كتاب العِلـــم
اســـتهــلا ل .
ليس من سبيل أمام الإنسان لمعرفة نفسه إلا معرفة ربه، وليس له من سبيل معرفة ربه إلا معرفته لنفسه ،ومن ثم لأشكال الحياة من حوله 0
إننا لا ننظر إلى الله تبارك وتعالى نظر العين ، ولكن نتعرف على الذات الإلهية ونحن ننظر إلى كل إبداع إلهي ، فالذي لا يعرف الله يصعب عليه أن يؤمن به ، وهنا تنطرح الحكمة الإلهية على ضمير الإنسان فتزجيه نحو التعرف على ربه ، ولا تزجيه نحو النظر إليه ، على ركيزة أن المعرفة هي الأصل في تقديم الله إليك ، تقديم الله بكل جلاله وعظمته وقدراته ومدلولات أسمائه الحسنى 0 ففي حياتك اليومية تقول عن شخص تراه كل يوم يمر بجانبك ويلقي عليك السلام بأنك لاتعرفه ، وتقول عن شخص لم تره رأي العين قط ولكنك تتعامل معه من بعيد بأنك تعرفه 0 إذاً ليس المهم النظر إلى الشخص ، ولكن المهم مدى حجم المعرفة بطبيعة الشخص ، فمعرفة الشخص هي ذات الشخص ، أما النظر لوحده مهما طال فإنه لن يقدمه إليك ، ولن يقدمك إليه 0 المعرفة هنا غنتك عن النظرة ، بيد أن النظرة هناك لم تغنك عن المعرفة 0 وأنت لا تؤمن بوجود وردة لا تهبك رائحة ، ولكنك عندما تشتم رائحة وردة فإنك تؤمن بوجودها حتى لو خفى عنك ظاهرها0
لهذا فإن ربك لم يأمرك أن تنظر إليه ، بل أمرك أن تقرأه 0 ففي البدء " كانت الكلمة " ولم تكن النظرة0 القراءة هنا تمنح مخيلتك الخيال الخصب وتفسح في مشاعلها أنهار التأمل والتفكر ، فالقرآن الكريم هو خطاب لغوي تأملي فكري يوسع المدركات العقلية والرؤى التأملية والتخيلية وهو دعوة جلية للاستدراك واليقظة من غفوة اللاقراءة ، حتى الرسل والأنبياء عليهم السلام ارتقوا إلى ربهم بالقراءة ، وكذلك فإن قلب النبي صلى الله عليه وسلم يطمئن عندما يخاطبه الله تبارك وتعالى ويضرب له الأمثال التي تشير إلى قدراته ولاتُظهره له 0
لقد آمن النبي صلى الله عليه وسلم بربه دون أن يره رأي العين في زمن شهد قمة المجد الوثني ، وكان الشخص الوحيد الذي أنكر ذاك المجد الوثني ورفضه لينشر رسالة رب كريم لم يره ، ولكنه أصغى جيداً لمدلولات كلمة /اقرأ/ التي حملها إليه ملاك ، فقد كانت الكلمة عالماً من المعرفة وشمساً سطعت على ظلام أزلي ، أجل إن قوة إيمان محمد صلى الله عليه وسلم ولّد تها تلك الكلمة الأولى التي لبثت الأساس المتين لمراحل التطور الإيماني لديه صلى الله عليه وسلم 0 فالكلمة كانت برهانه الأكبر إلى المعرفة ، لقد تلقاها وهو في الأرض من رب يبعد عنه بعداً لا يبلغه به خياله ، ولكنه استمع إلى الكلمة جيداً وبنى عليها جهاده في نشر المعرفة ، واستطاع أن يقنع المقربين له بها حتى توسّع الدين الجديد الذي دعا إليه ، والناس صدّقوه وآمنوا بالله من خلاله ودخلوا دين ربهم أفواجاً بناءً على الكلمة التي سمعوها من هذا الرجل الأمين 0 واستمدت المعرفة أهميتها الكبرى لأنها غدت الدليل إلى معرفة الله الذي ما كانوا يعرفوه حتى شاع مثل في الناس يقول : " لم أر الله بعيني ، ولكن عرفته بعقلي " 0 وهذا المثل التلقائي الذي يُردد في الأوساط الش!
عبية ، يعزز مكانة المعرفة وأهميتها في درجة الإيمان 0 إذاً فليس من سبيل للإيمان بالله إلاّ سبيل المعرفة التي يكتسبها الإنسان على قدر إصغائه للكلمة ، بل إن الإيمان بذاته هو الشكل الأصفى والأرقى للمعرفة البشرية 0
وقد جعل الله تبارك وتعالى أشكالاً وألواناً للمعرفة البشرية وهي فروع تؤدي إلى سعة معرفته ، لذلك فإن الإنسان كلما بحر في علوم المعرفة ازداد إيماناً بقدرات الله مهما اختلفت أجناس هذه المعرفة من أدب ، وعلم ، وفلك ،وفن ، وطب ، وفقه 0 يبقى هذا الكلام المبارك الذي جاءنا , الدليل الأكبر لانفتاحنا على معرفة أنفسنا ، ومعرفة ما في الطبيعة التي نعيش فيها ، وتعيش فينا,ففيه نقع على شرح أنفسنا ، شرح الطبيعة ، فهو الكلام الأقوى والأبقى على الأرض ،بل هو الكتاب الأكثر ثقة وخلوداً وامتلاءً " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرا بيب سود ، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء " 0 فاطر , الآيتان 27 – 28 0
والعلم في جوهره لا يتحقق إلا عبرا لمعرفة ، فالمعرفة هي أم العلوم ، والعلوم كلها هي فروع شجرة المعرفة 0 لقد أكرم الله الإنسان بأن جعله يتفقّه في المعرفة ويتفكّر في آيات الكون ، وهذا يحقق للإنسان متعة اكتساب المعرفة ، ومتعة ارتقائه من كائن غير عارف ، إلى كائن عارف ، من كائن مظلم لكائن مضيء ، إضافة إلى أن هذه المعرفة تحقق له الطمأنينة الروحية وتزيح عنه كل مرض من أمراض الروح 0 فهو إذن لم يأ ت صدفة من مجهول ،و بالتالي لن يذهب إلى مجهول 0 كلمّا اكتسب هذا الإنسان –المتفكّر بآيات الكون – المعرفة ، ازداد طمأنينة ، وامتلأ ثقة بجدوى وجوده وحياته 0
علينا دوماً أن نكون منفتحين لاستقبال أشكال الحياة ونرنو نحو اكتشافات جديدة تزيد في درجة معرفتنا بالله وإيماننا به ، فإن الإيمان يتدرج بنا نحو الأعلى كلما تدرّجنا في المعرفة ، وهو يهبط بنا كلما تدنت لدينا المعرفة 0 ودوماً إن أولئك الذين لا يؤمنون بالله هم الذين ما عرفوه وما تلوا كتابه المبارك 0 من هذه النقطة الحساسة تناولتُ هذه الوقفة مع كتاب العلم في الإسلام ، وهو بحث شاق ومرهق استنزف وقتاً طويلاً ، لكنه أمتعني في فصوله وزادني إيماناً0
نشر العلــم عبر اللغة .
نزل القرآن الكريم على مجتمع عربي أمي لايجيد القراءة والكتابة وكذلك من خلال رسول أمي عليه أن يبلغ هذا القرآن عبر اللغة . وهنا تميّز محمد صلى الله عليه وسلم عن سائر أنبياء البشرية فهو النبي الوحيد الذي بُعث في مثل هذه الظروف .فعندما جاء الإسلام لم يكن هناك من يجيد الكتابة إلا سبعة عشر شخصاً- يمكن لمن يشاء معرفتهم في العقد الفريد لابن عبد ربه - ويذكر الجهشياري في " كتاب الوزراء والكتاب " مَنْ كانوا يدوّنون الوحي نقلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم خشية الضياع أو النسيان وهم :علي بن أبي طالب ، وعثمان بن عفان ،وأُبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وخالد بن سعيد ، ومعاوية بن أبي سفيان ، ومعيقيب بن أبي فاطمة ، وعبد الله بن أبي السرح . إذ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليكتب الوحي فور تلقيه وبعد ذلك شجع الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم محو الأمية ، بل ودفع بعضهم لتعلّم لغات أخرى مما لهذه المعرفة اللغوية من كسب للانفتاح على العالم . يقول زيدبن ثابت : " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم كتاب يهود ، قال : إني والله ما آمن يهود على كتاب . قال زيد فما مرَّ بي نصف شهر حتى تعلمته له !
، فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم ، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم " رواه الترمذي(*) . فأصبح طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة رغم أن عدد النساء عند نزول القرآن كان الأقل ففي "فتوح البلدان " يذكر البلاذري :أم كلثوم بنت عقبة ، وحفصة بنت عمر ، والشفاء بنت عبد الله التي كانت كاتبة في الجاهلية ، وأم سلمة التي كانت تقرأ ولاتكتب 0 ولأن القراءة هي المصدر لنشر الوعي الديني أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتكريم العلماء والعارفين لأنهم يسهمون بفعالية في نشر رسالة الإسلام حتى أقر القرآن بأنهم : " ورثة الأنبياء " وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" مَنْ تعلم العلم يحيي به الإسلام لم يكن بينه وبين الأنبياء إلاّ درجة ". وقال :"إنما بُعثتُ معلماً ". وأمر الناس أن يوقروا علماءهم فقال للأنصار عندما قدم عالمهم سعد بن عبادة :" قوموا لسيدكم ". وفي رواية :"قوموا لحبركم ".
وقال أبوثعلبة : يارسول الله ادفعني إلى رجل حسن التعليم ، فدفعني إلى أبي عبيدة بن الجراح ثم قال : دفعتك إلى رجل يحسن تعليمك وأدبك ". وقال عليه الصلاة و السلام:"علموا ويسروا ولاتعسروا ، وبشروا ولاتنفروا ". "سيأتيكم قوم يتفقهون ، ففقهوهم وأحسنوا إليهم ". ويكفي أنه وجه خطاباً عاماً لكافة المسلمين :" تركت فيكم ما إن تمسكتم به ، لن تضلوا أبداً : كتاب الله وسنتي ". والإنسان كذلك يتدرّج في تحصيل العلم يقول الله تعالى :" يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات "(أ) 0
وقال صلى الله عليه وسلم :" من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً ,سهل الله له طريقاً إلى الجنة "(ب) 0
وروي عنه أنه قال :" يا أبا ذر لئن تغدو فتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلي مائة ركعة ، ولئن تغدو فَتُعلّم باباً من العلم عُمل به أو لم يُعمل به خير لك من أن تصلي ألف ركعة "(ت) 0
================================================== =
(*) سنن الترمذي ،(22) باب ما جاء في تعليم السريانية ، رقم الحديث (2716) وقال:هذا حديث حسن 0
وروي عنه أنه قال :" فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد " (ث) 0
وكما روي عنه صلىالله عليه وسلم :" فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم "(ج) 0 وقال صلى الله عليه وسلم :" أن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في جوف البحر ليصلون على معلمي الناس الخير "(ح) 0
يقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه :" العلم خير من المال ، العلم يحرسك وأنت تحرس المال ، والعلم حاكم والمال محكوم ، والمال تنقصه النفقة ، والعلم يزكو بالإنفاق ".
وعن فضل العلم يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه :"تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة ، ومذاكرته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه لمن لايعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة ، لأنه معالم الحلال والحرام ، ومنار سبل أهل الجنة ، وهو الأنيس في الوحشة ، والصاحب في الغربة ، والمحدث في الخلوة ،والدليل على السراء والضراء ، والسلاح على الأعداء ،والزين عند الأخلاء ، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخيرة قادة وأئمة تقتص آثارهم ، ويقتدى بفعالهم ، وينتهى إلى رأيهم . ترغب الملائكة في خلتهم ومصاحبتهم وبأجنحتها تمسحهم ، يستغفر لهم كل رطب ويابس ، وحيتان البحر وهوامه ، وسباع البر وأنعامه ،لأن العلم حياة القلوب من الجهل ، ومصابيح الأبصار من الظلم ، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار ، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة . التفكر فيه يعدل الصيام ، ومدارسته تعدل القيام ،به تُوصل الأرحام ، وبه يعرف الحلال من الحرام ، وهو إمام العمل ، والعمل تابعه ، يُلْهَمهُ السعداء ويحرمه الأشقياء ".
فالعلماء أسهموا بفعالية بالغة في نشر الإسلام وأيضاً هم الذين كتبوا القرآن نقلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم . إن الله هو الذي حفظ القرآن ، ولكن هؤلاء أيضاً كتبوه ولهم فضل كتابته ، فهم أناس الاستنارة الأجلاء ، وأبرز اختصاصيي الروح وفقه الذات .
يقول صاحب المنار:" بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم أمياً , ولم يُنقل لنا أن الله سبحانه وتعالى بعث نبياً أمياً غيره ، فهو وصف خاص لايشارك به محمداً صلى الله عليه وسلم أحد من النبيين ، والأمية آية كبرى من آيات نبوته فإنه جاء بعد النبوة بأعلى العلوم النافعة ، وهي ما يُصلح ما فسد من عقائد البشر وأخلاقهم وآدابهم ، وأعمالهم وأحكامهم ، وعمل بها فكان لها من التأثير في العالم ما لم يكن لغيره من خلق الله ".
فضل العلــــم .
لقد بيّن الله في القرآن الكريم فضل العلم على الناس وهذه طائفة من هذه الآيات المباركة :
- "وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خيرٌ لِمَنْ آمن وعمل صالحاً ولايلقاها إلا الصابرون "(خ)
- "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلاّ العالمون " (د)
-"شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة و أولو العلم قائماً بالقسط لاإله إلاّهو العزيز الحكيم "(ذ)
-"يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات "(ر)
-"قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون "(ز)
"ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم "(س) 0
ومما قاله النبي صلىالله عليه وسلم : "إن الله لايقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا "(ش)
-"مَنْ يرد الله به خيراً يفقهه في الدين إنما أنا قاسم ، ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيماً تقوم الساعة وحتى يأتي أمر الله "(ص)
-" إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدي بها في ظلمات البر والبحر فإذا طمست النجوم أو شك أن تضل الهداة "(ض)
-"العلماء ورثة الأنبياء ، وإن العلماء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ، إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر "(ط)
-" مَنْ خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع "(ظ)
فإذن يكتسب الإنسان المعرفة والنضج والامتلاء بالحياة من كل شيء حوله . والحكمة في الإسلام هي ضالة المؤمن أينما وجدها أخذ بها . والرسول صلى الله عليه وسلم دفعك لتبحث عن العلم ولو في الصين وكانت الحكمة تُتلى في بيته كما يُتلى القرآن وقد أمر الله نساء النبي أن يذكرن :ما يتلى في بيوتهن "من آيات الله والحكمة " وسورة كاملة من القرآن حملت اسم لقمان وهو ليس نبياً ولكنه كان حكيماً ومما قاله هذا الرجل الحكيم الذي دفعته حكمته إلى تلك المكانة العالية في القرآن وهو يخاطب ابنه :"جالِس العلماء و زاحمهم بركبتك ، فإن الله سبحانه يحيي القلوب الميتة بنور العلم ،كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء ، وإياك و منازعة العلماء فإن الحكمة نزلت من السماء صافية ، فلما تعلمها الرجال صرفوها إلى هوى نفوسهم ". يبدو أن إمام الحكمة هذا كان شعلة استنارة في قومه حتى استطاع برحمة الله أن يحظى بهذا الاحتفاء الإلهي . وهنا سأقف أمام ما يمكن أن يلخّص موقف هذا الرجل الخالد من ظاهرة الحياة في الناس ، فقد سُئل : أي الخصال خير للإنسان ؟
قال : الديـن 0
قيل: فإذا كانت اثنتين ؟
قال : الدين والمال .
قيل : فإذا كانت ثلاثة ؟
قال الدين، والمال ، والحياء.
قيل :إذا كانت أربعة ؟
قال : الدين ، والمال ، والحياء ، وحسن الخلق .
قيل : فإذا كانت خمساً ؟
قال : الدين ، والمال ، والحياء ، وحسن الخلق ، والسخاء .
قيل : فإذا كانت ستاً ؟
قال : مَنْ اجتمعت فيه الخصال الخمس ، فهو تقي نقي ولله ولي .
مكانة القراءة .
القراءة هي إحدى أهم مصادر المعرفة ، ومهما بلغ الإنسان من تطور وتقنية لتلقي المعرفة ، فإنه لايستغني عن القراءة من كتاب فثمة معرفة لاتتحقق إلاّ عبر الكلمة مهما تقدّم الزمن ، وسأضرب لكم مثلاً ، فإذا تم تقديم سورة من سور القرآن الكريم من خلال مشاهد تمثيلية مصّورة في محاولة للاستغناء عن قراءة آية فإنها تفشل فشلاً ذريعاً في ذلك ، لأن هذا القرآن خلقه الله وأنزله ليُقرأ .. ليقرأ فحسب . وهذا بذاته يكون فيما لو قام شخص ما بالتغني بسورة أو آية . لأن القرآن أُنزل لُيقرأ ، لا ليُغنى أو يُلّحن . وبالتالي فإن ما تأخذه بالقراءة لا تأخذه بأي وسيلة أخرى حتى لو كانت سماعية بصوت أبلغ قارئ له.
إن على الإنسان أن يتعرف على الله بجهوده ومسعاه العملي ، فمنظر ربيع أو شجرة عامرة بالبلابل والورد من خلق شاشة ، لايقدّم لك ما يقدّمه دخولك واستنشاقك الطبيعي . وكذا فالقارئ مهما بلغ من حسن في صوته وبلاغة في تلاوته ، فإنه لايقدم لك كنوز القرآن بقدر ما تقدّمه قراءتك الذاتية والتأملية له : " إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ، الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار "(ع) 0
القراءة هي ذاكرة الإنسان ، والإنسان هو ذاكرة القراءة ولذلك فإن هذا الإنسان لم يجد طريقا إلى كماله إلاّ بعد أن تعلّم كيف يقرأ . فإنسان لايقرأ هو إنسان ناقص بكل المقاييس مهما كان موقعه الاجتماعي .
يرى بعض الذين لا يقرؤون أن القراءة لم تعد مجدية في عصر التفجر المعلوماتي لأن مايريده الإنسان بات في متناول يده بمجرد الضغط على زر . هذا كلام صحيح ولكنه ناقص لأن المعرفة وأي معرفة لاتأتي إلاّ عبر القراءة الفكرية والقلبية والبصرية ، وإن أتت فإنها تأتي غير مكتملة وكذلك تكون سريعة النسيان . والواقع فإننا تعلمنا من الحياة والتجارب بأن ما يأتي بسرعة ،يذهب بسرعة والعكس صحيح . وللمثل على هذا فكم من معلومة أتتنا عبر القنوات الفضائية ..؟ ما الذي لبث في ذاكرتنا منها ؟. في حين أننا نحفظ نشيداً قرأناه وكتبناه على مقاعد الصفوف الإبتدائية الأولى حتى لو بلغنا الثمانين من العمر ، لأن المعلومة أتت بالجهد المضني مما أدى إلى ترسيخها ترسيخاً عميقاً في الذاكرة . يمكن لنا أن نستمع بشكل يومي إلى أشرطة تحتوي على سور من القرآن الكريم ، لكن لانحفظ في حين أننا حفظنا سوراً منذ المرحلة الإبتدائية ولاننساها ولذلك جاء الخطاب الإلهي إلى النبي : اقرأ . ولم يكن : اسمع .رغم أنه كان في حالة سماع :" اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم "(غ) 0
إذن كان عليه أن يقرأ ماسمع وبذلك يحفظ, وأي طريقة أخرى فإنها لاتجدي ولاتؤدي إلى الحفظ . وهذا الخطاب ذاته يشمل الناس حتى يسيروا على ما سار عليه محمد عليه الصلاة والسلام ويحفظوا خطاب الله . هذا المثال الديني يعزز مكانة القراءة ويثبت أن لابديل عنها .. في شوارع أوربا وفي قطاراتها وحافلاتها ومواقفها الداخلية ترى الناس يستغلون هذه الأوقات الضائعة لقراءة جريدة أو جزء من كتاب في حين أن مكتباتنا تتحول شيئاً فشيئاً إلى محلات لبيع الخردة وبيع بناطيل الجينز وإذا سألت أصحابها قالوا لك : لاأحد يقرأ .. لكن الناس يلبسون الجينز ويبتاعون الخردة . هذا يحدث في بلادنا مع تفجّر الثورة المعلوماتية في وقت يزداد فيه أهل الغرب قراءة0 لايمكن للسماع أن يكون على حساب القراءة .. فمشاهدة فيلم لايمكن بأي حال أن تغني عن قراءة الرواية التي أُخذ عنها هذا الفيلم . ومن هذا المنطلق فإننا نرى أن أكثر الروايات العالمية مبيعاً هي تلك التي تتحول إلى أفلام وهنا تتحول السينما إلى عملية ترويج للقراءة ، فأنت في القراءة لاأحد يشاركك ولاأحد يشوّش عليك على عكس ما تشاهد الأحداث في صالة سينما ضخمة ومهما حاولت التركيز واستطعت!
أن تشاهد هذه الأحداث عبر جهاز في منزلك فلن تظفر بما تظفر به من خلال مسك الرواية بيديك وقراءتها حرفاً حرفاً من الغلاف إلى الغلاف . مثل هذا الكلام لايعني الدعوة إلى القطيعة عن وسائل تلقي المعرفة الأخرى ولكنه دعوة لعدم الميل كل الميل إليها فإن الأشجار في النهاية تقف على جذورها 0
الأمية الثقافية .
لقدتم الحديث مطولاً عن الأمية المنتشرة في بلادنا لأسباب متفاوتة وفي تقديرنا أن هذه الأمية تضاءلت ولسوف تتضاءل في السنوات العشر القادمة على نحو أوسع ،لأن أي أب ومهما كان موقعه فهو لن يترك أبناءه دون دخول مدارس في عصر التفجر المعلوماتي . لكن الخوف كل الخوف من تفشي الأمية الثقافية بين شرائح واسعة من فئات مجتمعاتنا المتعلمة . فالطبيب ، أو المدرّس ،أو المحامي ، أو المهندس ، أو السياسي .. ما إن يتخرج ويواجه عمله حتى تراه يتوقف كلياً عن تثقيف نفسه . فلدى الطبيب قناعة أن كل ما يدفعه إلى التفوق في مهنته هو الإلمام بمزيد من النشرات والكتب والمحاضرات والمكتشفات الطبية . وقس هذا على الاختصاصيين الآخرين ، وهذا نفسه يأتي حتى على الفقيه . والواقع أن كل أجناس المعرفة تكمل بعضها , فالفقيه الذي لايعرف شيئاً عن آثار التدخين من الناحية الطبية تكون نظرته شكلية . فعليه أن يحفظ الشعر ، ويقرأ في الفضاء ، ويقرأ في الهندسة ، ويقرأ في الأدب والحكمة حتى يستطيع أن يوسّع مفهومه عن الحياة المعاصرة وبالتالي يمكنه أن يجري مقارنات بين هذه المنجزات الحديثة وبين تفقهه في الدين . وهؤلاء جميعاً عليهم أن يحسنوا !
التعامل مع الثورة المعلوماتية الكبرى , وفي هذا ما أسميه : انفتاح العلوم البشريةعلى بعضها وتلاقح أجناس المعرفة بعضها ببعض . في حياتنا اليومية نقع على أشخاص من ذوي الاختصاصات , وعندما نلبي الدعوة لزيارة منازلهم تحل الصدمة علينا . فأزور فقيهاً في بيته ولاأرى في مكتبته الصخمة التي أفرد لها جناحاً كاملا من البيت كتاباً في الفلك أو الطب أو الأدب أو السياسة أو البيئة أو الشعر أو التاريخ . وهذا بذاته يكون لدى أصحاب الاختصاصات الأخرى . هذه هي الأمية الثقافية بعينها . فما المانع أن يقرأ الطبيب شيئاً من الشعر أو المسرح أو الرواية أو الفقه أو يشترك في مجلة ثقافيةأو دينية أو فكرية إلى جانب اشتراكه في مجلات طبية وهذا يأتي على الفئات الأخرى . إن محبة الكتاب هي محبة المعرفة البشرية برمتها ،والكتاب لايعني أبداً اختصاصا من الاختصاصات ، بل الكتاب هو المعرفة بمختلف أجناسها وألوانها . من هنا علينا أن نعزّز مكانة الكتاب في نفوسنا ونوليه قدراً أكبر من وقتنا وجهدنا ومالنا لأن الأمية الثقافيةهي أشد بؤساً وجهالة من الأمية التعليمية وإذا كانت الأمية التعليمية تُمحى على طاولات المدارس ، فإن الأمية الث!
قافية لايمحوها إلاّ الكتاب .
________________
مراجع
أ- سورة المجادلة ، الآية 11
ب- رواه ابن ماجة بسند صحيح
ت- رواه ابن ماجة بسند ضعيف وقد روي موقوفاً عليه
ث- خرجه الترمذي وابن ماجة وسنده ضعيف جداً .
ج- رواه الترمذي بسند ضعيف .
ح- الترمذي
خ- سورة القصص ، الآية 80
د- سورة العنكبوت ، الآية 43
ذ- سورة آل عمران ، الآية 18
ر- سورة المجادلة ، الآية 11
ز- سورة الزمر ،الآية 9
س- سورة النساء ، الآية 59
ش- البخاري ، كتاب العلم ، باب كيف يقبض العلم
ص- الحديث متفق عليه
ض- أخرجه الإمام أحمد في مستنده 3/157 ،لكن الهيثمي في مجمع الزوائد 1/121 ذكر أن فيه رشد بن سعد وهو مختلف في الاحتجاج به ، وأبا حفص صاحب أنس وهو مجهول .
ط- رواه الترمذي ، وصححه الألباني في صحيح أبي داود 2/694
ظ- أخرجه الترمذي في العلم
ع- سورة آل عمران ، الآية 190- 191
غ- الآية من 1 – 5
بقلم الأديب / عبد الباقي يوســــــف
روائـي وقاص ســـــوري
عضو اتحاد الكتاب العرب
عضو جمعية القصة والرواية السورية