حرب الصورة الاعلامية: بعض جوانب تغطية الحرب - الاعلام اول من يدخل ساحة المعركة وآخر من ينسحب - ناظم عودة
يوماً إثر آخر يتزايد تأثير الصورة المتحركة في وسائل الإعلام (الميديا). ولأنّ هذه الوسائل تسعي باستمرار إلي تقوية أثر الصورة، فإنها تعمل بجهد حثيث لتطوير قدراتها التقنية والفنية معاً. ولأنّ الصورة في البثّ الفضائي الحيّ وغير الحيّ، باتت تشكّل ظاهرة كبيرة، ذات تأثير واسع علي فئات المجتمع، فقد سعت وسائل الإعلام المسموعة إلي تحديث وسائلها في نقل الخبر، أو تغطية الأحداث. إذْ جعلت هيأة الإذاعة البريطانية (BBC) مبدأ تجسيم الصوت غاية كبري، تسعي إلي تحقيقها للمستمعين إليها، فكأنّ الأذن تري ما تسمع. وهذه الآلية الجديدة في البث الإذاعي، تقوم علي ملاحقة (مصدر الخبر) أينما كان، لتقدّمه إلي المستمع في لحظة حصوله. وقد عززت إذاعة (صوت امريكا) وإذاعة (سوا) الممولة من الكونجرس الامريكي، هذه الآليات بتحليل (الخبر) أو (الحدث) من طرف (مراقبين) أو(شهود عيان) أو (محللين مطلعين). لم يعد الخبر كما في السابق يروي إلي الصحفي أو يقوم بتوصيفه لفظياً، بل ثمة خطة إعلامية جديدة لإشباعه تغطية وتحليلاً، أو جعل المراقبين أو شهود العيان يصوغون ذلك الخبر، ويقدمونه إلي زملائهم المستمعين. بيد أنّ الأمر يختلف تماماً في وسائل الإعلام المرئية، فلا يُجبر المشاهد علي الاستعانة بقدرة تراسل الحواس، وإنما المشاهد يري ويسمع، والسمع والبصر قوتان حاسمتان في التأثير علي الإنسان في عملية إدراك المعني. وإذا ما كانت الحرب تنشب سابقاً بين الإذاعات، فإنها اليوم تدور رحاها بين القنوات الفضائيات. فريق يدّعي الموضوعية والحياد في تغطية الأحداث، وفريق آخر يشكك في ذلك. غير أنّ المتلقي لوسائل الإعلام لم يكن بمنأي عن بعض الأغراض التي تحاك في الخفاء، إذْ لم تكن الصورة تُقدّم دونما سرد آخر يصاحبها، ويتجه إلي هذا المتلقي مباشرة. وقد وضع السرد الذي يرافق الصورة المشاهدَ في وضع المراقب للتحريف الذي يجري علي صناعتها. أخطر ما في الصورة هو صناعة سرد الخبر، أو الإيماءات السردية التي تحوم حول تخوم الصورة. وعند ذاك، يتحتّم علي المتلقي أن يراقب صناعة الصورة وصناعة السرد في آنٍ.
ولم يكن خافياً علي الجميع أمر تلك الحرب الأخري، التي كانت تجري إعلامياً بين طرفي النزاع في حرب الخليج الثالثة بين العراق من جهة، والولايات المتحدة وبريطانيا من جهة ثانية. وعلي الرغم من التفاوت الكبير في القدرات، إلا أننا كنا نشهد بقوة غبار النزاع الإعلامي المثار بين الطرفين. كان الإعلام العراقي يلعب علي الوتر القومي في حشد الرفض لما تخطط له الولايات المتحدة، ويشدد علي أنّ الحملة الامريكية تخفي وراءها مخططاً شاملاً للهيمنة علي الثروات العربية، وتغيير الأنظمة غير المرغوب فيها في المنطقة. تردد هذا الكلام علي لسان ناجي صبري وزير خارجية العراق، وعلي لسان طه ياسين رمضان نائب رئيس الجمهورية، وعلي لسان صدام حسين نفسه. غير أنّ الإعلام الامريكي يلعب علي الوتر الإرهابي، الذي يدخل الرعب في قلوب الشعب الامريكي منذ صدمة صورة برجي التجارة وهما يتهاويان في مشهد من مشاهد الخيال المرعب. بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي المرقم (1449) في 2003 كانت الصورة علي غير ما ترغب به الولايات المتحدة، فثمة تعاون مع مفتشي لجنة (الأنموفيك) من جانب العراق، كان عرضة لكاميرات وسائل الإعلام. كان ذلك يغضب الولايات المتحدة التي تتربص بسقوط خصمها. لم يهدأ لها بال، وكان السياسيون الامريكيون، بدءاً من الرئيس جورج بوش، لا يدعون مرحلة من مراحل التفتيش إلا وفنّدوا مصداقيتها، وشككوا في أمرها. بيد أنّ (جورج تينت) مدير وكالة الاستخبارات المركزية كان يعمل في الخفاء للاستعانة بالصورة المصنوعة صناعة إعلامية، لتقديم دليل دامغ يدين العراق في أروقة مجلس الأمن الدولي. حبس العالم أنفاسه وهو يشاهد تلك الصور التي عرضها (كولن باول ) وزير خارجية الولايات المتحدة علي شرائح إلكترونية في مجلس الأمن. كانت الصور من مجلوبات (جورج تينت) الذي جلس في الصفّ الخلفي لكولن باول، يراقب نجاح ما قام به. ادعي باول أنّ المخابرات العراقية بالتعاون مع عدد من المسؤولين العراقيين الكبار وضعت برنامجاً دقيقاً لنقل الأسلحة المحظورة من مكان إلي آخر، بشاحنات مخصصة لهذا الغرض. لكنّ تلك الصور فشلت في كسب تصديق أغلبية الأعضاء. استعمل الوزير الامريكي ما يمكن أن يطلق عليه في الفوتوغرافيا (الخداع الممكن) في الصورة، ويعني ذلك أنّ المحاكاة التي كان يفترض أنْ تماثل بين الواقع الحقيقي وما في الصورة من مادة، قد تعرضت إلي تحريف فني كي تؤدي غرضاً آخر في هذه الصورة الملتقطة من الفضاء. كان العامل الأهم في عدم التصديق، هو عدم القدرة علي معرفة التحريف الذي أصاب الصورة التي عرضت علي أعضاء مجلس الأمن. وربما كان هذا الأمر بأمسّ الحاجة إلي خبراء متخصصين في طبيعة الصورة، للحكم علي الكيفية التي تمّ بها التلاعب بالزمان والمكان لينسجما مع الهدف الذي كانت تسعي إليه الولايات المتحدة. لكن الردّ من الجانب العراقي كان رداً لا يتعدا الجانب المنطقي، وقد جاء علي لسان الفريق (عامر السعدي) الذي ادعي أنّ ما قاله كولن باول غير صحيح، طالباً منه تزويد المفتشين بأماكن هذه الأسلحة إذا كان يعلم بها فعلاً.
اتخذ الأمر طابعاً أكثر إثارة عندما اندلعت الحرب بين الطرفين في صبيحة العشرين من شهر آذار، لأنّ الصور التي تعرضها وسائل الإعلام، في هذه المرة، ليست صوراً سينمائية، بل صوراً حقيقية لمعركة منتظرة، كثر فيها التهديد والوعيد. في البدء اضطرب المركز الإعلامي في (السيلية) بالدوحة، والتابع لمركز قيادة القوات الوسطي، تأخر عقد المؤتمر الصحفي اليومي الي وعدت به هذه القيادة، فاهتاج الصحفيون. بعد ذلك،كانت هنالك بيانات عسكرية في هذا المركز، لكنها غير مشفوعة بصور متحركة ملتقطة من كاميرات أرضية، وإنما كانت الصور التي عرضها العميد (فنسنت بروكس) صوراً ملتقطة من الجو، وهنا تكمن معضلة مصداقية (الخبر). وعلي أثر ذلك، تعرّض تومي فرانكس ــ الذي لم يعقد من هذه المؤتمرات إلا القليل الذي لا يتجاوز أصابع اليد ـ وتعرّض فنسنت بروكس كذلك إلي سيل من أسئلة الإعلاميين المشككين بصدق هذه الأخبار. وفي الوقت الذي كان فيه العالم لا يتوقع أنْ تسقط طائرات أميركية أو يؤسر جنود أو يقتلون أو تُحْرَق آليات، بسبب الفارق في تكنولوجيا التسليح، فإنّ عرض صور لأسري حرب أميركيين قد أغضب الإدارة الامريكية كثيراً، فقد شكك وزير الدفاع الامريكي (دونالد رامسفيلد) بصحة الصور التي عرضتها قناة الجزيرة والتي نقلتها بدورها عن (قناة العراق الفضائية) علي الرغم من أنّ هؤلاء الجنود قد عرّفوا بأسمائهم ووحداتهم ومدن سكناهم. والمفارقة الغريبة، أنّ هذه الصور التي أثارت حنق الامريكيين وتمنوا لو أنها لم تُصوّر ونفوا علي لسان رامسفيلد أن يكون هؤلاء جنوداً أميركيين، قد استعملوا صور هؤلاء الأسري أنفسهم للدعاية علي قدرة الجيش الامريكي عندما حرّروهم من الأسر في مدينة سامراء. فتكرر ظهور هؤلاء الأسري علي شاشات التلفزيون في مدينة سامراء وفي الكويت وفي أميركا أيضاً في حفل استقبال بهيج. وقبل ذلك، كانت عملية تحرير المجندة الامريكية (جيسيكا) في مستشفي في مدينة الناصرية، قد شغل حيّزاً كبيراً في وسائل الإعلام الامريكية، فتحوّل من عملية إلي دعاية وحرب نفسية تؤدي بعض الأغراض المقصودة.
أما الحرب الأخري الأكثر إثارة، فهي سقوط الطائرات وحرق الآليات، ادعي الامريكيون أنّ كثيراً من هذه الطائرات قد تحطمت بنيران (صديقة)، شاع هذا المصطلح بين وسائل الإعلام، وأصبح محطّ غمز ولمز من لدن كثير من الإعلاميين. لكنّ الجانب العراقي الذي يعوّل كثيراً علي الدعاية في هذه الحرب، لم يدع سانحة لتصوير سقوط الطائرات المسيّرة بغير طيّار، إلا وعرضها متزامنة مع بعض البيانات المبالغ فيها كثيراً. لكنّ ذلك ألهب الحرب بين الطرفين، وأوهم أنّ ما يقوم به الجيش الامريكي هو مجرد عمليات إنزال يصطادها العراقيون. وحصلت هذه الفرضية علي بعض المصداقية بعد عرض صور لآليات أميركية محترقة خلال توغلها في الأراضي العراقية. وكانت الدعاية العراقية تستند إلي المقاومة الكبيرة في (أمّ قصر)، فاستغلت ذلك لتعزيز ادعاءاتها المشفوعة بعرض لصور من هنا وهناك. لقد ادّعت الولايات المتحدة الامريكية أنها ستستعمل (القنابل الذكية) في حملتها لنشر دعاية عدم مهاجمة الأهداف المدنية، وحينما سئل (ريتشارد مايرز) عن ذلك، قال لا تسألوني عن هل ستصيب الهدف، بل عن أيّ شباك في ذلك الهدف إذا كان بناية. كان واثقاً من دقة الإصابة، لكنّ هذه القضية كانت من أخطر مراحل هذه الحرب، فقد كانت القيادة العراقية تجد في ذلك فرصة لكشف عورة عدوّها، فاصطحبت المراسلين الصحفيين وكاميراتهم لتصوير الدماء الحارة التي كانت تسيل من الضحايا المدنيين بسبب القصف الامريكي. بادر الجانب الأنجلو أميركي إلي التصريح بأنّ هؤلاء الضحايا سقطوا بصواريخ أطلقها النظام العراقي عامداً متعمداً، لإثارة الرأي العام.
ومن جانب آخر،كانت الصور التي تبثها محطة (CNN) ومحطة (FOX) والمحطات الامريكية الأخري المرافقة للجيش الامريكي تغطّي مادة صالحة لإعطاء مسوّغ أخلاقيّ لهذه الحرب، التي دخلتها الولايات المتحدة دونما قرار من مجلس الأمن الدولي. أخذت صور المواطنين العراقيين الذين كان يبدو عليهم العوز الشديد، والحاجة إلي الماء والطعام تتصدّر هذه المحطات، ويتزامن ذلك مع (تدفّق) مواد الإغاثة، كما يحلو للمسؤولين الامريكيين أن يطلقوا علي عملية وصول بعض المواد الإغاثية من أموال العراق التي بحوزة الأمم المتحدة. فيما اعتبر العثور علي بعض (الأقنعة الواقية) من الغازات الكيمياوية في أحد مخازن الجيش العراقي دليلاً علي امتلاكه لأسلحة محظورة. لا شكّ في هذه الصور كانت تهيء الرأي العام الامريكي والعالمي معاً إلي قبول هذه الحرب المثيرة للجدل. لم يكن هدف الصورة هدفاً إعلامياً محضاً، تنوي إخبار مادة معينة، بل اشتركت في الحرب النفسية والسياسية أيضاً، طرف يتهم والطرف الآخر ينفي.
AZZAMAN NEWSPAPER --- Issue 1562 --- Date 21/7/2003