرجُ منا إلى هامشٍ أبيضٍ نتأمّلُ معنى الدخول ومعنى الخروج سنخرجُ للتوِ......"(14). فنحسُّ ونحن نقرأ،أ، أننا لم ندخل عُزّلاً؛ لقد تمكنَ ذلكَ الشطر الصغير -بما استدعاهُ في ذاكرتنا- من شحننا بطاقةٍ إضافية من المشاعِر والأفكار ستكون عوناً لنا في فهم نصوص درويش وحالتِهِ النفسية والوجدانية، وعوناً لهُ علينا في الارتقاء بتلك المشاعِرِ والأفكار ومواصلة البناء عليها عبرَ ست عشرة قصيدة؛ كلها لها طعم الرحيل والاغتراب (سنخرجُ، نزل على البحر، غبار القوافل، عزفٌ منفرد، هذا خريفي كلّه... الخ). والأمثلةُ ليست قليلة على هذا الشكل من أشكال التعامل مع المتنبيّ؛ فلفايز خضّور -على سبيل المثال- قصيدة عنوانها "المتنبي يقرأ في كتاب قاسيون"؛ تتألف من مقدّمة وستة فصول، استهلّها الشاعرُ بأبيات من شعر المتنبي، وأدونيس يفعل الشيء ذاته في ديوانه الأخير "الكتاب"؛ حيثُ يفتتح معظم فصوله بنصٍ للمتنبي، ولكنني سأتناولُ هذين المثالين بشيءٍ من التفصيل في الفقرات اللاحقة. المتنبي عنصر في صورة جزئيّة هنا يعمدُ الشاعِرُ إلى استخدام شخصيّة المتنبي بشكلٍ عابر، من خلال الإشارة إلى شيءٍ يخصّه (اسم، موقف، فكرة ما...)، فيخصصُ لهُ فقرة ضمن القصيدة؛ محاولاً شحن القصيدة بطاقة إيحائية كبيرة تأتي من خارج النص؛ وتكون عوناً للشاعِر، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها استدعاء أدونيس العَرَضي للمتنبي في قصيدتِهِ "قبلَ أن ينتهي الغناء"، وهي من قصائده الجميلة التي تنضحُ من طفولتِهِ وذكرياتِهِ في القرية. يبدأ أدونيس سفر التذكّر بغناءٍ عذب: "عنقٌ جامِحٌ، عنقٌ حائِرُ- الغيومُ تحيكُ عباءاتِها والرياحُ تجيءُ خفافاً على صهواتِ الحقولْ" (15). والشاعِرُ يبني قصيدته، وكأنّهُ يرى الأشياءَ من بعدينِ مختلفين جداً؛ من أعلى؛ وكأنه يمتلكُ عين طائرٍ يحلّقُ فوق الجبالِ والسهولِ، فيلتقطُ مشهداً عاماً لكل شيء.. للقرى وهي تتدلّى من ذؤاباتِ القمم، لساحَةِ القرية يجلسُ المتعبونَ فيها ويدور الحديث، للشتاء وهو ينزلُ من ذراه ليغطي العتبات، وما إلى ذلك. والعين الأخرى هي عين الطفل نفسه، الذي يرى البيتَ بحبقِهِ ونعناعِهِ، والحقول التي يركضُ فيها ويُلاعُبها ويحدّثها حديثاً لم يعدْ يذكر منهُ إلا هرج العصافير؛ تغزو وتختارُ أشهى الثمار، ومن تلكَ الذكريات مايلي: "يسمَعَ الطفلُ، ينهضُ، يمضي ساعة الدرسِ حانتْ، والقناديلُ لازيتَ فيها. شمعةٌ حامِلُ وضعتْ نورها بين أهدابهِ نورها عاشقٌ ناحِلُ لن يكون له أن يحيي هذهِ الليلةَ المتنبي: الهلالُ الذي يستضيءُ بهِ آفلُ" (16). لقد جاء ذكر المتنبي هنا عارضاً؛ إنه أحد مكوّنات ذكريات الشاعِر، فقد كان يقرأهُ طفلاً كل ليلة؛ لكنّهُ في تلكَ الليلة، حيثُ لازيتَ في القنديل، وليس هناك إلا شمعة ناحلة، فمن المتعذّر أن يحيّيه حتى؛ قبل أن ينام. والشاهدُ الآخر أختارُهُ لمحمود درويش: مِن قصيدتِهِ "أرى شبحي قادماً من بعيد"، التي يبدأها قائلاً: "أطلُّ كشرفةِ بيتٍ على ما أريد" إلى أن يقول: "أطلُّ على اسمِ أبي الطيب المتنبي المسافِر من طبريا إلى مصرَ فوقَ حصان النشيد" (17). والحقيقة أن محمود درويش بهذهِ القصيدة يطلُّ على المكان الواحد، في أزمنة متعدّدة ومتعاقبة، فكأني به رياضياً، أو فيزيائياً يثبّتُ إحداثيات المكان (س،ع،ص)، ويغيّر إحداثي الزمن (ز)، فيرى من مكانهِ كل ما مَرّ على هذهِ البلاد، ويحاول أن يستشرف المستقبل، وبالتالي فاستحضارُهُ للمتنبي وغيره من رموز القصيدة ناجحٌ وموّظف. وقد يكون الاستدعاء العرضي للشخصيّة انطلاقاً من صفاتِها أو بعض ميزاتِها دون اللجوء إلى الاسم؛ كما يفعل شوقي بغدادي في قصيدة عنوانها "سطران في آخر الشوق/ مكاشفة وداعيّة في الستين"- وهي سيرة الشاعر الذاتية مقدّمة بشكلٍ مكثّف وآسر؛ يقول شوقي: "تُراني لأني ادعيتُ النبوّةَ ثمَّ تماديتُ حتى سددتُ على الآخرين فأوهمتهم أنني خاتم الأنبياءْ. لقد حاورتني البلابلُ يوماً، وما كانَ يكفي الحوارُ لكي أتكرّسَ، ثم أقود المغنينَ من أين لي كل هذي المواهبِ كيف اقتنعتُ بأني ربُّ الغناءْ" (18). إن هذا المقطع متعدد الدلالات والإحالات، لكنهُ -من وجهةِ نظري- يحيل أولاً إلى أبي الطيّب الشاعِر، الذي تروي إحدى الحكايات أنه ادعى النبوّة، حين كان في حمص، وسجنَهُ أميرُها لؤلؤ لهذا السبب- بغض النظر عن مصداقيّة هذهِ الحكاية التي يختلفُ فيها مؤرخو الأدب والنقّاد- وذلكَ لأن المتحدّث شاعِرٌ بالدرجة الأولى وليسَ باحثاً أو ناقداً مثلاً، شاعِرٌ يتحدّثُ عن تجربتهِ الخاصة، وحياته التي عاشها بكل أبعادها، بكلِ حلاوتها ومرارتها؛ وثانياً لأن المقطع يستندُ أيضاً إلى مايحملهُ الكثير من شعر المتنبي من "نزعةِ الزراية، ونزعة السيطرة"(19)- على حد تعبير يوسف سامي اليوسف. وقد يعمدُ الشعراءُ إلى استدعائِهِ مستفيدين من أشعاره ذائعة الصيت؛ وهذا مافعلهُ محمّد عُمران في ديوانهِ- الذي سأعودُ إليه لاحقاً- وعنوانه "الدخول في شعب بوان"، خاصةً في القصيدتين الأولى "الدخول الأوّل -بوّان"، والثانية "الدخول الثاني -المجيء من الماء". وينجحُ عمران في مواضع كثيرة منها حين يقول: "حرنت خيلي هنا، الفرسانُ مرّوا في طريق الريح، هذي لغةٌ تمسكُ بي، وجهٌ من الضوءِ، يناديني، عصافيرُ من الأعشاب. هذي شفةٌ تخطفني..."(20) هكذا تبدأُ القصيدةُ الأولى من الديوان ونلاحظ أن الشاعر يُريدُ أن يتقمّص شخصيّة المتنبي معتمداً على قولِهِ: خشيتُ وإن كَرُمنَ من الحِرانِ (21) طَبَتْ فرسانُنا والخيلُ حتى وينجحُ في ذلك حين يتابعُ الغناء بصوت المتنبي نفسه متكئاً إلى بيتٍ آخر من القصيدة نفسها: "آه، يا ملعبَ خيل الجنِ، لو سار سليمانُ لنادى تُرجماناً، غير أني قاريءٌ كل لغاتِ الصحو في عينيكَ، استظهرها حرفاً فحرفاً" (22). لكن محمّد عمران لا يستطيعُ أن يفلت من تأثير قصيدة المتنبي عليه: فيظل طويلاً سابحاً في أجوائها، حتى أن بعض المقاطع لا يضيفُ شيئاً لا على صعيد المعنى ولا في اتجاه تعميق رمزٍ كأن يقول: "يسقطُ الشرقُ في ثيابي دنانيراً شراباً بلا أوانٍ يصلُّ الماءُ كالحلي في حصى النفس" (23). في المقطع السابق يقذفُ الشرقُ في ثياب الشاعر دنانير وشراباً بلا أوانٍ، ويصلَّ الماء في حصى النفسِ كالحلي.. وهذا مَسْخٌ ونثرٌ مشوّه لقول المتنبي: على أعرافِها مِثلَ الجُمانِ غدونا تنفضُ الأغصانُ فيها وجئنَ من الضياءِ بما كفاني فسرتُ وقد حجبنَ الحَرّ عني دنانيراً تفرُّ من البَنَانِ وألقى الشرقُ منها في ثيابي بأشربةٍ وقفن بلا أوانِ لها ثمرٌ تشيرُ إليكَ منهُ صليلَ الحلي في أيدي الغواني (24) وأمواهٌ تصلُّ بها حصاها ويستدعي بيان الصفدي أبا الطيّب معتمداً التقنيّة نفسها في قصيدةٍ قصيرة تحمل عنوان "الشاعر": "-من أنتَ؟ -ما أنا؟ -من أنتَ يا طريدُ؟ -أنا... أنا المُعمّى، أنا الذي يجلُّ أن يُسمّى، الطائِرُ الغِرِّيدُ، إني ختمتُ بابكم بالدمِ، هذي كلماتي جمرةٌ، وأنتمُ الوقودُ، أنامُ في عيونكمْ ودارتي الأثيرةُ الوجودُ. ذئابكم تضحكُ فوقَ لحمي، وتنسُلُ الأعصابَ، تنهشُ الحشا، تبيدُ، أبصرتكم قوافلاً فضاؤها السردابُ والوحشةُ والقيودُ. الخيلُ والليلُ وأوراقي معي والسيفُ والرمحُ: وهذي البيدُ" (25). لقد تمّ هذا الاستدعاء انطلاقاً من بيتين مشهورين للشاعِر وهوَ وإن بدا عَرَضياً- في بدايةِ البطاقةِ حين يقول الصوت "أنا الذي يجلُّ أن يُسمّى"، وفي نهايتها حين يختِمها بقولهِ "الخيلُ والليلُ.. الخ"- إلا أنه جعلَ روح المتنبي كامنةً خلفَ كل عباراتِ النص، رُبّما لأن الضمير نفسه هو الذي يتابع الإنشاد، ولولا تلك الأصوات الخفيّة إلي أُحسُّ أنها بعيدة عن صوت المتنبي كثيراً، وتقتربُ من أصواتِ غيرهِ من الشعراء؛ لقلتُ إن الشاعِر يلبسُ قناعَ المتنبي ويقدّمُهُ لنا مثالاً للشاعِر الذي يُريده: لكن الحقيقة غير ذلك؛ لقد أرادَ بيان الصفدي أن يرسم صورةً أخرى للشاعِر -المثال كما يراهُ هو، فجاءَ هذا المزيج من المتنبي ولوركا ونيرودا وماياكوفسكي وغيرهم، ممن كانت كلماتهم جماراً تُشعلُ وتضيء، ودفعوا جميعاً ثمن نقائهم وحبّهم لأوطانهم وللإنسانيّة. وقد يلجأُ بعضُ الشعراء إلى توظيفِ فكرة معيّنة للمتنبي ضمن قصيدةٍ يحاولُ شاعِرها أن يتقمصَ هذهِ الشخصيّة إمعاناً منهُ في محاولةِ إقناعِ القارئ؛ أو جَرّهِ ليشاركَ في هذهِ اللعبة الفنيّة كما يفعل محمود درويش في قصيدتِهِ "رحلة المتنبي إلى مصر" حين يقول: "كل الرماح تُصيبُني وتعيدُ أسمائي إليّ وتُعيدني منكم إليّْ وأنا القتيلُ القاتلُ" (26). فهو هنا يضِّمنُ معنىً لأبي الطيّب: فمن المطالبُ والقتيلُ القاتِلُ وأنا الذي اجتذبَ المنيةَ طرفُهُ لقد أخذ درويش كلمتين من البيتِ كُلّه "القتيلُ القاتِلُ"، وضمنها قصيدته السابقة؛ ولو لم يأتِ هذا التضمين في سياقِهِ الذي رأيناه؛ بمعنى في قصيدةٍ يوهمِنا درويش أن المتنبي هو الذي ينشدها لاستعصى علينا المعنى؛ لأن فهم المقطع السابق بصورةٍ تُغني النصَ بشكلٍ عام يكادُ يكون مُقترناً بمعرفتنا لبيت أبي الطيّب. ويلعبُ ناجي علّوش اللعبة نفسها ولكن بنجاح أقل حين يضمّن المعنى نفسه في مقطعٍ من قصيدتِهِ "محاورة مع أبي الطيّب" فيقول: "وتحمّلوا عبء الدم المهراقِ في غير القضيَّةْ.... وتذكّروا أن الدماء هي الدماء وأنني كنتُ القتيل وقاتلي ليسَ القتيل.. وتذكروا أني رأيتُ دمي على قسماتِ كافور الزريّهْ..." (27). وقد نجدُ شاعِراً يقتبسُ أحد معاني أبي الطيب لكنهُ لايحسنُ توظيفه، أو لا يتمكنُ من خلالِهِ أن يستدعي في أذهاننا شخصيّة المتبني -إن كانَ يرمي إلى ذلك- كما فَعَل عبد الوهاب البيّاتي في قصيدةٍ عنوانها "مرثيّة إلى عائشة" من مجموعتهِ التي عنوانها "الموت في الحياة". يقولُ البياتي: "يموتُ راعي الضأن في انتظارهِ ميتةَ جالينوسْ يأكلُ قرصَ الشمسِ أورفيوسْ تبكي على الفراتِ عشتروتْ تبحثُ في مياهِهِ عن خاتمٍ ضاعَ وعن أغنيةٍ تموتْ" (28). لقد أرادَ البياتي في السطر الأوّل أن يستحضر بيت المتنبي الذي يقول: ميتةَ جَالينوس في طبِهِ يموتُ راعي الضأن في جهلِهِ والذي معناه أن الموت حتمٌ على الجميع؛ إن كان راعياً بسيطاً أو طبيباً عالماً، وبيتُ المتنبي هذا أحد أبياتِ قصيدةٍ مشهورة قالها الشاعِرُ في رثاءِ عمّةِ عضد الدولة ببغداد؛ ومن هذا الباب يكون أخذ هذا البيت، وجعله مطلعاً لقصيدة يريدُ لها البياتي أن تكون مرثيّة على لسان الخيّام لمحبوبتِهِ عائشة أمرٌ موّفق؛ لو لم يفسد البياتي نفسه المعنى المعروف للبيت، لأن قارئه في صورتِهِ الجديدة سيطرحُ على نفسِهِ عدداً غير قليل من الأسئلة، لن يجدَ لمعظمها جواباً شافياً، أهمّها مثلاً: كيف كانت ميتة جالينوسْ؟ ولماذا يموتُ راعي الضأن وهو ينتظر ميتةَ جالينوس؟ وما إلى ذلك! وكنتُ -والقارئَ- سأعتبرُ أن من حق البياتي أن يكتب مايشاء وكيف شاء لو لم يضع في آخر مجموعتِهِ تلك هامشاً يقول: "راجع قول المتنبي: يموتُ راعي الضأن في جهلِهِ.. الخ" (29). بمعنى أنهُ يحيل إلى الفكرة أو المعنى الذي أصابه المتنبي في بيتهِ المذكور. |
المتنــــبي محـــورٌ لقصــــيدة
لعلّ هذا النمط من التعامل مع شخصيّة المتنبي هو الأكثر شيوعاً، بين شُعرائنا؛ حيثُ يقفُ بعضهم قبالة شخصه ويخاطبونهُ، منهم من يثني عليه ويعظّمُهُ فارساً وشاعِراً، وصاحب طموحٍ جليل، وبعضهم يعاتبه ويستنكر عليه أن يمدحَ فلاناً، وأن يقبضَ ثمناً لشعرهِ أو أن يطمحَ للحصول على إمارة، وماشابه ذلك لنقرأ مثلاً مايقوله خضر الحمصي: إذا قلتُ شعراً هل لديكَ جوابُ؟ يسرُّ فؤادي في هواكَ عتابُ جناحاكَ في عصفِ الرياحِ ركابُ أبا محسدٍ والمجدُ أنتَ قرينُهُ ونمتَ قريراً، والأنامُ غضابُ مدحتَ كراماً واستهنتَ بغيرهم كرامٍ فهل هجو الكرامِ صوابُ؟ تجاوزتَ بالهجوِ المريرِ لمعشرٍ فهل نفعَ المخصيّ منكَ خطابُ (30) ومدحكَ كافوراً تريدُ ولايةً ومثل هؤلاء الشعراء- برأيي- هم استمرارٌ للخصومة القديمة في أبي الطيّب، التي كانت قائمة بين فريقين، أولهما يكنُّ عداءً شديداً للشاعر ويحاولُ تحطيمه، بما أوتيَ من وسائل، وثانيهما متعصبُّ له ويسعى إلى إبعادهِ عن المزالق والشبهات، وكلا الفريقين يتسلّحُ بوجهة نظر تبتعدُ عن الدقةِ والموضوعيّة وروح العمق والتحليل. وتكادُ لا تخرجُ عن هذا النمط أيّة قصيدة، من القصائد التي قيلتْ في المناسبات الاحتفاليّة المختلفة تكريماً لأبي الطيّب؛ خاصةً تلكَ التي قيلت في بعضِ المُدن العربية والأجنبيّة في الذكرى الألفيّة لوفاة الشاعِر (31)؛ لكن أصحاب تلك القصائد -عموماً- تعاملوا مع المتنبي كشخصٍ عظيمٍ وشاعر كبير عاشَ في زمنٍ سالف، ورغمَ جودَةِ وجمال الكثير من تلك القصائد، إلا أنّها لم توّظف المتنبي رمزاً تُراثياً يشيرُ إلى شيءٍ مُعاصر؛ وظلَّ تعاملها معَهُ من هذهِ الزاوية قاصراً وضيّقاً. وقد قُدّرَ لبعض الشعراء الذين استخدموا المتنبي محوراً لقصائدهم، أن ينجحوا -وبشكلٍ متفاوتٍ- بإخراج هذهِ الشخصيّة من زمنها، محاولين رصد دلالاتها المعاصرة وسماتها الإنسانيّة الشاملة. سأتناول كأمثلة على هذا النمط مجموعة من القصائد الهامة. آ-الأخطل الصغير والمتنبي: يبدأُ بشارة الخوري قصيدته "المتنبي والشهباء"، بوصف مدينة حلب، متناولاً دورها في الماضي، وبطولة أهلها وأمرائها من آل حمدان في حمايةِ شمال البلاد، ممهداً الطريق للوصول إلى المتنبي؛ فإذا وصلَ راح يبني أسطورةً طريفةً حولَ ولادتِهِ من أبٍ هو عظيم الجن، وأم ماردة، ستحملُهُ وتجيءُ به إلى عرسِ الجن في الصحراء، فيحارُ الجميعُ في تسميتهِ: 1 فأقبلوا ينظرونَ البدعةَ العجَبَا نادى أبوهُ -عظيم الجن- عِتْرَتَهُ فقالَ: كلاّ.. فقالوا: عاصِفاً- فأبى(32) ماذا نسمّيه؟ قالَ البعضُ: صاعقةً وحين يشتدُّ النقاش بين جماعة الجن، يقومُ ماردٌ مفوّه، فيعلن أنهم سيجعلون من هذا الطفل أعجوبةً... فتنةً تشغل الناس بالشعر: فنشعلُ الناسَ والأقلام والكُتبا سنبعثُ الفتنةَ الكبرى على يدهِ فإن غَووا فلقد نِلنا بهِ الأربا (33) ونجعلُ الشِعرَ ربّاً يسجدونَ لهُ ثُمَ يجدُ هذا المارد اسماً مناسباً للطفل: سمّيتُهُ: المتنبي.. فانتشوا طربا واختالَ غيرَ قليلٍ، ثُمَّ قال لهم يهوي بهِ الرحلُ لا يدري لهُ سببا (34) وزلزلوا البيد حتّى كادَ سالكها وبعدَ ذلك -وفي المقطع التالي- تبدأُ مأساةُ المتنبي الشاعر، الذي يُريدُ أن يحصلَ بالشعرِ على ماهوَ دون الشعرِ مرتبةً ولكنَ الله لا يحققُ له الطلب؛ فالسلطةُ واعتلاء العرش، أمرٌ يقتلُ الإبداع. إن الطموح الذي يفتحُ آفاقاً لا وصول إليها، هو الذي يخلق الإبداع في النفس المبدعة- ولعل هذهِ هي الفكرة الأهم في القصيدة: فشاء ربّكَ أن لا تدركَ الطلبا طلبتَ بالشعرِ دونَ الشِعر مرتبةً وعطِّلَ الوكرُ، لا شدواً ولا زَغَبا إذن لأثكلتَ أمَّ الشعرِ واحدها بوّأتَها الشمس، أو قَلّدتها الحِقبا (35) لولا طماحُكَ ماغنّيتَ قافيةً ويسرعُ الأخطل يقارنُ بينَ فتوحات الشعر وفتوحات الجيوش، ونلاحظُ أن لغة الأخطل العذبة الغنائية بدأت تستعيرُ شيئاً من لغة المتنبي نفسه، ومن طريقتِهِ في الحكمة: ولا لبستَ إليها البيضَ واليَلَبا أبا الفتوحاتِ لم تُزجِ الخميس لها كالفتح جَرّ عليكَ الويل والحَرَبا ما الفتح أهدى إليكَ الروضَ والسُحُبا من يمنع الشيءَ أحياناً فقد وهَبَا (36) قد يؤثر الدهرُ إنساناً فيحرمُهُ ولا ينسى الأخطل أن يذكّر المتبني، أن مصيرَ النوابغ واحدٌ في كل عصر: لم يزرعوا حولَهُ البهتان والكذبا عفواً بني القوافي، أي نابغةٍ فهل تلومُهُم إن مَزّقوا الحُجُبا (37) منعتَ عنهم ضياءَ الشمسِ فانحجبوا وهكذا نلاحظ أن المتنبي عند الأخطل لم يرقَ إلى مستوى الرمز، ومااستطاع الشاعِر -وربّما لم يُرد- إخراج هذهِ الشخصيّة ولو قليلاً من زمنها، فظلّت تعيش في القرن الرابع الهجري، وظل الأخطل يخاطبها من بعيد، بل لعلّ خطابه- على جمالِهِ وعذوبته- كان أقل من أن يحيط بشيء من أبعاد هذهِ الشخصيّة التي استوعبت عقائد المتصوّفة والشيعة، وألمّت بالفلسفة والمنطق ووظفت كل هذهِ المعارف في الشعر. ب- عمر أبو ريشة والمتنبي: لا أعتقد أن أبا ريشة أصابَ نجاحاً أكبر من بشارة الخوري في التعامل مع شخصيّة المتنبي، والسبب أن الشاعِر تعاملَ مع هذهِ الشخصيّة دون رؤيا جديدة؛ لقد قرأ قصيدته في جامعة دمشق في المهرجان الألفي لأبي الطيب وكان عنوانها "شاعِرٌ وشاعِر"، وقد كان كعادتهِ حسن الاستهلال عذباً، غنيَ الصور حين بدأ يتحدثُ عن نفسهِ -لاريب- مستَعْرِضاً الوجود إصباحاً و إمساءً، رعداً وبرقاً، ورياضاً تبتسمُ جداول ورباً تفوحُ بعطورها، فكان لهُ أن يفضَّ عن الحياةِ نقابها الخادع وأن يصلَ إلى إضمامةٍ من الأفكار الهامة قدَّمها للسامعين- وللقراء فيما بعد- كما تقدّمُ الزهور؛ منها: ظلّت في نضرةٍ وبهاءِ كم على تُربةِ الزمان من الأوتار في غبار النسيان كل غشاءِ دفقاتُ التذكار تغسلُ عنها الدهرِ في نشوةِ من الإصغاءِ أبداً ترقصُ الحياةُ، وسمعُ صداها ذاك القريب النائي (38) أمِنتْ ريشةُ الفناءِ فما زالَ ولا شك أن من أهمِ هذهِ الأوتار الخالدة هو الشاعر المتنبي: وترٌ صيغَ من سنا الصحراءِ! بينَ تلكَ الأوتار في عالمها وناداهم بخيرِ نداءِ! غمرَ العربَ سحرهُ الفاتن البكرُ وفيه من بسمةِ العلياءِ فيه من غضبةِ الإباء على الضيمِ في سخاءٍ محاجرُ البؤساءِ (39) يحبسُ الدمعةَ التي سكبتها ويجهدُ أبو ريشة للإحاطةِ بأوصاف هذهِ الشخصيّة ويكون لهُ ما أراد، ولكن تلك المناسبة التي كتبَ الشاعِر قصيدته بسببها لعبت -فيما أعتقد- دوراً سلبياً، من حيث أنها جعلت الشاعِر غارقاً في الماضي فقط، ولم يصحُ إلا في آخر قصيدتِهِ حين يقول: فالعربُ حيارى في قبضةٍ عَسْراءِ شاعر العربِ، غضَّ طرفكَ تحتَ أنيابِ حيّةٍ... رقطاءِ يخجلُ المجدُ أن يرى الليث شلواً ووهجُ القنا وخفق اللواءِ أينَ لمعُ المُنى وحمحمةُ الخيلِ وجراح الأيام خلفَ ردائي (49) كيف أُهدي إليكَ بعض الأغاني ومن هنا أعود لرأيٍ للشاعِر شوقي بغدادي؛ حينَ كتبَ في معرضِ حديثه عن "الزباء كما هي". قالَ: "استلهام التاريخ في سبيل إنجاز أثر أدبي بالغ الصعوبة هو أصعب من الكتابة التي تستلهم الواقع الراهن" (41). وذلك لأن هذهِ العملية كما عَبّر د. طيب تيزيني: "عملية معقّدة تقتضي اكتشاف الحدث الماضي (التاريخي)، في صيغته الأصليّة، بهدفِ تمثّلِهِ واستخلاص مايمكن استلهامه منه، وهذا يتطلّبُ فهماً عميقاً للماضي والحاضر، كما يشترط امتلاك أداة البحث (الجدليّة التاريخية التُراثية) على نحوٍ يسلّط الأضواء على المشكلة، وذلك في سياق الفعل الاجتماعي النشيط المبدع" (42) ج- القروي والمتنبي: ولرشيد سليم الخوري قصيدة عنوانها "نبي"، ألقاها الشاعِر سنة 1935، في المهرجان التذكاري، الذي أحيته العصبة الأندلسيّة في صنبول، لمرور ألف سنة على وفاة المتنبي، يبدأها الشاعِر بقوله: وهل بعدَ إعجاز ابن كندةَ برهانُ (43) نبيٌ ولو ضجّت شيوخٌ ورهبانُ ويرفَعُ القروي أحمدَ بن الحسين فوق الشعراءِ جميعاً حين يقرنه بالرسول الكريم: وأدلتْ بفرقانٍ تعرّضَ ديوانُ إذا افتخرت أم اللغاتِ على ألُلغى فيجمُعها عند النبيينَ إيمانُ تَوّزَعُها بين السميينِ حيرةٌ فللشرعِ قرآنٌ وللشعِر قُرآنُ (44) كلا أحمديها جاءَ فيها بمعجزٍ ويرفَعُ أمّة عدنان فصاحةً فوق كل الأمم: إذا رفعتْ بندَ الفصاحةِ عدنانُ (44) لتسجد ملوك الشعِر من كل أمّةٍ والقصيدة لا تخرُجُ عن مُناسبتها قيد أُنملة، فهي مخصّصة لذكرى المتنبي، وبالتالي فإنها تذهبُ في تقديمهِ من وجهةِ نظر القروي الذي يشاركُهُ إياها مئاتُ الآلاف من أبناء قومِهِ، ويتألّقُ الشاعِرُ في الكثير من أبيات القصيدة؛ خاصةً حين يحاول أن يستخلص من تجربة المتنبي، أشياء إنسانيّة عامة: ففي الصدرِ بركانٌ وفي العين بستانُ تراءى لك الآمالُ نضراً دوانياً ولو علّهُ نيلٌ وغذّتُهُ أطيانُ إذا غاضَ ماءُ الجَدِّ فالزرعُ مجدبٌ بحرٍ ولم يطمح إلى المجدِ فتيانُ ولولا رجاء الفوز لم ينبُ مضجَعٌ لما شاقنا ربحٌ ولا شقَّ خُسرانُ (45) ولو هانتِ الدُنيا على كلِ طالبٍ ثم ينتقلُ القروي من وصفِ طموح المتنبي وهمّتِهِ العالية إلى وصفِ موهبتِهِ الشعريّة؛ ولا يقفُ عند ذلك، بل يُعلنُ بعد قليل شوقَهُ إلى ذلكَ الينبوع الذي شربَ منهُ المتنبي.. إنهُ يتمنّى أن ينالَ حسوةً صغيرةً من الينبوع الذي وردَهُ جدُّهُ الكبير.. ومَنْ مِنَ الشعراء لا يتمنى ذلك: فإني إلى تلكَ المناهِل ظمآنُ ألا أيُّ ينبوعٍ سقاكَ معينُهُ وبلّتْ لسانَ "البُحتريِّ" بهِ الجانُ أصابَ "ابنُ أوسٍ" منهُ حسوةَ طائرٍ يشعشِعُها بالكوثِرِ العذبِ رضوانُ (46) وأنتَ مقيمٌ كارعٌ من دنانِهِ ويشكو القروي لسيّد الشعر ما ينتابُ الشعراء العباقرة من خذلان وازدراء في زمنٍ لا ميزانَ فيهِ ولا معيار، لكنّهُ يعودُ فيؤكد أن التاريخ قادرٌ في نهايةِ المطاف أن ينصفَ العباقرة والمبدعين والقروي واحدٌ منهم: أسأنا ففي بعضِ الإساءة إحسانُ أجدنا فجنَ الحاسدونَ وليتنا يقرُّ لها بالطعنِ بيضٌ ومُرّانُ (47) أغاروا على ألفاظنا بمراقمٍ وبالتالي فالحسّادُ هم هم في كل مكانٍ وزمان، وقد نالَ منهم القروي ماكانَ قد نالَهُ المتنبي. ويختم الشاعِر قصيدتَه بإبداءِ رأيهِ في مكانةِ الشاعر ودوره في حياة أمتهِ وشعبه: يُهددها بالموتِ والعار طغيانُ بشاعِرها فلتفتخر كل أمّةٍ وإن أُخمِدتْ أنفاسُها فهو بركانُ (47) إذا طويت أعلامُها فهو بيرقٌ ويأسفُ لما آلت إليهِ أمور أمته العريقة، فيحاولُ أن يجدَ سبباً لذلك؛ ولكنُهُ لا يصلُ إلا لما وصلَ إليه المتنبي قبله بألف عام: وماحولَهُ إلا إماءٌ وعبدانُ وماذا يُرجّي الشاعِرُ الحرُ بينكم وبَدّلَ من أخلاق يعربَ طورانُ تَصرَّمَ عهدُ العزِ واليأس والندى وياليتهم فيكم "كوافيرُ" سودانُ (48) فمالتْ سيوف الدولة البيض أعظُماً د-عبد الله البردوني والمتنبي: قصيدة البردوني "وردةٌ من دم المتنبي"، قصيدة طويلة؛ وهي تختلف عن سابقتها بأنها ليست قصيدة مناسبة وقد قدّمت رؤية البردوني للمتنبي، وحملت هذهِ الرؤية شيئاً من الاجتهاد: سيّد الفقرِ تحتَ أذيالِ نُعمى أنعلوا خيلهُ نضاراً ليفنى للنوايا أمضى من السيف حسما وجدوا القتلَ بالدنانير أخفى أينَ أدمى، ولا يرى كيفَ أصمى (49) ناعمَ الذبحِ، لا يعي أيُّ راءٍ إن الشاعِر يرى أن ذوي السلطان استطاعوا صرفَ الشاعِر عن رؤيةِ مظالمهم بإغداق النعمةِ عليه، حتى يجعلوا موهبته مُلكاً لمشيئتهم؛ وهذا موتٌ لهُ، والبردوني بذلك يلتقطُ أهم ميزات ذهنية السلطة العربيّة، التي تعملُ في البدايةِ على شراء المبدع، فإن لم تستطع قمعتهُ، أو طمستْ آثارَهُ، بطريقةٍ أو بأخرى. وقد حاولَ البردوني أن يتميّز على صعيد الشكل، من خلال هذهِ الحواريّة بين صوتين: أحدهما صوتُهُ هو، والآخر صوت المتنبي، وقد وضعَهُ بين قوسين كبيرتين، وقد تمكّنت هذهِ الحواريّة من بعث الحيويّة والحركة في النص. لكن صوت المتنبي -للأسف- كان صوتاً مُكرّراً، صوتاً قرأناهُ في أشعاره وربّما دونَ زيادةٍ أو نقصان. إن فضل البردوني يتمثلُ في إعادةِ نظم مجموعة من أبياتِ أبي الطيب، على طريقتهِ الخاصة، وهذا يجعل القارئ شاءَ أم أبى يستذكر تلكَ الأبيات، ويعقد مقارنة والمقارنة ليست في صالح البردوني. مثلاً يقول البردوني على لسان المتنبي: ما الذي تبتغي؟ أجلّ وأسمى ساءلتْ كل بلدةٍ: أنتَ ماذا؟ لعبةٌ في بنان "لميا" و "ألمى" (50) غير كفي للكأس غير فؤادي إن هذين البيتين مأخوذان من قول المتنبي: وما تبتغي، ما أبتغي جل أن يُسمى (51) يقولونَ لي ما أنتَ في كلِ بلدةٍ -وهو أحد أبياتِه في رثاء جَدّتهِ- ومن قوله: وغير بناني للزجاجِ ركابُ (52) وغير فؤادي للغواني رميّةٌ وفي مقطع آخر يقول البردوني: أوجهاً تَستحقُ ركلاً ولطما من تُداجي يا ابن الحسين؟ (أُداجي وإلى كم أبني على الوهمِ وهما (53) كم إلى كم أقولُ ما لستُ أعني وهنا يعيدُ الشاعِر نظم أبيات المتنبي التي يقولُ فيها: إلا أحقُ بضربِ الرأسِ من وثنِ ولا أعاشِرُ من أملاكهم مِلكاً وأقتضي كونَها دهري ويمطِلُني للهِ حالٌ أُرجّيها وتخلفني قصائداً من إناثِ الخيلِ والحُصُنِ (54) مدحتُ قوماً وإن عشنا نظمتُ لهم وقد نجدُ في القصيدةِ صوت البردوني نفسه يكررُ ما عرفناهُ من شعر المتنبي؛ مثلاً نسمَعُ الصوت يقول: أنفت أن تحلَّ طيناً مُحمّى (55) هل يجاري وفي حناياهُ نفسٌ وهو مأخوذ من قول المتنبي: بها أنفٌ أن تسكنَ اللحمَ والعظما (56) وإني لمن قومٍ كأن نفوسَهم ورغمَ شاعريّة البردوني وتمكّنهِ من أدواتهِ يقعُ في النظم أحياناً، كأن يقول: لا يُرى للتحولِ اليوم حتما (57) أين حتمية الزمانِ؟ لماذا أو نراه يكرر الفكرة فيصبح التعبير زائداً مجانياً: إنه يعشق الخطورات جَمّا (58) إنه أخطر الصعاليك طُراً فلا بُدّ لأخطر الصعاليك من أن يعشق الخطورات، وإلا لما كان خطيراً، ولما كان صعلوكاً في الأساس. إن شخصيّة المتنبي -على أهميّتها- لا تُشكّلُ برأيي في ذاتِها التاريخيّة المحضة شيئاً، وهي يجب ألا تعني المبدع إلا بقدرِ ما تُلبّي حاجة مُعاصرة ذاتية أو مَوضوعيّة؛ وبالتالي فإن موقف الأخطل وأبي ريشة والقروي والبردوني وتعاملهم مع المتنبي بالصور التي رأيناها كان أقرب إلى مايسميه د. نعيم اليافي "الهرب بالتُراث" (59)؛ منهُ إلى استدعاء أو استلهام التُراث. هـ- سليمان العيسى والـمتنبي: يقولُ سليمان العيسى في مقالتهِ التي عنوانها "تجربتي الشعريّة" (60): أعترف أنني كنتُ مشدوداً إلى التُراث في الفترة الأولى من إنتاجي، وكانت ظلالُ القرآن والمعلّقات وديوان المتنبي تحيطُ بي، وتشدُّ على يدي في كل قصيدة كتبتُها، ولكنني مالبثتُ أن انفتحتُ على عوالم جديدة. ومع هذا فقد بقيت تجربتي الشعريّة، تجربة عربيّة، تضربُ جذورها في أعماق الصحراء". لقد قدّمت بهذهِ الكلمات على لسان الشاعرِ، لأُشير إلى أن قصيدته "إلى أبي الطيب" هي بشكل من الأشكال إحدى ظلال انشداده إلى التُراث العربي. لقد قرأ سليمان العيسى أبا الطيب وأُعجب بهِ أيّما إعجاب، فأدهشه ذلك الطموح الهادر، والهمّة العالية التي لاحدود لها، فجاءَ ذلك على لسانِهِ في القصيدة: أعومُ في نبضكَ الجبار... لا تعبُ يمشي إليَّ ولا الشطآن تقتربُ (61) ووجدَ العيسى أن بينه وبينَ أبي الطيب نقاطاً مشتركة كثيرة، منها الحزن والطموح الكبير: "آتٍ إليكَ.. ولا تسأل.. سأتُركُها بقية العمر فوق النطع تضطربُ (واحرَّ قلباهُ) شاخَ الجمرُ في شفتي وما التوت زفرةٌ عطشى ولا عَصَبُ ربيّتُ في حَرِّها، لم تنأ عن رهقي بيني وبينكَ من أوجاعنا نَسَبُ"(62) ويستطردُ الشاعِرُ في وصفِ أشكالِ انشدادهِ إلى أبي الطيب، وتأثير هذا الرجل العظيم فيه؛ لكنهُ في المقطع التالي يُبيّنُ لهُ أن هناكَ ما يفرّقُ بينَهما: "كنّا الغريبينِ.. واعذرني إذا افترقتْ بنا المُنى.. وتنادى بيننا الطلبُ" (63) كيفَ لا، وأبو الطيب لا يريدُ إلا تاجاً وعرشاً، بينما هو يسعى إلى غير ذلك: "ماذا تُريدُ؟ سريراً من أسرَّتهمْ؟ للذلِ يصرُخُ فيهِ العارُ والكذبُ" (64) فالعرشُ والسلطة- كما يرى العيسى- مستنقع، واللهبُ المحفورُ في دماء الشعراء يجب ألا يغرد لهذا المستنقع: "لم يخلق اللهبُ المحفورِ في دمنا لكي يُغرّد للمستنقعِ اللهبُ!" (65) لأن دور الشاعِر دورٌ أعظم من ذلك في حياة شعبه وأمته، خاصةً حين تكون هذهِ الأُمّة منكوبة: وراءَنا أُمّةٌ ثكلى مُشّردةٌ وأرضنا مثلنا تُسبى وتنتَهَبُ" (66) وهنا ينتقل سليمان العيسى، إلى التعامل مع أبي الطيب ليسَ بوصفهِ شاعراً غابراً، بل بوصفهِ رمزاً؛ "كموضوعٍ يشيرُ إلى موضوع آخر، لكن فيهِ ما يؤهله لأن يتطلّبَ الانتباه لذاتِهِ كشيءٍ معروض" (67) لقد أرادَ لأبي الطيب أن يكونَ رمزاً للشاعِر العظيم الذي يجب ألا يُخطئ الطريق. من خلالِ المتنبي يريدُ العيسى لكل الشعراء أن يحملوا طموحات شعوبهم، وأن يكونوا سلاحاً من أسلحة الأُمّة: "وسُلَّ ملحمةَ الجوعى وانزل قوافلنا صرعى إنزل... شبيبُتنا صرعى نساؤنا، أهلنا، أطفالنا صرعى" (68) وإن استطاع سليمان العيسى أن يتعامل مع المتنبي كرمز؛ فإنّهُ قدّمَ رمزاً مكشوفاً، مُباشراً، وترك للهاجس السياسي أن يفسدَ عليهِ تماسك الرمز، فيجرّدهُ من بعض الغموض الشفيف المطلوب، فيقع في الخطابة العاطفيّة: "ونحنُ غزّةُ، نحنُ اللدُّ والنقبُ نحنُ الملايينُ، يا وهران ياحلبُ انزل... إلى النارِ سيفُ الدولةِ الرُتَبُ" (69) والحقيقة أن مثل هذا التدفق العاطفي، قد يُصبح أحياناً في غير صالح الشاعَر؛ فإنك لتستغربُ مثلاً كيفَ يكرُّر الشاعِر مفردة واحدة مثل "اللهب"، أربع مَرّات: اثنتان منها في القافية ، بالاضافة لمفردة من المادة نفسها هي "النار"، التي ترد أربع مَرّات أيضاً في حشو الأبيات. ولو عُدنا للشاهد قبل السابق، لوجدنا أن الشاعر أرادَ أن يعبّر عن فداحة الإصابة بتعداد كل الذين يُصرعون: "قوافلنا، شبيبتنا، نساؤنا، أهلنا، أطفالنا"، ولو أمعنا النظر في هذهِ المسميّات، للاحظنا كيفَ تتقاطع؛ فعلى الأقل يمكن حذف كلمة "قوافل"، لأن القوافل تحمل الأهل وهم: نساء وأطفال وشبيبة.. الخ. وفي المقطع الأخير من القصيدة يتركُ الشاعِر أبا الطيب ويخاطبُ "غبشَ الدُنيا"؛ رامزاً بذلك للاستعمار، ويعلنُ أنَّ صوته -بما يمثلهُ صوت الشاعر- سيصل إليه بالقوّة: "بالنارِ قدّستُ مسراها ستسمعني بمنجمِ اللهب الآتي ستسمعني.." (70) ويكرر كلمة "تسمعني" أربع مَرّات مؤكداً من خلال هذا التكرار البياني على دلالة هذهِ العبارة، وموحياً أنَ السماع لن يكونَ عن طريقِ الأذنِ فقط. و- بيان الصفدي والمتنبي: قصيدةُ بيان الصفدي التي عنوانها "المتنبي" تختلفُ عن سابقاتِها؛ بأنها مكتوبة للأطفال. وقد أخَذَ الشاعِرُ على عاتقهِ مهمّة أن يقدّم هذهِ الشخصيّة العظيمة لهم بأبهى ثوبٍ؛ شاركت في نسجِهِ اللغة العذبة السهلة المتينة و الموسيقا البسيطة التي تضافَرَت في تشكيلها مجموعة عوامل هي نغمة المتدارك الراقصة و القوافي المتعدّدة والمتقاربة: بالإضافة لقافية واحدة بعيدة ربطت مقاطع القصيدة الثلاث. لنقرأ المقطع الأول: "المتنبي جدّي العربي ابن السقاء المغمور وهو فتى العربِ المشهور لم يقعدهُ الفقر القاسي عن أن يبرزَ بينَ الناسِ منقوشٌ في قلب الأمّهْ كالنجم الهادي في الظلمهْ" (71) كما لايخفى علينا، التقطَ الشاعِرُ في المقطع السابق عاملاً من أهمِ عواملِ تكوين شخصيّة المتنبي وهو منبتُهُ الطبقي المتواضع؛ الذي لم يقف عائقاً في وجهِ طموحِهِ وموهبتِهِ؛ حتى كانَ لهُ أن يحفرَ اسمُهُ في قلب أمّتهِ. وفي المقطع الثاني يلتقطُ بيان فكرتين على غايةٍ من الأهميّة ليسَ فقط للصغار، بل لنا نحن الكبار: "المتنبي عبرَ الحقبِ ظلَّ يخلّدُهُ الإبداعُ وكثيرٌ في الزحمةِ ضاعوا وهو الباقي ظلَّ فريدا صوتاً لا يُنسى وجديدا غنّى نخوةَ سيفَ الدولهْ جعلَ الدنيا ترقصُ حولَهْ" (72) إن ما حفظِ لنا -ولمن يأتي بعدنا- اسمَ المتنبي هو إبداعُهُ المتميّز الذي لايمكن أن يُنسى والقابِلِ للتجددِ مع القراءات المتتالية. والأمر الثاني هو أن صوت الشاعِر المبدع هو الذي يجعلُ الدُنيا ترقصُ حولَ القائِدِ الفارسِ الشجاع الذي يذودُ عن بلادِهِ وشعبهِ كسيف الدولة. أما المقطع الأخير وهو أقصر مقاطع القصيدة فيقدّمُ خلاصةَ حياةِ المتنبي كلها وشعرَه حيث نقرأ: "المتنبي حرفٌ ذهبي مسطورٌ في أبهى كُتُبِ: (عش في الدُنيا بفروسيّهْ واطلب ماعشت الحريّهْ)" (73) لقد عاش المتنبي حياته بفروسيّة، ودفَعَ دمه في النهاية ثمناً لذلك؛ ولقد غنّى للحريّةِ دوماً؛ وكان كلّما أحسَ بأنه سيفقدها لسبب أو لآخر فَضّل حياة الرحيل والتنقّل، للقصيدةِ جانبٌ تربويٌّ تعليمي واضح لكن ذلكَ جاء بثوبٍ زاهٍ قشيب وكانت القصيدةُ للصغارِ والكبار ككلِ الشعرِ الجميل. وقبلَ أن ننتقلَ إلى النمط التالي، من أنماط التعامل مع المتنبي لابُدّ لنا كي نكونَ موضوعيين أن نعترفَ أن توظيف الشخصيات التراثيّة؛ واستحضارها بشكلٍ فني إيحائي، واستدعاءها رموزاً تحملُ أبعاداً جديدة معاصرة قادرة على تقديم الرؤية الشعرية للشاعِر العربي الحديث، "بحيث يسقط الشاعِر على معطيات التراث ملامح معاناتِهِ الخاصة، فتصبح هذهِ المعطيات معطيات تُراثية -مُعاصرة، تعبرُ عن أشد هموم الشاعِر المعاصر خصوصيّةً ومعاصرة، في الوقت الذي تحملُ فيه كل عراقة التراث وكل أصالته، وبهذا تغدو عناصر التُراث خيوطاً أصيلة من نسج الرؤية الشعرية المعاصرة، وليست شيئاً مقحماً عليها أو مفروضاً عليها من الخارج" (74)؛ إن مثل هذا التوظيف أمرٌ ليس قديماً بالنسبة لشعرنا العربي، وربّما عرفناهُ على وجهِ التقريبِ منذ أربعة عقودٍ؛ وبالتالي علينا حين ننظرُ إلى تجربةِ عمر أبي ريشة والقروي والأخطل مع المتنبي (قصائدهم مكتوبة سنة 1935)، أن نراعي هذهِ المسألة. |
المتنبي عنوان على مرحلة
القصائد التي تنضوي تحت هذا النمط من التعامل مع شخصيّة المتنبي، يحمّلها أصحابها جزءاً كبيراً من المواقف التي فرضتها المرحلة التي كُتبت فيها هذهِ القصائد؛ وذلك انطلاقاً من سمات متشابهة بين تلكَ الحقبة التي عاش فيها المتنبي؛ وتلك التي يعيشها الشعراء المعاصرون أنفسهم؛ بمعنى آخر قد نَرَى شاعِراً يستحضرُ -من خلالِ استدعائِهِ للمتنبي- تلك التجزئة والفرقة اللتين عاشهما العالم العربي في زمنِهِ ويسقطهما على الواقع الراهن، فنجدُ المتنبي وقد أمسى عنواناً لمرحلةِ التجزئة، وقد نجد شاعراً آخر يستحضرَهُ ليتحدّثَ من خلالِهِ عن قائدٍ كسيف الدولة يقفُ في وجهِ الروم ويحمي بلاد العرب ليصلَ من خلالِ ذلك إلى إدانةِ الواقعِ العربي الراهن كما فعَلَ -على سبيل المثال- محمّد مصطفى درويش في قصيدتِهِ "قراءات محظورة في ذاكرة المتنبي"؛ حيثُ يقول على لسان المتنبي: "دثّروني بالليلِ والجنونِ يقالُ: سيف الدولةِ انتحرْ وتُركتْ جثتُهُ وحيدةْ تنعقُ مثل الريحِ في العراءِ زَرعتُ قلبَ ساعةٍ مسلولةٍ في جسد القصيدةْ ولذتُ بالبكاءِ" (75) فيصبحُ استدعاء المتنبي بمرحلتِهِ عنواناً على مرحلةِ تخاذلٍ أو ماشابه ذلك. سأتناولُ بشيٍ من التفصيل كمثالٍ على هذا النمط قصيدتين، الأولى لفايز خضّور، عنوانُها "المتنبي يقرأُ في كتاب قاسيون" والثانية لأمل دنقل وعنوانها "من مذكرات المتنبي في مصر"، واللافتُ للانتباه أن قصيدة خضّور مكتوبة بعد حرب تشرين التحريريّة 1973، وقصيدة دنقل بعد نكسةِ حزيران، ولكن سنة 1968. آ- فايز خضّور والمتنبي تتألف قصيدة "المتنبي يقرأ في كتاب قاسيون" من ستة فصول، ومقدّمة جاءت في أربعة مقاطع، وقد استهلَّ الشاعر كلاً من الفصول والمقدّمة ببيتٍ للمتنبي، والحقيقة أن عملية تقسيم القصيدة إلى مقدّمة، وفصول مرّتبة بشكلٍ متنامٍ، أمرٌ لايسيء إلى النص، ولايمزّقُ كليتَهُ وبناءه، بقدر مايعكس رغبة خضّور المعروفة في إخراج الهيكل المعماري للقصيدة الحديثة من دائرة النمطية والتقليد! بالإضافة إلى انسجام هذا التقسيم مع عنوان النص! فالنص "كتابٌ" والكتب عادةً تتألف من مقدمات وفصول مختلفة، ولكلِ فصلٍ أن يعالج فكرةً ما، موضوعاً جديداً يختلفُ عن سابقهِ أو يعمقّه وينميّه.. الملاحظة الأولى التي يجدرُ ذكرها، أن المتنبي غير موجود إطلاقاً إلا في العنوان، ولو حذفتَ اسمهُ من عنوان القصيدة لوجدتَ نفسك أمام نصٍ لاعلاقة لهُ من قريبٍ أو بعيد إلا بفايز خضور والوطن العربي سنة 1973. ولهذا فالعنوان يؤُثّرُ هنا تأثيراً دلاليّاً رئيساً في النص، بالإضافة لأبيات المتنبي المختارة بأناةٍ وذكاء، والتي لاتشكلُّ عكازاً للنص، بقدرِ ماتدخل في علاقة تأُثير متبادل معهُ، ويستطيع القارئ أن يدرك مالهذه الأبيات من أهميّة، حين ينتبه أن أربعة فصول من ستة استهلها الشاعرُ ببيت من قصيدة المتنبي الأشهر "على قدْرِ أهل العزمِ تأتي العزائمُ"، وهي القصيدة التي قالها يمدَحُ سيف الدولة بعدَ انتصارهِ على الروم سنة (343هـ-954م)، وبنائهِ ثغر الحدث. أما البيت الأول الذي يفتتح به المقدمة وهو : وتخافُ أن يدنو إليكَ العارُ للهِ قلبُكَ ماتخافُ من الردى فهو من قصيدته التي قالها يمدحُ سيف الدولة أيضاً، وقد سألهُ السير معهُ لمّا سارَ لنصرةِ أخيهِ ناصر الدولة ومطلعها: وأرادَ فيكَ مُرادُكَ المقدارُ سِرْ! حلَّ حيث تحلّه النّوارُ وبالتالي فإن ربط هذه الأبيات وهي مكتوبة في مدحِ انتصارات عربيّة نادرة في زمنٍ كانت فيهِ الإمارات العربيّة المتَبقيّة من الدولة العباسيّة تخوض حروبها الخاصة فيما بينها! ويحاول كل أميرٍ أو سلطان أن يجدَ لهُ متراً مُربعاً يبني عرشهُ عليه، إن ربط هذهِ الأبياتِ بنصٍ حديث يكتبُ في زمنٍ شديد الشبه بالزمن المذكور! زمن تحاول فيهِ دولتان عربيتان أن تحققا نصراً عربياً على عدوٍ في منتهى الشراسة، وتفلحان إلى حدٍ بعيد، هي مسألة تنطوي على كثير من الأهميّة. إن المتنبي في هذهِ القصيدة ليسَ قناعاً فنياً، خضّور يحاولُ أن يستدعي هذهِ الروح العظيمة التي شهدت نصرَ سيف الدولة على الروم، وبناءَه لثغر الحدث على جماجم الأعداء في زمنٍ هو زمن التردّي العربي، لتأتي الآن وتحوّم فوق جبهات القتال! فوق جبل الشيخ والحمّة و طبريّا وسيناء، وقناة السويس، وتشهد حدثاً عظيماً في مرحلة سوداء من مراحلِ حياة العرب.... إن المقدّمة ومعظم الفصول تأتي على لسان متحدثٍ ما، أغلب الظن أنه فايز خضّور نفسه رغم تعدّدِ وتغيّر ضمير المتكلم، أما المتنبي فهو الشخص الذي وَضَع قاسيون كتابهُ بين يديه وقال له: اقرأ بنفسك. فراح يقلّبُ صفحاته، ويقرأها فتثيرُ في ذهنهِ ذكريات قديمة تأتي على شكل أبيات قليلة تصفُ شيئاً مشابهاً للحدث المعاصر. في المقدّمة وقبلَ أن يتسنّى للمتنبي أن يغوص في فصول الكتاب نسْمعُ صوت الشاعر المُنْشِئ الذي يمتزج بأصوات الناس؛ يُعلنُ انتسابهُ إلى العامة الفقيرة التي تصارع وتخوضُ حروبها فلا تحصد إلا الهواء: "ياعشقنا المجنون نفنى هنا نبقى هُنا وتبقى: الشاهدَ الوحيدَ في صراعنا مصيرنا عذابنا المحكومِ بالولاءِ والرضوخْ" - الفصل الأول: ويفتتحهُ الشاعر بقول المتنبي: وأرادَ لي. فأردتُ أن أتخيّرا أعطى الزمانُ فما قبلتُ عطاءهُ والبيتُ يعني أن المتنبي لم يقبل ماجاد بهِ الزمان عليه! أي ماوردَ منهُ عفواً دون سعيٍ وجد لأنه لايقبلُ شيئاً لايحصّلهُ بجهده، ولأنه لايُريدُ للقدر أن يرسم لهُ كل شيء. في البيت إصرارٌ على دور الإرادةِ والصبر في بلوغ المعالي والرتب ثُمّ يبدأُ الفصلُ هكذا: "نبدأُ الهجرةَ الدمويّةَ، من لثغةِ الجرحِ، ولولةِ البرقِ نبدأُ نفخَ صورِ الشهادةِ. (قدرٌ نحنُ). أيّها الوطنُ الثأرُ. أُعْليكَ نسراً، وأصفيكَ دربَ خلاصٍ.."(77) أول مايلفت انتباهنا أن ضمير المتكلم هنا، هو ضمير الجماعة، وليسَ المفرد، فندرك أن صوت الشاعر هو صوت الشعب. "(لغةٌ نحنُ) ننتخي بالأهازيجِ، يومَ الجنازاتُ زغرودةٌ في طريق البطولاتِ. يومَ التوّجعُ نشوة" ويتابع الصوتُ التحامهُ بالناس، بل هو صوتها: " (أُمّةٌ نحن) حَرّضتنا النزوحاتُ والغدرُ والهجرةٌ الموسميّةُ: أن نبدأ الزحفَ أن نُشعلَ الغارة- الصُبحَ- أن نحملَ القتلَ كأساً مشعشعةَ المزجِ مُترعةَ النارِ أن نستردَ الحقولَ السليبهْ"(78) إن هذا الفصل؛ هوالفصل الذي يضعُ بين يدي المتنبي المشكلة، المصيبة، ويعللُ لهُ سببَ الزحف الذي لابُدّ منهُ. وهكذا نستطيع أن ندرك منذُ البداية أن خضوّراً ماأرادَ أن يلبسَ المتنبي قناعاً، بقدر ماأرادَ منهُ أن يقرأ كتابَ قاسيون ويُعلّق على فصولهِ مُعبراً عن ذلك بتلك الأبيات المتناثرة على مداخل تلك الفصول؛ وعليهِ أستطيع أن أربط بين بيت المتنبي السابق، وماجاءَ في هذا الفصل: إن هذا الشعب لم يأخذ من الزمن ماأعطاه! لأنه أقل من أن يُرضي طموحه، وفضّل الزحف طلباً للتحرير، إن الصوت الذي كان منفرداً في البيت أعلاه، أصبح كصوت جماعة في النص. - الفصل الثاني: يبدأُ ببيت المتنبي سروا بجيادٍ مالهنَّ قوائمُ أتوكَ يجرّونَ الحديدَ كأنّهم هَلْ يجهَلُ فايز خضوّر أن هذا البيت قاله المتنبي في وصف جيش الروم المرعب؟ لاأظنُ ذلك! ولكنَ من حقّهِ أن يقلبَ الأمر.. ونكتشفُ هذا منذُ بداية الفصل: " إلى أينَ هذي القوافلْ؟ - إلى جبلِ الشيخِ والحمّةِ الدافئهْ. ومن أينَ هذي القوافلْ؟ - من كل قريهْ ومن كلِ جردٍ، وسفحٍ وسهلٍ وكوخٍ وبيتْ. من الريحِ والرملِ والأرصفهْ"(79) إنهُ فصلُ الزحفِ. شعبٌ يزحفُ من كلِ مكان، شعبٌ يجرُّ الحديد والعتاد الثقيل، ويحملُ في القلبِ غصّاتهِ وثآليل نكسة حزيران: " أتينا وفي القلبِ غصةَ غدرٍ حملناهُ عشرَ سنينٍ عجافٍ ثآليل من نكسةِ الصيفِ آية ثأرٍ، حفظنا تعابيرها، والمضامين كنّا نغضُّ- من الخزي- أبصارنا..."(80) إلى أن يقول: "زحفنا لنرجعَ للأُمّهاتِ ارتياحَ الولادةِ: زنابقَ حمراء مكحولةً بالنجيعْ"(81) وهاقد وصلتِ الجموع الزاحفة وكان لها هذهِ المرّة أن تأخذ القرار بالبدءِ.. "أتينا، وها نحنُ نمتلكُ البدءَ وصلنا، بدأنا بسفر الدخولْ" - الفصل الثالث: يبدأُ ببيت المتنبي: كما تتمشى في الصعيد الأراقِمُ إذا زلقتْ مشيّتها ببطونها والبيتُ في وصف خليل سيف الدولة التي طاردَ عليها فلول الروم، فوقَ ذرا الجبال، وبين وكور الطيور الجارحة! وكانَ إذا هبط بها في الشعاب جعلها تنزلق على بطونها كالأفاعي.. وحين نتذكر أنَ الكثير من معارك تشرين كانت في الجبال والتلال، وأشهرها معارك جبل الشيخ، نستطيع أن نفهم هذا الاستهلال! نقرأ: "أيّها القادمونَ مع الفجر ممحّوةٌ في الطريق التضاريسُ جبهتكم وعْرَةٌ.. بدّلَ الغزو كلَّ الثمارِ بألغامِ قتلٍ حديدٍ دمارٍ وكل المفازاتِ تسكُنُها الأسلحهْ!" ويتابع المتنبي قراءة هذا الفصل، فيعيشُ المعركة الحديثة بكل هولها، كما كانَ لهُ من قبل أن يحْضُر وقعة الحدث وغيرها، لكن صوت الشاعر الشعب لاينسى أن يذكّرَ هذا القارئ الجليل! أنَ من يخوض هذه الحرب هي الجموع البائسة الفقيرة التي تعرّضت عبر تاريخها الطويل لكل أشكال القمع والظلم والخيانة. "يابلاد الحرائقِ والبعثِ باسمك نفتتحُ الزمنَ الصعبَ باسمِ ضحاياكِ نفتض ختم التخاذلِ والموتِ بالرغمِ من هيمناتِ الخياناتِ والغدرِ والعسس الواقفينَ على صدرنا صخرةً رازحة"(84) - الفصل الرابع: فصلٌ غريب! إنهُ يبدأُ بقول المتنبي: كأنّكَ في جفن الردى وهو نائِمُ وقفت ومافي الموتِ شكٌ لواقفٍ وهو فصل أبيض؛ لاكلام فيهِ سوى ملاحظة تأتي في آخر القصيدة تقول: "أوراق هذا الفصل متروكة في مرصدِ جبل الشيخ والقنيطرة". وأعتقد أن الشاعر تركَ للقارئ أن يشارك بطريقةٍ مافي كتابة النص، فتركَ لَهُ هذا الفصل بعد أن قامَ بتوجيهه بالشكل الذي يُريدهُ. - ويبدأ الفصل الخامس بقول المتنبي: جدي مثلَ من أحببتُهُ تجدي مثلي تقولينَ مافي الناس مثلكَ عاشِقٌ وبيت المتنبي واضح؛ إنه يقول لعاذلته: إن وجدتِ مثل الذي أحببتهُ بين المعشوقين، فسيكون لكِ أن تجدي بين العاشقين مثلي. لكن المتنبي يتابع في قصيدتهِ تلك قائلاً: وبالحسنِ في أجسامهنَّ عن الصقلِ محبٌّ كنى بالبيض عن مرهفاتهِ جناها أحبائي وأطرافها رُسلي بالسُمرِ عن سُمرِ القنا، غير أنّني فيتضح أنهُ يتحدّث عن عشقهِ للسيوف والرماح أو ماتكسبُهُ من المعالي. فماالذي يُريده خضّور من بيت المُتنبي ذاك؟ حين نقرأ هذا الفصل ننتبه أن ضمير المتكلم هو ضمير المفرد! بعد أن كانَ فيما سبق. ضمير الجماعة، ونلاحظ بعدَ قليل أن هذا الفصل في كتاب قاسيون هو فصلٌ كتبَهُ شهيدٌ ما! شهيدٌ مجهول: "ظالِمٌ ياشتاءْ كيفَ غاب المغنونَ، ليلةَ عُرسي الأخير؟! والسهارى غفوا قبلَ دفن المساءْ يادُجى المقبرةْ كن فتيلَ القناديلِ، زيتَ الحياةِ الجديدةِ والمغفرةْ"(85) إن هذا الصوت، وإن كان مُفرداً، إلا أنه يمثلُ هنا صوت كل من سقطوا في هذهِ الحرب المقّدسة، ومن هنا نفهم كيف يكون دجى المقبرة فتيل القناديل، إن الظلام الذي يحيط بأجساد الشهداء هو نورٌ للأحياء، وهو زيت حياةٍ جديدة، ولكن نغمة الشكوى والألم في صوت الشهيد توحي بالخوفِ والرهبة من القادم: "يفعم العشقُ قلبي. يفعم العصبَ الحيَّ حُبّي لأرضي وشعبي وأهلي الذينَ انتظرتُ زغاريدهم ضيّعوني"(86) إنها نغمة مُنذرة! لكأنّها تتنبأ بما آلت إليهِ الأمور بعد النصر! لقد كان أولى بنا أن نستثمِرهُ، لكن شريط الأحداث التاليّة ضيّع دماء الشهداء! ويتابع الصوت: "أيّها الكفنُ المطريُّ انتظرني على ضفّةِ النهرِ بضع ليالٍ سآتيكَ أحملُ كلَّ جراحي صلاتي وشاهدتي الحجريّةَ والأُغنياتِ العذارى وآخر حرفٍ لها للتي عشتُ من أجلها. وأنتهيتْ"(87) لقد كفّنَ المطرُ الشهيد، ولايخفى علينا ماللمطر هنا من دلالةٍ رسّخها الشعر العربي القديم، والشعراء الرواد كالسيّاب، وننتبه هنا إلى أن السطر الأخير استطاع أن يعيدنا إلى بيت المتنبي؛ فرأينا أن محبوبة الشهيد (التي مافي الأرضِ مثلها) هي بلاده وليست السيوف والرماح كما هو الحال عند المتنبي! - ويختتمُ خضّور قصيدته بالفصل السادس الذي يستهلُّهُ بقولِ أبي الطيب: وللحُبِّ مالم يبقَ مني ومابقي لعينيكِ مايلقى الفؤاد ومالقي والمعنية عندَ خضّور هي البلاد التي تُسْفَحُ لأجلها الدماء! وهذا بالطبع ماسنخرجُ بهِ حين نقرأ هذا الفصل، الذي يختم القصيدة بكثيرٍ من الحزنِ والخيبةِ رغم أنها - كما قدّمتُ- مكتوبة سنة 1973؛ ولعلَّ فايز خضّور حينها، خالفَ معظم شعراء العربيّة الذينَ تناولوا هذهِ الحرب، وماكانَ بإمكان القارئ يومها أن يجدَ عُذراً للشاعر، إلا بنزعة التشاؤم التي تقلب الأمور، لكنُهُ -أي القارئ- وبعد فترةٍ غير طويلة سيصل لجوهر هذا الشعور؛ وسيصلُ إلى ماقاله محمود درويش ذات يوم: "فقد يكذبُ الأنبياءُ وقد يصدقُ الشعراءُ كثيراً.."(88) ومن الذي كان يدفَعُ الثمن دائماً؛ إنها الجموع الفقيرة التي تزدادُ فقراً إثر الحرب: "وحدنا، ننتخي، نحضنُ اللعبة الأزليّةَ نفنى، نصدّقُ كلَّ الأكاذيب نمضي شقائقَ في معمعان الشهادةِ ... ماذا نقولُ لأطفالنا بعدَ أن شَرّشَ الجوعُ والبردُ يومَ الزعاماتُ لاتعرف الجوعَ والبردَ.."(89) ب- أمل دنقل والمتنبي لأمل دنقل - كما أسلفت- قصيدة عنوانها "من مذكرات المتنبي في مصر"، وقد استخدمَ الشاعرَ شخصيّة المتنبي قناعاً أرادَ من خلاله إيصال مجموعة من المواقف والآراء، بل وتمكّنَ من جعلِ هذهِ الشخصيّة عنواناً على مرحلة تمرُّ بها مصر في الستينات وتحديداً بعد النكسة، لقد أنشدَ دنقل من البدايةِ حتى النهاية بلسان المتنبي، وكان يتبنّي مواقف وأحلام هذه الشخصيّة التي بَثَّ في عروقها شيئاً من دمِهِ هو. كل ذلك جاءَ بأسلوبٍ قصصي ناجح؛ وهذا ماجعلني أعتَبرُ أن دنقل لبسَ هذه الشخصيّة قناعاً؛ وهذهِ التقنيّة التي مَنَحها إسمَها الشاعر ييتس تقومُ على أن "يحقن الشاعِر أبطاله التاريخيين بوعيٍ مُعاصر"(90) فيفهمون بعدَ ذلك أفعالهم القديمة من خلال هذا الوعي وكانَ الأمرُ قبلَ ييتس مختلفاً عن ذلك فبراوننغ مثلاً "يأخذُ أبطاله من التاريخ ويتركهم يسردونَ أفعالهم بلسانهم وضمن حدود وعيهم التاريخي، تاركاً وعي القارئ يشترك مع وعي الشاعِر في تحليلِ أفعال المتكلم".(91) ولئن فرضت حساسيّة المرحلة، والخوف من سلطة الرقابة مثل هذا الأسلوب الفنّي، إلا أن القارئ لن يشعرَ بذلك مطلقاً؛ فقد استطاعت موهبة أمل دنقل أن تقدّم لنا هذا القناع على أنه أحد أهم غايات القصيدة، وليس مجّرد تقنية خارجيّة لتقديم أفكار النص. إن تلك الأحداث التاريخيّة التي عاشها المتنبي (والتي اختلقها الشاعر نفسه) تتحّولُ في سياقٍ شعري جميل إلى مُعادلٍ موضوعي مُعاصر، يُساعدُ على ذلك تضمينٌ مُوّفق لمجموعة من أبيات المتنبي! أجرى عليها الشاعِر بعض التغييرات متكئاً على ما تمتلكه من حرارةٍ وتأثيرٍ وشهرة بين الناس- فقدّمت دلالات جديدة مُعاصرة. ولقد أجادَ الناقد عبد السلام المساوي في دراسةِ هذه القصيدة تحتَ عنوان "المتنبي؛ أو أسطرة الشخصيّة التاريخيّة" (92). التي ضمّنها كتابه "البنيات الدالة في شعر أمل دنقل" لقد كشفَ المسّاوي "عن التحوّل الذي تخضع لهُ الشخصيّة التاريخيّة الواقعيّة، عندما يتمُّ توظيفها لأداء دلالات معيّنة يُريدها الشاعِر (93)" لكنّهُ بالغَ قليلاً حين قرَّرَ أن شخصيّة المتنبي في القصيدة "قد انزاحت عن ملامحها التُراثيّة القديمة، وتلبّست ببعدٍ أسطوري، يُمكّنُها من تملكِ صوتٍ جديد، وموقفٍ مغاير لسابق مواقفها" (94) ووجه المبالغة أن انزياح شخصيّة المتنبي عن ملامحها التُراثية، كان انزياحاً بسيطاً، ولم يصل إلى امتلاكها أو تلبّسِها ببعدٍ اسطوري. لقد استطاع أمل دنقل أن يفيد من حبس كافور لأبي الطيّب، حيثُ كان يكيلُ لهُ الوعود ويماطِلهُ دون أن يعطيه شيئاً، وقد تناولت القصيدة هذا الحبس الذي تحدّثَ عنهُ المتنبي الحقيقي في بعض قصائدهِ التي هجاهُ فيها (ابتداءً من حنينه ورغبته في السفر إلى مرضِهِ في مصر، إلى بخلِ كافور وجشعهِ وجبنهِ). القصيدة ذات نفسٍ واحد، فالمقاطع لايفصل بينها شيء، لكن دِنقل عمدَ إلى وضع نجمين إلى يمين النص عند بدايةِ كل فكرة جديدة، أو يوم جديد يدوّنُهُ المتنبي! وبالتالي فقد قسّم النص إلى أيام ومشاهد دون أن يلجأَ إلى تقطيعه. تبدأُ القصيدة هكذا: "** أكرهُ لونَ الخمرِ في القنينَهْ لكنني أدمنتُها.. استشفاءا لأنني منذُ أتيتُ هذهِ المدينهْ وصرتُ في القصور ببغاءا عرفتُ فيها الداءا" (95) المتنبي مريضٌ، وقد أدمَنَ الخمرةَ رغمَ كرهِهِ لها، علّها تخففُ من مرضه، وهو يُدرك سبب هذا المرض؛ إنهُ التحوّل إلى ببغاء في قصر كافور! والمقطع الثاني لاجديد فيه، إنهُ يُطابق الحقيقة التاريخيّة: "** أمثلُ ساعةَ الضُحى بين يدي كافورْ ليطمئنَ قلبُهُ؛ فما يزالُ طيرهُ المأسورْ لايتركُ السجنَ ولايطيرْ! أبصرُ تلكَ الشفة المثقوبةْ ووجهه المسودَ، والرجولة المسلوبَهْ أبكي على العروبهْ!" (96) وموقف أمل دنقل في هذا المقطع أقربُ مايكون لموقف براوننغ الذي سبق وذكرتُهُ؛ إنَّ شخصيَته التاريخيّة تتحدّث بلسانِها هي، وضمن حدود وعيها التاريخي، وإلا فكيفَ نفسّر سخريته المُرّة من سواد بشرةِ الحاكم وشفته المثقوبة، ومسألةُ خصائِهِ؛ إلا أننا حين نُحسِنُ الظن بهذه الطريقة، نجدُ أنفسَنا أمامَ مأزقٍ فني للشاعِر؛ فشخصيّة المتنبي في مقاطع أخرى خاصةً الأخير "محقونة بوعيٍ مُعاصر" هو وعي شاعر تقدمي في القرن العشرين؛ فكيفَ نفسُّر هذا التناقض؟ في المقطع التالي يجعل دنقل المتنبي رجلاً قادراً على تلمّسِ آلامِ أهل مصر؛ فهاهم يرفعونَ الرقاع والمظلمات إلى أميرهم الرخوذي السيفِ الصديء: "** وعندما يسقطُ جفناهُ الثقيلانِ، وينكفيء أسيرُ مُثقلَ الخُطا في ردهاتِ القصرْ أبصرُ أهلَ مصرْ ينتظرونَهُ.. ليرفعوا إليه المظلمات والرقاعْ" (97) وفي المقطع نفسه يجري حوارٌ بين المتنبي وجاريته الحلبيّة التي تحثّه على العودة إلى حلب، فيستطيع الشاعِر من خلال ذلك، أن يرسم حالة الوطن العربي الراهنة حيث تفصل نقاط الحدود بين بلدانه: "جاريتي من حلبٍ تسألني: متى نعود؟ قلتُ: الجنود يملأونَ نقطَ الحدودْ مابيننا وبينَ سيف الدولهْ" (98) يستحضرُ في المقطع التالي صورةَ تلكَ البدويّة "خولة" التي رآها قربَ أريحا، والتي علمَ فيما بعد أنها أُخذت سبيّة، وماذادَ عنها أحد؛ وهنا يتمكن الشاعِرُ أيضاً من سحب الحدث الماضي على الواقع الحاضر؛ فالمرأة المسبيّة من قبل الروم تجدُ لنفسها مُعادلاً موضوعياً في حاضر الأمّة. وبعد ذلك نقرأ: "** في الليلِ، في حضرةِ كافورٍ أصابني السأمْ في جلستي نمتُ ولم أنمْ حلمتُ لحظةً بكا" (99) هنا يحلمُ متنبي القصيدة بسيف الدولة يطاردُ جنود الروم ويهزمهم، ثُمّ يعودُ إلى حلب مَحوطاً بالهتافات؛ لكنهُ حين يفتح عينيه: "لكنني حين صحوت وجدتُ هذا السيّد الرخوا تصدّرَ البهوا يقصُ في ندمانهِ عن سيفهِ الصارمْ وسيّفهُ في غمدهِ يأكلهُ الصدأ" (100( ومرادُ أمل دنقل واضح؛ إنه ومن خلال شخصيّة كافور يُدينُ تقاعس الحُكام، ليسَ فقط في استردادِ ماأحتُلَّ من بلادهم؛ ولكن في حماية ماتبقى؛ وتشتدُّ هذهِ الإدانة في المقطع الأخير: "تسألني جاريتي أن أكتري للبيت حُرّاسا فقد طغى اللصوصُ في مصرَ.. بلا رادع فقلتُ هذا سيفيَ القاطعْ ضعيهِ خلفَ الباب متراسا! (ماحاجتي للسيفِ مشهورا مادُمتُ قد جاورتُ كافورا). " (101) إن عبارة "طغى اللصوص في مصرَ بلا رادع" كما يشير عبد السلام المسّاوي "تشكّلُ البؤرة الدلاليّة داخلِ المقطع، وتتجاوز الزمن التُراثي إلى الزمن الحاضر؛ يتخذُ اللصوص هيئة جديدة، وأساليب جد متطورة في نهبِ حقوق الشعب المصري وحرّيته". (102) ويعمدُ أمل دنقل في نهاية قصيدته إلى تضمين بيتين للمتنبي من قصيدته ذائعة الصيت: بما مضى، أم لأمرٍ فيكَ تجديدُ عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ ياعيدُ وهو بذلك يسعى للإفادة من بعدٍ هام من أبعاد هذهِ الشخصية، فالمتنبي شاعرٌ بالدرجة الأولى. ويعمد دنقل إلى إجراءِ تحويرٍ جزئي في بنية البيتين حيثُ نقرأ: "عيدٌ بأيةِ حالٍ عُدتَ ياعيدُ؟ بما مضى؟ أم لأرضي فيكَ تهديدُ؟ نامتْ نواطيرُ مصرَ عن عساكِرها وحاربتْ بدلاً منها الأناشيدُ! ناديتُ: يانيلُ هل تجري المياهُ دماً، لكي تفيضَ ويصحو الأهلُ إن نودوا عيدٌ بأيةِ حالٍ عُدتَ ياعيدُ" (103). كأني بأمل دنقل قد طفحَ بهِ الكيل، وخشيَ ألا يستطيع القارئ أن، يكشفَ قناع المتنبي عن شخصيتهِ هو، فأتى بهذهِ الأبيات الأخيرة! التي سحبت الزمن مباشرةً من القرن العاشر الميلادي إلى العشرين من خلالِ هذه التحويرات البسيطة، حيثُ بَدّل عبارة "أم لأمرٍ فيكَ تجديدُ" بقولِهِ "أم لأرضي فيك تهويدِ"، وكلمة "ثعالبها" ب"عساكرها"، وقول المتنبي "وقد بشمنَ وماتفنى العناقيدُ" بـ "وحاربت بدلاً منها الأناشيد، فأصابت القصيدةُ الكثير من غاياتها فكرياً وفنيّاً. |
المتنبي معادل تراثي
لبعد من أبعاد تجربة الشاعر في هذا النمط من التعامل مع المتنبي نرى الشعراء المعاصرين يستدعونَهُ حين تتلاقى بعضُ مواقفهِ أو ظروفهِ، مع بعضٍ من أبعادِ تجارب هؤلاء الشعراء على صعيدٍ شخصي ذاتي أو وطني وقومي. قد يعيشُ الشاعرُ العربي المعاصر تجربةً ما، تدفعُ إلى ذهنه تجربة مشابهة عاشها المتنبي، فيستحضرهُ ويتحدّث من خلالهِ؛ كأن يمر العيد على يوسف الخطيب وأهلُهُ وأحبابهُ خلفَ الأسلاك فيستذكر مرورَ العيد على أبي الطيّب المتنبي وهو في بلاط كافور بعيداً عن سيفِ الدولة وغيره ممّن يُحبّهم الشاعر. فيكتب قصيدته "بطاقة معايدة إلى أبي الطيّب" والتي يقول فيها: فما وحقّكَ تحتَ الشمسِ تجديدُ عيدٌ حللتَ كما حوّلتَ ياعيدُ ودونَ غزّةَ فولاذٌ وبارودُ أما الأحبةُ فالأسلاكُ دونَهُمُ والتّرجمانُ، سليمانٌ وداوودُ ماشِعبُ بَوّان من حيفا وكَرْمِلِها ماذا أقولُ وبلوايَ الأخاشيدُ (104) يامن بُليتَ بإخشيدٍ بمفردهِ وقد يجدُ شاعرٌ آخر كمحمّد مصطفى درويش في مرض المتنبي الذي وصفه لنا من خلال زائرتِهِ الغريبة (الحمّى) مُعادلاً تراثياً لتجربتهِ الخاصة مع زائرة من نوعٍ آخر: "ليسَ من يبكي سوى زائرة الليلِ عليّ قدري أن آكل الأحلام إن جعتُ وأشربْ من جرار الندمِ.. قدري أن أسلق الشمسَ وماءَ النيلِ في قدرٍ من الرمل وأطوي جسدي المحمومَ مقتولاً حنيناً للأحبةْ قدري تابوت غربةْ" (105) والأمثلة ليست قليلة على هذا النمط؛ لكنني اخترتُ قصيدتين سأتناولهما بشيءٍ من التفصيل، هما: "رحلة المتنبي إلى مصر" لمحمود درويش، و "موت المتنبي" لعبد الوهاب البياتي. آ- محمود درويش والمتنبي إن قصيدة "رحلة المتنبي إلى مصر"، هي إحدى قصائد مجموعة درويش "حصار لمدائح البحر"، وقد كُتبت هذهِ المجموعة -أو معظمُها- بعد تجربةٍ مريرةٍ في حياة الشاعر وشعبه؛ إنها تجربة حصار بيروت، وخروج المقاومة إلى "التيه"، كما يُعبّر درويش نفسه، وقد طبعت للمرّة الأولى في تونس 1984، ولو استعرضنا قصائد هذهِ المجموعة، من مرثياتهِ في ماجد أبو شرار، وعز الدين قلق وغيرهما، وقصيدة بيروت، مروراً بقصيدتنا موضوع البحث، فسنجدُ أن روحاً حزينة مُنكسرة تخيّم على هذه المجموعة، وتؤسس لروح التعب(106) عند الشاعر التي ستبدو جليّةً في مجموعاتهِ اللاحقة، وحين نقرأُ القصيدة التي بين أيدينا، وفي ذهننا -شئنا أم أبينا- تاريخٌ غير قصير من الهجرات والنكبات والنضال، فسنصلُ إلى قناعة مفادها، إن استحضار شخصيّة المتنبي -التي تكادُ تكون الأكثر ملاءمةً ودلالةً- هو عملية إيجاد معادل تراثي لبعدٍ من أبعاد التجربة الدرويشية -الفلسطينيّة في الخروج من المكان (الجغرافيا) والزمان (التاريخ). محمود درويش يتألّقُ في استخدام المتنبي قناعاً، وأحد أسباب ذلك هو هذا القلق الذي يعيشهُ الشاعر، وهذا الرحيل المرير الذي أكرهَ عليه الفلسطيني بقوّة السلاح ولأكثر من مرّة، فخرج إلى البحر. لقد تركَ المتنبي حلب مُرغماً، رغم عشقِهِ لها ولأميرها، ودرويش يُرغم على الاقتداء بخطوات جدّه، رغم حبّه لبيروت، لكن متنبي القصيدة يخضع لكثيرٍ من الانزياح والتحول؛ لقد أخذ درويش هذه الخامه، مُدركاً خصوصيتها، وإمكاناتِها الطبيعيّة، ولكنهُ اشتغلَ عليها كنحاتٍ ماهر، لقد استطاع استدعاءَها أولاً "من قلب المتلقّي ووجدانه كي تتحوّل بفضل موهبتهِ وثقافتهِ وخبرة تمرّسهِ الفني إلى جسرٍ للتواصل والتحاور والارتقاء. جسرٌ ينتقل القارئُ بهِ- دونَ قلقٍ أو توّجس- من قيمتهِ التقليدية الراسخة إلى قيم الشاعر النابضة بروح العصر"(107). تبدأُ قصيدة محمود درويش بعبارته: "للنيل عاداتٌ وإنيّ راحلُ" وسيكرّر هذه اللازمة ست مَرّات ليختتمَ بها قصيدته في نهاية المطاف. وهذه اللآزمة ستلعبُ دوراً هاماً في بناء القصيدة بشكلٍ عام، فهي بتظافرها مع مايشبه المنولوج الموّشح بشيءٍ من الحوار ستكون مُتكأ الشاعر حين ينتهي من فضاء معنوي ويبدأ بآخر، بالإضافة لدورها الإيقاعي. وستمدُّ هذهِ اللازمة "القصيدة بالنفس الملحمي! فهي تفصلُ بين الأجزاء وتصل بينها في الوقت نفسه، بمعنى أنها تفصل لإفادة انتهاء مسروديّة ذات معنى جزئي وتصل بين المسروديّات كلها صوتيّاً لإكساب النص بناءه المعماري العام" 108 والقصيدةُ ذات نفسٍ واحد رغم ذلك؛ فالشاعرُ لايفصِلُ بين مقاطعها بأيّة فواصل سوى مساحة بيضاء صغيرة، بين اللازمة المذكورة والمقطع الذي يليها توحي بتوقّف الذاكرة قليلاً بغية الراحة قبل أن تُتابع حوارها مع النفس أو مشاهداتِها ومعاناة صاحبها. أودُّ أن أشير أن هذهِ العبارة التي يبدأ درويش بها القصيدة على لسان المتنبي: "للنيل عاداتُ/ وإنيَّ راحلُ" هي حصيلة رحلته كلّها؛ إنّها النتيجة النهائيّه، ومنها يبدأ بطريقةٍ نعرفها في فن القصّة بالارتجاع الفنّي؛ فيحدّثنا بادئ ذي بدء من أين جاء، وكيف ولماذا؟: "أمشي سريعاً في بلادٍ تسرق الأسماءَ منّي قدْ جئتُ من حلبٍ وإني لاأعودُ إلى العراقِ سقط الشمالُ فلا أُلاقي غير هذا الدرب يسحبني إلى نفسي.. ومصرَ" (109) إنه قادمٌ من حلب بعدَ أن سقط الشمال، ولم يبقَ لهُ إلا هذا الطريق حفاظاً لكرامتِهِ وماء وجههِ، وحين نتذكّر أن الشمال تاريخياً وفي فترة المتنبي كان محميّاً بإمارة الحمدانيين، وهو لم يسقط، فسندرك أن انزياح الشخصيّة التراثية قد بدأ منذ بداية القصيدة، وأن درويش راح منذُ هذهِ اللحظة يفصِّلها من جديد على مقاسِهِ بحيث يلبسها براحةٍ ونجاح، مع المحافظة على الكثير من ميزاتها وخصوصيتها: "كم اندفعتُ إلى الصهيل فلم أجد فرساً وفُرساناً وأسلمني الرحيلُ إلى الرحيل ولا أرى بلداً هُناك ولا أرى أحداً هناك الأرضُ أصغرُ من مرور الرمح في خصرٍ نحيلْ والأرض أكبرُ من خيام الأنبياءْ ولا أرى بلداً ورائي لا أرى أحداً أمامي " (110) هذا هو المتنبي الخارج من حلب باتجاه مصر؛ فأين هو درويش الخارج من بيروت؟ اسمحوا لي أن استعير عباراتِهِ في وصف ذلك: "رأيتُ السفينة ذاتها، التي حملت أوليس، أحد أحفادهِ الجدد في القرن العشرين، وعادت من الشاطئ الشرقي للمتوسط إلى أصلها في كريت؛ هزّتني الدلالةُ الجارحة لهذا التيه؛ الذي لم يجدْ لهُ شاطئاً عربيّاً، فعادَ إلى المرفأ الأول.. الرحلةُ مليئةٌ بالجراح والشعر أيضاً، ولاأعرفُ متى يرسو هذا التائه الفلسطيني؟.. الخ" (111) ألسنا أمامَ صوتٍ واحد وحالة واحدة؟! إنّه الإكراه! إكراه الشاعر على التخلّي عن المكان ، "وكأن التخلي عن المكان أصبحَ الظاهرة الأكثر وضوحاً في هذا الزمان العربي، الزمان الذي سقطت فيه كل الأقنعة، زمان غياب العرب وسقوط قلاعهم" (112) وهكذا لايجدُ شاعرٌ كـ (المتنبي/ درويش) مكاناً يلتجئُ إليه، مكاناً يحمي أحلامهُ وعواطفه إلا الأغنية/ القصيدة التي تحلُّ محل الوطن: "وطني قصيدتي الجديدةْ أمشي إلى نفسي، فتطردني من الفسطاط كم ألج المرايا كم أكسِّرُها فتكسرني" (113) إنه البحث المؤلم عن المكان المفقود الوطن الذي يؤمّن لكَ الحماية ولايطردك ولايُلقيك إلى الأعداء؛ لكن أين تجده ومن حولك توزّع الدولُ كالهدايا، وتأكلُ السبايا بعضها، ويصبحُ الانعطافُ والانحرافُ سُنّةً ألن تَشْعر عندها أن وطنك هو صدرك... وصدرك قبرك؟، ألن تجري حينَ تجد من حولك هذا الركود المخيف؟! "أرى فيما أرى دولاً توزّعُ كالهدايا وأرى السبايا في حروبِ السبي تفترسُ السبايا وأرى انعطاف الانعطاف أرى الضفاف ولاأرى نهراً.. فأجري وطني قصيدتي الجديدةْ كيف أدري أن صدري ليس قبري" (114) ويزدادُ حجم الفجيعه حين يُدركُ (المتنبي/ درويش) أنه جاء إلى المكان الخطأ، أو أنه غير مرغوب به هنا، ومامن شيءٍ يشدّهُ إلى هذا المكان: "لاالحبُّ ناداني ولاالصفصاف أغراني بهذا النيلِ كي أغفو ولاجسدٌ من الأبنوسِ مَزّقني شظايا" (115) إنها مصر أخرى غير التي يعرِفُها ويُحبُّها؛ إنّها مصرُ كافور، مصر التي أُخرجتْ من حربِهِ: "والنهرُ لايمشي إليَّ فلا أراه والحقلُ لاينضو الفراش على يديَّ فلا أراه لامصرَ في مصر التي أمشي إلى أسرارها فأرى الفراغ، وكلّما صافحتُها شقّتْ يدينا بابلُ في مصر كافور وفيَّ زلازلُ" (116) وتأتي مساحة بيضاء صغيرة تلتقطُ الذاكرةُ أنفاسها فيها، ليعودَ بعدَ قليل صوتُ الشاعر: "حجرٌ أنا يامصرُ هل يصلُ اعتذاري عندما تتكدّسين على الزمان الصعب أصعبَ منهُ؟ خطوي فكرتي ودمي غُباري" (117) إنه مقطعٌ محيرٌ بلا شك! كيف يعتذر هذا الشاعر إلى مصر التي جاءَها لاجئاً ومستنجداً، فكسرت حُلمه، وخيّبت أمله (ومصر هنا ليست بلاد النيل فقط). أليسَ الأولى أن تعتذرَ مصرُ إلى الشاعر؟! أظن أن درويش قلبَ الصورة بهدفِ المبالغة في الأمر. وهل أمرُّ من أن تعتذرَ لصديقٍ أساءَ إليك وتتركه وتمضي؟ أليسَ هذا أمضى وأشدُ وقعاً في النفس من أن تكيل لهُ الشتائم! أم أن الشاعر يعتذرُ إلى مصر لأنه أصبحَ "حجراً" بفعل مامَرّ عليهِ وعاناهُ، فما من شيءٍ يفعل فعله فيه، ولاشيءَ يعنيه، وهو بالتالي غير قادر على مساعدتها في هذا الزمان، فأفكارهُ الآن هي خطواته، ودماؤه هي ماتثيرهُ فرسُهُ من عجاجٍ وغبار. أنا أرجّحُ الاحتمال الأول لأن الشاعر يتساءل بعدَ قليلٍ بصيغةِ الاستنكار: " هل تتركينَ النهرَ مفتوحاً لمن يأتي ويهبطُ من مراكبه إلى فخذينِ من عاجٍ وعرشٍ"(118) ويحاول أن يترك في قلبه شيئاً من التفاؤل؛ إن الأعداءَ لن ينزلوا مصرَ، ولن يصعدوا الأهرام، وهو علي يقين من أنه شاعراً وشعباً سيكونُ دريئةً لهذهِ البلاد، وسيفنى في الغزوات المتتالية، فما الذي يجعل مصر تُعرضُ عن دموعِهِ وتنظُرُ إلى عدوّه؟ وماالذي يجعلُهُ يلتصقُ بالجميل المتبقّي منها، وكأنه هوالخالد: "أعرفُ أنني أمتصُ فيكِ الغزو أعرفُ أنني سأمرُّ في لمح الوطن وأذوبُ في الغزواتِ والغزواتِ لكن كلما حاولتُ أن أبكي بعينيكِ التفتِ إلى عَدوّي فالتصقتُ بما تبقّى منكِ أو منّي. وأدركني الزمنْ"(119) إن الالتفات إلى العدو طارئ، والشاعرُ يُدركُ ذلك، وهو يعلمُ أيضاً أن هذا الفقر، والوضع الاجتماعي السيء هو "الزائل" ، وهنا نلاحظ الانزياح الكبير في الشخصيّة التُراثية، فالمتنبي بدأ يتحدّث عن أشياءَ وأفكار ماعرفناها عنه قط: "تمضينَ حافيةً لجمعِ القطنِ في هذا الصعيدْ وتسكتينَ لكي يضيعَ الفرقُ بين الطينِ والفلاحٍ في الريف البعيد وتجفُ في دمكِ البلابلُ والذُرهْ ويطولُ فيكِ الزائل" (120) ومصرُ رغم ذلك محبوبةُ الشاعر، وهي وإن كانت تِفرُّ من أضلاعهِ حين يعانقها فهي تسكنُهُ، وستطاردُهُ حينَ يخرج منها، حتى تجعَلَ بلاد الشام منفى للشاعر- وهذا انزياحٌ آخر للشخصيّة التُراثية- فأية حال مُريعةٍ هذه، وأيّ عشق غريب: "بلادٌ كلّما عانقتُها فَرّتْ من الأضلاع لكن كلّما حاولتُ أن أنجو من النسيانِ فيها طاردتْ روحي فصارتْ كل أرض الشام منفى"(121) ويقرّر الشاعر الخروج من مِصر؛ لقد خيّم الركود عليه، وأوشكَ أن ينسى أن خطاه كانت دائماً تبتكرُ الجهات؛ وها هو ذا يتحرّر من سلاسِل كافور، لكنهُ- وهذا قدره- يبقى مُقيّداً برسالتِهِ التي يحملها أبداً. وفي المقطع قبل الأخير، وبينما يودّعُ (المتنبي/ درويش) مصر؛ نرى الألمَ يطفح والغصّةَ تصبحُ بحجم الفجيعة، فلا يستطيعُ كتمانها: "و.... وإلى اللقاء إذا استطعتُ وكلّ من يلقاكِ يخطفُهُ الوداعُ والقرمطيُّ أنا، ولكنَ الرفاقَ هناكَ في حلبٍ أضاعوني وضاعوا والرومُ حول الضادِ ينتشرون والفقراءُ تحت العناد ينتحبون والأضدادُ يجمعهم شراعٌ واحدٌ" (122) إنه قرمطيّ، لايمتلك سوى سيفه وجواده، ومامن شيءٍ يطمعُ فيه، ولكن رفاق السلاح أضاعوه وضاعوا، وهاهم الأعداء يحاصرونَ العرب ويحتلون بلادهم، بينما الفقرُ ينهشهم في بلادٍ ساكنةٍ راكدةٍ محكومةٍ بالعبيد: "وسكونَ مِصر يشقّني: هذا هو العبدُ الأميرُ وهذهِ الناسُ الجياعُ" 123 وها هو ذا (المتنبي/ درويش) يقفُ متكئاً على روحهِ الجريح، فيهدم قصور العبيد بأغنياته ولايساوم على شيء، ولايبيع نفسه، يصرُخُ في الوجوهِ مذكراً أن الصراعَ مع العدو هو الصراع ولاشيء يغير هذهِ الحقيقة، ولاسلم إلا بحلِ هذا الصراع بطريقةٍ كريمة: "والصراعُ هوالصراعُ والروم ينتشرون حولَ الضادِ لاسيفٌ يطاردهم هناكَ ولاذراعُ" 124 وهذه الصرخة تذكّرُ بصرخةٍ شاعرٍ فلسطيني آخر حظّهُ من الشهرة أقل من درويش؛ وقد سبق أن أشرتُ إلى قصيدتِهِ التي عنوانها "محاورة مع أبي الطيب" وهي مكتوبة سنة 1979 ومنشورة سنة 1980. (لكن لاعِلمَ لي هل كتبت قبلَ قصيدة درويش أو بعدها) يقول عَلّوش: "للنيلِ عادتُهُ وقلبي لاتغيّرهُ الرياحُ الموسميّةْ فإذا تخاذَلَ متعبونَ على الطريقِ وخَلّفوكَ بغير زاد فاصبر قليلاً إن سربكَ سوفَ يأتي من مضاربَ لاتغادرها الحميّةْ إن الصراعَ هو الصراعُ وإن أُصارع لو عصتْ قدمٌ، ولو كَلّتْ ذراعُ.. والنيلُ لاينسى، ولايُلهيهِ عن عطشي الضياعُ للنيلِ عادتُهُ ونيلي لايشتُّ ولايُراعُ ولايكفُّ عن المسيلْ" 125 وهكذا نلاحظ أن صورة المتنبي التُراثية المحذّرة والمنبهة إلى خطر الروم من الخارج، وخطر الملوك العبيد من الداخل، والشرذمة، والاحتراب بين الاخوة، بما لبستهُ هذهِ الصورة من أبعاد جديدة ووعيٍ معاصرٍ متميّز، تنقلبُ إلى مُعادلٍ مُعاصر هو صحية محمود درويش وربّما عَلّوش في زمن قريبِ الشبهِ من زمن الجد العظيم. ب- عبدالوهاب البياتي والمتنبي قصيدة البياتي التي عنوانها "موت المتنبي" المكتوبة سنة 1963 هي إحدى أهم القصائد التي اتخذت شخصيّة المتنبي محوراً لها، والتي كان من الممكن دراستها تحت ذلك النمط، إلا أنني فضلتُ اتخاذها مثالاً على القصائد التي تتعامل مع هذهِ الشخصيّة كمعادلٍ تُراثي لبعدٍ من أبعاد التجربة المعاشة للشاعرِ نفسه، هذا البعد هو :"الصراع الأبدي بين الفنان، ومايملكهُ من طاقات هائلة على الخلق والإبداع، وبين السلطة الزمنية الغاشمة وماتملكهُ من أساليب البطش والخداع والمكر! هذا الصراع الأبدي الذي ينتهي بموت الفنان الفاجع؛ الموت الذي لايعني أن دورهُ قد انتهى على مدى التاريخ، بل ذاك الذي يعني الولادة الحقيقيّة على مدى التاريخ"126، وإن كانت القصيدة قد تخطّت هذا البعد- على اتساعه- وحاولت أن تقول أكثر مما ينبغي. القصيدة لاتكتفي بقناع المتنبي، بل توّظف مجموعة من الأصوات تساعِدُ في إضاءةِ هذهِ الشخصيّة التي يتقمّصها البياتي في بعض المقاطع. والبياتي أكثر الشعراء العرب المعاصرين تعاملاً بِأسلوبِ القناع، وهو يقولُ في معرض حديثهِ عن ذلك : "القناع هو الإسم الذي يتحدّثُ من خلاله الشاعر نفسه، متجرّداً من ذاتيته، أي أن الشاعر يعمد إلى خلق وجود مستقل عن ذاتهِ، وبذلك يبتعد عن حدود الغنائية والرومانسية التي تردّى أكثر الشعر العربي فيها. فالانفعالات الأولى لم تعد شكل القصيدة ومضمونها، بل هي الوسيلة إلى الخلق الفني المستقل. إن القصيدة في مثل هذهِ الحالة، عالم مستقل عن الشاعر- وإن كان هو خالقها- لاتحمل آثار التشويهات والصرخات والأمراض النفسية التي يحفل بها الشعر الذاتي الغنائي" 127 والبياتي يصف قصيدته هذه معلناً أنّها قصيدة يغلب عليها الأسلوب القصصي، وأنه صوّر فيها قصة حياة المتنبي الفاجعة لكنّهُ لم يتبن مواقف المتنبي، ولم يتكلّم من خلال شخصيّته، ولم يلبسهُ قناعاً128، وللشاعر - برأيي - أن يقول مايشاء عن أعمالهِ، لكن للقارئ أيضاً أن يرى مايراه ؛ فالقصيدة ، بين يديه وليسَ بإمكان صاحبها أن يُصادر آراء قُرّائه؛ فمحيي الدين صُبحي مثلاً يرى هذهِ القصيدة خطوة أوليّة نحو القناع129 عند البياتي، ويدرسها بطريقةٍ متميّزة في كتابه الهام "الرؤيا في شعر البياتي" الصادر عن اتحاد الكتاب العرب 1986. تتكوّن قصيدة "موت المتنبي" من عشرة مقاطع تأتي على النحو التالي: 1- اللعنة الأولى/ 2- الصوت الأول/ 3- الصوت الثاني/ 4- الصوت الثالث/ 5- الصوت الأول/ 6- الصوت الرابع/ 7- الصوت الثاني/ 8- المرئية/ 9-اللعنة الثانية/ 10- الشاعر بعد ألف عام. وتنتاب القارئ الحيرة في تحديد هويّة المتكلّم في مقاطع القصيدة؛ وهذه برأيي نقطة ليست في صالح القصيدة وإن بدتْ كذلك. ولنقف الآن عند مقاطع القصيدة بالترتيب. 1- المقطع الأوّل: ويسميّه البياتي "اللعنة الأولى" ويأتي بصوتِ الشاعر نفسه، وقد تمكّنَ فيهِ من التعبير عن مُعاناتِهِ ونفيهِ وغربتهِ، وهزيمةِ جيله، من خلال إسقاط كل هذه الأشياء على المتنبي، وعَبْرَ خطابٍ يوّجههُ البياتي إلى المتنبي؛ خطاب يبلغ من المرارة والألم مبلغاً عظيماً بحيث يطلقُهُ الشاعر على شكل لعنةٍ عنيفة لاتُبقي ولاتذر، وكيف لا؟! وهذهِ العامة -من وجهةِ نظرهِ - أشبهُ بجيف لاتملك شيئاً ولاتصلُحُ إلا طعاماً للضباع ورعيّةً للضفادع العمياء أو العبيد والإماء: "لتحترقْ نوافذ المدينهْ ولتذبلُ الحروف والأوراقْ ولتأكل الضباعُ هذي الجيفَ اللعينهْ وليحتضر نَسْرُكَ فوق جبلِ الرمادْ فأنتَ بّحارٌ بلا سفينهْ وأنتَ منفيٌّ بلا مدينةْ ياصوتَ جيلٍ مَزّقتْ راياتهِ الهزيمة ياعالماً عاثَ بهِ التجارُ والساسَةُ..."130 ويرى محيي الدين صبحي هنا أن المتنبي "استعارَ صوت البياتي كمكبّر حديث ليفضي إلينا في هذا العصر بتجربتهِ معَ عصره، لأن حقيقة السقوط العربي لم تتغيّر في أساسها، وهي فساد السلطة، فإذا كان البياتي لم يتكلّم من خلال شخصيّة المتنبي؛ فإن المتنبي هو الذي يتكلّم من خلال البياتي. أي أن البياتي قلبَ التقنيّة"(131) ولعلَّ الذي قادَ صبحي إلى هذا القول وهو كلام الشاعر عن قصيدتهِ حينما قال -كما ذكرتُ أعلاه- أنه لم يتكلم من خلال شخصيّة المتنبي في القصيدة وهذا مالا أوافق الاثنين عليه. 2-"الصوت الأوّل" في القصيدة، هو صوتُ المتنبي بلا مُنازع حيثُ يتحدّثُ عن طفولته البائسة، وماتبعها من اتصالٍ بممدوحيه من الأمراء ليعتاش على ذلك بما في الأمر من امتهانٍ لكرامتِهِ وكبريائهِ: "سفينةُ الضباب ياطفولتي تطفو على بحرٍ من الدموعْ تشيخُ في مرفأها تجوعْ تزني على رصيفهم تستعطفُ الخليفةَ الأبلهَ تستجدي تهزُّ بطنها، ترقصُ فوقَ لهبِ الشموعْ" 132 3- "الصوت الثاني": وهو على مايبدو يمثّل صوت ضمير المتنبي - وهذا مايراهُ صبحي أيضاً- يقول الصوت: "الرخُّ ماتْ بيضةٌ تعفّنتْ في طبق الخليفهْ الرخُ صارَ جيفهْ في طبقٍ من ذهبٍ- يازبدَ البحارْ وياخيول النارْ توّثبي واقتحمي الأسوارْ ومزّقي الشاعرَ والدينارْ وليأكل الخليفةُ الأوراقَ والغُبارْ ولتسلم الأشعارْ" 133 هذا هو صوت الضمير المتألّم مما أصاب الدُنيا والشاعر من موتٍ وتحجّر، فالرُّخُّ- وهو الطائرُ الذي يتجدّدُ ويبعَثُ حيّاً من رمادِه- أصبح جيفةً في طبق السلطة الذهبي، ولهذا نرى هذا الصوت ساخطاً على مايراهُ، ثائِراً حتى صاحبهِ الذي كادَ أن يصبحَ تلك الجيفة في طبق السلطان، إنه يدعوه إلى قلب كل مايراه فلا يبقى إلا الأشعار الحيّة التي تستحقُّ الحياة والبقاء. 4- "الصوت الثالث": لعلّهُ صوت المتنبي أيضاً؛ لأنه يتكئُ على ماقرأناه من هجاءٍ لكافور كتبهُ الشاعرُ غيرَ مرّة: " كافورُ كان سيّد الخليقةْ والشمس والحقيقة" (134) على أنكَ قد تجدْ من يقول إنه صوت خارجي، وربما هو صوت البياتي الذي يسحب الماضي على الحاضر، مادامت حقيقة السلطة العربيّة واحدة، رغم تعددّ الوجوه! 5- "الصوت الأول": يعود في المقطع الخامس الصوت الأوّل: "السيفُ كان ريشتي وراية الفجيعهْ هممتُ أن أكسرهُ هممتُ أن أبيعهْ أرانبٌ هم الملوكُ، حجر السقوط رؤيا عصرنا الشنيعهْ" (135) إنهُ صوت المتنبي وقد يأسَ من سيفهِ في زمن ملوكٍ أرانب. 6- "الصوت الرابع": هنا يتحدث البياتي بلسانِ ابن خالويه، الذي شجَّ جبهةَ الشاعرِ وأهانهُ وأذلهُ وفرّق بينهُ وبين أشياعهِ؛ وهذهِ الشخصيّة الجديدة التي يستخدمها البياتي؛ لايرمزُ بها إلى حُسّاد ومنافسي الشاعرِ؛ بقدر مايُريد منها أن تقدّم صوت السلطة: "أنا شججتُ جبهةَ الشاعرِ بالدواةْ بصقتُ في عيونهِ سرقتُ منها النور والحياةْ جعلتُهُ سخرية البلاطِ والفرسان والأشباهْ أغمدتُ في أشعارهِ سيفي وأفسدتُ مُريديهِ، وظللتُ بهِ الرواة" (136) 7- "الصوت الثاني": في المقطع السابع يعودُ هذا الصوت، وهو صوت ضمير الشاعر، لكنه الآن أقل حماسة وانفعالاً، إنه صوتٌ رزان واقعي يصفُ عودة الشاعر من بلاط كافور ممزّقاً جريحاً، بعد أن لمسَ بيديهِ مظاهر تفسّخ السلطة، وسبب انهيار الدولة: "والساسةُ اللصوص والتجار والأنذالْ يمرّغون القمرَ الأخضرَ في الأوحالْ ويسفحون المالْ تحت نعال جارية ترقصُُ وهي عاريهْ وحولهم مهرّج الخليفهْ يمعنُ في نكاتِهِ السخيفهْ" (137) 8- "المرثيّة": بعدَ "الصوت الثاني" تأتي هذه المرثيّة، وكأنّها تُلخّص حقيقةً معروفة! مفادها: أن من يكشف ماكشفهُ المتنبي، ومن يضع يدهُ على مظاهر فساد السلطة، ويقدّم ذلك للناس فسيكون الثمن حياته، تقبضها أيد مأجورة: "تمزّقي ياراية الحُبِّ، فأنتِ الشاهد الوحيدْ عشرونَ سيفاً، آه ياعراقنا، أُغمِدَ في قيثارِهِ في قلبه الطريدْ ضفادعٌ من كلِ فجٍ أقبلتْ تؤبن الفقيد" (138) إنه صوت البياتي، فهو أقرب مايكون للصوت الذي أطلقَ اللعنةَ الأولى في بدايةِ القصيدة. 9- "اللعنة الثانية": يتابعُ فيها صوت البياتي ماأبتدأهُ في "لعنتهِ الأولى" وما انتهى إليهِ في "المرثيّة" ولكن بصيغة التنبؤُ! إنهُ يتنبأ لهذهِ الحضارة الميتة "حضارة السقوط والضياع"، أن تنهار تحت حوافر الخيول، وأن تأكل الضباع هذهِ الجيف، وتقضي على الخليفة السكران ومهرّجه والساسة والتجّار، لكن هذهِ النبوءة غائمة، تائهة؛ إن القوى التي ستهدم حضارة اليباس هذه قوى غريبة؛ إنها خليط من ضباع وخفافيش وفئران وخيول نار، وطوفان، وبالتالي فهي تترك القارئ مشوّشاً تائهاً! فهي قوى نبيلةْ من حيث غايتها وهدفها؛ ولكنها في الوقت نفسه مزيج غريب من قوى الشر (ضباع، خفافيش، فئران) وقوى الخير- أو هكذا يبدو لي- كالطوفان (وهو رمز ديني معروف) وخيول النار. 10- "الشاعرُ بعد ألف سنة": بهذا المقطع يختتم الشاعرُ قصيدته، إن المتنبي ورغم اتحادهِ بالتراب لم يمتْ فلا زالَ: "حصانهُ يصهل في المساءْ.. يوقظُ في ذاكرةِ السنينْ اللهبَ الأسودَ والحبَّ الذي يموتُ في ظلِ السيوفْ عاصفاً حزينْ عشرون جُرحاً فتحت في صدرهِ فاها وصاحتْ أشعلت في دمها النجومْ وهو على أسوار بغدادَ وفي أسواقها يحومْ" (139) في هذا المقطع نحسُّ بشكلٍ خفي بذلك التماهي بين المتحدّث (البياتي) وشخصيّة الشهيد (المتنبي) وقد عمدَ الشاعرُ منذ بدايةِ قصيدتهِ إلى التعبير عن معاناتهِ الشخصيّة في الغربةِ والصدام مع السلطة- كما أسلفت- من خلال هذا المزج والتماهي بين شخصيتهِ وشخصيّة المتنبي! ويحسُّ القارئُ بذلك من خلال اختيار البياتي من بين كل المدن العربيّة لبغداد التي سيظلُ الشاعرُ الشهيّد يحوّمُ فوقَ أسوارها وأسواقها رافضاً الموت... أو في المقطع الثامن مثلاً حينَ يوجه الشاعر الخطاب للعراقِ أيضاً ناعياً المتنبي المقتول وغيرها من الأمثلة. لقد قالَ لنا البياتي بشكلٍ ما إن المبدع يعيشُ حياتين! إحداهما في عصره وهي الأمرُّ، بما تحملهُ من ألمٍ وغربةٍ وما إلى ذلك، والأُخرى في العصور اللاحقه، فيصبحُ رمزاً انسانياً؛ وبالتالي فالظلمُ والقهرُ زائلان والشاعرُ خالدٌ بقوّةِ روحهِ وفنّهِ. |
المتنبي محورٌ لكتاب
هنا يطمحُ الشاعرُ لقول ماتعجز الأنماطُ السابقةُ عن حملهِ، أو التعبير عنه، فيلجأ إلى اتخاذ الشخصيّة التراثيّة محوراً لعملٍ ضخم يمتدُّ على مساحة كتابٍ أو مجموعةٍ شعريّةٍ كاملة، محاولاً طرحَ رؤيا معيّنة شاملة أو تقديم مشروع شعري فكري ما، ومتخذاً من الشخصيّةِ فرساً لهذهِ الغاية، وقد عرفنا بعض النماذج المشابهة؛ كما فعل أدوينس في "أغاني مهيار الدمشقي" 140) وفي "الصقر وتحوّلات الصقر..." 141) حين استحضر في الأوّلِ شخصيّة مهيار الديلمي وفي العمل الثاني شخصيّة عبد الرحمن الداخل. وكذلك فايز خضّور في مجموعتهِ الشعرية "آداد" 142) حين استحضر الإله السوري القديم آداد- إله المطر والعاصفة لاعباً على هذا التشابه بين اسم الإله واسم ابنهِ ا لبكر. وفعل أمل دنقل الشيء نفسه في مجموعتهِ الصغيرة " أقوال جديدة عن حرب البسوس"143) حين قدّم من خلال حرب البسوس التي استمرت أربعينَ عاماً رؤيا عربيّة معاصرة؛ جاعلاً من كُليب "رمزاً للمجد العربي القتيل أو للأرض العربية السليبة التي تُريدُ أن تعود إلى الحياة مَرّةً أخرى"144)، ومامن سبيل إلى ذلك -كما يرى الشاعر- إلا بالدماء؛ وقد استحضر بالإضافة لكليب بعض شخصيات تلكَ الحرب، وجعلها تُدلي بشهاداتها. وفيما يتعلّق بشخصيّة المتنبي وجعلها محوراً لكتاب لديّ مثالانِ بينهما من الزمنِ ربع قرنٍ تقريباً وهما "الدخول في شعب بّوان" لمحمّد عمران وقد طبعَ سنة 1974، و"الكتاب" لأدونيس وقد صدر سنة 1997. 1- محمد عمران والمتنبي تتألّفُ مجموعة محمد عمران "الدخول في شعب بّوان" من خمس قصائد، هي على التتالي: الدخولُ الأوّل- بوّان)- الدخول الثاني المجيء من الماء) الدخول الثالث الحب)- الدخول الرابعطيبة) - الدخول الخامس البحر). والقصائد مرتبطة بعضها ببعض؛ إنها أقرب ماتكون لعملٍ ملحمي متكامل. منذُ اللحظة الأولى لالتقاطنا المجموعة، وقراءة عنوانها يُحيلنا الشاعر إلى أبي الطيب عموماً، وقصيدته المشهورة في شعب بوّان بشكل خاص، وتؤكد السطور الأولى من المجموعة هذا الأمر. إن الذاكرة تأبى إلا أن تعودَ بنا إلى قصيدة المتنبي قبلَ أن تفسَحَ لنا مجالاً لندخلَ عالم محمّد عُمران: بمنزلةِ الربيعِ من الزمانِ مغانى الشعب طيباً في المغاني غريب الوجهِ واليدِ واللسانِ ولكنَ الفتى العربي فيها ونستذكرُ ذلكَ المكان البهيج عند شيراز الذي مَرّ بهِ المتنبي غدوةً، فرآهُ أحد جنان الدنيا بمنازلِهِ الجميلة وشجره المثمرِ، ونداه وظلاله، ومياهه الوفيرة؛ حتى خشي الشاعرُ أن تحرنَ الخيلُ فلا تطاوع على السير رغمَ كرمِ أصلها... ونتذكّرُ أن المتنبي رغمَ كل ذلك البهاء والجمال الخلابِ من حولهِ شعر أنه -وهو الفتى العربي- غريب بكلٍ معنى الكلمة.. فأهلِ تلك البلادِ أعاجم ولايتحدّثون العربيّة، وهو مجهولٌ بينهم، ولاأملاكَ أو مالَ لديهِ في منطقتهم كما أن عاداتهم لاتشابهُ عاداتِ أهلهِ، فلو كانت هذهِ المغاني في دمشق لثنى عنان جوادهِ رجلٌ عربيٌ وقدّمَ لهُ فروض الكرمِ والضيافةِ، بقلبٍ شجاعٍ على القِرى غير بخيلٍ، لأن البخل جبنٌ، لكنهُ بعيدٌ عن بلاد العرب الآن. وشعبُ بّوان في نظر المتنبي مكان جميل يعبرهُ إلى غايتهِ، حيثُ سيصلُ إلى عضد الدولة؛ وليس الشعبُ غاية لذاتِهِ. فما الذي يُريُده محمّد عمران من هذا الشعب؟ هل هو عندهُ ذلك المكان المنفرج بين جبلينِ قريباً من شيراز.. أم أنهُ غوطة دمشق؟ أم غابات الفرلّق على الساحل السوري؛ أو أنهُ سوى ذلك جميعاً؟ ولماذا شعبُ بوّان تحديداً؟ هل هو غاية في مجموعةِ الشاعرِ؟ أم أنه معبرٌ إلى شيء ما؟ ولن يكون لنا أن نصلَ إلى إجابة عن أسئلتنا هذهِ إلا إذا مشينا مع الشاعرِ "دخولاً.. دخولاً" ابتداءً "ببوّان" وانتهاءً "بالبحرِ" كما أراد لنا؟ يبدأُ الشاعر الدخول الأوّل بوّان) محاولاً مُباشرةً التوحيد بين تجربته وتجربة المتنبي من خلالِ استخدامهِ ضمير المفرد المتكلّم؛ والعمل على إعادةِ تشكيل وبناء حجارة بعضِ أبياتِ قصيدة "شعب بوّان" بصورة جديدة. ويتاح لهُ ذلك في بعض المواضع ولكنُهُ يخفقُ في أكثر من مكان 145)، حتى إذا خرج من دائرة تلكَ القصيدة رُحنا نُحسُّ أنه أكثر حُريّة وطلاقة.. وإذا شعب بّوان مكانٌ أليفٌ محبب، والشاعر لايشعرُ أنه غريب فيه: ".. لاغريب الوجهِ، هذي يدي التُرابُ، لساني يقظةُ الصحو في عروق الحجارة أقرأُ النسغ في خلايا التُراب، العشبِ في الماء، أقرأُ الفرحَ المكنون فيها" 146) وإذا بوّان الجديدُ بحرٌ، وكتابٌ: "بوّان بحرٌ، كتابٌ أحمر الضوء، أحمر المرج، حبرٌ غجريٌ، بوّان قافية الأرض خميرٌ في خبزها الوحشي"147) ثُمّ يصبحُ بوّان في نظر الشاعر صندوق دنيا يعرض أمام بصرهِ شريطاً طويلاً متداخلاً من التاريخ: "وبوّان صندوق الدنيا إرم ذات العمادْ ذاك شدادُ بن عاد يزحم الأبوابَ، حشدٌ من عبادْ يفتحون الأرضَ. أوديبُ على صهوة طيبهْ يشنقُ المغولَ. وهذا قيدرٌ يعقرُ الناقةَ، هذا يوسفٌ يتعرّى من قميص الحسن في كفِّ زليخا" 148 ولايقف الشريطُ هنا، بل يستمرُ ليرى الشاعرُ بلقيس وموسى وبابل وسدوم وغيرها، إلى أن يقول: "السماءُ السابعهْ ترتمي خالاً على الخدِ، العصور، الزمن الغائبُ والحاضر أهدابٌ على العينينِ، والأرضُ شفهْ" 149 بعدَ كل ذلك سينتابنا شعورٌ مفاده أن شعب بوّان الجديد ليسَ مكاناً فيزيائياً محسوساً عند عمران؛ إنه شيءٌ آخر؛ إن الشاعر يدخلُ- ويدخلنا- إلى مكان ذي مراتب متتالية.. متصاعدة. إنهُ ينتقُلُ من مقامٍ إلى مقامٍ أسمى على طريقة الصوفيين! وكلّما ارتفعَ المقام، اشتدَ صحو القلبِ ورأتِ البصيرة مالاتراهُ العين؛ ويؤكد كلامي هذا تكرار مفردةِ "الصحو" في المقطع "1" من القصيدة ثلاث مرات . - ارتمي بينَ* /span> ذراع الصحو. ص11 - قارئٌ كلّ لغاتِ الصحو في عينيكَ.ص12 - يقظة الصحو في عروق الحجارة. ص13 بالإضافة لعبارات أُخرى تكرّسُ الفكرة نفسها، وإلا فكيف تُصبحُ السماء السابعة "خالاً على الخد" كناية عن قُربها، وإمكانيّة تحسُّسِها؟ وكيف يصبحُ الحاضر والمستقبلُ أهداباً للعينين، والأرض شفة؟ ويتابعُ الشاعرُ صعودَهُ، ويتدرّجُ عبر مقامات القربِ والوصول؛ فهاهو في المقطع "2" يرقى على سُلمٍ من ضلوع الريح، وفوق أمواهٍ تُصبحُ نَعلاً ليّناً له.. مستحضراً إحدى معجزات السيّد المسيح حين سار فوق الماء؛ وموّظفاً إياها بصورةٍ داخليّة بنائية ضمنَ سياقٍ جديدٍ لاعلاقة لهُ بأصل الحكاية الدينيّة بحيث حَوّلها إلى شطرٍ شعري جميل ذي مضمونٍ جديد: "سُلّماً كانت ضلوعُ الريحِ، كانتْ غبطتي مجنونة الأقدام كان الماءُ نَعلاً ليّناً حين صعدتُ انفتح الكوكبُ باباً، خلفَ بابٍ، خلف بابْ" 149) وسيقدّمُ المكانُ بعد ذلك قطوفَهُ الدواني للشاعر: "هذهِ الحُمرةُ لي: قصرٌ من الضوءِ عقيقيُ الشهى شمسٌ من الرُمّانِ ليلٌ من دمِ الجوري" 150) بل أكثر من ذلك ؛ إن كل ماحولهُ ملكٌ لهُ، وبذلك نفهم شعوره- الذي نقلهُ لنا منذ البداية- بأنه ليسَ غريب الوجه واليد واللسان: " هذا الملك لي: التفاحُ، والحورُ، وأغصان النبيذ المثقلَهْ ليَ هذا الكوكبُ المذهلُ هذي الزرقة المشتعلةْ" 150) وحتى يعزز في أذهاننا أهميّة بل قدسية المكان ، الذي وصلَ إليه الآن، يفجؤنا بعبارة تأتي بعد المقطع السابق، وبين قوسين، وكأنها صوت خارجي يسمعه الشاعر.. صوت آمر يقول لَهُ: "اغتسل" ليتابع بعدَ ذلك صوت الشاعر مُعدّداً أملاكهُ: "نهرٌ من الليلكِ، عصفورٌ من الجمرِ وأشياءُ، "اغتسلْ" كان التُرابْ قبّة من ذهبٍ، مرفوعة فوق عواميد الذهولْ كان بابٌ للدخولْ)" 151) إن فعل الأمر "اغتسلْ" يتكرّر مرتين، وبهذا يريدُ منا أن نفهم أنه يتلقّى أمراً خارجيّاً، بأن يغتسل لأنه يدخلُ مكاناً نقيّاً طاهراً لايدخله إلا المطهرون... ويستطيعُ بذلك أن يستحضر حكاية دينيّة أخرى بشكلٍ غير مُباشر؛ إنها حكاية النبي موسى حين تجلّى لَهُ اللهُ في طور سيناء نوراً؛ وكانت عبارته الأولى: اخلع حذاءك ياموسى، إنكَ تقفُ على أرضٍ مقدّسه. إن محمد عمران يستلهم أيضاً هذهِ الحكاية المعروفة بشكلٍ ايحائي شفيف، رغمَ أنه إلى الآن لازال يستخدمُ شخصيّة المتنبي استخداماً كُلّياً؛ أي أن الشاعر "يتحدّث بلسان الرمز الأسطوري) أو يتحدّث إليه، وقد يُصّرح بالأسماء، وقد يوحي بها من دون اشارة" 152) ويجتاز الشاعرُ الباب... باباً غريباً، ليعبرَ دهليز الموت: "البابُ تعرّى شفتاهُ قمرا دهشة ادخل، ادخل، ادخل. تنصفقُ الشفتانِ وأعبرُ دهليزَ الموت" 153) فيجدُ في انتظارهِ الزنابقَ والعشبَ والأغنيات، المطر.. قميص الحياة.. ورُبّما لاحظنا في الأمثلة السابقة - وسنلاحظُ لاحقاً- أن عمران يمنحُ خيالهُ حُريّةً ابداعيّةً مطلقة في تشكيل صورهِ ورؤاه التي "تتجاوز الواقع إلى ماوراء العقل، حين تجمع بين أشياء لايمكن أن تقترن" 154)، ساعياً لإنشاء علاقات جديدة بين الأشياء ومحاولاً أن يوحّد بين ذاتهِ الداخليّة والطبيعة من حوله. سيجدُ الشاعرُ وسط هذا المكان الجديد، أن لغتَهُ الأرضيّة غير قادرة على التعبير، ولن تصلح أداةً لصلاته؛ إنه الآن أحوج مايكون للغةِ الماء والنار والموت، لأصواتِ الأشجارِ والطير، للغة تحملُ رائحة الدفلى والنعنع والريحان. ونفاجأُ حين يُصّرح الشاعرُ بعد كل ماسبق أنه بلا حُب. هو فرحٌ، ولكنّ حُبّهُ غائب: "يلطمُ أيامي الفرح، وحبّي غائب آهٍ آهٍ يافرحُ ادخلني ويعانقني.. آهٍ لو كان الحبُّ معي.. " 155) إن مصدر المفاجأة والغرابة هو معرفتنا جميعاً أن مثل ذلك الصعود والسمو لايكونُ أساساً في التجربةِ الصوفيّةِ إلا بمجموعةِ سُبلٍ أهمّها وعمادها هو: الحب.. العشق، إذاً كيفَ كان لهذا الشاعر المتنبي/ عمران) أن ينتقل من مقامٍ لمقام دون الحب؟ ويجيء المقطع "4" لكنّهُ لايحملُ إجابةً على هذا التساؤل، إنه يزيدُ حالة الاستغراب والدهشة عندنا؛ فهذا السالكُ الغريب يصلُ إلى مرتبةٍ يخلعُ فيها كل شيء الماءَ والترابالجسد)؛ الأرض والسماء، الوجه ولاتبقى إلا تلكَ الروح المحلّقة التي لاتحتاج إلى قدمين للمسير: "لم تعد تلزمُ الثياب إنني، الآن أعرى أخلع الماءَ والتُرابْ أخلع الأرضَ والسماءْ جسدي؟ ليس لي جسدٌ ليس وجهٌ، وليسَ لي قدمٌ تعبُرُ الطريق" 156) حتى إذا دخلنا المقطع "5" هبطَ بنا الشاعر من ذلك السمو الشاهق إلى أرض الواقع، وراحَ يلوم نفسه ويطلبُ من ذلكَ الفرح أن يطلقَ زمامَه: "اعتقني يافرحاً، دعني أعبرُ دربَ الريح إلى صوتي سبقتني الفرسانْ قُتلوا. زفّوا. ولدوا. وأنا في كفّكَ يابوّانْ العالم تسكنُهُ الأحزانْ العالمُ جوعٌ، وجعٌ، غضبٌ، نارٌ، موتٌ وأنا في عشبكَ يابوّان" 157) ثم يتساءلُ الشاعرُ هل جاء إلى بوّان قبل الأوان؟ أم كان قدومهُ متأخراً؟ ويصفُ لنا كيف مرّ في الطريق : بكسرى وقيصر وجنكيز خان والاسكندر المجنون، وبيدَبا وأبي نواس والمعري والخيّام والأيام والأحلام وكانوا جميعاً في انتظارهِ... قبل وصولهِ إلى بوّان! إن من يستعرض هذهِ الأسماء يرى أنها تضم قادةً وحكاماً وفلاسفة وشعراء ومتصوفين.. إذاً ما الذي يرمي إليه الشاعر من خلالِ هذا التعداد الذي يبدو ثقيلاً للوهلةِ الأولى.. هل يُريد أن يقول إن المعرفة والثقافة فالمرور بتلكَ الأسماء كناية عن قراءة تاريخها وانتاجها واستيعابه) هما إحدى وسائلهِ للوصولِ والتسامي عبرَ مقامات بوّان؛ مثلما هو الحبُّ في الطرائق الصوفيّة؟ أم أنهُ رَمز بتلك الأسماء إلى ماعاناهُ وخبرِهُ من ظلمٍ وقهرٍ المرور بكسرى وقيصر وجنكيز خان)، وفرحٍ ومحبّةٍ وقلقٍ ومحاولةٍ لإصلاح العالم وصوفيّة وما إلى ذلك بيدبا، المعري، أبو نواس، الخيام...) قبلَ وصولهِ إلى مكانٍ يقدرُ أن يرتاح فيه وهو بوّان؟! إن هذا المقطع مقطعٌ إشكالي؛ فقد قدّمت لنا الشواهد السابقة شعبَ بوّان وكأنهُ يصرفُ الشاعرُ ويُلهيهِ عن رؤية حقيقةِ العالم جوع، وجع غضب، موت) وأنا لاأستطيع أن أطابق بين ماقدَّمَتْهُ المقاطع من "1" إلى "4" مع مايُريدهُ الشاعر الآن.؟... كيف يضعُ شعبُ بوّان "السماءَ السابعة خالاً على خدِ الشاعر والعصور كلها أهداباً على عينيهِ والأرض شفة لهُ" ثُمَ يغمضُ عينيهِ أو يلهيه عمّا هو أقرب من أنفه؟!!! لعلّي إذاً أخطأت في فهم ماأرادهُ الشاعر من شعب بوّان؛ وذهبتُ في رأيي مذاهب لاقبل للشاعر بها؟! لكن هاهو ذا يعودُ فيستنجدُ ببوّان ويطلبُ إليه أن يحملهُ بعيداً: "احملني، اخطفني، خبئني في شوقِ العشب، ارفعني في طبقان الحبِّ إليك.. الحبُّ ربابي، الحبُّ كتابي، الحُبُّ سحابي الحبُّ طريقي، الحبُّ رفيقي، الحبُ خريفي الحبُ طقوس حياتي، ناري ورمادي.. آهٍ، لو أن الحبَّ معي، لو أن الموتَ معي.. آهٍ.. كلّ الأشياءِ معي: الله، الموتُ، الحبُ، سلامٌ لكنّي وحدي" 158) مادامَ الحبُّ هو كل شيء في الدنيا بالنسبةِ للمتكلّم: كتابهُ، ربابُهُ، سحابهُ، طريقهُ، رفيقُهُ، خريفهُ، نارهُ، رمادُهُ الخ...) فكيف يختتم قصيدته بعد أسطر قليلة من هذا المعنى مُصّرحاً أنّ معهُ "الله، الموت، الحب" ولكنه وحيد كيف يمكن أن نقبل مثل هذا التناقض الغريب كان على محمّد عمران أن يحذف المقطع "5" من هذه المجموعة لأنهُ نسفَ كل مابناهُ من قبل. ثُمَ نسفَ نفسه بهذا التناقض غير المقبول أو المعقول! *** o:p> - يستهل الشاعر الدخولَ الثاني المجيء من الماء) بالعبارة التالية: لالونَ لهُ، ولاطعم، ولارائحة). وهذا تعريفٌ فيزيائي للماء، وسيجهدُ القارئ قبل أن يجد رابطاً هاماً وناجحاً بين العنوان والنص. إن محمّد عمران أحد أكثر شعراء العربيّة المعاصرين استخداماً لهذا الرمز "الماء"، وإن كانَ قد أجاد في استخدامه في أعماله المتقدّمه، إلا أنُهُ- فيما أعتقد- لم يحقق ذلك في أعماله المبكّرة كالديوان الذي بين أيدينا. إن القارئ سيدخُل إلى فضاء النص مُسلّحاً بمجموعة دلالات أهمّها، إن الماء هو مصدر الحياة، وقد تشكلت الخليةُ الأولى فيه قبل مئات ملايين السنين، وقد جاء في القرآن الكريم "وجعلنا من الماءِ كل شيءٍ حي" كما أن الكثير من أساطير الخلق تؤكد هذا الأمر؛ وعليه فإن أهم رموز الماء التي تخطرُ بالبال هي: الحياة، الإخصاب، الخلق، الفحولة، الشفافيّة وما إلى ذلك، وعنوان الدخول الثاني يحتملُ حتى الآن كل هذهِ الدلالات؛ أما الاستهلال التعريف الفيزيائي) فلا يؤكد ذلك، ولاينفيه؛ إنه تعبير أصم شعريّاً حتى الآن)! يبدأُ عمران الإنشاد متقمّصاً المتنبي ومخاطباً بوّان: "أنا ياكتابَ البراري حروفٌ من الغيم سوداءُ سطرٌ من الريح لايُقرأُ، امحُ الكتابة عني امحُ وجهيَ، إقرأ تضاريسَ حُزني أعدْ صُنعَ خارطتي مزّقتني اليبوسةُ في موسم الماءِ صرتُ نفاياتِ وجهِ بغيٍ، أعدني أعد لون صوتي، طعمي، ورائحتي صرتُ في موسمِ الماء ماءً، إناءً تعفنّتُ، ضاعتْ شواطيء عُريي امحيت تفرّقتُ، رملي قتيلٌ أعد لي بكارةَ رملي" 159) إن هذا المقبوس، بل المقطع "1" من هذه القصيدة لايعمّقان أي دلالة ثابتة للماء كرمز، ويظلُ استخدامهُ مشوشاً ومتناقضاً بين سطرٍ وآخر؛ فتارةً هو رمز الخصب والحياة: "مزّقتني اليبوسةُ في زمن الماءِ" 160) وتارةً هو رمزُ ضياع الهويّة والركود لالونَ لهُ ولارائحة ولاطعم): "صرت في موسمِ الماءِ، ماءً، إناءً تعفنّتُ" 160) لكن المقطع "1" يفلح في رسمِ صورةٍ للشاعر المحطّم المهزوم الذي يلتجيءُ إلى بوّان راحلاً طالباً العون: "حطمتني الحوافرُ، لكنني أشرتُ، اتهمتُ أدنتُ المراكبَ ثمّ ارتحلتُ اسكبِ الشمس بوّان في رئتي، فإني تعطّلتُ" 161) وهكذا يصبح بوّان ملجأً يفرُّ إليه الشاعر المعطوبُ من قسوة الحياة والظالمين طالباً العون والمدد. إنه مفهومٌ جديد بدأ الشاعرُ يبنيهِ، مفهومٌ محسوسٌ أقرب إلى الواقع من الصورة التي قدّمتها القصيدة الأولى. المقطع "2" ؛ مقطعُ بوحٍ دافيء، مُرٍ أحياناً... فاحشٍ أحياناً أخرى، إنه الشاعر يسردُ لبوّان كلّ مامَرّ عليه، وماعاناهُ، ولكن ليس كشخصٍ واحد يعيش في زمنٍ محددٍ، عُمراً مُحدّداً؛ إن هذهِ الروح الأزليّة التي لاتموتُ أبداً، التي تعبر العصور والأمكنة هي التي تفصح عن نفسها متنقّلةً بين كثيفٍ وكثيف.. فتروي كل ماخبرته وعانته.. ويبدو أن الشاعر تمكّن من جعلها تبوحُ هذا البوح، بأن حرّرها من جسدهِ الذي تسكنه، باشغالِ هذا الجسد عنها، وكيفَ ينشغلُ الجسد؟ لقد علّمنا المتصوّفة أن هذا يكون بتحطيمهِ وقهرهِ.. بالجوع والعطشِ والصلاةِ الطويلة والتأمّل وغيرها.. أما عمران فقد كان لهُ ذلك -وهذا احتمال- بمضغ "المن والسلوى" والمنُّ: في أحد معانيه- هو طلٌّ ينزلُ من السماء على شجرٍ أو حجرٍ، ينعقد ويجفُّ جفاف الصمغِ، وهو حلوٌ يؤكل، أما السلوى: فهو شرابٌ يشربهُ الحزين فيسلو، وقد جاءَ في القرآن الكريم: "ثُمّ بعثناكم من بعد موتكم لعلّكم تشكرون، وظللّنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المنَّ والسلوى كلوا من طيّبات ما رزقناكم، وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" سورة البقرة الآيتين 56-57. والآيتان في وصفٍ بني اسرائيل حين أظلّهم الله في التيه، ثُمّ أنزلَ المن والسلوى فاقتاتوا بهما. يتخذُ الشاعر عبارة :" مضغتُ المنَّ والسلوى" لازمةً تتكرّرَ ست مرّات، لتفصح الروحُ في كل مَرّة عن مرحلة من مراحل انتقالها وسفرها، ولايخفى علينا - على ضوءِ الآيتين الكريمتين- أن عمران أرادَ بصورةٍ من الصور أن يعيدَ إلى أذهاننا ذلكَ التيه والضياع اللذين عاشهما قوم كفروا؛ ويسقط هذهِ الحالة على الروح التي تنتقل تائهةً من عصرٍ لعصرٍ ومدينة لمدينة: "مضغتُ المنَّ والسلوى سكنتُ مدائن القاتِ أكلتُ، أكلتُ لحمَ الحزنِ مُرّاً كان، مائي شارعُ الكلماتِ كان حذائي المجدولِ من نُعمى الأمير على فمي غنيّتُ في نعليهِ، قلتُ: الشمسُ فُرشاةٌ لهُ، لمّعتُهُ صوّرت فيهِ الناس" 162) هُنا كان للروح أن تتقّمص شاعراً مدّاحاً.. يرتزقُ ويعيش بشعرهِ. "مضغتُ المنَّ والسلوى سكنتُ مدائنَ الماءِ أضعتُ هناكَ أسمائي غريبا كنتُ، وجهي يلبسُ القمصان كيفَ تفصّلتْ كيف امّحتْ ألوانُها انصَبغتْ، لساني كان أسودَ، كان أحمرَ، كان أبيضَ كان مصبغةً لكلِ لغاتهمْ كانت يدي جسراً حريريّاً تمرُّ عليه كل قوافل الكلمات كل اللافتاتِ كان الموت يعبُرُ في سلامٍ فوقها" 163) وهنا أيضاً تقدّمُ الروحُ حالةً مشابهةً لسابقتها حالة شخصيّة لاصوت ولاشكلَ ولااسم لها.. شخصية تبّدل ملامحها كما لو كانت ثوباً يُرتدى ويخلع، شخصيّة تقولُ مايطلب منها، وتكتبُ مايرددهُ السلطان.. فيمُرُ الموتُ من فوقها ومن حولها وتبقى سالمة. ولعلَّ هذا المقطع هو الذي يضيءُ لنا ماأرادهُ الشاعر من عنوان هذا الفصل والاستهلال الذي تلاه. وتكون المحطّةُ التالية مدائن الجوع: "سكنتُ مدائن الجوع دخلتُ هناكَ، دهليزَ الشفاهِ تكسّرت عينايَ في بوابةِ الأفخاذِ كان الجوعُ طاقيّة تخفي خلفها العتّال، والسلطان، والكاهنْ رأيتُهُمُ جميعاً يجلدونَ الحُبَ خلفَ ستائر حمراء كان دمٌ يسيلُ على الستائر" 164) وإن كنّا نُسَرُّ لهذا التوظيف الجميل لطاقيّة الإخفاء المعروفة في الحكاية الشعبيّة، لكننا لانستطيع أن نقبل كيفَ يكونُ الجوع طاقية تخفي العتّال والكاهن والسلطان؟! رُبّما وافقنا أنهم جميعاً يجلدون الحبّ لتسيل دماؤه؛ مع أننا سنستغرب أن يُجمَعَ هؤلاء الثلاثة بتلك الصورة؛ لكن الفكرة الأولى تبقى مستهجنة. ثُمَ ينزلُ بعد ذلك مدائن الشعر؛ لكنهُ هذهِ المرّة يهتدي بالحُبّ فيحميهِ من الانزلاق: "نزلتُ مدائنَ الشعرِ وكان الحبُّ قنديلاً أضأتُ فتيلَهُ، استمهلتُ، فوق سلالمِ الظلماتِ أهبطُها سراديباً، سراديباً" 165) ورغم أنهُ يتعثرّ ويسقط وتتلوّث أشعارُهُ إلا أنه: "ثُمّ غسلتُ أشعاري بماء الشمسِ ثُمّ نشرتُها في جبهةِ النارِ" 166) في مدائن السحر، نرى الدُنيا مقلوبةً رأساً على عقب، لامنطق ولاقانون: "نزلتُ مدائن السحرِ إفلاطون ينبتُ في حذاءِ محاربٍ سقراطُ رأسٌ فوق هامةِ جندبٍ قارونُ شحّاذٌ وقابيل قتيل وجه يوسف أحدبٌ هيلين عذراءُ وهارونٌ يُصلّي نصف عام، ثمّ يغزو نصفه الثاني مسيحٌ في يهوذا كيمياءُ تبّدل الأشياء" 167) لقد حشد لنا الشاعر عدداً هائلاً من الرموز التاريخيّة والدينيّة والأسطوريّة، ولم يترك لكلِ رمزٍ مجالهُ الحيوي الذي لابُدّ منهُ ليتحركَ فيه 168)، بل جاءت الرموز متتاليّة دون أن تترك لنا أن نلتقطَ أنفاسنا.. وكل ماقدّمتهُ لنا هو فكرة انقلاب المفاهيم وتبدلها إلى نقيضها.. وكان يكفي أن يورد الشاعر رمزاً أو اثنين من كل ماسبق، حتى يصل إلى الغاية نفسها بتكثيفٍ وإيجاز، دون أن يقحمَ كل تلك الأسماء. المحطة الأخيرة.. هي سفرٌ واغتراب عبر الحقب: "ولدتُ في روما حملتُ سلاسلي شيّدتُ أهرامات مصر، رفعتُها حجراً على قلبي دخلتُ مقاصير النبلاءٍ في فرساي كنتُ على موائد عُهرهم جسداً حريرياً نفيتُ مع الجياع قُتلتُ في بغداد متُّ ولم أزل حيّاً" 169) إن المقطع الأخير يؤكد ماذهبتُ إليه منذُ البداية. إن الشاعر... أراد من خلال رحلتِهِ هذه على صهوة الروح أن يقدّم تجربة كليّة شمولية، تنكسرُ فيها الحواجز الزمانية والمكانية.. وتبقى التجربة الإنسانيّة في جوهرها. ولاينسى الشاعرُ في المقطع "3" وهو آخر مقطع في الدخول الثاني- أن يذكرنا أن الذي ينشد لازال المتنبي من خلال تضمين بيتين من شعر الثاني بشكلٍ حر: "أجيءُ إليكَ، يابوّانُ، بين الليلِ والفجرِ أجيءُ إليكَ صخراً لاتُحرّكُهُ المدامُ ولا الأغاريدُ وبيني والأحبّةُ ألف بيدٍ دونها بيدُ فمدّ يديك، غُصّ بيديك، يابوّان في قهري" 170) *** o:p> ويأتي الدخول الثالث "الحب" شكلاً من أشكال الفرار! إنهُ دخولٌ إلى الحبُ، والحبُّ- كما جاء في الاستهلالِ على لسان إيلوار- "يعينُ على الحياة"، وربمّا هو خلاصة ماتُعلّمُهُ أو تقدّمهُ الحياة لأصحاب الأرواح النبيلة، فهاهو ذا أراغون يقول- ويقتبسُ محمّد عمران قبل الدخولِ إلى نصهِ- "لم تعلّمني الحياةُ إلا شيئاً واحداً: الحب". وقد كان لأحد النّقاد أن يسجّل أن عمران ومنذُ ديوانه "أغانٍ على جدار جليدي" الصادر في دمشق سنة 1968 يفقدُ "كل إيمانهِ بالثورة والنضال والاشتراكية ليهرب من العالم المجنون) إلى الحب" 171) لعلَّ الأمر ليس بهذه الصورة تماماً لكن الشاعر يحاولُ أن يجدَ ملاذاً في الحب من أعباء العالم ومآسيه؛ وها هو الأمر يبدو جلياً من خلال هذا الحوار القائم بين الشاعر ومحبوبتهِ؛ حيثُ يرى في عينيها ذلك الخاتم السحري الذي حَدّثتنا عنهُ بعض حكايات ألف ليلة وليلة، خاتماً يخبئُ عملاقاً قادراً أن يحقق لسيّدهِ مايرُيده: "لَمْ تكن الشمس نشيداً ولا رُمّانةً كانت، ولازنبقةْ الشمس كانت مشنقةْ - حبيبتي عيناكِ خاتمي) خذني إلى جزيرةِ الضياعِ، نّجني، يامارداً إلى بلاد الواقِ واقِ..) حَملتني اصبعٌ، طارتْ عبرتُ الريحَ والسحابْ جزتُ قشرةَ الحنين. أنزلتني أرضاً بلا حِباالٍ..." 172) والحبُّ أيضاً نجاةٌ للمحبوبة: "الشمس مشنقةْ - يداك قصرٌ، قلعةٌ عظيمة الأسوار ياحبيبي خذني إليكَ. نّجني. اختطفتُ وجهكِ الطفلي من ذراعِ خوفهِ) أسكنتهُ يدي، رفعتُ سقفَ الحبِ فوقه..)" 173) وسيكررُ الشاعر عبارة "الشمس مشنقة" مراراً ولا أجد تفسيراً لذلك إلا بافتضاح السر.. إن هذه الجملة المكوّنة من كلمتين تختزلُ حديثاً غير قصير.. فشروق الشمس يعني أن ينكشفَ أمرُ العشّاق، وهذا ينطوي على الخطر وربّما الموت في الكثير من المجتمعات، ولذلك كان الليل دائماً صديق المحبيّن. العبارة السابقة لاتمثّل شعور الشاعر فقط بل شعور المحبوبة.. إنه صوتهما معاً. ولابُدّ أن القارئ قد لاحظ بشكلٍ عام أن محمّد عمران لايحافظ على مدلولٍ محددٍ أو متقاربٍ لرموزهِ التي يستخدمها؛ فالرمزُ عندهُ قد يستخدمُ لدلالة معيّنة في مقطعٍ ما؛ ثُمّ يستخدمُ لنقيضها في مكان آخر الماء- الشمس- البحر)، وهذا يوقع المتلقي في حالةٍ ليس فقط من التشوّش والبلبلة بل من عدم الرضى وسوء الظن بمقدرةِ الشاعر! ويستعيرُ الشاعرُ في هذه الحواريّة بين العاشقين شيئاً من أجواء نشيد الإنشاد، شاحناً القصيدة ببعدٍ روحي شديد الغور: "قلبكَ صفصافٌ على ضفافِها يغّني: أنا خبزُ الحب والملحُ حبيبي أنا بيتُ الحبِ، والسقف حبيبي حين ناداني حبيبي جئتُ من أطراف أيامي القديمةْ بيدي الجزّةً. كسرتُ خزاناتِ أبي من أجلها.. وركبت البرق حتى لايراني. حين ناداني حبيبي جئتُ من مركبةِ الملكِ إليه)" 174) ويمعن الطرفان في التعبير عمّا يعنيه الحب لكلٍ منهما، وعمّا يفعلهُ الحبُ بهما.. "حبّكَ ياحبيبتي سوسنةٌ زرقاءْ فتحتُها، فكل ورقةٍ جناحْ مبللٌ بالموتِ والصباحْ - حُبّك ياحبيبي رُمّانةٌ زرقاءْ كسرتُها، فكلُّ حبّةٍ سماءْ" 157) لكن الشاعر يقع في تكرار بعض الأفكار، وإن كانت صورهُ تكسو الفكرة ثوباً جديداً؛ فها هو ذا الحُبّ على لسان المحبوبة مارداً عفريتاً من جديد، يحملها ويطير بها: "- حُبّك ياحبيبي محارة مسكونةٌ بالبحر والرياحِ والأمطارْ مخبوءةً في ضفّةِ النهارْ لقيتُها، فتحتُها، وانتصبَ الدُخان بين الأرض والسماءْ صارَ عموداً. صار عفريتاً، يداهُ غيمتانِ زرقاوان، لفنّي بغيمةٍ، فزعتُ.. الخ" 176) لكن مهمّا حلّق الحُبُّ بالإنسان، وارتفع به أو هبط هل يتمكن من جعله ينسى حقيقته..؟ هل يحجبُ عنهُ ظل الموت والفناء؟. لا. إنه "رهين بلى" قد يتمكّنُ الحبُ في لحظات تألّقه ونشوتهِ أن يفعل ذلك! وقد يتمكن بما يحملُهُ من بقاءٍ لنسل الإنسانِ واستمراريّة لهُ أن يخفف رهبة الموت، لكنُه لن ينسينا إياه! وهذا مايحدثُ مع الشاعر، هاهي محبوبته تسألهُ بخوف: "- أسألُ ياحبيبي: مانحنُ؟ وردتانِ؟ طائرانِ؟ كوكبان؟ شاطئانْ؟ مانحنُ ياحبيبي؟ الوردتان تُشنقان. الطائرانِ يُذبحانِ. الكوكبان يغرقانْ مانحنُ ياحبيبي" 177) ولايكون للشاعر إلا أن يصرفها عن السؤال لأنه لايحبُّ أن يجيب: "- لاتسألي! السؤال بابٌ مالَهُ آخر بابٌ إذا انفتحْ يموتُ في متاههِ الفرحْ" 177) ولكن المحبوبة تمعنُ في السؤال وتفتحُ أبواباً وأبواب والشاعر يغلقها: "- الريحُ حبيبي سوداءٌ والمطرُ يبللُ نومي - حبّي قبعةٌ - الريحُ حبيبي سوداءُ - حُبّي أزرق. حبّي ليلٌ أزرقُ صيفٌ أزرقُ.." 178) وسنفهمُ أن اصرار المحبوبة على السؤال؛ وهذا الخوف المسيطر.. ليس بسبب الموت كمصيرٍ أخيرٍ للأحياء ولكن بسبب شعورهما بأنهما مُلاحقانِ؛ ومصيرهما القتلُ الشنقُ أوالذبحُ أو الإغراق!) وسيكثرُ الشاعر من تكرار مفردة "أزرق" وسيستخدمُها للدلالة على الخلود والاستمرار والنقاء وما إلى ذلك؛ خاصةً في هذا الفصل ومايليه؛ وتحديداً في وصف الحب: "حبّكِ مدينةً زرقاء-ص60. حبّك رمّانة زرقاء-ص59. فرحٌ أزرق- مناديل الحب الزرقاء-ص67.. إلخ" وتتكرّر هذه المفردة(14) مرّة في المقطعين الأول والثاني من "الحُبّ"؛ وكأن الشاعر يرفعها تعويذةً في وجهِ الموتِ والفناء. ولن يجد الشاعرُ مناصاً من الاعتراف لمحبوبتهِ بأن الحياة ستستمر -رغم الموت الفردي- ولن يكون لهذه الغولِ أن تهزم الحياة أبداً: "يُعرّفُ العَرّافُ أن الموت ليس كل شيء يقولُ: من تُرابنا تنبت في دفاترِ الأطفالْ حكايةٌ. شريطةٌ زرقاءُ في جدائل البناتْ يقولُ إن دورةَ الحياةْ لاتبتدي باثنينْ لاتنتهي باثنينْ" 179) ويختتمُ هذا المقطع مُصراً على الفكرة نفسها بشكل آخر: "يُعرّفُ العرافُ إننا نحيا بمن يجيءْ يقول: إن شجر الحياة مباركٌ. وإننا ثمر وإن دورة الفصول تجددُ الثمر" 180) بعد ذلك يأتي الفصلان الرابع والخامس: "طيبة" و "البحر"؛ وسنلاحظُ أن ذلك الخيط الذي يصلُ الشاعر بالمتنبي- والذي وهى منذ بداية الدخول الثالث" الحب" قد انقطع تماماً؛ لكن هل أراد عمران أن يستحضر المتنبي أو يستلهمه كشخصيّة ما؟ أم أنهُ أراد من كل تجربة المتنبي شعب بوّان) وماتبعَ ذلك من توظيف لهذا المكان بالصورة التي رأيناها؟؛ أنا أُرجّحُ الاحتمال الثاني؛ وإلا كان علينا أن تقول إن عمران يوظف شخصيّة تُراثية "لاتنهضُ ملامحها بحملِ أبعادِ رؤيتهِ المعاصرة، ويتعسّف في اسقاط أبعاد رؤيته الخاصة على ملامح هذه الشخصيّة التي لاتستطيع التراسل مع مايحاول الشاعر اسقاطه عليها من أبعاد، ونتيجةً لذلك تبدو الملامح المعاصرة مقحمة على الشخصية التراثية" 181) خاصةً في الفصلين التاليين. الحقيقة أن دور المتنبي وبوّان ينتهي مع انتهاء الدخول الثاني المجيء من الماء)؛ وسيسترفد عمران -عن وعي أو غير وعي- بشخصيّات أخرى؛ ففي الدخول الرابع طيبة)؛ وهو مكوّن من مقطعين طويلين ؛ يدركُ قارئُ الشعر المتابع أن عمران يستعيرُ تجربة الشاعر الإسباني لوركا في قصيدتهِ "الزوجة الخائنة" 182)، ليعبّر عن فقدان النقاءِ والطهارة وتفشي الخديعة والرياء والمرض في المدينة طيبة)؛ فما عاد الحبُ يعينُ على الحياة، فالحبُ نفسه غادرَ هذا الوطن طيبة) الذي لن تراه إلا الدموع في عيونه: "آهِ من يُرجعها عذراء، ايزوريس مقتولٌ، دعوني أرحلُ الليلةَ، ماعاد يعين الحبُ. هاتوا وطناً لم تهجر الأمطار عينيه. اربطوني في ذراع المركب المقلع، في شعر الرياحْ"183) ورغم كثرة الرموز طيبة، هيلين، روما، شمشون، إيريا، طروادة، ايزوريس.. الخ) وانغراسها في الماضي السحيق؛ إلا أن هذا الصوت المنْشِد القريب جداً من صوت لوركارُبّما بسبب استعارة عُمران لأجواء القصيدة، وبعض عباراتها)؛ يجعلنا نرى في طيبة التي يقدّمها الشاعر عمران كنموذج ورمزٍ لفقدان البكارة وتفشّي الطاعون- مدريد الحرب الأهليّة، وربّما أية مدينة عربيّة مُعاصرة. ويأتي المقطع الثاني من هذا الفصل ينضحُ تفاؤلاً وتصميماً رغم كل ماقدّمه المقطع الأول من رؤية مغرقة في سوداويتها: "أقولُ: قناطرُ الإنسان لم تسقطْ أقولُ: البحرُ ليس يمجُّ قاراً. أرضنا ليست خراباً.... تعرّتْ طيبةُ اغتسلتْ وجوكستُ التي انتحرت تعودُ اليوم عذراءُ استعادَ الضوء أوديبُ" 184) وفي الدخول الأخير يجيءُ صوت محمّد عمران صافياً متفائلاً بقدرتهِ وقدرة أرضهِ: "جسدي ينهضُ من نوم الحجرْ اخلعي ثوبكِ ياأرضَ كآباتي، اتبعي وقعَ خطا قلبي على درب الرياح العاصفهْ. اتبعيني. اقتلعي أشجارك البيضاء، أنهاركِ وردَ الحزن، زهر الصمتِ، أقدام الجنون الخائفهْ" 185) إن نظرة شاملة إلى نص عمران السابق تؤكّد لنا أن الشاعر استطاع أن يستفيد بشكلٍ كبيرٍ من مخزون الذاكرة لديه هذا المخزون المكّون من نصوص قديمة ومعاصرة وأساطير وتاريخ وتراث شعري؛ مما يؤكد أن النص المعاصر بصورةٍ ماليس إلا تشكيلاً عضوياً حداثياً لمجموعة من النصوص القديمة التي يُحسنُ الشاعرُ توظيفها بطريقةٍ معاصرة. 186) ب - أدونيس والمتنبي: يقعُ المتنبي موقعاً عظيماً في نفسِ أدونيس، ولا تكاد تقرأُ عملاً نقدياً أو إبداعياً لهذا الشاعر، إلا وترى أو تحس حضوراً ما: ساطعاً أو خفيّاً لأبي الطيب، كيفَ لا و"شعرهُ كتابٌ في عظمةِ الشخصِ الإنسانيّة"187) وهو دائماً وعلى المستوى الإبداعي "مسكونٌ بهاجسٍ وحيد: ببدايةٍ أعمق أصلاً، وبكارة أكثر عذرية"188)، إنهُ شاعِر الحركة والحياة، "يعرفُ أنّ المكان المباشر سُرعان مايصيرُ آسناً، فالوقوفُ عندهُ دلالة العجز"189). وعلى المستوى الشخصي... أليسَ هناك ما يُغري شاعراً كأدونيس بأبي الطيب؟ بلى؛ إنّه التشابه الكبير -ومن وجهة نظر أدونيس- بينَهُ وبين المتنبي؛ وقد رأت أسيمة درويش أن هناك تماثُلاً كبيراً بين سيرتي حياتهما، تماثلاً يبلغُ حد التطابق، على مستوى الفروع والأصول190)، وقد وثّقت ذلك بشواهد من "الكتاب" نفسه، فلكليهما أبٌ فقيرٌ من عامة الناسِ، وقد بدأ كل منهما يكتبُ الشعر في سنوات الطفولة المبكّرة، ولكلٍ منهما لقبٌ غلبَ عليهِ وعُرِفَ بهِ، بالإضافة لغيرها من الأسباب، كل هذه الأمور وغيرها جعلت أدونيس في ديوانِهِ الجديد الصادر عن دار الساقي وعنوانُهُ "الكتاب"، يتخذُ من هذهِ الشخصيّة وسيلةً، وفرساً لطرحِ رؤياهِ في التاريخ العربي والإسلامي؛ وبصورةٍ ما في الذات العربيّة، من خلالِ قراءة شعريّة تاريخيّة، يستعيدُ فيها هذا التاريخ -أو الكثير منه-على ضوءِ الحاضر المعاش. يقعُ "الكتاب" في ثلاثمئة وثمانين صفحة من القطع الكبير، وهو عملٌ هامٌ وضخم، ولا أزعمُ أنني في هذه الفقرة قادرٌ على الإحاطة بهِ، ولهذا فسأتناوله -كما يشير عنوان الفقرة ذاتها- من زاويةِ تعامِلِهِ مع شخصيّة المتنبي، ولا مفر في البداية من وصف هذا الكتاب لتسهيل -تناوله. يحملُ العملُ بالإضافة لعنوانِهِ الرئيس "الكتاب" عنواناً فرعيّاً "أمس المكان الآن"، بالإضافة لرقم I) أسفل العنوان الفرعي، وهذا يعني أننا أمام الجزء الأول من "الكتاب"، وهو جزءٌ يتناول ماضي هذا المكان.... وحين نقرؤه؛ نجدهُ يتناول فترة طويلة من تاريخنا، تبدأ من صدر الإسلام وتنتهي بالعصر العبّاسي، وهذا رُبّما يعني أن الشاعر سيتابع مشروعه ليصل إلى الحاضر، وقد يستشرف المستقبل[1])، وعليه فسنفهم سبب تسمية هذا العمل "بالكتاب"، بما في هذهِ التسميه من رغبة في إسباغ الأهميّة والرفعة، سيّما وأن الشاعِر يحاولُ فيهِ أن يقدّم مشروعاً فنيّاً وفكريّاً مبنياً على التاريخ. يتألفُ الكتابُ من عشرة فصول، تَدلُّ الأرقامُ الرومانيّة I-X) على ترتيبها، ويستهلُ الشاعِرُ ثمانية منها بشطرٍ أو بيتٍ من شعر المتنبي، وتفصلُ الفصولَ السبعة الأولى بعضها عن بعض ستةُ هوامش، وثلاثة فواصل استباق. للفصول السبعة الأولى بنية واحدة وجديدة على صعيد الشكل؛ إن الصفحة في هذهِ الفصول مُقسَّمة بصورة ممتعه إلى أربع مساحات على النحو التالي: يتوسّط الصفحة مستطيل ضلعُهُ الطويل يمتدُ من أعلى الصفحة إلى أسفلها، ويحملُ المتن الشعري الرئيس، ولكن خطاً أفقيّاً في أسفل هذا المستطيل يتجتزئُ منهُ حيّزاً صغيراً سيتَمّيزُ مِن الجزء الأول بنجمٍ* في بدايته؛ يشيرُ إلى تغيّرُ الصوت الشعري واختلاف المتحدّث. القسم الأيمن من الصفحة وأحياناً السفلي أيضاً). مخصصٌ لصوت الراوي، بينما القسم الأيسر فهو دائماً لتوثيق مرجعيّة الروايةولعلَّ صورة إحدى صفحات الكتاب المبيّنة أدناه توّضح ذلك). وعليهَ فسنرى أن أدونيس يقدّمُ لنا في كل صفحة عدّة أصوات، وسأبيّن ذلك بالتفصيل: - إن الجزء الأعلى من المتن الشعري يحملُ غالباً صوت المتنبي الذي يسردُ على مسامعنا سيرة حياتِهِ بما حملته من مُعاناةٍ ومرارةٍ وإبداع، مُنطلقاً من لحظةِ الولادةِ: "أخبرتْ جَدّتي: والمحبّونَ والأصدقاء يثنّونَ). شيءٌ هوى ماسحاً بيديهِ تجاعيدَ أمّي عندما كنتُ أخرجُ من حوضها بعضهم قالَ: هذا ملاكٌ بعضهم قال: شيطانُهُ تراءى قبلَ ميعادِهِ بعضهم آثرَ الصمتَ خوفاً وتقوى كانت الكوفةُ الأليفةُ تدخُلُ في غربةٍ"191). ويتابعُ صوت المتنبي الصافي: "أمي همدانيّةْ خرجت من أحشاء الكوفة وأبي جعفيٌّ ورثَ الفقرَ عن الإيمان سَمّاني أحمدَ زهواً وتفاؤَلَ في تلقيبي بـ أبي الطيّب)192). لكنّ هذا الصوت يتحوّلُ فجأةً إلى صوت أدونيس: "بيتُنا صبوةٌ تتقلبُ في جَمرها والنجومُ تجرُّ خلاخيلها حَولَهُ مَرّةً، هبطت فيهِ جنّيةٌ غسلتني بأهدابها واختفتْ كم تحدّثتُ عنها إلى بيتنا وتحدّثتُ عنها لم يكن بيتُنا يعرفُ النحوَ والصرفَ لكنْ كل أحجاره بيانْ مَرّةً؛ قال لي: خطواتُكَ حُبلى بما لا يطيقُ المكانْ"193). وقد نجدُ في مواضع عدة الصوتين معاً، ونستطيعُ أن نميّزَ كلاً منهما: "النباتاتُ هنا في الحقول وحولَ البيوتِ يجدِدُ أوراقَهُ: بعضُها شهواتٌ بعضُها شُرفاتٌ هَلْ تقولُ العريشةُ، تلكَ العريشةُ، من أينَ جاءتْ إلى أينَ تمضي تحتها مثلَ طفلينِ كُنّا نتغطّى بأنفاسِنا قلتُ: لا دفترٌ، لا كتابٌ.... لم يقلْ أيَّ شيءٍ نهرٌ من عذابٍ جرى في يديهِ نهرٌ من حنانٍ جرى بيننا -والتقى ساعدانا والتقى عُنقانا"194). لكن الصوت الأكثر حضوراً في المتن الشعري الرئيس هو صوتٌ يتماهى فيه الشاعران بطريقةٍ متقنة، فلا تستطيع أن تفصل بينهما: "زمنٌ للسقوط، وشعري هَدّامُهُ الرجيم المدائنُ ممهورةٌ بخواتِم أنقاضها والدروبُ إلى كل أرضٍ وهنٌ، أو دمٌ، أوغضبْ وأنا لا أقصُّ الشقاءَ، وأنفرُ من وصفِهِ زمنٌ للسقوط، وشعري كوكبٌ يُرتقبْ دعوةٌ للهبوطِ إلى آخرِ الجحيمْ"195). وفي موضعٍ آخر نقرأ: "كيفَ لي أن أردَّ النبوَّةَ -تأتي في قميصٍ من الضوءِ، تُلقي وجهها في يديَّ وتنفُثُ أسرارها في عروقي وأنا من تنبأ شِعراً انظروا: إنّها الآنَ تفرشُ لي ساعديها وتُسكنِني دارها كيفَ لا أتبطّنُ أغوارهَا؟ وأنا من تنبأ شِعراً لا يشاءُ الذي لا أشاءْ"196). ونلاحظُ في المقطع السابق استناد أدونيس إلى ما نُسِبَ للمتنبي من أنّه ادّعى النبوّة، لكنهُ يرفَعُ عنه هذهِ التهمُه، ويقاسمُهُ، إياها بمعنى آخر، هو معنى رؤيا الشعراء المبدعة المتفرّدة، التي تُصيبُ مالا يصيبُهُ الآخرون، وتُحسُّ نبضَ المستقبل؛ والصوتُ هنا مشترك؛ إن أدونيس يرتدي قناع المتنبي -الرائي، وأدونيس يتقنُ ذلك، فقد قدّمتهُ بعضُ قصائدِهِ بصورةِ نبيٍّ وعَرّافٍ وماشابه ذلك: "إنني نبيٌّ وشكّاك أعجنُ خميرة السقوط، أترُكُ الماضي في سقوطِهِ، وأختارُ نفسي" 197). وينجحُ هذا التماهي بين الشخصيتين أدونيس والمتنبي)؛ لعدة أسباب أهمّها ذلك الإحساسُ -من جانب أدونيس- بالتشابه بينَهُ وبين المتنبي، وتشابه الحقبتين التاريخيتين والأهم من هذا وذاك هو "توافق الرمز خارج الشاعر، مع الرمز داخله"198) بينمَا ظلَّ صوتُ المتنبي صافياً في الحالات التي يتحدّث فيها عن أشياء لن تكونَ بأي شكلٍ من الأشكال مشتركة مع أدونيس، إلا أن الثاني وفي كل الحالات سيقول المتنبي بلغتِهِ هو وأسلوبهِ متكئاً على فهمِهِ الذاتي لهُ ولشعرهِ. - أما الجزء الأسفَل من المتن الشعري، الذي يميّزهُ أدونيس مِنْ سابِقِهِ بنجم* فهو جزءٌ تتعدّد فيه الأصوات، وهو غالباً يأتي تعليقاً على المتن الأعلى، أو نتيجةً أو تعميماً لهُ ويأخذُ شكل الحكمة أو المُسلّمة أو القانون: "* ابتكر كلماتٍ للمكانِ تصيرُ زماناً"199)" "* لا تكتبُ أرضَ الحُريّة إلا لغة وحشيّة"200). "* ا تنظر خلفك: ليسَ وراءَكَ إلا أنتَ، وإلا ظِلٌّ"201). "* حدثُ أن تتجلَّى نارٌ في صورةِ ماء"202). وقد يأتي على صيغةِ سؤالٍ من تلكَ الأسئلة الكبيرة المحيّرة: "* هل يتلألأُ نورٌ في مشكاةِ دماءْ"203). "* ُلبُ هذا المكان ائتكالٌ أتراهُ الزمانُ فراشٌ، ومهدٌ لَهُ"204). والصوت الأكثرُ حضوراً في هذا الحيّز هو صوت أدونيس أو بعض الشخصيّات التي يروق لَهُ أنْ يتقمّصها، لكنكَ قد تقع على صوت المتنبي هنا وهناك كما في الصفحتين 229و230)، وفي كل الأحوال يسعى الشاعِرُ في هذا الحيّز إلى التقاط ماهو إنساني وشامل ليضعهُ بين يدي القارئ؛ وقد مَيّزَ أدونيس هذا الجزء -وسأعتبر ذلك ليسَ من قبيل التزيين أو المصادفَه-بأن جعلَ حجم الكلمات -طباعةً- أكبر من كلمات الجزء الأعلى من المتن، التي هي بدورها أكبر حجماً وأشد وضوحاً بالتالي من كلمات الرواة، أو من الإشارات التاريخيّة التي تثبتُ مرجعيّة كلام الرواة، وهذا يعني اختلاف أهميّة أقسام الصفحة وما تحتويه. - الجزءُ الأيمنُ من الصفحة مخصصٌ للراوي، وهو كما يتضحُ ليسَ واحداً؛ بل رواةٌ كثيرون. في هذا الجزء يعمل هؤلاء على إضاءة المكان، الذي سيولدُ فيه المتنبي، وسيتُابعونَهُ من سنة(11) هجريّة إلى نهاية العصر العبّاسي ونشوء الدويلات يبدأ أحدُ الرواة الحديث قائلاً: "لا نعرفُ من نحنُ الآنَ، ومن سنكونُ إذا لم نعرف من كنّا، ولذا سأقصّ عليكم من كنّا وأقدّمُ عذري للقُراءْ إن كان حديثي سَرْدِيّاً، أو كانَ بسيطاً لا يتودَدُ للفصحاء"205). ويبدأُ هؤلاء الرواة بالغوص بنا إلى أعماق الجحيم، كما ستقدّم لنا الرؤيا الأدونيسيّة البلادَ التي نرثها اليوم: "وثنى الراوية مُغرياً سامعيهِ وقُرّاءِهِ، للهبوطِ إلى آخرِ الجحيمِ التي تتأصّل في أرضهم وتواريخها قالَ: أروي لكم بعضَ ما خبرَ المتنبي وماهالَهُ وما صاغَهُ بعذاباتِهِ وبألفاظِها وبسحرِ البيانِ الذي يتبجّسُ في نكهةِ الرمزِ، أو لمحةِ الإشارةْ في نسيج العبارة سأخيّل حالي لابسةً حَالَهُ وأكررُ تلكَ الجحيم بلفظي -بسيطاً، مستضيئاً بما قالَهُ، أتقفّى، الضياءَ إلى ذرواتِ الكتابْ بادئاً بالتُرابْ"206). وسيفلِحُ الرواةُ بتقديمَ رؤيا مروّعة، وفي منتهى الدمويّة والوحشيّة لحقبةٍ طويلةٍ من تاريخنا؛ وسيكررُ هؤلاء الرواة مشهداً يكادُ يكون واحداً، على امتداد مايقارب أربعمئة صفحة، مع اختلافِ أسماءِ القتلى والمصلوبين والمحروقين: "وثنى الراوية: أسروا مالكاً، ضربوا عنقَهُ وضعوا رأسَهُ تحتَ قدرٍ نضجتْ قَبَلَهُ، قتلوا أهْلَهُ واحداً واحداً ما عداها -زوجةً كان مالك يزهو بها. وتزوّجها خالدٌ"207). والطريف أن كل مايقولُهُ هذا الراوي أو ذاك يُقدَّمُ وكأنّهُ يأتي من ذاكرةِ المتنبي: "قالَ الراوي مغموساً في ذاكرةِ المتنبي...."208). وسنجدُ أحد الرواةِ؛ لكثرةِ ما قصّ علينا من أسماء القتلى وطرقُ القتلِ؛ يصابُ بالبلبلةِ والهوس في الثلث الأخير من الكتاب: "وثنى الراوية حذراً حائراً: رُبّما خطأٌ أن نرى السيفَ سيفاً رُبّما كانَ وجهُ الملاكِ -مؤذناً بالهلاكْ"209). وهل ينجو الكتّابُ والشعراءُ من هذا المصير؟ إنهم الوقود الأول لَهُ، وموتُهم دائماً أشدُ هولاً؛ وسيتذرّع ممثلو السلطة دوماً بأوهى الحجُجِ للنيل من هؤلاء الخطرين التغزلّ والتشبب بالنساء، شرب الخمر، رفض كتابة المديح بالأمراء والملوك، الكفر والزندقة، وغيرها من الحجج)، وسيقدّمُ الرواةُ عشرات الحوادث، واختارُ منها قصة ابن المقفع مع سفيان بن مُعاوية عامل المنصور على البصرة سنة 145هـ). "قال الراوي: أحمى سفيان تنوراً كي يطعمَ لحمَ الكاتبْ للجمرِ اللاهبْ قطّعهُ إرباً إرباً ورماهُ فيهِ"210). أمام كل هذهِ الفواجعُ يقفُ الراوي نفسه خائفاً حائراً، ومتسائلاً، عن ماهيّة مستقبل هذهِ البلادِ؛ فإذا كان الحاضُرُ كفناً: "هو ذا الحاضرُ مرئياً بنار الزمن: كفنٌ مندرجٌ في كفنْ"211). والماضي قتلٌ، فماذا سيكون المستقبل؟!: الفكرةُ قتلٌ أومقتل: تلكم مائدةُ الماضي أتراها مائدةٌ المستقبل؟"212). وسبب كل هذا -كما حددهُ الراوي منذ البداية- هو العرش؛ إنها حربُ على كُرسي الخلافة: "وثنى الراوي عرشٌ يتنقّلُ، والقتلى عرباتُ حيناً وجسورٌ حيناً"213). وكلّما هوت رأسٌ جديدة، كلّما ارتفَعَ العرشُ وترسّخ: "وثنى الراوية يتساءَل في حيرةٍ: مالسلطانِ هذا الزمانِ يكرّرُ في نشوةٍ: كلما قيل رأسٌ هوى يكبُرُ العرشُ تحتي، وأعلو؟"214). ويسندُ هذهِ الرؤيا، ويرفدها صوت المتنبي في المتن الرئيس: "لا أرى غير رأسٍ، يُرجّلُ في عارِهِ غير رأسٍ تدحرج، عن كتفيهِ الرؤوس كراتٌ في مدار العروشِ وساحاتِها اللاعبونَ تتمَسْرَحُ أهواؤهم فوقَ نطعٍ"215). ويساندها صوتُ أدونيس في الجزء الأسفلِ من المتن: "* ن يقولُ:الحياةُ ثوانٍ وتعبُرُ؟ كلاّ.الحياةُ دمٌ وأظافِرُ وانظر لأنيابها"216). وبالتالي فكل الأصوات تتفقُ، وعلى امتداد الكتابِ في تقديمِ هذهِ الصورةِ الدمويّة لحقبةِ طويلةٍ من تاريخنا. - كما سبق وقلت تفصلُ بين الفصول السبعة الأولى من الكتاب المخطوطة التي كتبها المتنبي وحققها أدونيس) ستة هوامش، وثلاثة فواصل استباق، أما الهوامش فهي عبارة عن بطاقات، حملت كل بطاقة، اسم شاعِر من الشعراء العرب، وقدّمتهُ للقارئ بصوتِهِ الشخصي، وأحياناً بصوت آخر، يروقُ لي أن أعتبرهُ صوت المتنبي؛ بمعنى أن المتنبي كان قد قرأ هؤلاء الشعراء، وقدّمهم من وجهةِ نظرهِ الشخصيّة؛ وإلا فما سبب وجودهم في مخطوطة كتبها المتنبي؟! لقد قدّمتْ لنا هذهِ الهوامش ثمانية وخمسين شاعِراً، عاشوا في أزمنةِ مختلفة من الجاهليّة حتى العصر العباسي. - أما فواصل الاستباق فهي فصول صغيرة، يُبدي فيها أدونيس الشخص الذي يحقق المخطوطة) رأيه ببعضِ ما قرأه؛ وما يتوقعه؛ ويأتي هذا الرأي غير بعيدٍ عمَّا جاءَ في المخطوطة وبنثره الخاص. - الفصل الثامن يحملُ عنوان: الأوراقأوراقُ عُثَرَ عليها في أوقات متباعدة ألحقتْ بالمخطوطة)؛ وهي مقاطع مُرقَّمة بالأرقام الرومانيّة، ويتعامل أدونيس فيها مع المتنبي بطريقةِ القناع، وهي من أنجح فصول الكتاب؛ وإن كنّا في مقاطع كثيرة نسمَعُ كلام المتنبي القديم بصيغةِ جديدة: "أهو شرٌ، إذا قلتُ: هذي المدائنُ مُنْحلَةٌ تتهلهلُ مأسورةً في حصونٍ -صحارى من دمٍ واقتتالْ؟ أهو شرٌ، إذا قلتُ: لا تكترث، لا تُبالِ؟"217). ففي هذا النص، اتكاءٌ موفّق على قول المتنبي: "لا تلقَ دهركَ إلا غيرَ مكترثٍ..."، وقد يقذف أدونيس قناع المتنبي جانباً ويُنشِد بصوتِ راوٍ بعيد: "قلقٌ راسبٌ -عائِمُ هو ذا طقسُهُ الدائم"218). وهو هنا يتكئُ بشكل أقل نجاحاً على قول المتنبي: "على قلقٍ كأنّ الريحَ تحتي.....". - الفصل التاسِع يحملُ عنوان "الفوات فيما سبقَ من صفحات"، وهو فصلُ جديدٌ لأصواتِ الرواة؛ حيثُ يلقونَ على أسماعِنا، مافاتهم ذكرَهُ، في الفصول الأولى من أحداثِ القتلِ؛ فها هو ذا أحدُ الرواةِ يُحدّثنا عن حوارٍ دارَ بين الحجّاج وهمدان مؤذّن الإمام علي: "راوٍ آخر يروي: - إن كنتَ بريئاً، فلماذا لا تبرأ منه؟ - لا أتبرأُ ممّن أدّبني، وتتلمذتُ عليهِ - قم يا حَرَسي واقطع رأسهْ"219). - الفصل العاشر بعنوان "توقيعات" ويبدأ ببيت المتنبي: إذا ما تأملتَ الزمانَ وصرْفَهُ تيقنتُ أن الموتِ نوعٌ من القتلِ وهو فصلُ قصير، ولكنهُ يكاد يضعُ بين أيدينا أجوبةً لكثيرٍ من الأسئلة التي ثارت في الأذهان في الفصول السابقة، لنقرأ مثلاً من مقطع بعنوان "توقيع منفرد": "ماذا تفعل يا هذا الشاعرْ في هذا البلد البائرْ؟ - أشهدُ فيهِ تكوين بلادٍ أخرى. - ماذا تفعل يا هذا الراوي في هذا التاريخ الميت؟ - أشهدُ فيهِ ميلاداً آخر لتواريخٍ أخرى"220). وتُسَرُّ حينَ تقرأُ في القصيدةِ التالية ما تقولُهُ الشمسُ بما تعنيهِ الشمس من مدلولاتٍ -للراوية: "هي ذي الشمسُ تهمسُ للراويهْ وتكررُ مزهوّةً: حكمةُ الضوءِ أبقى وأعمقُ من ليلِ صحرائكِ الداميهْ"221). أما لماذا السرور؟ فلأنَ هذهِ العبارة، هي إحدى النقاط القليلة جداً، التي تبعثُ في نفسِ القارئِ شيئاً من الأمل، بالإضافة لثلاثة مواقف مضيئة وفي منتهى الإنسانية، رواها الراوي عن علي بن أبي طالبص56) كرّم الله وجهه، والحسن بن علي، وعمر بن عبد العزيز ص194-197). وعليهِ وانطلاقاً مما سبقَ أضَعُ الملاحظاتِ المختصرة التالية على العمل: 1- لقد تضافرت كل الأصوات في الكتاب الرواة- المتنبي-أدونيس- وغيرهم)، وقدّمت على امتداد ثلاثمئة وثمانين صفحة، رؤيا كابوسيّة سوداء لتاريخنا من الجاهلية حتى نهاية العصر العبّاسي، مُركّزةً الضوء على مقتل علي بن أبي طالب وسلالته وصحبه، وإذا كان أدونيس يرمي من خلالِ ذلك إلى الكشفِ عن التضليل التاريخي الذي مارستهُ، وتمارسُهُ المؤسسات التعليميّة والتربويّة في العالم العربي برمّتهِ"222). -كما يقول أحد دارسيهِ- فإن أدونيس يقترفُ الخطأ نفسه، ويقدّمُ جانباً واحداً من هذا التاريخ، بل يراهُ من زاوية ضيقة جداً. إنك لتستغرب أن أصوات الرواة التي ترسم خلفية المشهد، وتضيءُ شخصيّةُ المتنبي، لا تقعُ على شيءٍ مضيءٍ في محيطهِ كلّه، ساهَمَ في تكوينِهِ، علماً أن القرن الرابع الهجري، الذي ولَدَ فيه المتنبي 303 هـ-915م). كانَ يشكّل ذروة الحضارة العربيّة من زاويةِ الازدهار الفكري والعلمي والتطوّر الثقافي العام، وإن كان الوضع السياسي خلاف ذلك. 2- جاءَ كلامُ الرواة لا يحمل من الشعر إلا الوزن- وحين نتذكّر أن أدونيس ميّزَ دائماً بين الشعر، والنظم؛ فسنتساءَل: لماذا يُقدِمُ على ذلك؟ أما كان من الأفضل أن يتحدّث هؤلاء نثراً؟! إن مفرداتهم كلها نكادُ نُحصيها ببضع عشرات أهمّها: قَتَلَ، حَرَقَ، ذبحَ، حَزّ، صَلَب، بَترَ، رمح، سيف، رأس، رجل، طفل، امرأة)، وهذا مثالٌ على ذلك: "قالَ الراوي: قالوا: سَنَّ معاويةٌ قتلَ الطفل وقتلَ المرأةِ، أوصى بُسْراً: اقتلْ أصحابَ عليٍ، شيباً، شُبّاناً، أطفالاً ونساءً. وثنى الراوي: طفلا ابن العباسِ استترا في بيتٍ ذُبحاً بيدي بُسْرٍ- كانتْ قد أخفتْ هذين الطفلينِ امرأةٌ قتلوا مئةً من أهلِ المرأةِ كي ينتقموا منها"223). 3- تأتي هوامشُ الفصول الخمسة الأولى كيفما اتفق، دون ناظمٍ ينظمها، فقد تجد هامشاً لأبي محجن يتلو هامشاً لامرئ القيس، والأهم من ذلك أن الكثير من هذهِ الهوامش لا تضيفُ شيئاً إلى الحكاية التاريخيّة لصاحبها، كأنّ يقول في هامش بعنوان "العَرْجيّ": "قيّدوهُ، وأُلقيَ في السجنِ تسعَ سنينٍ، ماتَ فيهِ. رووا أنّه كان شخصاً كريماً وفارساً بين أفضل من أنجبتهم قُريشٌ قالَ في سجنهِ: أضاعوني، وأي فتىً أضاعوا). قبرُهُ- مطرٌ نازلٌ فوقَهُ يتدفّقُ من سُرّةِ الغيومِ..."224). وقد تجد أن بإمكانك إبدال عناوين بعض الهوامش بغيرها، دونَ أن تُلحِقَ أذىً بالنص، كالهامش الذي عنوانُهُ "المهلهل التغلبي"225)؛ فقد أضُعُ لَهُ -من التاريخِ العربي- العناوين التالية:"زيد الخيل"، "عمر بن معد يكرب"، "ذو الإصبع العدواني"، دونَ أن يُسيءَ ذلك إليه. وقد يُجيدُ الشاعِر في عددٍ غير قليل من هوامِشِهِ مثل: المتلمّس وعوف بن الأحوص وعمر بن أبي ربيعة وغيرها، لكن الأهم من كل ذلك؛ هو أن هذهِ الهوامشِ الكثيرة زائدة، وعلاقتها واهيه بفصول الكتاب الأساسيّة، حتى ولو افترضنا أن المتنبي هو الذي يقرأ هؤلاء الشعراء بطريقتهِ، ذلك أن هذهِ القراءة لم تستطع إلا فيما ندر أن تقدّم شيئاً جديداً جمالياً أو فكريّاً؛ وكأن الشاعر لم يطمح هنا إلا للعبِ دور المؤرّخ الأدبي. 4- يعود أدونيس في هذا العمل إلى الكثير من الشخصيات، التُراثية التي كان قد استحضرها سابقاً، واستلهمها في أعمالهِ، مثل:علي بن أبي طالب، والحسن والحسين وزيد بن علي، ومعاوية، وعمر بن الخطاب، ووضاح اليمن، والحجّاج وغيرهم226). علماً أن معظم هذهِ الأسماء قد استُهلِكَ من قبل أدونيس وغيره من الشعراء، وصار على الشاعِر أن يتوخّى الحذر في التعامل معها؛ فإن هو لم يستطع أن يخرج بها إلى أجواء جديدة، ولم يستطع أن يراها بعين مختلفة، وشديدة الحساسيّة؛ فأولى بهِ أن يبتعدِ عنها. وإن استطاع أدونيس أن يجيد في تعاملِهِ مع وضّاح اليمن، في قصيدتِهِ القديمة "مرآة لوضاح اليمن"221). وأن يضيفَ شيئاً جديداً، في هامشِهِ الذي ضمّه الكتاب تحت عنوان "وضّاح اليمن"228).فإنّه أخفق تماماً مع الحجّاج بن يوسف؛ إنه في كل ماقاله عن هذهِ الشخصيّة في الكتاب229). لا يضيف شيئاً إلى ماجاء في قصيدتهِ القديمة "مرآة الحجّاج": "واستطردَ الراوي: .... وصعدَ المنبرَ في يديهِ قوسٌ، وفوقَ وجههِ لثامْ وقال، بالسهامِ، والقناعِ، لا بالصوتِ والكلامْ: أنا ابن جلا، وطلاّعُ الثنايا....). ... أنا هو السؤال والنبراسْ أنا هو الفَرّاسْ- ويلٌ لمن يكون من فرائسي وزلزلَ المكانُ واهتزّتِ البلادُ مثلَ شجرهْ وسقطَ المسجدُ مِثلَ ثمرة وسقطَ الزمانُ"230). 5- استهلَّ أدونيس معظمَ فصول الكتاب بشيءٍ من شعر المتنبي، لكن هذا الاستهلال لم يكن موفّقاً دائماً، وكان قريباً من التزيين أحياناً لنرى المثالين التاليين: يستهلِ الشاعِر الفصل الثالث بقول المتنبي: "إنَ النفيس غريبٌ حيثما كانا"، والفصل الرابع بقولِهِ: "كأني عجيبٌ في عيون العجائب"، وحينَ تقرأ هذين الفصلين ستكتشف أن بإمكانكَ أن تستبدلَ الشطر الأول بالثاني، أوالعكس ولن يغيّر هذا الأمر شيئاً، ويمكن أن تُجري العملية نفسها لكل من الفصل الخامس الذي يستهلّهُ أدونيس بقول المتنبي: شيمُ الليالي أن تشككَ ناقتي صدري بها أفضى أم البيداءُ والفصل السادس الذي يستهلّهُ بقول أبي الطيب:"وجبتُ هجيراً يتركُ الماءَ صادياً". 6- وأخيراً؛ لقد ناءَ الشعِرُ بحمل التاريخِ في عديدٍ من مواضع الكتاب، خاصةً في صفحاتِ الرواة؛ الذين قدّموا لنا مايشبه المعجم بأسماء القتلى وأساليب القتل في التاريخ العربي الإسلامي، بينما استطاع صوت المتنبي وصوت أدونيس أن ينجوا من ذلك في معظم المواضع. لابُدَّ لي وأنا أُنهي هذه الدراسة أن أُشيرَ إلى أن القصائد، التي تعاملت بشكلٍ أو بآخر مع شخصيّة أبي الطيّب، أو سيرتهِ أو شعرهِ، كثيرةٌ جداً -كما اسلفتُ في البداية- وليس بالإمكان دراستها كلّها، والحق أن هذه الدراسة ما طمحتْ إلى ذلك؛ بقدر ما سعتْ إلى رصد تلك الاشكال والمظاهر التي كان لشخصيّة المتنبي أن تتجلى فيها. محاولةً تحديد الأُطر أو الأنماط التي تم من خلالها ذلك، وراغبةً في كشفَ تقنياتِ توظيفِ هذهِ الشخصيّةِ وصورها. وبالتالي فقد تمَّ اختيار الأعمال التي عالجتها الدراسة، كنماذج لها خصوصيتها التعبيريّة وميزاتها الفنيّة الجماليّة؛ وهذا لا يقللُ من شأنِ بعضِ الأعمال التي لم تتناولها وأذكرُ منها على سبيل المثال: مجموعة "رسائل إلى أبي الطيّب"، لخليل حاوي، وقصيدة "يوميّات المتنبي في شِعب بوان" لمحيي الدين خريف، و"المتنبي" لعمر يحيى، و"في ذكرى المتنبي" لمحمد مهدي الجواهري، و"ولادةُ المتنبي" للياس لحوّد، وكتاب "قصة المتنبي" لأحمد الجندي، وقصيدة "غنائية في عيد المتنبي" لعبد العظيم ناجي؛ وغيرها الكثير. أرجو أن تكون هذهِ الدراسة قد أصابت مارَمتْ إليه واللهُ ولي التوفيق السويداء. 15/6/1998. /span> كذا في الأصل، والأصح: فوقَ ذراعِ الصحوِ. [1]) صدر الجزء الثاني من "الكتاب" قبل نشر هذهِ الدراسة. /html> |
ثبت القصائد والمجموعات
الـــــتي مـحـــورها المتنــــــــــبي 1- أحمد الجندي. كتاب:"قصّة المتنبي". 2- الأخطل الصغير. قصيدة: "المتنبي والشهباء". 3- أدونيس. كتاب: "الكتاب". 4- أمل دنقل. قصيدة: "من مذكرات المتنبي في مصر". 5- الياس لحوّد. قصيدة:"ولادة المتنبي". 6- بيان الصفدي. قصيدة: "شاعر" وقصيدة:"المتنبي". 7- خضر الحمصي. قصيدة:"عتاب إلى أبي الطيب". 8- خليل حاوي. كتاب :"رسائل إلى أبي الطيب". 9- سليمان العيسى. قصيدة:"إلى أبي الطيب". 10- عبد العظيم ناجي. قصيدة: "غنائية في عيد المتنبي". 11- عبد الله البردوني. قصيدة:"وردةٌ من دم المتنبي". 12- عبد الوهاب البياتي. قصيدة:"موت المتنبي". 13- عمر أبو ريشة. قصيدة:"شاعر وشاعر". 14- عمر يحيى. قصيدة:"المتنبي". 15- فايز خضّور. قصيدة:"المتنبي يقرأ في كتاب قاسيون". 16- القروي. قصيدة:"نبي". 17- محمّد عمران. كتاب:"الدخول في شعب بوان". 18- محمّد مصطفى درويش. قصيدة:"قراءة محظورة في ذاكرة المتنبي". 19- محمّد مصطفى درويش. قصيدة:"زائرة الليل". 20- محمّد مصطفى درويش. قصيدة:"اعترافات المتنبي في دفتر الحمّى". 21- محمّد مصطفى درويش. قصيدة:"المتنبي وزائرة الليل". 22- محمّد مهدي الجواهري. قصيدة:"في ذكرى المتنبي.". 23- محمد منذر لطفي. كتاب:"المتنبي وبعض القضايا المعاصرة". 24- محمود درويش. قصيدة :"رحلة المتنبي إلى مصر". 25- محيي الدين خريف. قصيدة:"يوميات المتنبي في شعب بوان". 26- ناجي علّوش. قصيدة:"محاورة مع أبي الطيب المتنبي.". 27- يوسف الخطيب. قصيدة:"بطاقة معايدة إلى أبي الطيب.". 28- ثائر زين الدين. قصيدة:"بين المتنبي وضميره". هوامش الدراسة 1- صلاح عبد الصبور، ديوان صلاح عبد الصبور، المجلد الثالث، (حياتي في الشعر)، بيروت، دار العودة، 1973، ص (202-208). 2- محمّد مصطفى درويش، المتنبي، رمزاً معاصراً في قصائد ثلاث، صحيفة الثورة السورية، العدد(7360)، تاريخ 29/4/1987. 3- أدونيس، مقدّمة للشعر العربي، بيروت، دار العودة، ط1، 1971، ص (55-56). 4- عبد الوهاب البياتي، تجربتي الشعريّة، بيروت، دار العودة، 1968، ص 98. 5- حسن الغرفي، أمل دنقل: عن التجربة والموقف، الدار البيضاء، مطابع أفريقيا الشرق، 1985، ص33. 6- أمل دنقل، الأعمال الشعرية الكاملة، بيروت، دار العودة، ط2، 1985، ص (354-355). 7- حسين مروّة، تُراثنا كيفَ نعرفه، بيروت، مؤسسة الأبحاث العربيّة، 1985، ص61. 8- المصدر نفسه،ص 67. 9- محيي الدين صبحي، الرؤيا في شعر البياتي، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1986، ص41. 10- أدونيس، مقدّمة للشعر العربي (مصدر سابق)،ص104. 11- الشعر المعاصر كما تستخدمُه هذهِ الدراسة: هو الشعر المرتبط بأحداثِ عصرهِ وقضاياه؛ مع الاستفادةِ من الخبرات السابقة والتراث القومي والإنساني في تشكيل المفهومات الجديدة، إذاً هو شعرٌ يعبّرُ عن عصرنا بكل أبعادهِ الحضارية، وهذا الفهم أقرب مايكون لما طرحه د.عز الدين اسماعيل في كتابهِ "الشعر العربي المعاصر" وبالتالي فهذهِ الدراسةِ ترى على سبيل المثال لا الحصر- البردوني وأدونيس والماغوط والجواهري شعراء معاصرين. 12- علي عُشري زايد، استدعاء الشخصيّات التُراثيّة في شعرنا العربي المعاصر/ نقلاً عن:"عبد السلام المسّاوي في كتابهِ "البنيات الدالة في شعر أمل دنقل"، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1994، ص158. 13- ناصيف اليازجي، شرح ديوان المتنبي، بيروت، دار صادر، المجلد الأول، مغفل التاريخ، ص (291-292). 14- محمود درويش، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد الثاني، بيروت، دار العودة، ط1، 1994، ص 229. 15- أدونيس، أبجديّة ثانية، دار توبقال، ط1، 1994، ص125. 16- المصدر نفسه، ص129. 17- محمود درويش، لماذا تركت الحصان وحيداً، بيروت دار الرّيس، ط1، 1995، ص12. 18- شوقي بغدادي، رؤيا يوحّنا الدمشقي، دمشق، دائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينيّة، 1991، ص102. 19- يوسف سامي اليوسف، ما الشعر العظيم؟، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1981، ص48. 20- محمّد عمران، الدخول في شعب بوان، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1972، ص11. 21- ناصيف اليازجي، شرح ديوان المتنبي، (مصدر سابق)،ص452. 22- محمد عمران، الدخول في شعب بوان (مصدر سابق)،ص12. 23- المصدر نفسه،ص12. 24- ناصيف اليازجي، (مصدر سابق)،ص(452-453). 25- بيان الصفدي، دقات القلب، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1984، ص48. 26- محمود درويش، الأعمال الكاملة (مصدر سابق)، ص117. 27- ناجي عَلّوش، مجلة الآداب، العدد الأول، كانون الثاني، 1980، بيروت ص 26 28- عبد الوهاب البياتي، ديوان عبدالوهاب البياتي، المجلد الثاني، دار العودة، بيروت، ط3، 1979، ص321. 29- المصدر نفسه، ص414. 30- خضر الحمصي، مجلة المعرفة السورية، دمشق، العدد 399- كانون الأول-1996، ص(145-146). 31- شهدت على سبيل المثال دمشق والقاهرة وحلب وصنبول وغيرها.. احتفالات مشابهة، ويمكن مراجعة: صحيفة دار العلوم-مجلّة الأدب واللغة والتربية والاجتماع، التي أصدرتها جماعة دار العلوم كل فصل في القاهرة؛ وتحديداً الأعداد الصادرة سنة 1936، التي نشرت الكثير من القصائد التي أُلقيت في الذكرى الألفية للمتنبي. 32- الأخطل الصغير، ديوان الأخطل، بيروت، دار الكاتب العربي، ط2، 1972، ص(120-126). 33- المصدر نفسه. 34- المصدر نفسه. 35- المصدر نفسه. 36- المصدر نفسه. 37- المصدر نفسه. 38- عمر أبو ريشة، ديوان عمر أبي ريشة، بيروت، دار العودة، المجلد الأول، 1988، ص(585-586). 39- المصدر نفسه. ص(586-587). 40- المصدر نفسه. ص (592-594). 41- شوقي بغدادي، الزباء كما هي، صحيفة الثورة، تاريخ 27/11/1976- نقلاً عن د.طيب تيزيني في كتابه: "من التراث إلى الثورة"، الجزء الأول، بيروت، دار ابن خلدون، 1976، ص278. 42- طيب تيزيني، (المصدر السابق)، ص278. 43- القروي، ديوان القروي، دمشق، وزارة الثقافة، المجلد الثاني، 1983، ص59. 44-المصدر نفسه، ص59. 45-المصدر نفسه، ص(60-61). 46-المصدر نفسه، ص(62-63). 47-المصدر نفسه، ص64. 48-المصدر نفسه، ص(64-65). 49- عبدالله البردوني، ترجمة رملية لأعراس الغبار، دمشق، مطبعة الكاتب العربي، 1983، ص(47-61). 50-المصدر نفسه. 51-ناصيف اليازجي، (مصدر سابق)م1،ص346. 52-المصدر نفسه، ص347. 53- عبدالله البردوني، (مصدر سابق)،ص(47-61). 54-ناصيف اليازجي، (مصدر سابق)، م1،ص 338. 55- عبدالله البردوني، (مصدر سابق)،ص(47-61). 56- ناصيف اليازجي، (مصدر سابق)، م1،ص 347. 57- عبدالله البردوني، (مصدر سابق)،ص(47-61). 58-عبدالله البردوني، (مصدر سابق)،ص(47-61). 59- انظر: نعيم اليافي، أوهاج الحداثة (مصدر سابق)، الصفحات (47-84). 60-انظر: سليمان العيسى، تجربتي الشعريّة، مجلة الفكر التونسيّة، عدد خاص في قضايا الشعر المعاصر، العدد 9، 1981. 61- سليمان العيسى، إلى أبي الطيب، اللغة العربيّة للسنة الأولى في معاهد إعداد المدرسين، دمشق، المؤسسة العامة للمطبوعات والكتب المدرسية، 1990، ص56. 62- المصدر نفسه، ص57. 63-المصدر نفسه. 64-المصدر نفسه. 65-المصدر نفسه. 66-المصدر نفسه،ص58. 67- صُبحي البستاني، الصورة الشعرية في الكتابة الفنيّة،بيروت، دار الفكر اللبنانية، 1981، /نقلاً عن عبد السلام المساوي، مجلة المعرفة السورية، دمشق، العدد 344، أيار 1992، ص140. 68- سليمان العيسى، إلى أبي الطيب (مصدر سابق)،ص58. 69-المصدر نفسه، ص58. 70- المصدر نفسه، ص59. 71- بيان الصفدي، تحيا الشجرة، دمشق، اتحاد الكتّاب العرب، 1997، ص65. 72- المصدر نفسه، ص66. 73- المصدر نفسه، ص66. 74- علي عشري زايد، توظيف التُراث العربي في شعرنا المعاصر، مجلّة فصول، المجلد الأول، العدد 1، القاهرة، اكتوبر،1980،ص204. 75- محمد مصطفى درويش، أريدكِ أن تكوني، دمشق، مطبعة الكاتب العربي، 1979، ص(43-44). 76- فايز خضّور، ديوان فايز خضّور، الجزء الأول، بيروت، دار الأدهم، 1987، ص278. 77- المصدر نفسه، ص279. 78- المصدر نفسه، ص280. 79- المصدر نفسه، ص280. 80- المصدر نفسه، ص281. 81- المصدر نفسه، ص281. 82- المصدر نفسه، ص281. 83- المصدر نفسه، ص282. 84- المصدر نفسه، ص282. 85- المصدر نفسه، ص283. 86-المصدر نفسه، ص283. 87- المصدر نفسه، ص283. 88- محمود درويش، الأعمال الكاملة (مصدر سابق)، ص136. 89- فايز خضور، (مصدر سابق)، ص 284. 90- محيي الدين صبحي، دراسات رؤويّة، دمشق وزارة الثقافة 1987، ص28. 91- المصدر نفسه، ص28. 92- انظر: عبد السلام المسّاوي، البنيات الدالة (مصدر سابق)، الصفحات (173-178). 93- المصدر نفسه، ص173. 94- المصدر نفسه، ص175. 95- أمل دنقل، الأعمال الشعرية الكاملة، بيروت، دار العودة ط2، 1985، ص186. 96- المصدر نفسه، ص186. 97- المصدر نفسه، ص187. 98- المصدر نفسه، ص187. 99- المصدر نفسه، ص188. 100- المصدر نفسه، ص189. 101- المصدر نفسه، ص190. 102- انظر: عبد السلام المسّاوي، البنيات الدالة (مصدر سابق)، ص177. 103- أمل دنقل، الأعمال الشعرية الكاملة، (سابق) ص190. 104- يوسف الخطيب، بطاقة معايدة إلى أبي الطيب، صحيفة الثورة السوريّة، تاريخ 7/5/1995. 105- محمّد مصطفى درويش، أريدك أن تكوني، (مصدر سابق)، الصفحات(191-195)، يستحضرُ هذا الشاعِر المتنبي في خمسِ قصائد، ضمن مجموعتيهِ المتتاليتين، "الكتابة على شجر الليل" والمجموعة سابقة الذكر. 106- بسام قطّوس، الزمان والمكان في ديوان محمود درويش، "أحدَ عشرَ كوكباً، مجلّة أبحاث اليرموك، منشورات جامعة اليرموك، المجلّد الرابع عشر، العدد الأول، عَمّان، 1996، ص51. 107- مجلّة أدب ونقد، العدد 13، يونيه -يوليه 1985، ص (80-81)/نقلاً عن عبد السلام المساوي (مصدر سابق)،ص175. 108- عبد السلام المسّاوي، (مصدر سابق)،ص79. 109- محمود درويش، الأعمال الكاملة (مصدر سابق)،ص 107. 110- المصدر نفسه، ص(107-108). 111- شاكر النابلسي، مجنون التُراب، بيروت، المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، 1987، ص278. 112- بسام قطّوس، الزمان والمكان (مصدر سابق)، ص54. 113- محمود درويش، الأعمال الكاملة (مصدر سابق)، ص108. 114- المصدر نفسه، ص109. 115- المصدر نفسه، ص(109-110). 116- المصدر نفسه، ص110. 117- المصدر نفسه، ص111. 118- المصدر نفسه، ص111. 119- المصدر نفسه، ص(111-112). 120- المصدر نفسه، ص112. 121- المصدر نفسه، ص113. 122- المصدر نفسه، ص114. 123- المصدر نفسه، ص116. 124- المصدر نفسه، ص116. 125- ناجي علّوش، محاورة مع أبي الطيّب المتنبي (مصدر سابق)،ص27. 126- نبيلة الرزاز اللجمي، أصول قديمة في شعرٍ جديد، وزارة الثقافة السورية، دمشق، 1995، ص.. 127- نقلاً عن محيي الدين صبحي في كتابه "الرؤيا في شعر البياتي (مصدر سابق)، ص167. 128- المصدر نفسه، ص141. 129- راجع المصدر السابق، الصفحات (141-147). 130- عبد الوهاب البياتي، ديوان البياتي، بيروت، دار العودة، المجلّد الأول، ط3، 1979، ص698. 131- محيي الدين صبحي، الرؤيا في شعر البياتي( مصدر سابق)، ص143. 132- عبد الوهاب البياتي، الديوان (سابق)،ص (699-700). 133- المصدر نفسه، ص(700-701). 134- المصدر نفسه، ص701. 135- المصدر نفسه، ص701. 136- المصدر نفسه، ص702. 137- المصدر نفسه، ص703. 138- المصدر نفسه، ص(703-704). 139- المصدر نفسه، ص706. 140- أدونيس، الأعمال الكاملة، م1، بيروت، دار العودة، ط5، 1988، ص (245-430). 141- المصدر نفسه، ص(449-504). 142- فايز خضّور، آداد، بيروت، مؤسسة فكر للأبحاث والنشر ط1، 1982. 143- أمل دنقل، الأعمال الكاملة( مصدر سابق)،ص (321-356). 144- المصدر نفسه، ص354. 145- راجع الفقرة: المتنبي عنصر في صورة جزئية، ص31. 146- محمّد عمران، الدخول في شعب بوّان، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1972، ص13. 147- المصدر نفسه، ص14. 178- المصدر نفسه، ص15. 149- المصدر نفسه، ص16. 150- المصدر نفسه، ص17. 151- المصدر نفسه، ص18. 152- خليل الموسى، الحداثة في حركة الشعر العربي المعاصر، مطبعة الجمهورية، دمشق، 1991، ص112. 153- محمد عمران، (مصدر سابق)،ص 18. 154- أحمد بسام ساعي، حركة الشعر الحديث في سوريا-من خلال أعلامه، دار المأمون للتراث، دمشق 1978، ص325. 155- محمد عمران، (مصدر سابق)،ص 22. 156- المصدر نفسه، ص24. 157- المصدر نفسه، ص25. 158- المصدر نفسه، ص(28-29). 159- المصدر نفسه، ص(34-35). 160- المصدر نفسه، ص35. 161- المصدر نفسه، ص37. 162- المصدر نفسه، ص39. 163- المصدر نفسه، ص(40-41). 164- المصدر نفسه، ص42. 165-المصدر نفسه، ص43. 166- المصدر نفسه، ص44. 167- المصدر نفسه، ص46. 168- انظر، أحمد بسام ساعي(مصدر سابق)، ص(357-358). 169- محمد عمران، الدخول (مصدر سابق)، ص48. 170- المصدر نفسه، ص49. 171- أحمد بسام ساعي (مصدر سابق)،ص390. 172- محمد عمران، الدخول (مصدر سابق)، ص (55-56). 173- المصدر نفسه، ص56. 174- المصدر نفسه، ص(58-59). 175- المصدر نفسه، ص59. 176- المصدر نفسه، ص62. 177- المصدر نفسه، ص65. 178- المصدر نفسه، ص(66-67). 179- المصدر نفسه، ص70. 180- المصدر نفسه، ص71. 181- علي عشري زايد، توظيف التراث (مصدر سابق)، ص207. 182- لوركا، مختارات من شعرهِ، ترجمة عدنان بغجاتي، دار المسيرة، بيروت، ط1، 1980، ص(92-94). 183- محمد عمران، (مصدر سابق)،ص 84. 184- المصدر نفسه، ص(86-87). 185- المصدر نفسه، ص103. 186- خليل الموسى، الحداثة (مصدر سابق)،ص 114. 187- أدونيس، مقدمة للشعر العربي، (مصدر سابق)، ص55. 188- المصدر نفسه، ص55. 189- المصدر نفسه، ص55. 190- أسيمة درويش، قراءة أولى لـ (الكتاب) الأدونيسي، مجلّة أبواب، العدد 2، بيروت، 1997، ص 157. 191 - أدونيس، الكتاب، بيروت، دار الساقي، ط1، 1995، ص 9. 192- المصدر نفسه، ص10. 193-المصدر نفسه، ص12. 194- المصدر نفسه، ص22. 195- المصدر نفسه، ص23. 196- المصدر نفسه، ص191. 197- أدونيس، الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ط5، بيروت، دار العودة، 1988، ص278. 198- أحمد بسام ساعي، (مصدر سابق)،ص 345. 199- أدونيس، الكتاب، ص 196. 200- المصدر نفسه، ص164. 201- المصدر نفسه، ص187. 202- المصدر نفسه، ص197. 203- المصدر نفسه، ص113. 204- المصدر نفسه، ص112. 205- المصدر نفسه، ص10. 206- المصدر نفسه، ص11. 207- المصدر نفسه، ص13. 208- المصدر نفسه، ص10. 209 -المصدر نفسه، ص271. 210- المصدر نفسه، ص282. 211- المصدر نفسه، ص78. 212- المصدر نفسه، ص107. 213- المصدر نفسه، ص32. 214- المصدر نفسه، ص122. 215- المصدر نفسه، ص109. 216- المصدر نفسه، ص109. 217- المصدر نفسه، ص315. 218- المصدر نفسه، ص315. 219- المصدر نفسه، ص348. 220-المصدر نفسه، ص377. 221- المصدر نفسه، ص378. 222- أسيمة درويش، (مصدر سابق)، ص178. 223- أدونيس، الكتاب، ص59. 224- المصدر نفسه، ص222. 225- المصدر نفسه، ص88. 226- راجع على سبيل المثال الصفحات (74-82-86-179-183) من الأعمال الكاملة لأدونيس، المجلد الثاني، ط5)، بيروت، دار العودة، 1988. 227- المصدر نفسه، ص138. 228- أدونيس، الكتاب، ص258. 229- المصدر نفسه، ص(348-357). 230- أدونيس الأعمال الكاملة، م2، ص 183. |
الوقت في المنتدى حسب توقيت جرينتش +3 الساعة الآن 01:53 AM . |
مجالس العجمان الرسمي