عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 10-11-2005, 07:17 AM
سهيل الجنوب سهيل الجنوب غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Apr 2005
المشاركات: 873
معدل تقييم المستوى: 20
سهيل الجنوب is on a distinguished road
العولمة .. ليست نهاية المطاف

عمَّان - إبراهيم العجلوني

إن مما نخشاه أن يكون مَثَلُنا مع العولمة كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، فحيثما وجهنا أنظارنا في المنبسط العربي وجدنا أقواماً قد حُمّلوا أوزاراً من بهرج العولمة، واستغرقهم حديثها، وملأ عليهم آفاقهم؛ حتى ليصبح لنا توكيد أننا في قول مختلف فيها، يؤفك عنه من أفك، وفي مخاضة لا نتبين لها ضفافاً، ونخبط ذاهلين فيها، ثقالاً وخفافاً. ولئن كانت حالنا، في جملتها، لا تخرج عن معنى المضاهأة الحضارية: {يضاهئون قول الذين كفروا}، وكان معظمنا يقارب العولمة تحت إحساس ساذج بأنه إنما يتوقّل الحداثة ويُصعَّدُ في آفاقها؛ لنحن أولى الناس بأن نتناولها بمنهج في النظر مستقل، نصدر فيه عن وعي غير ملتبس، وعن فهم ذاتي أصيل غير موحى به، وعن خصوصية حضارية ربما كانت الرد الشافي على كل استلاب. إننا لا ننازع في أن العولمة موضوع مفروض - ضربة لازب - علينا في أشد أيامنا عسراً، ولكننا ننازع في حقنا في مَوْضعتها تاريخياً في سياق التطور الرأسمالي الغربي على نحو يحصر دلالتها فيه من جهة، ثم في حقنا في دفع «حتميتها» التي يريدنا بعضهم على اعتقادها من جهة أخرى! لقد سلخت الرأسمالية من عمرها عقوداً والدولة القومية فيها تضبط حركة السلع والبضائع وتراقبها جمركياً، وكان ذلك بعض ماتحمي نفسها به وتحافظ على خصوصيتها، ثم اقتضى تطورها أن يكون ثمة نقلة نوعية كبرى «من المحدود المراقب إلى اللامحدود الذي ينأى عن كل مراقبة». واللامحدود كما يقول محمد عابد الجابري هو «العالم» أو الكرة الأرضية حيث تصبح العولمة هي «ما بعد الاستعمار» أو امتداداً له، وحيث «تطرح أيديولوجيا العولمة - بدلاً من الحدود الوطنية القومية - حدوداً أخرى غير مرئية ترسمها شبكات الهيمنة العالمية على الاقتصاد والأذواق والثقافة» (قضايا في الفكر المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية 1997م، ص 136). إن نظامنا العالمي القائم اليوم هو الواجهة الأمامية لنظام آخر تحدد أطره القوى الاقتصادية الكبرى أو المجموعات الاقتصادية التي تخترق حدود الدول، وتتجاوز قوانينها، وتشكل خريطة مختلفة للعالم ومراكز جديدة للقوى فيه، ثم تمضي إلى ما وراء ذلك من ألوان التحكم، والاحتكار السافر، والتلاعب في مقدرات الأمم والشعوب! إنها، لا ريب، اللحظة الأكثر سطوة وقسوة في صعود الرأسمالية،وقد أعطيت اسم «العولمة» خدعة وكيداً وذرًّا للرماد في الأعين، أو تخريجاً - أيديولوجياً في صميمه - لمطامع الغرب في السيطرة على العالم كله، كما نادت بالاعتماد المتبادل أسلوباً معلناً ومصطلحاً خادعاً، تدعي به المساواة بين الغالب وبين المغلوب، وبين القوي وبين الضعيف، وكأن عقولنا في غطاء عن أن المقصود بهذا «الاعتماد المتبادل» هو ذلك الفعل والانفعال بين دولتين أو أكثر على غير معنى التكافؤ والعدالة أو على معنى الهيمنة والتحكم بين قوي ضار مستوحش وبين ضعيف مأسور مقهور! بيد أنها، في الوقت نفسه، لحظة من زمان، لحظة لا غير، لحظة سبقتها لحظات وستعقبها لحظات؛ فهي ليست آخر المطاف ولا آخر الكلام، ولا مقطع اليقين فيه، ولا فصل الخطاب، وإن علينا إزاءها أن نتمتع بِنَفَسٍ مقاوم طويل وعميق، وأن نترقب انهيارها الذاتي واضطرابها الوظيفي، وأن نعلم علم اليقين أن الغرب وإن تعاظم وتفاقم فهو ضيق العطي، ونزق، ويتنكب المواطن التي يجد مقاومة فيها إلى ما يكون سيره فيه رهواً أو هيناً ميسوراً. إن هذه المقاومة، سواء أكانت من باب توكيد الهوية والتمايز أم من باب الرفض الحيوي لاكتساح الآخر أو ما قد نسميه دفاع الحياة عن نفسها، هي القلعة التي تصد رياح هذه العولمة. ولعل ذلك أن يكون وراء دعوة «صموئيل هنتنجتون» إلى أن «يتخلى الغرب عن وهم العولمة، وأن ينمي قوة حضارته وانسجامها وحيويتها في مواجهة حضارات العالم» بما يتطلبه ذلك، حسب رأيه من «وحدة الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ورسم حدود العالم الغربي في إطار التجانس الثقافي» (الهوية والعولمة، د. عبدالعزيز التويجري، منشورات الأيسيسكو، 1997م)، كما أن هذه المقاومة الباسلة هي التي دفعت هنتنجتون إلى الاعتراف بأن «شعوب العالم غير الغربية لا يمكن لها أن تدخل في النسيج الحضاري للغرب، حتى وإن استهلكت البضائع الغربية، وشاهدت الأفلام الأمريكية، واستمعت إلى الموسيقا الغربية. فروح أي حضارة - وهذا هو قوله حرفياً - هي اللغة والدين والقيم والعادات والتقاليد» أي أن هذه هي عناصر المقاومة التي تبديها الشعوب، والتي تدفع فيلسوف صراع الحضارات إلى القول - ربما رغماً - بأن «التحديث والنمو الاقتصادي لا يمكن أن يحققا التغريب الثقافي في المجتمعات غير الغربية، بل على العكس يؤديان إلى مزيد من التمسك بالثقافات الأصلية لتلك الشعوب» (المرجع السابق). خلاصة ما نرمي إليه هنا أن العولمة إلى زوال فكرة وتطبيقاً، وأن سنن الله هي الغالبة، بما اقتضته من اختلاف الأمم والشعوب وتمايزها، وأن قليلاً من الصبر والمقاومة كفيل بإقناع الغرب بالبحث عن لعبة أخرى من ألعاب التغلب والمصاولة، وأن الله غالب على أمره ولو كره الكافرون. نشر في مجلة (المعرفة) عدد (47) بتاريخ (صفر 1420هـ -مايو/يونيو 1999م)

 

التوقيع

 

سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم

 
 
رد مع اقتباس