دور المساجد نشر العلم
إن المسجد في المفهوم الإسلامي الخالص هو مقر إعلان العبودية الخالصة لخالقنا
{ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً } ، وبما أن العبادة في المفهوم الإسلامي شاملة جامعة لحياة الإنسان العابد لله تعالى { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [الأنعام:162-163]
وبما أن العلم في الإسلام شرط أساسي في أداء العبادة الصحيحة بمفهومها الشامل، فلابد إذن من أن يقوم المسجد بدور نشر العلوم بل وأن يصبح منارة ومقصداً علمياً.
وقد قام المسجد بدوره التعليمي منذ أيامه الأولى، وحث رسول الله على هذا الدور العلمي لقوله صلى الله عليه وسلم: « من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيراً أو يعلمه كان كأجر حاج تاماً حجه » أخرجه الطبراني, وهذا المقصد التعليمي أوضحه وبيَّنه صلى الله عليه وسلم في حديثه ليفرق بينه وبين البعد الشعائري من إقامة الصلوات في المساجد.
ولم يقتصر الدور التعليمي للمسجد على الرجال بل نافست عليه النساء، لما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قالت النساء للنبي: " غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً من نفسك, فوعدهن يوماً لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن " . وفتح المسجد صدره للمرأة تشهد دروس العلم ليتأكد حق المرأة في تحصيل العلم ومشاركة الرجل في الحياة, وقد أُعجبت السيدة عائشة أم المؤمنين بإقبال الأنصاريات على العلم فقالت: " نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء من أن يتفقهن في الدين " .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرف على حلقات العلم التي كانت تنتشر في أرجاء المسجد النبوي الشريف، خاصة في بواكير الصباح حيث حدث عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بمجلسين أحدهما فيه دعاء وإقبال على الله والآخر فيه علم, فأقرَّهما وقعد في مجلس العلم, وشجع رسول الله صلى الله عليه وسلم استخدام الوسائل المتاحة آنذاك لتوضيح المعاني والدروس سواء كانت بصرية أو سمعية, ومن أمثلة ذلك ما رواه ابن مسعود بقوله: خطَّ لنا رسول الله خطاً بيده ثم قال: « هذا سبيل الله مستقيماً » وخط عن يمينه وشماله ثم قال: « هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه » ثم قرأ { وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [الأنعام:153].
ولو أن الوسائل التعليمية المتاحة لنا في عصرنا هذا وجدت في عصر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه لحثَّ على استعمالها، وكان أول من يستعملها صلى الله عليه وسلم.
واستمر المسجد في التطور والنمو جيلاً بعد جيل، ليؤدي مهامه في صناعة الحياة ليصبح جامعات ومنارات علمية وفكرية رائدة, والأمثلة كثيرة نذكر بعضها مثل جوامع الألف -وسميت كذلك لأنه مضى على تأسيسها أكثر من ألف عام- مثل جامع عمرو بن العاص، قلب الفسطاط الفكري، ومهد الحركة العلمية في مصر، والذي كان يشهد مئات الزوايا العلمية, والجامع الأموي في دمشق وجامع المنصور ببغداد, وجامع القرويين في فاس بالمغرب الذي امتاز بالنظام التعليمي الجامعي وطرق التدريس فيه، فكان له شروط دقيقة للتعيين ووظائف التدريس وتخصيص كراسي الأستاذية والإجازات الفخرية, وكان له مساكن جامعية خاصة للطلبة والأساتذة، ومكتبات متخصصة للدارسين الجامعيين، فقصدها المسلمون وغير المسلمين من شتى أرجاء العالم،, أما جامع الزيتونة بتونس فقد أبدع في شتى مجالات العلوم النقلية والعقلية، وضمت مكتبته العامرة مايزيد عن مائتي ألف مجلد, وكذلك كان حال الجامع الأزهر الذي بدأ كغيره كمسجد لإقامة الشعائر التعبدية وسرعان ما أصبح جامعة يدرس فيها العلوم المختلفة، وتخرج فيها علماء عمالقة في كل مجالات الحياة.
واشتركت كل هذه الجامعات العظيمة في تشجيعها لطلبتها على مبدأ المناقشة والمناظرة والتمرس عليها, فأصبح من المألوف أن يخالف الطالب أستاذه في الرأي في إطار الأدب المتعارف عليه, وبهذا أوجدت المدرسة العظيمة التي يطلق عليها بالمسجد -بمفهومه الشامل- أجيالاً ستظل معجزة العالم ومفخرته, ولها فضل على كل علوم الدنيا شرعية أو كونية أو إنسانية, حيث كوَّنت أساس النهضة العلمية والصناعية.
اهمية المسجد الحضاريه
كيف يحتل المسـجد موقعه الطبيعي في حياة المسلمين المعاصرة ؟
تختلف المساجد في أهمّيتها الحضارية ، باختلاف موقعها الروحي ، والاجتماعي والمكاني في دنيا المسلمين .
فالمساجد في حياة المسلمين ليست على وتيرة واحدة من ناحية الأهمّية ، والموقع ، والتأثير ، والمهمّة كذلك ، فمن مساجد المسلمين ما أقيمت بأمر الله عزّ وجلّ لتكون مركز إشعاع للهدى ، والخير في دنيا المسلمين كالمسجد الحرام ، ومسجد النبيّ ، والمسجد الأقصى ، ومسجد الكوفة ، ومسجد قبا ، ومنها ما ارتبط بأمجاد المسلمين ، وعزّتهم كالجامع الأزهر ، ومسجد القرويين ، وجامع الزيتونة ، وأمثالها ...
ومن المساجد ما يكون مسجداً لإقليم من أقاليم المسلمين ، ومنها ما يكون لمدينة ، ومنها ما يكون لقرية أو محلّة ، أو قبيلة ، أو عشيرة ، حتّى يصل الدور إلى مسجد العائلة في الدار ...
وأهمّ المساجد التي أقامها المسلمون بعد مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ; المساجد الجامعة التي أقيمت في حواضر المسلمين ، ومدنهم الكبرى ، وفيها تقام صلاة الجمعة ، ويجتمع فيها المسلمون لأدائها ، وسماع المواعظ فيها ، ثمّ تتدرّج المساجد من حيث الأهمّية ، والتأثير ، والموقع في حياة المسلمين .. وبناء على ذلك فانّه ليس من الطبيعي أن تتشابه المساجد في وظائفها وتأثيرها في حياة المسلمين ...
فقد يؤثر بعض المساجد في حياة الأمّة المسلمة كلّها ، بينما يؤثر مسجد آخر في أحد أقاليم المسلمين ، وآخر في مدينة ، وغيره في قبيلة أو قرية أو محلّة .
وهكذا فليس من الصحيح أن نفترض انّ وظائف المساجد واحدة ، ولكن لا بدّ من وجود مشتركات بينها ، ثمّ تأتي الفروق الكبيرة والصغيرة حسب الأهمّية ، وقدرة التأثير ، وحدوده !
فالمسجد الحرام في مكّة المكرّمة له من المؤهلات الروحية والمادية ما يجعله يؤثر في حياة الأمّة الإسلامية كلّها، ويوفِّر مستلزمات صياغة الكثير من جوانب حياتها باتّجاه الاسلام ، والفضيلة ، والبناء ، فمؤتمرات الحج والعـمرة التي وفّر الله عزّ وجلّ أرضية عقدها في كل عام، فيحضر مواسمها مئات الآلاف من المسلمين من كل لون ، وذوق، ولغة، وثقافة، ومكان، بمقدورها أن توفِّر الكثير من الخطط والمشاريع ، لبناء حضارة الأمّة ، ومجدها عبرَ الأزمان والأجيال ، كما بمقدورها أن تواجه مخططات الأعداء والمنافقين .
إنّ بمقدور بيت الله الحرام ، لو أعطاه المسلمون قيادهم أن يغيِّر حياة المسلمين ، باتِّجاه المجد ، والتحضّر المفعم بالإيمان ، والعدل ، والمتفجر بالخير ، والخصب ، والنماء ...
لقد كان من أكبر مخاوف أوربا الغازية بعد الحرب العالمية الأولى ، انّها لا يمكن أن يقر لها قرار في الشرق ما دام القرآن المجيد والكعبة المشرفة لدى المسلمين ، لأ نّهما كفيلان بتحريك قوى المسلمين ، باتِّجاه النهضة والخلاص(56) !
إنّ هذا الفهم الأوربي صحيح إلى درجة كبيرة ، فبيت الله الحرام إذا لم يكبل عن أداء مهمّته الرِّسالية ، فسوف يكون جديراً بتحقيق الأساس المركزي لنهضة الأمّة كلّما تنكرت لها الأيّام وتداعت عليها الأمم ...
فالمسجد الحـرام جدير بتوفير الفرص للمسلمين أن يفكِّروا في أمورهم وأن يخطّطوا لخلاصهم، ووحدتهم، ونهوضهم الروحي والمادّي. ففي ضوء المكانة الخاصّة لبيت الله الحرام في مكّة المكرّمة ، ومسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة المنوّرة ، يمكننا أن نفترض أن بوسعهما أن يحقِّقا ما يلي :
1 ـ تبادل التجارب الفكرية والثقافية بين المسلمين في مختلف بقاع الأرض .
2 ـ توفير مستلزمات التقريب ، والتلاقح في الرؤى ، والفهم للأمور السياسيّة ، والتحدِّيات ، ومشاكل المسلمين العامّة ، وتوفير أرضية الاتّفاق على الحلول وطرق المواجهة لمشاكل الأمّة ، وتحدِّياتها .
3 ـ توفير الدراسات ، والأبحاث الفقهية ، والفكرية المقارنة لإستيعاب ما لدى المسلمين من وجهات نظر دينية أو سياسية ، ويمكن أن تقام جامعة علميّة خاصّة لهذا الغرض تلحق ببيت الله الحرام .
4 ـ إقامة المؤتمرات لتبادل وجهات النظر بين العاملين في الحقل الإسلامي السياسي من أجل نهضة المسلمين ، وخلاصهم ، وقد يُقام مركز للعمل الإسلامي العالمي .
5 ـ عقد الاجتماع الدوري لقادة المسلمين في العالم لحل مشاكل المسلمين السياسية الطارئة ، ووضع استراتيجيّات المستقبل .
6 ـ إنشاء دور نشر عالمية للتعريف بالإسلام ، وعلوم القرآن باللّغات الحيّة في العالم .
7 ـ تأسيس إذاعات ومحطّات تلفزيون عالمية للتعريف بالإسلام الحنيف ، وتاريخه ، ورجاله ، وعلومه ، وفق فهم مشترك بين المسلمين .
8 ـ إقامة ندوة العلماء الدائمة ، لتبادل الرأي في مسائل الثقافة الإسلامية ، والعلوم الإسلامية .
9 ـ إنشاء مركز الجاليات الإسلامية في العالم ، لدراسة مشاكلها ، وتحدِّياتها ، وما ينبغي وضعه من خطط لحمايتها ، وضمان استمرار تأثيرها في المجتمعات المختلفة .
10 ـ إنشاء المركز العالمي للمساجد ودور العبادة ، لوضع الخطط لإعادة المسجد إلى موقعه الطبيعي في حركة الأمّة ، وحمايته ، والاهتمام به .
11 ـ إنشاء الصندوق العالمي للزكاة لإسناد الجماعات المسلمة الفقيرة في العالم .
هذه بعض التصوّرات عمّا بمقدور المؤسّستين المباركتين : البيت الحرام ، ومسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تنهضا بها في حياة المسلمين لو توفّرت الظروف المناسبة لأداء دورهما الرِّسالي في الأمّة ...
أمّا المساجد الأخرى في العالم الإسلامي ، فانّها من الطبيعي أن تكون دون ذلك في الأهمّية ، والتأثير في حياة المسلمين العامّة والخاصّة ، ولكن لكلّ منها دوره الذي يمكن أن يؤدِّيه في حدود الواقع ، والممكن ...
وهذه مقترحات أوّلية لمساجد المسلمين في العالم ، نأمل أن يستفيد منها المسلمون كل في وسطه ، وحسب إمكاناته المتاحة مادّياً ، ومعنوياً ، حتّى يعاد المسجد رويداً رويداً إلى موقعه الطبيعي في حركة النهوض الإسلامي :
1 ـ المسجد دار العبادة ومحل الاجتماع : من أولويات مهام المسجد في دنيا المسلمين أن يتّخذه المسلمون موضعاً أساسياً لعبادتهم وتوجّههم إلى الله عزّ وجلّ ، فعندما تحل أوقات الصلاة ينقل الشيوخ والكهول أقدامهم ، قاصدين مساجد الله عزّ وجلّ لأداء الفريضة ، ويتسابق الشباب ، والصبية ، ملبين داعي الله عزّ وجلّ لأداء الصلاة ...
فتنتظم الصفوف ، وتقام صلاة الجماعة بإمامة إمام المسجد أو أحد عدول المؤمنين ...
وينبغي على المؤمنين العاملين ، والآمرين بالمعروف ، والناهين عن المنكر أن يحثوا المسلمين على عمارة المساجد بالعبادة ، والاعتكاف ، وقراءة القرآن ، وأن يتعاظم الاهتمام بصلاة الجماعة بخصوص الفرائض ، أو صلاة العيدين أو ما إلى ذلك ...
فانّ هذه العبادات المباركة اضافة إلى أهمّيّتها الذاتية ، فانّ لها آثاراً واقعية من حيث التعارف بين المسلمين ، وشيوع المحبّة ، والتعاون ، والتكافل ، والتزاور ، وتفقد الغائب ، وزيارة المرضى ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وغير ذلك من ظواهر المجتمع الإسلامي ، وحسن العلاقات بين المؤمنين في المدن ، والقرى ، والمحلاّت ...
2 ـ ليكن المسجد مناراً للمعرفة ، والتثقيف الإسلامي : ومن المهام التي ينبغي أن تترسّخ في مساجد المسلمين : تعليم المسلمين أحكام دينهم ، وقيم التشريع الإلهي ، من فرائض ، وأخلاق ، وآداب ، وأوامر ، ونواه ، وما إلى ذلك ... ولقد كانت هذه المساجد في عصور المسلمين الزاهرة قبلة للباحثين عن المعرفة ينهلون العلم فيها ، ويتذاكرون المعرفة ، ويتدارسون معاني كتاب الله عزّ وجلّ ...
وهؤلاء العلماء والرواة ، والمفسِّرون ، والمؤرِّخون الذين شهدتهم القرون أيّام ازدهار الحضارة الإسلامية ، قد تخرّجوا في مساجد الحواضر الإسلامية ما بين بخارى شرقاً إلى قرطبة غرباً ، حيث المسجد الحرام ، ومساجد بلاد الشام وفلسطين ، والمسجد النبوي ، ومسجد الكوفة ، ومسجد البصرة ، والجامع الأزهر ، ومساجد اصفهان ، وقم ، وخراسان ، ومسجد القيروان ، والزيتونة ، والقرويين ، وغيرها كثير ...
انّ تدريس العلوم الإسلامية ، وأحكام الشريعة ، يمكن أن تتّخذ مستويات عديدة أدناها : الحلقة المفتوحة لتدارس موضوع ديني محدّد ، وأعلاها اقامة حوزة علمية ثابتة في المسجد ... ويمكننا أن نتصوّر مجموعة من النشاطات الثقافية في المساجد :
أ ـ إقامة درس ديني مختصر بعد الصلاة يلقيه إمام المسجد أو مَن ينوب عنه ، كشرح آية أو رواية ، أو توجيه معيّن .
ب ـ عقد حلقات علمية يومية في وقت محدّد ، والإعلان عنها ، على شكل محاضرات أو ندوة تدوم ساعة أو أكثر .
ج ـ عقد درس خاص لفئة محدّدة من الناس كطلاّب الجامعة ، أو طلبة الحوزة ، أو طلاّب الثانوية مثلاً ، ويهتمّ البحث بمادّة علمية معيّنة كبحث فقهي أو تاريخي ، أو النظام الاجتماعي في الإسلام ، وما إلى ذلك .
د ـ توزع الدروس حسب المستويات الثقافية ، والأعمار .
هـ ـ عقد دروس للعلوم الإسلامية ، كالفقه ، والأصول ، والتفسير ، وعلم الكلام ، والعقائد ، والأخلاق ، وما إلى ذلك حسب برنامج زمني مُحدّد ، وطلاّب محدّدين ، هذا وهناك مواضيع ثقافية أخرى تحدِّدها الظروف والحاجة .
3 ـ المسجد والدّعاء الجماعي : من العبادات المهمّة لدى المسلمين : عبادة الدّعاء ، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر المسلمين دعاءً لله عزّ وجلّ ; يدعو عند الفـرح ، ويدعو عند الحزن ، ويدعو عند الضِّيق ، ويدعو عند الطعام وبعده ، وعند النوم ، وبعده ، وعند الصلاة ، وبعدها ، وعند النعمة ، وعند نزول البلاء ... وكان الأئمّة من آل البيت (عليهم السلام)كثيري الدّعاء ، كذلك كان الصحابة النجباء ، والتابعون ، والصالحون ، والأولياء في هذه الأمّة ، على مدار التاريخ ...
وقد تشتدّ الحاجة إلى الدّعاء عند الحاجة ، والضيق ، والمحنة أكثر من الأوقات العادية، كما يزداد الاهتمام بالدّعاء في مواسم خاصّة كشهر رمضان مثلاً ...
ومن أجل ذلك فانّ المساجد ينبغي أن تهتم بالدّعاء الجماعي، وذلك لأهمّيته الروحية ، والعبادية ، ولاشتمال الأدعية كذلك على مفاهيم ، وقيم دينية عظيمة كالتوحيد، وأدب الخطاب من قبل العبد لربّه تعالى، وذكر الآخرة ، وطلب العون من الله تعالى ، والرِّضا بقضاء الله عزّ وجلّ ، والدّعاء على الظالمين ، وطلب العون عليهم ، إلى غير ذلك ...
ومن المفيد أن تتبع المساجد النظام التالي بخصوص الدّعاء :
أ ـ قراءة الأدعية بصوت مسموع أمام المصلِّين ، وأن يخصص لكل يوم دعاء مثلاً ، ويفضل أن تقرأ الأدعية المأثورة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة الهدى (عليهم السلام) ، وتمثِّل « الصحيفة السّجّادية » التي كانت تسمّى زبور آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، أروع النماذج في الأدعية المأثورة عن أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهي صحيفة الإمام السّجّاد عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، رواها عنه أبناؤه ، وتوارثوها كابراً عن كابر ...
ب ـ استثمار المناسبات التي تمر بها الأمّة ، لقراءة الدّعاء المناسب للأحداث ، والمناسبات ، كأدعية شهر رمضان ، أو أدعية الجمعة أو أدعية الأعياد وما إلى ذلك ، وفي تراثنا الإسلامي أدعية رائعة في هذا المضمار .
ج ـ يفضل أن تشرح مفردات الأدعية عند قراءتها لتكون أكثر تأثيراً على النفوس .
د ـ تشجيع المصلّين على قراءة الأدعية في البيوت لإشاعة جو روحي في الأسر ، وفي البيوت .
4 ـ لا بدّ للمسجد من مكتبة عامّة : من شروط المسجد المؤثر الفاعل في حياة المسلمين أن يضم مكتبة عامّة للمؤمنين ، وأبنائهم ، ولو كانت صغيرة ، تضم أهمّ الكتب الإسلامية ، والثقافية الضرورية كالمصاحف والتفاسير ، وكتب السيرة ، والفقه ، وكراسات للأطفال ، والنِّساء ، ويتولّى مسؤول المكتبة في المسجد ، تنظيم المطالعة داخل المسجد أو خارجه ، ويمكن أن يقوم المشرفون على المكتبة بالفعاليات التالية :
أ ـ تشجيع المصلّين ، وأسرهم ، وأبنائهم على المطالعة ، لا سيّما قراءة القرآن الكريم .
ب ـ تشجيع الكتابة والتأليف .
ج ـ إقامة ندوات ثقافية ، واحتفالات إسلامية بالمناسبات .
د ـ إصدار منشورات ، وكراسات تشتمل على مواضيع إسلامية واجتماعية نافعة .
هـ ـ إقامة صندوق لجمع المساعدات لدعم مشروع المكتبة مادّياً .
هذا ويمكن أن تكون المكتبة التابعة للمسجد في بناية مجاورة إذا تيسّر ذلك ..
ومن الضروري أن يصدر المسجد من خلال المكتبة العامّة نشرة جدارية ، يساهم فيها القادرون على الكتابة والناشئون منهم على وجه الخصوص ، لنشر المعرفة ، والتدريب على الكتابة ، وإشاعة الحسّ السياسي لدى المصلِّين .
5 ـ السفرات الجماعية : من أجل التأليف بين قلوب المؤمنين ، وتمتين العلاقات الأخويّة بينهم يفضل أن يهتم المسجد في المدن والقرى بالسفرات الجماعية للرِّجال والنِّساء كل على حدّه ، كالذهاب إلى الأماكن المقدّسة أو غيرها كالسفر إلى بلد ما من أجل السياحة ، ولابدّ أن يكون للسفرات برامج ثقافية خاصّة ، كالمسابقات الأدبية ، والثقافية ، وصلاة الجماعة ، والرياضة ، وما إلى ذلك ..
6 ـ المبرات والأعمال الخيرية : والمساجد لدى المسلمين أخصب الأماكن لفعل الخير ، والنشاط الاجتماعي الصالح كتأسيس صندوق القرض الحسن ، وآخر لرعاية أيتام المنطقة وصندوق لإطعام الفقراء أو إكسائهم ، ومساعدات لتزويج العزاب ، أو معالجة المرضى ، وكبار السن ، وغير ذلك .
هذا ومن الجدير بالذِّكر انّ هذه الفعاليات والنشاطات تشمل الرِّجال والنِّساء معاً ، فتقسم فعاليات المكتبة مثلاً على الجنسين ، فبعض الأيّام تخصص للرجال ، وأخرى للنساء ... وكذا الحال في حقل السفرات ، والاجتماعات ، والندوات ، بما يحافظ على خصوصيّات المجتمع الإسلامي النظيف ...
على انّ فعاليات المسجد ونشاطه لا بدّ أن تناط بلجنة خاصّة من الأخيار والمثقّفين المعروفين، لتنفيذ تلك الفعاليات، والحرص على أدائها، والتفكير المستمر برفع شأن المسجد ومن حوله من الناس ، أخلاقياً وتربوياً وروحياً وسياسياً واجتماعياً ... ويفضل أن تنضبط لجنة المسجد بورقة عمل تحدِّد صلاحياتها ، وواجباتها ، ونظام صرف الأموال الواردة للمسجد على شؤونه المذكورة .
فإنّ إناطة ادارة المسـجد إلى لجنة أو هيئة إدارية ، يُساعد على توزيع الأعمال وأدائها بصورة أفضل ، بالاستفادة من الخبرات المتنوِّعة والطاقات المتعدِّدة لأعضاء اللجنة .
كما يُساهم ذلك في استدامة عمل المسجد وسلامة تنفيذ الأعمال ، حيث أنّ الفرد معرّض للحياة والموت والصحّة والمرض والقوّة والضّعف والغنى والفقر ، ووقف عمل المسجد أو سائر الأعمال عليه ، يُهدِّد ذلك العمل أو تلك الأعمال بالأعراف الفردية والآفات التي يمكن أن يتعرّض لها الانسان !
لذا ، فإنّ ادارة الأعمال الخـيرية بواسطة مؤسسـات ذات إدارة جماعية ونظام معيّن ، يضمن لهذه الأعمال الاستمرارية بحيوية ونشاط وفق النهج الذي أسِّست عليه ، بإذن الله تعالى
دور المسجد في بناء المجتمع
إن كيان هذه الأمة والفضائل السمحة التي تتحلى بها نابعة من تراثنا ومن ديننا، فالقيم الروحية والتقاليد الدينية هي التي تحكم حياتنا، وتوجه سلوكنا، وتكسبنا ما نحن عليه اليوم من تماسك وتعاون وتوحد في الفكر والعمل، وقد ظللنا نتوارث ذلك خلفاً عن سلف، يسلمه الأجداد أمانة للآباء وينتقل من الآباء للأبناء، ليتركز مع الزمن، ويصبح دعامة من دعامات المستقبل المشرق بإذن الله. وقد ظلت هذه الأمانة باقية على الزمن طوال هذه القرون تغذي أرواحنا، وتبني شخصياتنا، وتحافظ على وجودنا، رغم كل نكبات الدهر وظروف الفقر والقهر والطغيان التي تعرضت لها أمتنا في تاريخها الطويل. ظلت هذه الروح حية مشرقة دون رعاية من حاكم أو سند من مؤسسة أو جماعة، ولكنها كانت تستمد حيويتها وقوتها من إيمان الناس بأنفسهم وبتراثهم، الذي هو مصدر قوتهم وسبيل بقائهم. وكانت المساجد وخلاوى القرآن الكريم والزوايا هي مراكز الإشعاع في حياة الناس، هي التي حفظت للأمة تراثها، وصانت عقولها وقلوبها من ظلمات الجهل والخرافة، ورفعت أميتها في زمان كان الجهل فيه سمة العصر. إننا أيها الأخوة مدينون لبيوت الله وخلاوى القرآن بكل ما نحن عليه اليوم من صفات، إذ لولا هذه البقاع الطاهرة التي يشع منها نور العلم على حياتنا، دون رعاية من حاكم أو عناية من سلطان، لفقدنا كل تراثنا وانفصلنا عن ماضينا، وصرنا نهباً للمستعمرين والمتسلطين الذين سعوا وما يزالون يسعون لتصبح حياتنا صورة من حياتهم مهما بلغت التكاليف.
وما دامت هذه المراكز الروحية هي سر بقائنا ومصدر عزتنا وكرامتنا، وإليها يرجع الفضل في المحافظة على ماضينا ورعاية تراثنا، فإننا نريدها في حاضرنا أن تؤدي رسالتها كما فعلت بالأمس، وأن تزيد على ذلك بأن تصبح سبيلاً لتطوير حياتنا، ودفعنا إلى الأمام على هدى وبصيرة، حتى يكون تقدمنا نابعاً من أصالتنا ومن تراثنا، وحتى يشترك الشعب بكل طبقاته وأفراده في عملية البناء وتعمير المستقبل، لأنه يحس بالدافع من ضميره ومن أعماق أعماقه. لقد قامت كل هذه المساجد والخلاوى والزوايا بعون الناس وبإيمانهم بالرسالة العظيمة التي تؤديها هذه الأماكن في حياتهم، ولكن ظروف الحياة الحديثة جعلت الكثيرين من الناس، خاصة من الأجيال الناشئة ينصرفون عن هذه المنابع الروحية دون أن يعلموا أن روح أمتهم وسر عظمتها وسبيل بقائها يرتكز على الصلة القوية القائمة بين الجماعة والجامع، فالجامع لم يسم الجامع إلا لهذه الصلة القوية بينه وبين الجماعة، لأنه يجمع شتات الناس، ويوحد ما بينهم حين يجتمعون فيه، وقد تجردوا من كل شيء إلا الإيمان بالله، والعمل لصالح الجماعة، وعلى هذين الأساسين تقوم التضحية ونكران الذات اللذين هما علامة المواطن الصالح. فواجبنا اليوم كأمة تسعى إلى تأكيد ذاتها وإبراز وجهها الحضاري المشرق أن نربط حياتنا أكثر وأكثر بمصدر القوة والإيمان في حياتنا وهو المسجد، وأن نجعل منه مرة أخرى مركز إشعاع في حياتنا مثل ما كان في ماضينا، وأن نستفيد منه روحياً وثقافياً واجتماعياً مثلما نستفيد من كل أوجه النشاط الثقافي الأخرى في حياتنا، ولابد أن نعيد ثقتنا بأنفسنا بعد أن شككنا المستعمِرون في ذلك، ولن نستعيد هذه الثقة بالنفس إلا إذا استعدنا ثقتنا بتراثنا وقدرته على صنع المستقبل، ولن ننجح في صنع المستقبل إلا إذا اعتنينا بأدوات المستقبل، وهم أطفالنا وملأنا أنفسهم بالثقة في ماضي أمتهم، فينشأون وهم فخورون بتراثهم، يفكرون فيه ويسعون لتطويره. ولكننا لابد أن نتطور مع الزمن، ونطور المساجد، حتى تجاري تطور الزمن، وحتى يجد فيها أبناؤنا وشبابنا ما يغريهم بالتردد عليها والاستفادة من إمكانياتها الروحية والاجتماعية. فلذلك رأينا أن يكون المسجد حلقة وصل بين المدرسة والمنزل، وذلك بأن نسعى لأن نجعل من المسجد عبارة عن مجمع لا يقتصر دوره على العبادة فحسب، بل يضم روضة الأطفال حتى يعاد الطفل منذ الصغر على الذهاب للمسجد، ويضم قاعة الدرس للشباب والشيب، ويضم إلى جانب ذلك مختلف أوجه النشاط الاجتماعي والثقافي، وبذلك يسهم المسجد في تأكيد القيم التي ننادي بها في مجتمعنا الجديد.
هذا ايضا حول الدور الاجتماعي:
المسجد و دوره الرسالي في حياة الامة
بقلم /صهيب الزيباري
للمسجد منزلة عظيمة في الإسلام، ومزايا جمة، فهو محراب للعبادة، ومدرسة للعلم، وندوة للأدب، وهو مصحة للأرواح كما هو مشفى للأبدان، وقد جعل اللـه للمساجد قدراً ومكانة، وكفاها فخراً ــ ما جاء بشأنها في القرآن الكريم ــ قول اللـه جلا وعلا: [ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ] [الجن/18] وبين اللـه سبحانه وتعالى لعباده بأن للمساجد مكان لعبادته وحده، والاعتراف بألوهيته وربوبيته، فلا يجوز الالتجاء والتوجه والدعاء إلا له سبحانه وتعالى.. وقد مدح اللـه جل وعلا أولئك الذين يعمرون المساجد بقوله: [ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ] [التوبة:18] وفي بيوت اللـه ترى المؤمنين خشعاً سجداً يسبحون بحمد اللـه، لا تشغلهم هموم الدنيا وما فيها.
علماً أن دور المسجد لم يكن محصوراً عند أداء العبادات، بل كان له ــ كما هو معروف تاريخياً ــ دور سياسي، وثقافي، واجتماعي، وتنظيمي، وقضائي، فالمسجد يربي أبناء الأمة الإسلامية على روح الجماعة والاتحاد، وأنه بمثابة مؤتمر مصغر لطرح مشاكل الأمة، وإيجاد الحلول لها، وغير ذلك من الأدوار الفعالة. يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، في بيان قوله تعالى: [ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ] [النور:36-37].
[ فأتصور أن الرفع هنا ليس للدعائم والجدران، إنما هو للساحات الطَّهور التي تخصصت للركَّع السجود، فبعد أن كانت أرضًا عادية يغشاها أي إنسان أضحت أرضًا لا يدخلها إلا متوضئ، وبعد أن كانت لأي غرض عادي أضحت همزة وصل بين الناس ورب الناس، ومهادًا للمعراج الروحي الذي ينقُل البشر من مآربهم القريبة إلى مناجاة الله وتسبيحه وتمجيده! أليس هذا ارتقاءً معنويًّا للأرض نفسها؟].
فلا عجب أن ترى المسجد مهبطاً للملائكة، ومرتعاً لعباد اللـه الصالحين في الأرض، إذا حزبهم أمر هرعوا إليه، ولجأوا فيه إلى اللـه جل وعلا، القادر على كل شيء، والسميع لمن ينادي، والمجيب لمن يدعو، والمغيث للمضطر والملهوف، والشافي لجميع العلل والأسقام، والملاذ لمن يلوذ به، ويربط المسلم في المسجد حبله بحبل السماء الذي لا ينقطع، وفي المسجد تزكّى الأنفس، وتقر الأعين، وتهدأ القلوب، وترتاح الأرواح، ولا يشعر المسلم بالراحة والطمأنينة إلا بمعية اللـه جل وعلا، ومثل المؤمن ــ في بيت من بيوت اللـه ــ كمثل السمكة التي لا تعيش إلا في الماء، فالمسجد مكان خصب لتزكية الأرواح وبرئها من العلل، ويجب على الذاهب إليه أن يتهيأ نفسياً وجسمياً وروحياً من حيث النظافة، وطهارة الجسم والثياب، لأنه يصبح ضيفاً للرحمن خالقه وخالق الأكوان كلها، وكيف أنه إذا دخل على ملك يتهيأ نفسياً؛ فيلبس أجمل أثوابه ويتطيب بأذكى العطور، ويتأدب عنده بأدب جم، حتى أنه ليختار ألفاظه بعناية تامة، علماً أنه مخلوق مثله كسائر المخلوقات، لا حول له ولا قوة وليس بيده أجله ولا رزقه.
وفي المسجد تتصافى النفوس والقلوب، فليس هناك طبقية تمنع دخول المسلم إليه؛ مهما كان لونه وجنسه وقومه ولغته وسنه، ومكانته الاجتماعية، فلا فرق هناك بين ملك ورعية، وبين غني وفقير وعامل ووزير، ولا بين شريف وسوقة، فالكل هناك سواسية كأسنان المشط، وهو مكان أدب ووقار واتزان واستغفار، فلا مجال هناك للرفث والفسوق وقول الزور، والبيع والشراء، والعبث الفارغ، والخلافات والمشاحنات، وما أجدر في هذا المقام أن نذكر قول الإمام البنا ــ رحمه اللـه ــ عندما دخل بيتاً من بيوت اللـه، فوجد هناك خلافاً حول الصيغة الشرعية للأذان، فجمعهم الإمام البنا وسألهم هل الأذان الذي تختلفون عليه سنة أم فرض؟! قالوا: بل الأذان سنة. قال: وهل الحب والأخوة والوحدة، كما قال اللـه تعالى: [ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا ] [آل عمران: 103] سنة أم فرض. قالوا: بل فرض. قال: فكيف نترك الفرض في سبيل خلافات على السنة. إذن فيقدم الفرض على السنة، واقتنع الجميع برأي الإمام، وانصرفوا بقلوب ملؤها الحب والرضى.
ويقرر أحد الكتاب في بيان دور المسجد في فصل الخطاب وإصلاح ذات البين: [ فإن سألت عن أسباب التشرذم بين المسلمين، قلت لك: ضياع فقههم لدور المسجد، وإن حيرتك كثرة خلافاتهم لَفَتُّ نظرك إلى تفريطهم بالقيام برسالة المسجد، وإن أذهلك التباين الشديد في آراء كثيرين منهم وتضارب أفكارهم، وبحثتَ عن حل فما أنت بواجد خيرا من المسجد، وإن أردت معالجة العلل وبناء النفوس وتربية الأمة وحمل العقيدة فعليك بالمسجد، وإن آذتك الأنانية الطاغية في الحياة والانهماك في الشهوات، والجفاء عن الخلق والأدب والدين، فاعلم أن بداية الإصلاح من المسجد؛ لا بالحفاظ على جدرانه ومعانيه مفقودة، ولا بتزيينه والقلوب خواء، ولا بملئه بأجسامنا والنفوس معلولة لا تعشق إلا متاع الحياة، بل بإعطائه حقه فيكون هو الفكر الواحد لكل الرؤوس ]. ومن هنا فإن [ أحد ضرورات المسجد بناء الفكر الموحِدِ الموحَدِ الذي يتناصح فيه الجميع رجالا ونساءً في ظلال دوحة إيمانية مباركة ].
كان المسجد في صدر الإسلام وفي القرون التي تلته يؤدي خدمات عدة، بالإضافة إلى تأدية العبادات، فكان يؤدي دور أرقى الجامعات من ناحية تخريج القادة المحنكين والعلماء الأفذاذ، وأصحاب المهن والكفاءات، وكذلك كان يقوم بدور المشافي في معالجة المرضى والمعاقين، ويقوم بدور الجمعيات الخيرية لجمع التبرعات والصدقات للفقراء والمساكين، وكذلك يقوم بدور الكلية الحربية والأركان والتصنيع العسكري، لتخريج الجنود والجنرالات، وكذلك يقوم بدور مراكز الشباب من ناحية التوجيه والتقويم والإرشاد، وبث روح المحبة والألفة، وجمع الكلمة، والتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك يقوم بتكوين الأسر، وتربية الأطفال والنشء، كما يقوم برعاية الشؤون الاجتماعية من جميع النواحي، وكان بمثابة ملجأ وملاذ لمن لا مكان له ولا دار، فيجد فيه المسلم المطعم والمشرب، وهكذا أدى المسجد في القرن الأول والذي تلاه خدمات كثيرة؛ لا يستطيع أن يقوم بها في وقتنا الحاضر إلا جهات متخصصة ومؤسسات عدة، لذلك فلا عجب أن يبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام أولاً ــ عند وصوله إلى (بني عمرو بن عوف) عند هجرته إلى المدينة ــ ببناء مسجد قباء، وهو المسجد الذي أشار اللـه إليه جلت قدرته وتباركت أسماؤه في قوله: [ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فيه فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ] [التوبة:108].
ومما هو معروف تاريخياً أن جحافل الأمة الإسلامية انطلقت من المسجد كقاعدة للبناء الحضاري، حيث جاء الإسلام رحمة للعالمين، فخرج المسلمون الذين تربوا في جامعة المسجد يتوجهون إلى كافة أصقاع الأرض ينشرون تعاليم الدين الإسلامي، ومن هنا فلا يستطيع المرء أن يكون داعياً ناجحاً ومربياً كفوءاً وأن يواصل المسيرة إلى نهاية المطاف ما لم يكن من خريجي المساجد، لأنه للمسجد مزية خاصة لا تتوافر في أماكن أخرى.. لذلك فالمسجد ــ لكل هذه المزايا ــ يعد أول مؤسسة حضارية وجامعة علمية أقيمت في الدولة الإسلامية بعد الهجرة النبوية.. ويعتبر المسجد قلب المجتمع المسلم وشريان حياته الاجتماعية، وهو يعكس صورة المجتمع المسلم في كل عصر، ويحدد مستوى التلاحم والتضامن بين أبناء الأمة الإسلامية، فإذا وجدت المساجد تكتظ بالمصلين فكن على يقين بأن الأمة الإسلامية هي قاب قوسين أو أدنى من النصر والتمكين، وإن أصبحت المساجد مهجورة ووجدت عند المسلمين فتوراً وبرودة فاعلم أن الهزيمة ستقع لا محالة؛ إن لم تتدارك الأمة أمرها قبل فوات الأوان. وقد تنبه اليهود إلى دور المسجد وأهميته حتى أنهم قالوا: إذا اكتظت المساجد بالمسلمين لصلاة الفجر كصلاة الجمعة، فعندها يأتي نصرهم وتأتي هزيمتنا.
ومما يبين أهمية دور المسجد؛ الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (من سره أن يلقى الله تعالى غدا مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادَى (يستند على غيره لشدة ضعفه) بين الرجلين حتى يقام في الصف).
وقد ورد عن الرسول (عليه الصلاة والسلام) في تنظيم الصفوف بالمساجد من توكيد وتشديد، فتأمل في هذا الحديث: "أقيموا الصفوفَ، وحاذُوا بين المناكب، وسُدُّوا الخَلَل، ولِينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فُرُجات للشيطان، ومَن وصل صفًّا وصله الله، ومن قطعه قطعه الله".
ويذكرنا الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما بثمار ذلك فيقول: من أدام الاختلاف إلى المسجد أصاب ثماني خصال: آية محكمة وأخا مستفادا وعلما مستطرفا ورحمة منتظرة وكلمة تدله على هدى أو تردعه عن ردى وترك الذنوب حياء أو خشية.
ويؤكد (الشيخ مصطفى ملص) على مكانة المسجد ودوره وأهميته في حياة الجماعة المؤمنة، قائلاً: إن [المسجد الذي أدت تطورات الخلافات والصراع السياسي بين أجنحة وفرقاء المجتمع الإسلامي السياسي إلى تحويله من أهم مؤسسة دينية ذات أبعاد اجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية إلى مؤسسة خاصة ببعض الشعائر والعبادات. فبعدما كانت المساجد بيوتاً للَّه صارت بيوتاً للصلاة، تفتح في أوقات الصلوات الخمس ويوم الجمعة، وتغلق أبوابها لدى انتهاء الناس من تأدية فرائضهم. وهناك فرق شاسع بين أن يكون الجامع بيتاً للَّه وأن يكون بيتاً للصلاة.. أن يكون المسجد بيتاً للَّه تعالى معناه أن يقوم بكل وظائفه، أما أن يكون بيتاً للصلاة فقط فهذا يعني أن المجتمع المسلم قد فقد أهم ركيزة من ركائز بنيانه الأساسية، ودعامة ترابطه الاجتماعي والإيماني]