اتخاذ القرار *
الواقع أن بعض الناس يمتلكون تفوقاً داخلياً يعطيهم تأثيراً مسيطراً على أقرانهم, ويبرزهم دون مجال للغلط, نحو القيادة. هذه الظاهرة مؤكدة بقدر ما هي غامضة الأسباب ... وهي ظاهرة بين بني البشر وفي كل الظروف, وفي كل المتناقضات ... في المدرسة بين الأولاد .. في الجامعة بين الطلاب, في المصانع, في المناجم بين العمال ... وكذلك بين قادة الأمم. هناك دائماً من يستلم الراية بكل ثقة بالنفس ويتخذ موقع القيادة, ويحدد شكل التصرف العام.
فما هو الشيء الذي يعطي شخصاً محدداً مثل هذا التأثير والنفوذ على أقرانه؟
هناك فهم عام, أن القيادة جزء من الطبيعة البشرية التي تولد مع الإنسان ... وبكلمة أخرى, إما أن تولد معه أو لا .. والقائد المولود قائداً يبرز بشكل طبيعي كقائد, لأن ميزاته العقلية, والروحية وشخصيته تعطيه مثل هذا الحق المؤكد دونما سؤال.
كل المؤلفين والكتاب يحبون البدء بتحديد ما هي القيادة. لكن من السهل القول ما ليست عليه ... إنها بالتأكيد ليست علماً ... فالقيادة ليست على قدم المساواة مع الكيمياء أو الفيزياء مثلاً. البحث عن معرفة قابلة للمقارنة, ليست دون جدوى, لأننا نعرف الكثير عن الإدارة.
الجميع متفق على أن اتخاذ القرار, وحل المشاكل هي أمور من بين أسس العمل الإدارة ... واتخاذ القرارات أمر مركزي بالنسبة للإدارة. وأحد أوصاف الإدارة هي تعزيز ما يجب فعله والإشراف على تنفيذه وفي أي وضع إداري, قرار أو سلسلة قرارات يجب أن تسبق التنفيذ والنتائج, أكانت نجاحاً أم فشلاً, تتوقف على القرار بحد ذاته, وعلى دقة تنفيذه ... وهنا تكمن قدرة القيادة, أو التأثير, أو الدوافع ... دون متطلبات النجاح, هي قرارات الإدارة, وبنوعية مرتفعة.
اتخاذ القرار هو أحد أسس عمل الإدارة. لكنه كذلك مجال يتسبب بكثير من المتاعب. وليس السبب أنه قد يكون قراراً خاطئاً, بل أن هناك الكثير من المشاكل قد تتسببها القرارات الصحيحة. فالمدير قد يصل بسهولة إلى قرار, في خلوة مكتبة وقد لا يكون الشخص المناسب لاتخاذه ... حتى القرار باتخاذ القرار قد يكون خاطئاً. فالمشكلة لا تكمن في اتخاذ القرار, بل إيصاله لمن سيتأثر به. في الواقع كل القرارات تؤثر بالآخرين, وإذا أسيء معالجة القرار دون تفكير مسبق يكفي, أو المتابعة فالنتائج قد تكون وخيمة.
صانع القرار, من وجهة نظر الإدارة الكلاسيكية, يتبع ترتيباً متسلسلاً خطوة فخطوة .. وبهذا يكون عمله منطقياً .. يضع أمامه أهدافاً ليست متعارضة, ومعرفة مكتملة للمشكلة. وبجمع كل المعلومات وكل الحلول الممكنة, ويدرس كل الطرق.
في النظرية الإدارية, أساس الإدارة المنطقية هي اتخاذ القرار ما بين خيارات حسب النتائج التي قد تعقبها. حين يتحدث الناس عن المنطق في هذا السياق, هذا ما يعنونه عادة ... إذا كان الهدف مادياً بحتاً, لزيادة الأرباح, فالنتائج يمكن تقييمها عددياً, واتخاذ قرار بسيط. وإذا استطاع المدير الاستثمار بأمان, كمية ضخمة من المال بربح عشرة في المائة في عملية ما, واثني عشر في المائة في أخرى, فالخيار واضح ... على الأقل على أساس منطقي.
لكن, قد يكون من الخطأ صرف النظر عن المميزات القيادية ... ولقد اعتاد علماء الاجتماع الأكاديميين صرف النظر عن هذا, ولسببين هامين:
أولاً: لم يستطيعوا ابتداع الوسيلة الضرورية للتعريف العلمي عن أشياء غير ملموسة مثل النوعيات والشخصيات ... وليس من المحتمل أن يتوصلوا لهذا. لذلك, يبقي لدى عالم التاريخ ما يعلمنا إياه عن القيادة أكثر من عالم الاجتماع.
ثانياً: قيمة الحكم, أو التقديرات المخبئة, تدخل في هذه المسألة. فعلماء الاجتماع يميلون بشدة إلى المساواة بين البشر. ويكرهون أية فكرة تقول أن أحداً لديه (( تفوق مولود )) على الآخرين. لذلك يرفضون الاعتراف بالقيادة لزعيم واحد.
النوعية, الصفات, والمهارات المطلوبة في شخص القيادي, تقرر إلى حد بعيد عن طريق مطالب المواقف التي ينجح فيها أن يكون قائداً. وبالغرم من الدلائل على العكس, إلا أن نتائج الأبحاث العامة تدل على انخفاض العلاقة ما بين القيادي. مثل : العمر, الطول, الوزن, الطاقة, المظهر, والقدرة على السيطرة. بل تتجه الدراسة إلى عدم الأنانية, الاكتفاء الذاتي, والسيطرة على المشاعر.
مع ذلك, يوافق الجميع على أن القائد يحتاج إلى الشخصية بكل ما تعنيه الكلمة, وقد لا يكون القائد, شخصاً جميل الشكل, لكن هل التقيت يوماً قائداً تنقصه الحماسة أو الدفء أو الشخصية... شخص ما حدد يوماً الشخصية بما يفعله المرء بشخصيته وتصرفاته, وتلك النزعة الموروثة من القوة أو الضعف... طريقة أفضل للنظر إلى المسألة هي القول أن الشخصية هي جزء لا يتجزأ من نفس الإنسان, التي تبدو لنا قيمة أخلاقية ... إنها الكمية من المزايا الأخلاقية التي يحكم على أي شخص بها ... عدا عن عوامل الذكاء والقدرة, والمواهب الخاصة.
على المدراء الآن, الأخذ بعين الاعتبار مجموعة أوسع من العواقب المنطقية لأعمال متوقعة أكثر مما يتطرق إليه علم الإدارة النظري. فعدا عن اتخاذ القرارات على أساس منطقي, وجد أن مزيجاً من المشاعر, السلطة السياسية, تأثير الآخرين ونفوذهم, والقيم لكل متخذ قرار على حدة, له تأثيره القوي, خاصة في القطاع العام. هكذا استقر صانعوا القرار بأفضل خيار, كما تمليه الظروف, مع محاولة إيجاد توافق مضي ما بين خيارين أو أكثر.
هناك عامل يتناقض بشكل خاص مع التقدم الحذر, خطوة فخطوة نحو القرار ... ليس هناك ما يكفي من وقت ... لذا لا يمكن للإداري القائد جمع ما يكفي من معلومات لها صلة بالموضوع, ولا أن يقيّم تماماً كل الخيارات .. ويتوافق الإداريون على أن ليس هناك دائماً ما يكفي من وقت للتفكير.
عبارات مثل : تأثير الآخرين... أو سلطة السياسة, تدل على عامل أساسي أكثر من النظرة الكلاسيكية للقرار الإداري, وهو أهمية الناس ... ولسوف نبحث هذا فيما بعد, لكن من المهم الإشارة إلى أن أخذ العامل الإنساني في عين الاعتبار لا يعني بالضرورة أن الإداري يقف في وجه المنطق.
يمكن للتفكير المنطقي كذلك أن يختلف مع نوعية القرار بحث يبدو أنه اتخذ دون تفكير منطقي. وبالطبع, المدير العادي, يمكنه احتضان مجموعة مختلفة من الدراسات حول الإدارة .. وبعض المدراء يقضون أكثر وقتهم بعيداً عن شركاتهم, يزورون الزبائن أو يحضرون المؤتمرات والمعارض. مديروا المبيعات يقفون دائماً ضمن المجموعة. بينما آخرون يجلسون وراء طاولاتهم يتعاملون مع الأعمال المكتبية... أما المختصين بحل المشاكل أمثال مدراء العمل, ومدراء الإنتاج فهم يمرون بأيام مجزئة, الكثير من وقتهم يضعونه في حل الأزمات, وإيجاد الحلول السريعة.
بهذا نلاحظ أن كل المدراء, يمضون وقتاً كبيراً في المخالطة مع الآخرين, وعادة في حديث مختصر غير رسمي ... كل الدراسات تظهر أن القرارات غير المبرمجة هي نتيجة لهذا التصرف... رجال الأعمال يقومون بالكثير من المهمات بخطوات متسرعة دون وقت راحة. لكن التسرع والسطحية مخاطرة مهنية في العمل الإداري. فشبكات الاتصالات لها أهمية كبرى, أكانت عبر الهاتف أم وجهاً لوجه, مبرمجة أم غير مبرمجة, وهي مفضلة على الأعمال المكتبية. فمن طبيعة العمل أن ينزعج المتنفذون دائماً من الأعمال المبرمجة, مع ذلك فهم يحبونها ويفضلونها ... وهم بهذا ليسوا من المخططين على أساس ردات الفعل, بل هم من المتكيفين في التعامل مع المعلومات, يهتمون فقط بما هو صعب وحي.
لكن, هل يجب لهذا الالتزام المكتمل فكراً في العمل أن ينسب فقط للمدراء؟ هنا نلفت النظر إلى التمييز التقليدي ما بين المدراء والعمال ... بشكل عام, غني عن القول أن المدراء, أو القادة, يشعرون بتورط والتزام بالعمل لأنهم يجب أن يوظفوا عقولهم لاتخاذ قرار أو حل مشكلة... ومن المفترض أن العمال, كما هو معروف لا يشعرون بالتورط, فالصناعة مثلاً لا تستخدم سوى قوتهم الجسدية, أو براعتهم اليدوية. وهم بهذا أدوات لا عقول ... هذا التمييز العتيق الطراز, يحتاج إلى مراجعة. فهناك الكثير مما يقال حول ما تمارسه الشركات. يجب أن يشار إلى الجميع, مدراء وموظفين وعمال كفريق عمل واحد ... يرمز إلى المشاركة الإيجابية ... وسنعود إلى موضوع بناء مثل هذا الفريق لاحقاً.
أمامنا الآن خمسة مراحل أساسية, يجب أن تكون جزءاً لا يتجزأ من عملية اتخاذ القرار:
جمع الوقائع.
الاستشارات.
اتخاذ القرار.
إيصال القرار.
المتابعة.
فهل يتبع كل المدراء والقادة هذه المبادئ؟ ما من مدير يتخذ قراراً دون التفكير جيداً بكيفية متابعته, ولن يتخذه دون أن يعرف أنه قرار ضمن صلاحيته دون معرفة الوقائع التي يجب أن ينبني عليها القرار ... ويجب كذلك معرفة السبيل للحصول على هذه الوقائع ... هناك دائماً شخص ما من الداخل أو من الخارج, له خبرة مباشرة بقرارات مماثلة... لذا لا يجب أن يخشى المدير من أخذ مثال خبرة الآخرين... ولا أحد يجب أن يحمل نفسه معلومات لا جدوى منها. لكن ما أن يعرف المرء ماذا يريد أن يتخذه, لا يمكن أن يكون عارفاً بكل الوقائع ...إذن متى تجهّزت تماماً ... ماذا بعد؟
نصل إلى نقص التشاور (الاستشارات) والتي تقود عادة المواجهات مع الآخرين ممن يطالهم القرار... بعرض وجهات النظر يضمن المدير (القائد) أن لا تقف في وجه قراره أية معارضة, وفي قفزة فوق اعتبارات زملاءه يكون قد سار إلى حفرة من صنع يديه. لذا, لا يجب الرمي بمفاجأة, وأنت لست مضطراً لها ... فحتى لو لم ترَ فيها أية مشكلة, فقد يراها الآخرون... إذن الاستشارات هي عملية واقعية ونفسية في آن...
هناك سببان هامان جداً لاستشارة الآخرين. أولهما معرفة ما إذا كان هناك أية وقائع لم تتوفر أو فهمت خطأً فالمرء دائماً يجد أن هناك شيئاً لم يدركه أما السبب الثاني فهو نفسي, حين يتخذ المدير القائد القرار, هناك أشخاص قد لا يعجبهم, لكن القائد يريد منهم تنفيذه بحماس معقول ودون اعتراضات .. لكن قبل اتخاذ القرار فإن عليه أخذ رأيهم والإصغاء إليه.
التشاور يعني اسعي إلى معلومات, ونصيحة, والأخذ بعين الاعتبار مشاعر ومصالح الآخرين.. لنفترض أن مديراً يريد اتخاذ قرار يؤثر على فريق عمله.
فمن المنطقي أن يتشاور معهم قبل اتخاذه.. وقبل هنا هي جوهرية.. فالمسألة هنا ليست مسألة طلب المباركة للقرار الذي سبق واتخذه. ولا يمكن لأي كان أي يمتلك كل الوقائع بمفرده أو أن يكون لديه كل الأفكار عما يجب فعله, ومن غير ا، يتخذ أحد القرار على الفور, لذلك بإمكانه التفكير ملياً بالأفكار والمعلومات التي تصله عبر المشاورات وقبل أي شيء آخر, يكون بهذا يعطي نفسه فرصة لإعادة النظر بخياراته.
أحد المشاكل البارزة, ليست في اتخاذ القرار بل بإيصاله إلى من يتأثر به.. في الواقع كل القرارات تؤثر في الآخرين, وإذا نفذت بشكل سيئ دون تفكير مسبق وملاحقته فتسكون النتائج سيئة.
وبالطبع, ليست كل القرارات على ذات المستوى الأهمية. أو من النوع عينه... أولاً هناك القرارات الطارئة التي تتطلب عملاً سريعاً واضحاً, مضبوطاً, في الأزمات .. ثانياً, القرارات الروتينية ذات الطبيعة اليومية الروتينية ... لكن لا يجب السماح (( للروتين)) أن يتحول إلى عمل دون تفكير ثالثاً, هناك القابلة للنقاش ... بتلك التي تشمل التغيرات. وغني عن القول أن هذه هي القرارات التي تتطلب أكبر وقت وأكثر التحضيرات.
نستلخص من كل هذا:
المشاكل يمكن أن تبرز مع القرار الصحيح مثلها مع القرار الخاطئ.
لا يجب السماح للروتين أن يصبح رمزاً لعدم التفكير.
لا يجب اتخاذ قرار لا يستطيع متخذه أن ينفذه.
القرار باتخاذ القرار, قرار بحد ذاته.
قبل اتخاذ القرار يجب التأكد أن من حقك أن تتخذه.
تعلم من تجربة الآخرين.
لا يمكن لأحد أن يحصل على معلومات كاملة.
لا ترمي بمفاجأة, ليست مضطراً لها.
التشاور لا يعني بالضرورة أن تكون الآراء إجماعية.
ما أن يؤخذ القرار يجب الالتزام به.
لتكن لديك الشجاعة, أن لا تتخذ قراراً.
القرارات يجب أن تسوّق إلى من يتأثر بها.
الصعوبة في استخراج مهارات الناس ومواهبهم في العمل, سببها سنوات من التفكير غير الكافي حول القيادة, التواصل واتخاذ القرار, إضافة إلى الفشل في تعلم ما يجب تعلمه حول هذه الأمور... تقليدياً, عمل القائد هو حماية من حوله من الناس من مخاطر ومساوئ التغيير القاسي الممزق... لكن الإدارة العصرية تهتم بخلق وتنفيذ التغيير.
التغيير في الصناعة مثلاً, يعني الاندماج, الاستيلاء على الإدارة, عن طريق الشراء, التخلص من الفائض, تحويل القيم التقليدية, والخلاص من طلبات مرهقة مقبولة سلفاً. الكثير من تأثيرات كل هذا مؤلم جداً.
وينظر إلى المدراء كمسببين لهذا القلق والألم, بينما رسميوا اتحادات العمالية يبرزون من كل الأزمات, قادة تقليديين, يحمون من يتعرض لمثل هذه المواقف.
تفهم القيادة على أساس النوعية الشخصية التي يملكها شخص ما إلى درجة أكبر من أقرانه, لها صلة كبرى بالموضوع ... لكنها بعيدة عن أن تكون القصة كلها.