منتدى العصر...
الوجه الآخر للشمولية: الإعلام والدعاية
30-1-2004
إن الجديد في كتاب تشومسكي هو تحليل الفلسفة السياسية التي يستند عليها عدد من المثقفين والسياسيين الأمريكيين في تبرير دور الإعلام والدعاية في تحديد دور الجماهير في السياق الذي يتوافق مع توجهات الإدارات الأمريكية.
بقلم محمد سليمان
يقدم نعوم تشومسكي في كتابه الجديد "السيطرة على الإعلام"، رؤية نقدية للدور السياسي للإعلام الأمريكي في التحكم في الرأي العام، ومسؤولية شركات العلاقات العامة التي تتعاقد معها الإدارات الأمريكية في بناء تصورات متحيزة حول كثير من القضايا والشؤون العامة التي تهم الإنسان الأمريكي في مجال سياسات الحكومة الداخلية والخارجية.
وإذا كان عدد من الكتاب والباحثين قد تناول قبل تشومسكي الدور الخطير للإعلام الأمريكي في تعليب الرأي العام وفق معطيات معينة تساهم في توجيهه بما يخدم الإدارات الأمريكية ويساعدها على تنفيذ سياساتها، فإن الجديد في كتاب تشومسكي والذي يثري به القاريء هو تحليل الفلسفة السياسية التي يستند عليها عدد من المثقفين والسياسيين الأمريكيين في تبرير دور الإعلام والدعاية في تحديد دور الجماهير في السياق الذي يتوافق مع توجهات الإدارات الأمريكية.
كما أن تشومكي – في هذا الكتاب – يعود بنا في التاريخ ليبين لنا أن دور الإعلام الأمريكي في اختلاق الحقائق وتزييف التاريخ والتحيز السياسي الفاضح ليس وليد سياسة المحافظين الجدد – وإن كانوا قد أبدعوا في هذا المجال – وإنما يعود إلى عقود سابقة طويلة.
ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن أهمية الكتاب تكمن في أنه ينبه الرأي العام العالمي والعربي تحديدا إلى مقدار السم الموجود في المادة الإعلامية الأمريكية، والتي هي أبعد ما تكون عن الموضوعية والحياد، وإنما معدة وبعناية لخدمة أهداف السياسة الأمريكية سواء من خلال اختيار الخبر والمعلومة والمشهد ابتداء أو من خلال إخراجه والتعليق عليه، وربما من خلال اختلاقه أساسا!.
وإذا كان البعض ما زال يستغرب من الملاحظات السابقة - خاصة بعد حرب العراق الأخيرة والتي كشفت تهافت الإعلام الأمريكي – فلدى تشومسكي الخبر اليقين...
تصور آخر لمفهوم الديمقراطية :
"أما المفهوم الآخر للديمقراطية: فهو أن يمنع العامة من إدارة شؤونهم وكذا من إدارة وسائل الإعلام التي يجب أن تظل تحت السيطرة المتشددة "، هذا المفهوم الغريب للديمقراطية، والذي يقوم على إبعاد الجماهير عن التفكير في القضايا المهمة وعن إدارة وسائل الإعلام تجده في تصور عدد كبير من المثقفين والسياسيين الأمريكان .
ويعود الدور السياسي للإعلام الأمريكي وتطور هذا التصور للعملية الديمقراطية إلى ما يسمى بلجنة " كريل " عام 1916 ، عندما كان المواطنون الأمريكيون مسالمين إلى درجة كبيرة و يرون ضرورة عدم تدخل الولايات المتحدة في حروب أوروبية بالأساس ، في حين كان على إدارة الرئيس ويلسون التزامات اتجاه الحرب ، وكان عليها فعل شيء ما حيال الرأي العام ، فقامت الإدارة بإنشاء لجنة للدعاية أطلق عليها " لجنة كريل " للدعاية الحكومية ، والتي نجحت خلال ستة أشهر في تحويل المواطنين الأمريكيين المسالمين إلى مواطنين تمتلكهم هستيريا الحرب ، والرغبة في تدمير كل ما هو ألماني لإنقاذ العالم ! .
وقد التقط عدد كبير من المثقفين والسياسيين الأمريكيين فكرة لجنة كريل ، وبدؤوا ببناء تصورات لطبيعة العملية السياسية ودور الإعلام والدعاية ومسألة التعامل مع الرأي العام والجماهير . في هذا السياق يرى ليبرمان – أحد أبرز المحللين والصحفيين الأمريكان – أن الثورة في فن الديمقراطية تكمن في تطويع الجماهير بما يخدم ما يسميه " صناعة الإجماع " ؛ بمعنى جعل الرأي العام يوافق على أمور لا يرغبها بالأساس عن طريق استخدام وسائل دعائية .
ووفقا لتحليل ليبرمان السابق تصبح العملية الديمقراطية مكونة من وظيفتين : الوظيفة الأولى تقوم بها الطبقة المتخصصة ذات الإمكانيات الفكرية المتميزة والتي تقوم بالتخطيط العام وإدارة الشؤون السياسية ، بينما الوظيفة الثانية فهي للجماهير و تتمثل بالمشاهدة فقط ، لكن من وقت لآخر تقدم لهم فرصة المشاركة من خلال اختيار أحد القادة المرشحين ، لكن على أن يعودوا بعد ذلك إلى مواقع المشاهدة .
الرؤية السابقة تشهد لها كتابات وأراء عدد من المفكرين والمثقفين الأمريكان، ناهيك عن الواقع العملي – فرينهولد ( عالم اللاهوت والمحلل السياسي الأمريكي ) يرى بأن المنطق هو مهارة ضيقة النطاق يتمتع بها عدد قليل من الناس، ذلك أن غالبية الناس منساقون وراء عواطفهم، والذين يملكون المنطق لا بد أن يصنعوا أوهاما وتبسيطات عاطفية لإبقاء السذج على ما هم عليه. ووفقا للمفهوم السابق للديمقراطية يصل تشومسكي إلى القول "فالدعاية في النظام الديمقراطي هي بمثابة الهروات في الدولة الشمولية " ! .
إدارة الإجماع :
وتستعين الولايات المتحدة بشركات العلاقات العامة للسيطرة على العقل العام الأمريكي أو القيام بما يسميه عدد من المفكرين بـ "إدارة الإجماع "، وتعد الولايات المتحدة في هذا المجال رائدة صناعة العلاقات العامة، ذلك أنها التزمت مبدأ السيطرة على العقل العام بعد النجاحات التي حققتها لجنة كريل والنجاح المشابه في الحرب الباردة .
وأسلوب العلاقات العامة متبع بشكل كبير في السياسة الأمريكية خاصة لترويج قراراتها ومواقفها في الكثير من القضايا، ويقوم العاملون في مجال العلاقات العامة بعمل جاد في محاولة تلقين القيم الصحيحة – وفق اعتقادهم -، وفي واقع الأمر لديهم تصور عما يجب ان تكون عليه الديمقراطية، بحيث يجب أن تكون نظاما يسمح فيه للطبقة المتخصصة بالتدريب للعمل في خدمة الساسة، أما بقية المجتمع فيجب حرمانه من أي صورة من صور التنظيم، لأن التنظيم يثير المشاكل، وما على الجمهور سوى الجلوس في منازلهم ويتلقوا الرسالة الإعلامية والتي مفادها أن القيمة الأساسية في الحياة هي أن يتوافر لديك أكبر كمية من السلع، أو أن تعيش مثل الطبقة الغنية المتوسطة التي تشاهدها، وأن تتبنى قيما لطيفة مثل التناغم والهوية الأمريكية.
كما تقوم شركات العلاقات العامة بدور كبير في تبرير المغامرات الخارجية والحروب من خلال تهويل الأخطار المحدقة بالمجتمع الأمريكي وبالأمن وبتهديد أسلوب الحياة الأمثل الذي يعيشون فيه، والأدلة التاريخية على ذلك كثيرة، سواء في حرب الخليج الثانية أو الحرب على الإرهاب أو في الحرب الأخيرة. ويفسر تشومسكي هذه الملاحظة بربطها بالظروف الداخلية إذ ير أن برامج الإدارات الأمريكية التي توالت على الحكم في السنوات الأخيرة لا يوجد فيها أي اقتراحات حقيقية بشأن ما يجب عمله تجاه المشاكل الحادة: مثل الصحة والتعليم والبطالة والجريمة وارتفاع عدد المجرمين والسجون والتدهور الحاصل على الضواحي السكنية، ففي السنين الأولى لحكم بوش هناك ثلاثة ملايين طفل هبطوا تحت خط الفقر، والدين يزداد والمستويات التعليمية في حالة متدهورة...، ويرى تشوسكي أن مسؤولية الإعلام الأمريكي في هذه الظروف تشتيت الانتباه من خلال إخافتهم من الأعداء في كل فترة زمنية ومرحلة سياسية.
تزييف صورة العالم ومجريات التاريخ:
ويقدم تشومسكي في كتابه الكثير من الأمثلة التي تبين حجم الأكاذيب والخداع والتضليل الذي يمارس على الجمهور الأمريكي لتزييف الصورة الحقيقية لسياسة الولايات المتحدة في العالم؛ فحين تسيطر على الإعلام، وتعكس المؤسسة التعليمية والأكاديمية أراء النخبة يمكن حينئذ أن تمرر رسائلك.
ويصل تشومسكي من خلال الملاحظات والأمثلة السابقة إلى نتيجة رئيسة، وهي "صورة العالم التي تقدم لعامة الجمهور أبعد ما تكون عن الحقيقة، وحقيقة الأمر عادة ما يتم دفنها تحت طبقة وراء طبقة من الأكاذيب، وكان هذا نجاحا مبهرا، حيث إنه منع التهديد الذي تمثله الديمقراطية، وتم إنجازه في إطار من الحرية وهو أمر في غاية من التشويق، فهو ليس مثل الدولة الشمولية حيث يطبق بالقوة، وإنما هذه المنجزات تتم في إطار من الحرية...".
أخيرا..
يؤكد كتاب تشومسكي على أهمية الإعلام والدعاية السياسية في عالم اليوم، في ظل ثورة المعلومات والاتصالات، والدور الكبير للإعلام في التأثير على الجماهير وبناء الرأي العام. الأمر الذي يلفت انتباه القائمين على شان الإعلام الإسلامي إلى خطورة المسألة وابتعادها عن منطق العمل الارتجالي العفوي، وضرورة وجود متخصصين ومحترفين إعلاميين ومثقفين وعلماء اجتماع ونفس في المؤسسات الإعلامية ليرفدوا نشاطها وبرامجها بالخبرة اللازمة كي ينهض الإعلام الإسلامي ويصل إلى مرحلة من المؤسسية والاحتراف تمكنه من القيام بمسؤوليته الشرعية ووظيفته الحضارية.
* كتاب "السيطرة على الإعلام"، ترجمة أميمة عبد اللطيف، دار الشروق الدولية، القاهرة، ط1 ، 2003