عين جالوت
بقلم / د ـ عبد المجيد وافي
أمة المسلمين منذ أن اتسعت بهم آفاق الأرض ، في القرن الهجري الأول ، كانوا هداة ينشرون الإسلام , ويوطنون العدل والسماحة ، يخرجون العباد من استعباد العباد ، إلى الحرية وعبادة رب العباد ، فكان ذلك من أسباب انفتاح الآفاق بين أيديهم ، وتأييد الله لهم.
وما كاد يستقر بهم المقام حتى ينتشر بين أيديهم العلم والعمران ، فتأسست مدن كالكوفة والبصرة والفسطاط ، والقيروان وغيرها من مدن العلم ومحاوره , والعمارة ومفاخرها.
ولم تلبث دولة بني العباس أن ورثت دولة بني أمية في المشرق 133هـ 750م حتى حاول الرومان الشرقيون – جاهدين – استرداد ما حرره المسلمون من امبراطوريتهم في عصر الراشدين ، فباءت محاولاتهم بالفشل ، رغم الكر والفر الذي تبادلوه مع بني العباس والحمدانيين ، في ربوع آسيا الوسطى وشمال سوريا.
ثم جاءت الحملات الصليبية ، في وقت كان سلطان الخليفة اسميا على دويلات انتشرت فيما وراء النهر وديار بكر ، ووجود دولة العبيديين([1]) في مصر والشمال الأفريقي ، وملوك الطوائف بالأندلس ، فشغلت المسلمين قرنين من الزمان بين 490هـ 1096م إلى 690هـ 1291م.
وهي حملات اتخذت شعارها استرداد مهد النصرانية من بين أيدي المسلمين ، لكنهم لم يكونوا في سماحة عيسى بن مريم كلمة الله ، فعاثوا فسادا في هجماتهم البربرية ، ونشروا المذابح والنهب والسلب.
وقد نجح عماد الدين زنكي , وولده نور الدين محمود , ومن بعدهم صلاح الدين – رحمهم الله – في فل شوكتهم ، فاسترد بيت المقدس بعد نصره المؤزر في حطين 583هـ 1187م ثم استرد انطاكية 585هـ 1189م وحرر كثيراً من سواحل الشام.
ولم يكن صلاح الدين وقواد المسلمين بعيدين عن سماحة الإسلام حينما رفضوا الانتقام للمذابح التي شنها الصليبيون ، ولكن تركوهم يرحلون , اللهم إلا حاكم حصن الكرك الغادر ، الذي أصر صلاح الدين على قتله بيده بعد أسره ، لما تجرأ به على قوافل حجاج بيت الله في البحر الأحمر وبادية الأردن ، وما أعلنه من غزو المدينة النبوية براً وبحراً.
الطوفان القادم من الشرق :
في غمار هذه المعارك والأحداث ، التي شغلت قلب العالم الإسلامي كانت هناك نذر ظهور إعصار بربري ، بدأ مرجل غليانه يرتفع في شرق آسيا ، حيث أعلن : تيموجين بن بيسوكاي تأسيس دولة المغول / 600هـ 1203م ، وسمى نفسه جنكيز خان.
وكان تيموجين مقاتلا شرسا ، ما لبث أن انضم تحت لوائه زعماء قبائل البراري حوله ، طعماً فيما ينالهم من الغنائم والسبي في ركاب غزاوته المدمرة الكاسحة ، التي كان فيها السلب والقتل والدمار والحرائق جنداً من جنده ، فنشر الرعب في أواسط آسيا حتى الخليج العربي قبل أن تسحق جحافلهم بغداد عاصمة الخلافة.
الموجة الأولى :
وقد بدأت حجافل المغول أو التتار في مداهمة بلاد خوارزم وبخارى وسمرقند عام 617هـ 1220م ، فتخرب تحت سنابك خيولهم ، وبين يدي مقاتليهم ، نفائس العمائر المساجدية ، والمدارس والمكتبات العامرة بكريم المصنفات بين تخريب وتحريق.
وكان جزءا من يحاول الوقوف في وجه غزواتهم القتل والصلب والتمثيل بالجثث ، وتعليق الرؤوس والجثث على أبواب المدن المنهوبة.
ولقد كان شاهات خوارزم – قبل أن يجتاحهم التتار – يتصارعون فيما بينهم على ملك السلطنات والمدن المتجاورة ، تماماً كم فعل ملوك الطوائف في الأندلس – في نفس الزمان – حتى سقطت قرطبة في يد النصارى القشتاليين سنة 636هـ 1238م بعد أن نشرت الحضارة والعمران في غرب أوروبا.
ولم تلبث ضربات المغول أن عاجلت آخر شاهات خوارزم جلال الدين منكبرتي بالمطاردة من بلد الآخر , دون أن يجد نصيراً ممن كان يصارعهم على السلطات ,حتى غلب عليه الكمد والبكاء والنحيب إلى أن قتل غيلة في ديار بكر سنة 618هـ 1221م.
وبينما كانت آفاق آسيا ، فارس وديار بكر والأناضول ، تنوء من الطوفان الزاحف ، هلك جنكيز خان سنة 625هـ 1227م وانقسمت وراثته بين أبنائه الأربعة.
واضطلع (هولاكو) بن تيموجين بخطة إتمام التوسع المغولي في اتجاه الغرب ، فاقترب الخراب الداهم من قلب دولة الخلافة العباسية ، التي كان خلفاؤها رسوماً لا حول لهم ولا قوة ، بين بدي من اتخذوهم من الأتراك حماة لهم وحفاظاً عليهم يعزلون ويولون من يريدون.
وزرعت هجمات هولاكو الرعب حيث سارت : يبدؤها بالرسائل المدمدمة بالوعيد والويل والثبور لمن يعلن العصيان ، والأمان ـ الكاذب ـ لمن استكان وأطاع,فمن استسلم ضعفاً وهواناً ، لم تنجه طاعته من ظبات سيوف الغالبين .
وأما من حاول المقاومة حمية ودفاعاً عن دينه وعرضه لم يكن حالة بأسعد ممن ذل واستسلم ، ولكنه كان يلقي نوعاً متميزاً من القتل فريداً في بابه ، يبدأ بقطع أعضائه حياً جزءا جزءا , حتى إذا مات طاف الطبالون والزمارون برأسه,محمولة على الرماح في المدن المنهوبة.
مات المؤرخ ابن الأثير (630هـ 1232م) دون أن يشهد سقوط بغداد وما نالها من خراب ودمار ، لكنه ظل مدة يحجم عن وصف مذابح المسلمين على أيدي التتار منذ خروجهم ، لكنه عندما عزم على تسجيلها في تاريخه ، قال:"لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذا الحوادث ، استعظاماً لها , كارهاً لذكرها , فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين , ياليت أمي لم تلدني ، وياليتني مت من قبل حدوثها ، وكنت نسيا منسيا.
ومع بشاعة ما وصف مما حدث قبل وفاته بين 617هـ إلى 630هـ فإن ما جرى بعد ذلك تشيب لهوله الولدان.
كان زحف هولاكو وجيوشه سريعا ، ليس بين غارة وأخرى فرصة لالتقاط الأنفاس , وسرعان ما دهمت ألوفهم ـ أرتالاً هادرة مدمرة ـ بغداد الجميلة بمعاهدها وقصورها ومغانيها ، فلم ينج من هدمهم جدار , ولم يسلم من سيوفهم ورماحهم صغير أو كبير ، وتلوثت الأنهار بلون الدماء ومداد الكتب ، التي جعلوها جسوراً في النهر ، لتعبر عليها سنابك خيولهم..
روائع المصنفات المموهة بماء الذهب ، والمسطرة بالأحبار المعطرة من كنوز خزانات الكتب في القصور والمساجد ، والمدارس من نيسابور إلى بغداد.
أما الصراخ والدمار ، وبقر بطون الحبالى ، واقتطاع آذان النساء ورقابهن وأذرعهن ، لاستلاب حلي الذهب ، فحدث عنه ولا حرج.
وقتل الخليفة وأهله وخدمه ونساؤه شر قتلة ، بعد تعذيب رهيب وتمثيل بالجثث يعف اللسان عن ذكره.
في الطريق إلى مصر :
واستمر زحف الطوفان غربا ، فلم تسلم من غشيانه حلب ودمشق وحمص ، وما حولها من مدن الشام ، يقود ألوفهم كوتوبوغا – أو كتبغا – كما يسميه مؤرخو العربية ، وكان نصرانيا ، ففرح لمقدمه نصارى الشام , واستعان بهم على التنكيل بالمسلمين ، فاستباحوا المساجد والمدارس والخوانق – دور اليتامى وأبناء السبيل ـ وعانوه في إذلال المسلمين.
وبلغت طلائعهم بقيادة "بيدار"عسقلان وغزة ، وعسكرت هناك ، ريثما وصل ركب رسل المغول إلى القاهرة ، يحملون رسالة هولاكو وقائده كتبغا إلى سلطان مصر المملوكي "سيف الدين قطز: .
الرسالة والرسل :
وكانت الرسالة من شقين : شق ظاهر هو الرسالة المكتوبة ذات العبارة الملتهبة بالوعيد والنذير وعظائم الأمور.
وأما الشق الثاني : فكان فرقة من الدساسين ، انتشرت بين العامة في الأزقة والحارات ، ينثرون الدنانير بين يدي ضعاف النفوس ، لترويج أخبار الرعب القادم ، والخطر الداهم.
وكانت الرسالة : "من ملك الملوك شرقاً وغرباً : الخان الأعظم باسمك اللهم ، باسط الأرض ورافع السماء.
يعلم الملك المظفر قطز ، وسائر أمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية ، وما حولها من الأعمال : أنا نحن جند الله في أرضه ، خلقنا من سخطه ، وسلطنا على من حل به غضبه ، فلكم بجميع البلاد معتبر ، وعن عزمنا مزدجر.
فاتعظوا بغيركم ، وأسلموا إلينا أمركم ، قبل أن ينكشف الغطاء ، فتندموا ويعود عليكم الخطأ ، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد ، وطهرنا الأرض من الفساد ، وقتلنا معظم العباد.
فعليكم الهرب وعلينا الطلب ، فأي أرض تؤويكم ؟ وأي طريق ينجيكم ؟ وأي بلاد تحميكم ؟ فمالكم من سيوفنا خلاص ، ولا من مهابتنا مناص ، فخيولنا سوابق ، وسهامنا خوارق ، وسيوفنا صواعق ، وقلوبنا كالجبال وعددنا كالرمال ، فالحصون لدينا لا تمنع ، والعساكر لقتالنا لا تنفع ، ودعاؤكم علينا لا يسمع ، فمن طلب حربنا ندم ، ومن قصد أماننا سلم ، فإن أنتم لشرطنا ولأمرنا أطعتم ، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا.
وإن خالفتم هلكتم ، فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم ، فقد حذر من أنذر.
فلا تطيلوا الخطاب وأسرعوا برد الجواب ، قبل أن تضرم الحرب نارها ، وترمي نحوكم شرارها فقد أنصفناكم إذ راسلناكم : وأيقظناكم إذ حذرناكم ، فما بقي لنا مقصد سواكم.
الإرهاب والتخذيل :
هكذا بدت الرسالة في صياغتها إلقاء الرعب في قلوب الأمراء والحكام ، بينما يعمل الدساسون الذين انبثوا في الحواري والأزقة ، على خط متواز مع الرسالة ، ينشرون بين العامة, ويهولون من شأن ما كان من مذابح جرت في بغداد وانطاكية وحلب وغيرها من المدن المستباحة.
وبذلك يحدث الانهبار في الدولة : من قمة الدولة إلى عامة الناس , وهو سلاح من أخطر أسلحة التتار ، التي فتكت بالبلاد التي اقتحموا أرضها , يسبقهم الرعب منهم ، لتسهل عليهم الغارة والنهب والسلب والتخريب.
واجتمع سيف الدين قطز سلطان المماليك في مصر ، مع أمراء المماليك يتداولون أمرهم ، ويتبنون موقعهم من ذلك الخطر المائل والزحف القادم , ولم يكن لهم إلا خيار بين أمور ثلاثة.
الاستسلام أو المواجهة بالقتال أو الخروج من مصر , وقد استبعد الأمراء الأمر الأول ، لما هو معلوم من غدر المغول بكل من طلب الأمان والاستسلام ، بشكل لا يقاومه جدال أو بيان.
وبقي خياران أمامهم : الخروج نحو المغرب نجاة بأنفسهم ، وهو خروج إلى مسافات بعيدة دونها مشقات ، فضلا عن خيبة أمل الشعب في حكامه وفرسان قيادته ، الفارين من وجه التحدي بجلودهم , وقد رفض هذا الخيار أيضا.
وأصبح الخيار الثالث مطلبا أعلنه قطز وركن الدين بيبرس في إباء وشمم : أعلناه بين الأمراء والقواد ، على أن يكون ذلك بالتجهز والخروج إلى العدو ، قبل أن يقترب من حدود مصر ، تفادياً لوقوع الفوضى في الجبهة الداخلية.
وكانت حيثيات هذا القرار والرأي : إما أن يكون النصر عالياً ، وهو المرجو من الله تعالى ، وإما الشهادة بشرف ، ولن يلام من طلب النصر فنال الشهادة.
وهكذا أعلن ركن الدين بيبرس وجوب قتل حملة الرسالة ، فقتلوا وعلقت رؤوسهم على باب زويلة ، الباب الجنوبي للقاهرة.
قيادات شعبية :
وأما شرذمة الدساسين : فقد تصدت لها القيادات الشعبية ، والتي كانت تتمثل في ركنين جديرين بالاحترام والتبجيل.
الركن الأول : العلماء ذوو الرأي والهمة , وعلى رأسهم العزبن عبدالسلام ذلك العالم الجليل الذي لم يهب سلطانا ولا حاكما ، ولم يكتم رأيا بين يدي حاكم.
الركن الثاني : هم فتية الفداوية ، الذين اشتهرت مواقعهم مع الصليبيين في دمياط والمنصورة ، أيام حملة لويس التاسع – 646هـ - 1248م ، وما بعدها ، وعلى رأسهم عز الدين شيحا صاحب الحيل والملاعب الخداعية والفدائية الباهرة التي أوقعت بلويس التاسع وجنده.
وقد كان بين العلماء والفداوية مشاورات وتخطيط ، نجح في تحقيق التماسك بين طوائف التجار والحرافيين والعامة ، وتركوا للمماليك مهمة الاستعداد الحربي ، وبذلك تم القضاء على الدساسين في هدوء كامل , فلم يحس بهم أحد.
وكان للعز بن عبدالسلام مواجهة مع أمراء المماليك ، حيث أبى أن تفرض الضرائب على التجار والحرفيين والعامة ، قبل أن تؤخذ صحاف الذهب والفضة ، وحلي الأميرات – الخواتين والخوندات – من القصور ومناظر المماليك في جزيرة الروضة.
وكادت أن ترتكس الحركة لرفض بعض الأمراء ما رآه العز بن عبدالسلام لولا شجاعة قطز وركن الدين بيبرس ، اللذين واجها المماليك بفدائيتهما وإصرارهما وبدءا بنفسيهما.
سوق السلاح :
وفي شارع سوق السلاح – خلف سوق الرماحة بحي القلعة – سهر السلاحيون ليل نهار في صناعة السيوف ورؤوس الرماح والسهام ، وضربت الدروع والخوذات ، وقصمان الزرد ، ودبابيس المبارزة ، ومعاول الحصار ، حتى يكون السلاح والعتاد جاهزاً بين يدي الحملة([2]).
الخطة وفرق الجند :
وقبيل خروج الحملة ، اجتمع مجلس الحرب ، حيث برزت عبقرية ومكر ركن الدين بيبرس البندقداري ، واتفق قطز على أن يقود بيبرس طلائع الجيش ، بينما يكون قطز على رأس قلب الجيش مع اتصاله بأمراء المجنبات ، وبثه العيون على دروب فلسطين ، حتى لا يفاجؤوا بأنفسهم بين براثن – كتبغا – وقواده.
وخرجت الجيوش مشيعة بدعاء العامة بالنصر ، وفي صفوف الجيش كان لكل فرقة قائدها من أمراء المماليك ، وإمامها من العلماء والدعاة ، يلهبون عزائم المقاتلين بسير المجاهدين الأولين ، ويقضون ردحاً من الليل بين الذكر وتلاوة القرآن والصلاة.
وجاءت العيون إلى بيبرس بخبر بمواقع – بايدار – وطلائع المغول ، فصبحهم بيبرس بقواته ، وقضى عليهم ، بينما أفلت نفر منهم فراراً لينذروا كتبغا ويطلبوا النجدة.
كتبغا وثورة دمشق :
وانطلقت جيوش الإسلام المصرية شمالاً على طريق الساحل في فلسطين ، قوات بيبرس في المقدمة ، يتبعها وعلى اتصال بها قطز وسائر الامراء مع باقي فرق الجيش.
فلما جاءتهم الأنباء عن كتبغا بقواته في بعلبك ، انعطفت الجيوش الإسلامية شرقا لتقطع الطريق على كتبغا وقواته التي كان قوامها جموع المغول ، تعززها كتائب من الكرج والأرمن.
وبلغت كتبغا – في بعلبك – كارثة بيدار وجنده ، فغضب وثار وتعبأ للسير إلى نهر الأردن عبر الجليل.
إلا أن سكان دمشق من المسلمين – هبوا فجأة – في وجه حامية دمشق من المغول ، ومن يعاونهم من نصارى الشام ، وخربوا الدور والكنائس انتقاماً للمساجد والمدارس والدور التي خربوها.
فأعاقت هذه الثورة كتبغا عن الانطلاق ، ريثما يخمد هذه الثورة ، مما أفقده سرعة المبادرة.
واستفاد قطز وبيبرس من ذلك التأخير ، فاتجها إلى الناصرة ليلقوا المغول على غرة وتعبئة كاملة مدبرة بليل ، واختفت كتائب المسلمين عند تلال عين جالوت.
جحيم المعركة :
وفي صبيحة يوم الخامس عشر من رمضان 659هـ النصف الثاني من سبتمبر – أيلول سنة 1260م أقبلت جموع التتار لتفاجأ بالجيش الإسلامي يقود طلائعه ركن الدين محمود بيبرس البندقداري في تعبئة متحركة : قوامها الفرسان والرماحة ، بينما حملة السيوف والسهام يناوشون على هيئة كراديس صغيرة تلذغ وتفر , لدغ العقارب , لدغا تتهاوى معه الرقاب.
ووقع الصدام ثقيلا في يوم شديد الحرارة ، لم يستعد له التتار بتعبئة المياه ، التي لم يعرفوا مصادرها ، بينما كانت الجيوش الإسلامية قد تزودت لذلك اليوم الكريه ، واختاروا موقع النزال والصدام.
وزاد من حرارة الجو ما ارتفع من النقع وغبار سنابك الخيل والبغال ، والتهب القتال ساعة غرت كتبغا , فواجه كتائب بيبرس بكل قواته ، ليقضي على ما يرى من قوات المسلمين.
وهنا بدأت جموع الكتائب في مناورة انسحاب وتقهقر , أطمع كتبغا فتابع الهجوم بثقل الجيش ، كي يتخلص من لدغ كراديس بيبرس السريعة التي فتكت فتكا ذريعا بأطراف جموع المغول ، وخطفاتها السريعة التي تدربوا عليها في ميدان ـ القبق ـ ([3]) عند قبة الفداوية بالعباسية – الآن.
وفجأة واجه كتبغا الكارثة الماحقة ، عندما توقفت قوات بيبرس عن القهقرى ، بينما خرجت قوات قطز من كمينها ، في تنظيم رهيب تلعب فيه الميمنة والميسرة أطراف الكماشة ، بينما يقوم القلب الكثيف العدد والعدة بدور المطرقة ، وجموع بيبرس بدور السندان ، ثم يتبادلان مهمة الطرق والطعان.
واإسلاماه :
ولم يكن القتال سهلاً ، وذلك لشراسة مقاتلي التتار والكرج والأرمن ، مما سبب بعض الاضطراب في قوات المماليك لفترة ، ردها إلى نظامها صياح العلماء والدعاة ، وهم يحملون بسيوفهم على أعداء الله ، واستبسال حملة الرايات والألوية لتظل مرفوعة خفاقة.
وأرى ذلك قطز فخلع بيضته – خوذته – وانقض في جمع من المغاوير يتبعونه ، وهو يصيح واإسلاماه ... واإسلاماه ...
وحاول كتبغا التخلص من هذا الهلاك ، ليعيد ترتيب فلوله ، ولكن فرسان بيبرس ، كانوا أسرع إليه ، وهو في غاية اليأس والذهول ، كبلوه بالسلاسل وحملوه إلى خيمة السلطان ، بينما كان قطز ساجداً خاشعاً , يعفر وجهه بتراب المعركة , وفرت فلول الناجين من المعركة أمام قوات قطز وبيبرس ، ليستعينوا بما تركوا من حاميات في المدن ، وحاولوا الكرة على قوات المماليك ، وعند بيسان كانت الجولة الثانية أشرس من الأولى ، حيث قاتل المغول قتال اليائس.
ولكن صيحات قطز : واإسلاماه ، بينما يجول بسيفه بين الجحافل يخطف الرؤوس ويشق الهامات ، وصوته تردده الأصداء في ساحة المعركة ، حتى كانت الهزيمة الثانية خلال أيام لجيش المغول الذي لم يذق طعم الهزيمة من قبل ، وبارد سيف الدين قطز ، فأرسل إلى دمشق والقاهرة ، يبث البشر بنصر الله ، بينما كان ركن الدين محمود بيبرس البندقداري يلاحق فلول المغول شمالاً ليطهر بلاد الشام ، وتمكن خلال شهر من دخول حلب وتحريرها.
وتقدم قطز إلى دمشق فدخلها وسط أفراح أهلها وأهازيجهم بالنصر المبين.
وقد حاول كثير من مؤرخي الشرق والغرب أن يسأل : ماذا لو تخطى المغول سيناء ، وانساحوا عبر مصر إلى الشمال الأفريقي ؟؟ هل كانت رايات الإسلام لتعود إلى الظهور.
والجواب : أن مؤرخي الغرب لا يعرفون عمق عقيدة الإيمان التي كانت عماد البناء في الجيوش الإسلامية التي خرج علماؤها مقاتلين دعاة ، فضلا عن إيمان القادة بأن لا نصر إلا بالإيمان الذي يعمر القلوب ويحميها من الوهن.
والمؤمنون يعلمون أن الله يدافع عن الذين آمنوا ، ومن هذا البعد كانت حملة جند مصر فنصرهم الله وشد أزرهم.
ودخل المغول الإسلام :
لم تنقض على تلك المعارك حقبة من زمان حتى بدأ أمراء المغول يدخلون في دين الله ، وبدؤوا في عمران ما خربوا من مدن الإسلام ، فبدؤوا يشيدون المساجد والمدارس والمشاهد في سمرقند وبخارى وخوارزم ، ما تزال مآذنها في جمهوريات آسيا الوسطى شامخة وقبابها لامعة ، وأهلها يقاومون نظم الماركسية الغازية إلى أن شاء الله.
المصدر : مجلة منار الإسلام , العدد التاسع ( رمضان سنة 1411هـ )
--------------------------------------------------------------------------------
([1])وهي دولة باطنية ملحدة تسترت بالإسلام ظاهرا ـ المجلة.
([2])بينما كان شارع السروجية نشيطا في صناعة السروج للخيل والبغال , وشارع الخيامية مشغولا في إعداد خيام الجند والأمراء , فلم يبق مكان إلا وشغل بالاعداد والإمداد .
([3])نوع من التدريب العنيف على ظهور الخيل في أقصى سرعتها لأصابة الأهداف الثابة والمتحركة بالسيوف والرماح والسهام .