مذكرات طالب: د. حسن نصيف"2"
عجيب!!!! كيف يتغير الإنسان!! فأنا أشعر أن (محمود) الذي يقرأ هذا الكتاب الآن ليس نفس الشخص الذي قرأ نفس الكتاب قبل أكثر من عقد من الزمان!! لم يكن الكتاب حينها أكثر من مذكرات لا تنقصها خفة الظل .. أما الآن ... ما هذا؟!! لا فرق بين الطلاب في (الفلاح) – يتضاربون – في (مدرسة تحضير البعثات) – يتضاربون – في (الجامعة بمصر) – يتضاربون- !!!!! أضف إلى ذلك ما يسميه الكاتب (مقالب) وبعضها،ربما جاز أن يسمى (جرائم) – تزوير فواتير بأسماء محلات تجارية،وصرف مبالغ مالية،من ميزانية البعثة على أساسها!!
استسهال قول (عكس الصدق) من باب (المزاح) ... إلخ!!!!!! عجيب!!!!
نبدأ هذه الحلقة بـ"النجاة ... النجاة" .. (المتداول بين الناس أن التلاميذ يجننون أساتذتهم،والناس يقولون ذلك على سبيل المداعبة أو المبالغة .. ولكننا – كتلاميذ – وقفنا في يوم من الأيام لنجنن أحد أساتذتنا جنونا حقيقيا انقطع بعده عن التدريس.
كنا في مدرسة تحضير البعثات والغرفة التي خلف فصلنا بها معمل الكيماوي وفيه مواد ملتهبة سبق أن التهبت مرة وكادت تحدث حريقا. وكان المدرس يلقي علينا درسا في النحو العربي عن الاختصاص. وهو مدرس ممتاز متمكن من عمله تماما ولكن كان يقابله تلاميذ متمكنون من شيطنتهم أيضا.
كانت هناك فرقة لا تكف عن الضحك بسبب وبدون سبب. وضرب الأستاذ مثلا للاختصاص (نحن معاشر العرب إلخ) فسألناه عن مفرد معاشر. ثم أخبرناه أننا في الزواج نستعمل المعاشر،وأن مفردها معشرة .. ثم تطرق البحث إلى سبب تسميتها معشرة فقال الأستاذ :
ربما لأنها تكفي لعشرة أشخاص يجلسون حولها.
وهكذا تطور البحث،الأستاذ جاد ونحن هازلون وفرقة الضحك – وكنت من أعضائها البارزين – تؤدي واجبها على الوجه الأكمل،وقطع الأستاذ المناقشة صارخا (النجاة النجاة. اخرجوا سريعا).
وكان هو أول الخارجين فتبعناه نجري ظانين أنه رأى شيئا في المعمل قد التهب. ولكننا لم نجد شيئا،ونزل الأستاذ إلى غرفة الإدارة وحمل شنطة الكتب وخرج ولم يعد بعدها. وأوقعنا السيد إسحاق عزوز في ورطة فقد عرف عن الحادث واحتار في الشخص الذي سيخلف الأستاذ ويكون عنده الاستعداد لتلقي نفس المصير.){ص 47 - 48}.
مما يدعو إلى التفكر،تغير (الأحوال) وما يلزمنا من واجب شكر النعم .. فقد كان حصول الإنسان على تفاحة كاملة يعتبر .. لندع الأستاذ (نصيف) يحدثنا عن "نزهة فمحاكمة فتوبة" .. ( كان الأستاذ عبد الرؤوف الأفغاني مدرس اللغة الإنجليزية من ألطف الشخصيات : وفوق إلمامه الواسع باللغة الإنجليزية كان عالما جليلا ذا اطلاع واسع،وفي فترة من الفترات غاب مدرس الرسم فقام بتدريس هذا العلم لنا خير قيام مع أنه فن قائم بذاته له أصوله وقواعده. كان بعض زملائنا قليلي الحفظ ضعيفي الذاكرة فوصف لهم وصفة هندية تتلخص في أن يحلقوا رؤوسهم ويضعوا عليها (زيت لبوب سبعة) ما أحوج الإنسان الآن لاستعمال هذه الوصفة لولا ما يلزم لها من الحلاقة (الزلبطة).
وذات يوم اقترح علينا الأستاذ أن نقضي يوم جمعة في بستان الزاهر بمكة وأخذنا نعد للأمر عدته وأوصانا أن نشتري تفاحة بأكملها لكل عضو في الرحلة وكان حصول الواحد على تفاحة بأكملها يعتبر غنيمة في ذلك الوقت .. وبين لنا أهمية ذلك فالمثل الإنجليزي يقول (تفاحة في اليوم تغنيك عن الطبيب)
"An Apple a day Keeps a doctor away"
وفي يوم الجمعة المحدد ذهبنا إلى البستان فرحين مرحين والأستاذ يشرح لنا كثيرا من خصائص النباتات .. ووجدنا رجلا يستحم في بركة البستان فضايقناه حتى خرج لأننا كنا نريد البركة لنا.
ولم نكن نعرف أن خروجه سيوقعنا في أزمة. طلبتنا رئاسة القضاء مع أستاذنا في اليوم التالي لأننا لم نصل الجمعة. ولم نهتم للأمر كثيرا في البداية ولكن أستاذنا كان يخرج في اليوم الواحد عدة مرات حاملا شمسيته لمقابلة المسؤولين ويعود ليفضي إلينا بنتيجة جهوده.
فمرة مثلا قال للمسؤولين أن السبب في عدم نزولنا للصلاة أن (سيارة حامد هرساني خربانين) وهي السيارة التي استعملناها في الرحلة وأخذ يلقننا هذه الحجة لتتفق كلمتنا،وأخيرا أحيلت القضية إلى الشرع ووكلنا الصديق الهرساني وكالة شرعية لحضور القضية،ولا أذكر الآن سر اختيارنا له،ربما لأننا كنا صغارا وكان هو أكبرنا سنا،وأخيرا حكم القاضي بتتويبنا وأخذنا يوما مع أستاذنا إلى مركز هيئة الأمر بالمعروف المجاور للحرم بمكة وتبنا واحدا واحدا،وخرجنا ونحن لا نصدق أننا خلصنا من الورطة بهذه السهولة.
ولكن الفضل يرجع إلى براعة المحامي وإلى سيارته (الخربانين) وإلا لأصبحنا الآن من أرباب السوابق.){ص 49 - 50}.
يبدو أن استيراد (البدع) - مثل"الفلنتاين" و .. غيره - من الغرب ليس جديدا!! "صلاة الميت الغائب" .. (على أثر نشر مذكراتي عن ليفة (بادكوك) اتصل بي تلفونيا وذكرني بموضوع (صلاة الميت الغائب) ووعدني بأن يبعث إليّ مجموعة من المذكرات لأنشرها وها أنا في الانتظار. (..) كنا في لقسم الداخلي بمدرسة البعثات،وبعد أن أفطرنا أخذنا نستعد للنزول إلى الفصول الدراسية وأخذ بادكوك يلمع نظارته ويمضغ فوفلته،ودخل علينا ساعي البرقيات يحمل برقية لبادكوك وفضها،فإذا فيها خبر وفاة والدته والبرقية موقعة من محمد علي أبو داود بجدة،فذهلنا جميعا لهذا النبأ ولكننا واسيناه بأن البرقية لم ترد من أحد أقاربه حتى يتأكد،ولكن محمد علي أبو داود زميل أخيه في العمل وفي حكم القريب ولذلك لم تنفع هذه المواساة ولم يكن الاتصال التلفوني بجدة ميسورا كما هو الآن،أخذ البادكوك يبكي ونحن معه وأساتذته وزملاؤه يعزونه (..) واستأجر الشيخ العريف له سيارة إلى جدة بعشرة ريالات بالوفاء والتمام وكان هذا مبلغا باهظا في ذلك الوقت،سافر البادكوك إلى جدة قبيل الظهر ولم يكن الطريق معبدا،وقبل أن يذهب إلى البيت مر على (أمنا حواء) وسأل هناك : (هل دفن أحد) فلما أجيب بالنفي ظن أنهم في انتظاره وأسرع إلى البيت،دخل أولا على غرفة أخيه عبد الرحمن وهو أصم أبكم فسأله عن الجنازة وموعدها فأخبره أنه لم يعلم عن ذلك وأخذ في البكاء والعويل وصعد الأخوان وهما يبكيان وعبد الرحمن أكثر بكاء وعويلا،ووجدا والدتهما تتوضأ فانكب عليها محمد مسلما باكيا بينما جلس عبد الرحمن على الأرض منتحبا،وعرفت الوالدة الخبر فأقبلت على عبد الرحمن تعنفه قائلة : (طيب محمد له حق وجاءته برقية وأنت ما هذا الجنان) وبعد أن سكن الروع أخذوا في التحقيق وسئلت إدارة البرق ،فإذا مرسل البرقية هو محمد حسين أصفهاني بمناسبة أول إبريل وانتحل اسم محمد علي أبو داود.
وفي ليلة سفر البادكوك إلى جدة صليت العشاء ثم صليت صلاة الميت الغائب على روح المرحومة واشتكى البادكوك وحكم على الأصفهاني بإعادة المبلغ الجسيم إلى بادكوك مع إنذاره بعدم العودة إلى مثل ذلك،وتخاصم الاثنان طويلا وكان بادكوك إذا صادفه في الأسواق يعرض عنه حتى تصالحا فيما بعد ..){ص 53 - 55}.
يشير المؤلف في (المدير الذي غضبنا من أجله) إلى محاولة مبكرة للقيام باعتصام!! .. (كان فضيلة الأستاذ السيد أحمد العربي من أحب أساتذتنا إلينا،كان مدرسا قديرا ومديرا محبوبا أيضا.
وهو متمكن من اللغة العربية وقواعدها وآدابها معرفة وتدريسا وحريص على التحدث باللغة العربية حتى عندما يشتم تلاميذه فكثيرا ما كنا نسمع منه (أنا لُكع) و (أنت ضُحَكة) وهو مرب فاضل قدوة في الأخلاق والاعتداد بالنفس والسيرة الحميدة.
كنا في السنة الأولى في مدرسة تحضير البعثات عندما قررت مديرية المعارف العامة نقله من مديرية مدرستنا إلى مديرية المعهد العلمي السعودي،فغضبنا لذلك وقررنا أن نمتنع عن تلقي الدروس حتى تعدل المعارف عن رأيها ..
وأزعج هذا الخبر المعارف ورجالها،فهده أول مدرسة ثانوية يرونها ويحرصون عليها ومن الصعب أن تقبر في مهدها بمثل هذه الأعمال الصبيانية،جمع المدير الطلاب في إحدى غرف القسم الداخلي بالمدرسة وأقبل علينا السيد محمد شطا مفتش المعارف الأول في ذلك الوقت وكان ذا شخصية قوية ومرهوب الجانب،وصادف عند دخوله علينا أن السيد عمر عقيل كان يلقي علينا واحدة من خطب الزعامة ..
وبعد أن حقق معنا انصرف ونحن نضرب أخماسا في أسداس بعد أن تبخرت خطب الزعامة وراحت السكرة وجاءت الفكرة .. وفي اليوم التالي جمعونا مرة أخرى وألقى فضيلة السيد طاهر الدباغ مدير المعارف العام خطابا فينا جمع بين النصيحة والوعيد،ثم أعلن علينا ما قررته وزارة المعارف من فصل بعض المحرضين وخصم نمر الأخلاق على الباقين،وعادت المياه إلى مجاريها .. وبعد عدة أشهر صدر عفو عن المفصولين .. وقد عاد السيد أحمد العربي مرة أخرى إلى مديرية البعثات بعد مدة وصادف أن كنا في السنة الرابعة وتأخرنا عن صلاة الظهر جماعة وكان هو يؤم طلاب المدرسة وجئنا إلى مكان الصلاة وقدمنا السيد حسن شطا (إمام الطوارئ) وصلينا خلفه .. وبعد انتهاء الصلاة دعانا المدير وعد عملنا هذا مخالفة وتحديا فقرر معاقبتنا جميعا بالطرد من المدرسة مددا مختلفة وأقفلت السنة الرابعة .. والمصيبة أنه أرسل قرار الفصل لأولياء أمورنا وبدأت شخصيا أتتبع حركات الوالد من جدة إلى مكة كما نتتبع الآن تحركات الأسطول السادس .. وتوسط المرحوم صالح شطا،والشيخ أحمد الغزاوي – أمد الله في حياته – وقال الشيخ الغزاوي للسيد أحمد العربي : (إن لهؤلاء التلاميذ بالذات معك موقفا عندما غضبوا لك فلعل هذا يكون شفيعا لهم ) . وفعلا عدنا إلى قواعدنا سالمين.){ص 56 - 58}.
وعن"الشباب الناهض" يحدثنا المؤلف :
(كنا قد بلغنا مبلغ الرجال – أو هكذا خيل إلينا – ونحن في السنة الأخيرة بمدرسة تحضير البعثات،ومع ذلك فقد كنا لا نكاد ننصرف من المدرسة حتى نبدأ فصلا جديدا من فصول الشقاوة .. كان السيد أحمد شطا يودعنا يوميا بوابل من الحجارة،فالمدرسة في القلعة وهو ساكن بجوارها ونحن نضطر للنزول فيتحصن هو بالجبل وتبدأ عملية قذف الحجارة ونحن نجري بمشالحنا وعقلنا ونصطدم بالمارة في الطرقات (..) وحدث مرة أن كانت عائلة خطيبتي – وكنت قد خطبت – في زيارة لبيت في القلعة وتفرجت مع عائلتها على الخطيب المحترم وهو يجري مع العمالقة حاسر الرأس وملابسه في يده وهو الذي يتظاهر بالأدب والتعقل .. وكانت ورطة.
وكنا في السنة النهائية نأخذ درسا ليليا إضافيا في علم الأحياء في المدرسة الرحمانية بالمسعى،لأن الأستاذ سليمان رشوان كان عنده جدول كامل أثناء النهار فكان يعطينا هذا الدرس ليلا،وذات ليلة بكرنا في الذهاب إلى المدرسة وكانت العراق قد دخلت يومها في حرب مع الإنجليز أيام رشيد عالي الكيلاني،وسرت موجة حماسة للشعب الشقيق بين الناس .. وبحثنا هذا الموضوع في تلك الليلة .. وتأخر الأستاذ قليلا .. ففكرنا في تحويل الحماسة إلى حركة إيجابية فأطفأنا الأتاريك وأخذنا نجري إلى خارج المدرسة،فقابلنا الأستاذ رشوان صاعدا درج المدرسة فانزعج من هذا الطابور المبرطع،فأخبرناه أننا أعلنا الحرب خلاص،فازداد انزعاجه وارتج عليه ولم يتكلم،وواصلنا جرينا وهو يصب علينا وابلا من الشتائم بعد أن عاد إلى وعيه .. ومشيت مع حسن شطا وعلوي جفري.. فقابلنا الهرساني عند باب النبي مع زميل آخر فسألنا عن سبب خروجنا فأخبرناه أننا نتمشى لإضاعة الوقت،وأننا عائدون إلى المدرسة،وفعلا سبقناه في اتجاهها .. وبدلا من أن ندخل إلى المدرسة أخذنا نجري من زقاق البيض إلى القشاشية والناس يتعجبون من هؤلاء الشحوط الراكضين،وعدنا إلى المسعى لنقابل الهرساني من جديد،وكان قد ذهب إلى المدرسة ووجد الأنوار مطفأة – والأرض قفرة والمزار بعيد – فواجهنا غاضبا وقال : (خلاص أنا فقدت الثقة فيكم) وظللنا مدة كبيرة نتندر بهذه الثقة المفقودة حتى أذن الله لها أن تعود وأن نحظى بها مرة أخرى.){ص 61 - 63}.
إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله.
س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة
س: سفير في بلاط سيدي الكتاب.