عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 10-11-2005, 07:21 AM
سهيل الجنوب سهيل الجنوب غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Apr 2005
المشاركات: 873
معدل تقييم المستوى: 20
سهيل الجنوب is on a distinguished road
العولمــــة: حينما تختبىء الشياطين في التفاصيل !

الرياض - أنــــور عشــــقي (مفكر سعودي)


ليس ما نواجهه اليوم من عولمة يندرج في الأحداث الطارئة، وليس ما نواجهه اليوم من عولمة يصنف في عدات التداعيات التاريخية، إن العولمة التي تفرض نفسها على الأمم والشعوب هي شكل من أشكال التحديات الحضارية وهي لون من ألوان الإمبريالية الثقافية من شأنها فرض الحضارة الغربية على الفكر الإنساني. لقد عرف العالم عولمة عربية في ظل الإسلام سادت ثمانية قرون، وتداعت بسقوط غرناطة عام 1492 عندما طرد المسلمون واليهود من الأندلس. لم تكن العولمة العربية قهراً لبقية الحضارات بل كانت مداً ثقافياً استوعب باقي الحضارات وحافظ على هويتها الثقافية، بعد أن أصّلها بقيم إسلامية وعربية لخدمة الإنسان، وليس لاستغلاله وقهره. لكن العولمة اليوم بدأت تطل علينا بوجهها الاستعماري إثر سقوط الحائط الفاصل بين «الأيديولوجيتين» الاشتراكية والرأسمالية في برلين عام 1989م، لقد كانت العولمة العربية الإسلامية إثراء للفكر الإنساني، لكن العولمة الغربية تشكل اليوم قهراً لفكرة الإنسان، فهي حضارة ترفض كل الحضارات كما أنها تسعى إلى توظيف القوة الحضارية في استغلال الشعوب والهيمنة على مقدراتها، وهذا ما سوف يؤدي إلى تحويل العالم إلى فريقين، شعوب مستِغِلَّة، وشعوب مسَتغلة، أمم قاهرة وأمم مقهورة. لقد قال أحد الفلاسفة المعاصرين في الغرب محذراً من العولمة الحديثة: «إذا كانت الملائكة الأبرياء تظهر في عموميات العولمة فإن الشياطين تختبئ في تفاصيلها». لقد بدأ الاستعمار الأوروبي بإرسال الأساطيل إلى آسيا وأفريقيا، لمطاردة التجار العرب، فدمروا سفنهم وهدموا قلاعهم، ثم تحولوا إلى استعمار أوطانهم، لكن الاستعمار أخذ في التراجع مكتفياً بالهيمنة السياسية، وبعد الحرب العالمية الثانية اكتفى بالسيطرة الاقتصادية، واليوم نجد الاستعمار الغربي يعود بكل صوره من خلال الإمبريالية الثقافية. لقد أخذ الغرب بشقيه الأمريكي والأوروبي، يفرض هيمنته الحضارية على العالم الثالث، من خلال الشؤون السياسية، والاقتصادية، والثقافية، موظفاً في ذلك الاتفاقات الدولية، ووسائل الإعلام من فضائيات ومحليات، وإنترنت، وسرعة الاتصالات والمواصلات. واليوم نجد عولمة أوروبية تنافس العولمة الأمريكية، بعد أن ظهرت ملامح الطريق الثالث في نهج أحزابها اليسارية، التي استطاعت أن تصل إلى سدة الحكم، كما اعتمد الأوروبيون العملة الجديد التي توحدهم في المجال الاقتصادي، والتعددية الحزبية التي توحد مفهومهم السياسي، في مواجهة الثنائية الحزبية الأمريكية. لقد أخذت فرنسا على عاتقها مقاومة المد العولمي الأمريكي فبادرت بعدة إجراءات؛ خصوصاً في الميدان الثقافي، فعلى صعيد اللغة أصدرت فرنسا قانوناً يعاقب على استخدام مفردات اللغة الإنجليزية طالما يوجد ما يمكن التعبير عنه باللغة الفرنسية، وعلى صعيد البث التلفزيوني فقد بدأت فرنسا بتحديد نسبة المسلسلات والأفلام الأمريكية حتى لا تطغي على الإنتاج الفرنسي. أما الحكومة الكندية، فقد دعت إلى مؤتمر دولي عقد في يوليو الماضي عام 1998م، يدعو إلى تكوين جبهة عالمية لمواجهة الغزو الثقافي الأمريكي، فشاركت فيه اثنان وعشرون دولة ممثلة في وزراء الثقافة، كلهم أكدوا تراجع الثقافات القومية لصالح الثقافة الأمريكية بسبب الفضائيات ووسائل الاتصال والمواصلات. لقد دعا المؤتمر إلى الحد من بث البرامج الترفيهية الأمريكية في التلفزيون، مع رفع الضرائب على المسلسلات الأمريكية. لقد اندفعت كندا في مواجهة العولمة الأمريكية، وعندما رفعت نسبة الضرائب على المجلات الأمريكية تقدمت الولايات المتحدة الأمريكية باحتجاج لدى الحكومة الكندية، مؤكدة أن هذه الضرائب تعتبر انتهاكاً لاتفاق منظمة التجارة الدولية الحرة، وفازت الولايات المتحدة وتراجعت كندا عن قرارها، لأن واشنطن أدخلت الثقافة ضمن السلع التجارية في الاتفاق، بينما كانت فرنسا وكندا تنكران هذا المفهوم. لقد عبرت وزيرة الثقافة الكندية «شيلاكوبي» عن انزعاجها من الهيمنة الثقافية الأمريكية، وتدخلها قائلة «من حق الأطفال في كندا، أن يستمتعوا بحكايات جداتهم، ومن غير المعقول والمقبول أن تصبح 60% من برامج التلفزيون الكندي مستوردة، وأن يكون 70% من موسيقانا أجنبية، و95% من أخلاقنا ليست كندية» إن العولمة الغربية وإن تحلت ببريقها الأخاذ إلا أنها لا تحمل في جوانبها قدسية البراءة، أما الذين يهرولون إلى العولمة، بدعوى عالمية القيم فهؤلاء هم الذين استسلموا للغزو الثقافي، فأصبحوا أول الضحايا وليسوا بأوائل الشهداء. لقد وصف الكاتبان الألمانيان «بيترمارتين»و«هاران شومان» الدور الذي تؤديه العولمة بأنه عمل له خطورته التدميرية، ومع هذا فإنهما قد ركزا على الجانب الاقتصادي في كتابهما «فخ العولمة». إنني لا أنادي بمواجهة العولمة ومحاربتها أو التصدي لها تصادمياً، بل أدعو إلى إعادة بناء الشخصية الثقافية للأمة العربية والإسلامية، وذلك عن طريق تحديد الفكر القومي، وتحويله من الانتماء العرقي إلى الانتماء الثقافي، كما أنادي بإعادة النظر والعودة إلى تراث الأمة وثوابتها الثقافية القائمة على الكتاب والسنة، عنذئذ نستطيع أن ندخل في حوار مع العولمة واستيعابها والتأثير فيها وعدم التأثر بها. * كاتب سعودي نشر في مجلة (المعرفة) عدد (48) بتاريخ (ربيع الأول 1420هـ -يونيو/يوليو 1999م)

 

التوقيع

 

سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم

 
 
رد مع اقتباس