عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 17-10-2005, 06:33 AM
سهيل الجنوب سهيل الجنوب غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Apr 2005
المشاركات: 873
معدل تقييم المستوى: 20
سهيل الجنوب is on a distinguished road
كلاملوجيا .. عـلم عـمل العولمـــة!


القاهرة - د. سيف الدين عبدالفتاح (كلية الاقتصاد والعلوم السياسية)


في إطار الاهتمام بموضوع «العولمة» كواحد من الموضوعات التي فرضت نفسها على الساحتين الإعلامية والعلمية، فضلاً عن الساحة الثقافية التي امتلأت بندوات ومؤتمرات ومساجلات حول العولمة، وفي سياق الخطاب الذي شاع حولها خصوصاً في الفترة الأخيرة، وما يمثله المفهوم والموضوع من حالة نموذجية لأعراض برج بابل التي تشير إلى فوضى الفهم وحدية المواقف، أسطورة برج بابل التي تشير إلى بلبلة الألسن حتى لو تحدث الناس لغة واحدة- يذكرني كل هذا بقصة «جدل بيزنطة» الذي ظل أهلها يقلبون ويتجادلون في مسألة لا طائل من البحث فيها، والعدو على أبوابهم، دخل في غفلة تنازعهم على لاشيء أو لاطائل من ورائه. كما يذكرني هذا بمناقشات كلامية اتسم بها علم الكلام في مرحلته المتأخرة، حينما تحول عن وظيفته الأصلية في مواجهة «الزنادقة» إلى مساجلات تنازعية لا تورث إلا الفشل بين المسلمين أنفسهم، ويذكرني ذلك أخيراً بنمط مواقفنا في خطاباتنا حول قضايا تمس الكيان والبنيان، بنمط التأليف التقليدي والنظم الشعري والتي تحاكي عناصر مضى أوانها ضمن أغراض شعرية أساسية، وبدت العولمة موضوعاً لكل هؤلاء يتقدم إليه كل شاعر فيما يحسنه من غرض، فهذا يتناول العولمة ضمن أغراض «المدح» التي تبالغ في مدح العولمة إلى الحد الذي تضفى فيه صفات عليها ليست فيها بل ربما تحمل داخلها نقيض ذلك، وفي مقابل ذلك يتصدر كل من يحسن أغراض الهجاء الشعرية التي تحاول أن تحول أدنى الخلاف إلى حالة من الخصومة التي لا تندمل أو تستدرك، إنه غرض يتأسس على الإسقاط، فهو لا يشعر بقوة الذات إلا عبر هجاء الخصم، ويتأجج الخلاف الصغير حتى يتحول إلى عناصر قتالية مستطيرة، تتكامل الصورة بغرض شعري آخر وهو الفخر والزهو في إطار يوجه العولمة بمبالغات في تضخيم الذات، ولا بأس بغرض الغزل الصريح والعفيف في العولمة ، فحبك للشيء يُعمى ويصم، وها هو الغرض الذي تكتمل به خريطة الأغراض الشعرية في معلقات العولمة وهو الحماسة في إطار حركة عنترية قد تفرض علينا خطوات أو سياسات أقرب ما تكون للتهور منها إلى الشجاعة والإقدام. ويأتي الغرض الذي تفتتح به القصائد في نظم الشعر في العصر الجاهلي وهو البكاء على الأطلال، وربما يحسن أن نختتم به قصائدنا على الأرض، فبينما العولمة تتحرك صوب عمل وتعبر عن عملية صار لها من الآليات والوسائل والأدوات التي تمكن لها على الأرض، فإننا ندير خطاباً حول العولمة ضمن أغراض شعرية «معلقات العولمة» تُحاكى فيه أغراض شعرية مضى أوانها وانقضى زمانها، هذه الأغراض لا تعكس إلا عقلية منقسمة وخطاباً سجالياً وحواراً أقرب ما يكون إلى حوار الطرشان. في هذا المقام تأتي العولمة لتقدم حالة نموذجية ضمن سياقات لدراسة الخطاب حولها. فهل يمكننا أن نتخلى -كعرب ومسلمين- وقد أتت علينا العولمة ونحن في أضعف حال وأوهن مقام، أن نتخلص من «جدل بيزنطة»، أو أعراض «برج بابل» و«علم كلام العولمة»، أو أغراض شعرية تعبر عن حالة نفاق وكذب، فإن أعذب الشعر أكذبه؟ وهل لنا أن نتخلى عن أنماط التفكير التي تتعامل مع عالم المفاهيم الحديث، باعتبارها مفاهيم موضة لانملك إلا ارتداءها؟ هل لنا أن نتحرك صوب فهم ووعي العولمة فنؤسس فقهاً لها، وقبل الفقه نبحث في تأسيس «علم معلومات العولمة» نتعرف فيه كيف تم التمكين للعولمة على الأرض في غفلة منا وربما بإذعان، أو وفق قواعد هندسة الموافقة. إن العولمة تتطلب مواجهة بما تمثله من تحديات من جنس حركتها نفسه وتصوراتها، والقضية ليست في تسجيل المواقف أو تبني توجه بعينه أو الدخول ضمن توجهات النقاش المحتدم حول العولمة في كل المجالات الاقتصادية والاتصالية والاجتماعية والسياسية والثقافية. هل يمكننا مرة أن نحاكي علم عمل العولمة؟ أن نتعلم أن العمل القليل الدائم هو خير عناصر المواجهة؟ إن الخروج من سياق التبشير بمفهوم «العولمة» أو التهوين من آثاره والمترتبات عليه لا يتم إلا من خلال مثل هذه الدراسات العلمية والعملية. العولمة ليست القدر المحتوم، وليست التاريخ الذي أغلق أبوابه وانتهى بل هي تصور أعقب عمليات، للعالم، للإنسان والكون والحياة، تهدف من خلال ذلك التصور وتلك العمليات إلى عمليات تضييق الاختلافات والتنوعات والتمايزات والخصوصيات، تهدف إلى التضييق لذلك على طريق التنميط، ونحن نؤمن بسنة الله تعالى أنه خلق الناس والكون في سعة الاختلاف والتمايز والتنوع ليشهد الكون تفاعلاً إيجابياً وتعارفاً مثمراً «فإذا ضاق الأمر اتسع»، وأن النافع للناس، عموم الناس هو الذي يمكث في الأرض. ونـرى فــي تاريخ الدنيا على مر أيامها أن ليس هناك مشروع ابتغى الاستئثار والهيمنة والطغيان إلا وحالفه الفشل وإن طالت أزمنته، ونحن مأمورون بالتذكر والاعتبار بأيام الله. فالعولمة ليست عملية بلا ثقوب، أو بلا مفاصل تمثل عناصر ضعفها، والعالم يشهد على ذلك، بؤر صغيرة في العالم تستعصي وتأبى التنميط وهي خارج حسابات العولمة بكل أدواتها المعلوماتية وآلتها الحسابية، فعليك أن تجيل النظر في المعمورة لتبحث عن شواهد تؤكد أن العولمة من حيث أرادت التنميط ستؤدي إلى عكس ذلك المقصود، لأن مقصودها مخالف لسنة الله الكونية والبشرية في الاختلاف والتنوع والتعدد. العولمة وبما أفرزته من أدوات، تعبر عن خطورة وإمكانية، والمخاطر لابد أن يحسب لها حسابها، والإمكانات لابد من استثمارها، إنه أمر يحرك علم دفع المضار وجلب المصالح الذي هو مدار شريعة الإسلام. فالعولمة من حيث أرادت أن تفك وتركب، توحي للجميع أن نتعلم كيف يعظمون قوتهم، وأن في تنوعهم رحمة وفي تكاملهم لحمة، وفي وحدتهم قوة وقدرة وتمكين وتأثير. أين نحن من آليات ومؤسسات يجب أن ندافع عن تأسيسها لأنها تمثل الحصون التي تغضينا من مخاطر طوفان العولمة؟! هل لنا أن نتعلم درس العولمة، وأن نتعامل مع ابتلاء العولمة؟! أم ستكون العولمة علينا وليست لنا؟! ونحن نتجادل في علم كلامها وسجال وانتقال بالكلمات؟! إن أهم درس في العولمة هو معرفة عناصر مناهج التفكير والتغيير والتسيير والتدبير والتأثير العليلة والكلية والتي استمرأنا التعايش معها زمناً، فأتى طوفان العولمة لكن لم يفقد أو نفقد فيها سفينة نوح، لو أحسنّا التفكير والتدبير وآليات التفعيل والتأثير، وللتمكين سنن يجب أن نتعلمها ونعمل لها {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}. نشر في مجلة (المعرفة) عدد (48) بتاريخ (ربيع الأول 1420هـ -يونيو/يوليو 1999م)

 

التوقيع

 

سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم

 
 
رد مع اقتباس