المنظمة العربية للتربية
والثقافة والعلوم
المشــــكاة
رؤية مستقبلية للتعليم فى الوطن العربى
الوثيقة الرئيسية
د. نادر فرجانى
مدير مركز "المشكاة" للبحث، مصر (الموقع على الإنترنت:
www.almishkat.org)
يونيو/حزيران 1998
"هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون"
سورة الزمر- آية 9
"ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم"
حديث شريف
"العلم إنما هو صورة المعلوم فى نفس العالم، وضده الجهل فهو عدم تلك الصورة من النفس. واعلم بأن أنفس العلماء علامة بالفعل، وأنفس المتعلمين علامة بالقوة، وأن التعلم والتعليم ليسا شيئاً سوى إخراج ما فى القوة، يعنى الإمكان إلى الفعل، يعنى الوجود، فإذا نسب ذلك إلى العالم سمى تعليماً، وإن نسب إلى المتعلم سمى تعلماً"
اخوان الصفا
"التربية ليست "حمل المتعلمين على حفظ فروع العلم"، بل هى "إثبات ملكة العلم فى نفوس المتعلمين""
ابن خلدون
تصدير
تضم هذه الوثيقة "رؤية مستقبلية" للتعليم فى الوطن العربى تبلورت عبر مراحل عدة، وأنضجت من خلال نقاش مستفيض وعميق.
فى البداية، كلفت المنظمة د. نادر فرجانى بإعداد ورقة "نحو رؤية مستقبلية للتعليم قبـل الجامعى فى الوطن العربى". ونوقشت هذه الورقة فى اجتماع خبراء عقد فى تونس (يوليو/تموز 1997) ثم نقحت بناء على مناقشات الاجتماع.
وفى اجتماع الخبراء نفسه، رؤى أن يرتكز إعداد رؤية مستقبلية للتعليم فى الوطن العربى، معرفياً، بالإضافة إلى الورقة الأساسية، على محورين:
استطلاع آراء وزارات التعـليم والتربية والمعارف العربية فى واقع التعليم وبدائل مستقبله، بالتركيز على المشكلات التى تعترض نشر التعليم راقى النوعية، وسبل مواجهتها.
مجموعة من أوراق العمل الخلفية فى مجالات مختلفة من منظومة التعليم وعلاقاتها بالسياق الاجتماعى والاقتصادى، من قبل خبراء بارزين من بلدان عربية مختلفة، ومن مناظير معرفية متنوعة، على أن تتضمن الأوراق رؤى ثاقبة تركّز على واقع الأقطار العربية، وتقدم دليلاً للعمل المستقبلى.
وسمحت الإمكانات المتاحة بتكليف خبراء لإنجاز غالبية أوراق العمل التى كانت مقترحة. وقد أتيحت ورقة "نحو رؤية مستقبلية للتعليم قبل الجامعى فى الوطن العربى" لمعدى أوراق العمل الخلفية، حتى يمكن توافر إطار مرجعى عام لأوراق العمل المعدة، وضمان حد أدنى من الاتساق بين محتواها. كما طلب من واضعى الأوراق الاستفادة من جهود المنظمة، وغيرها، فى الموضوعات المطلوبة.
وقد أنجزت، نهاية، أوراق العمل الخلفية التالية:
"المحتوى الإنسانى والحضارى والاجتماعى للتعليم"، د. محمد جواد رضا، العراق؛
"رؤية للعالم فى القرن الحادى والعشرين ودور العرب فيه"، د. محمد محمود الإمام، مصر؛
"السياسات المستقبلية للتعليم فى ضوء الخبرات العربية والدولية"، د. عبد الله عبد الدايم، سوريا؛
"تربية المعلمين: مدخل للإصلاح"، د. محيى الدين توق، الأردن؛
"الاستخدام الناجع لتقانات التعليم الحديثة"، د. معين جملان، البحرين؛
"التعليم قبل المدرسى"، د. عائشة بلعربى، المغرب؛
"خصوصية ذوى الاحتياجات الخاصة"، د. بدر عمر العمر، الكويت؛
"تحسين التعليم المهنى والفنى"، د. محمد بن شحات الخطيب، السعودية؛
"نمط المدرسة العربية المتوافق مع ترقية رأس المال البشرى"، د. وهيبة غالب فارع، اليمن؛
"التغييرات المطلوبة فى النسق الاقتصادى والاجتماعى-السياسى"، د. الواثق كمير، السودان.
كذلك أعد مركز "المشكاة" للبحث، القاهرة، ثلاثة تقارير إحصائية تحليلية مقارنة. ينصب الأول على مؤشرات الالتحاق بالتعليم والإنفاق عليه فى البلدان العربية مجتمعة بالمقارنة بتجمعات دول أخرى فى العالم، ويتناول الآخران التفاوت بين البلدان العربية فى الالتحاق بالتعليم، وفى الإنفاق على التعليم.
ووصلت للمنظمة تقارير قطرية من سوريا وتونس وقطر وعمان وفلسطين (ومن الكويت نسخة من وثيقة "مدخل إلى استراتيجية مستقبلية أولية لتطوير التربية فى دولة الكويت حتى عام 2025م").
وبالإضافة إلى تعميق البعد المعرفى للرؤية المستقبلية، فإن الورقة الأساسية، ومجموعة أوراق العمل الخلفية، والتقارير الإحصائية، والتقارير القطرية، تشكل منتجاً مهماً فى حد ذاتها باعتبارها مراجعة واسعة لأوضاع التعليم فى البلدان العربية لم تتوافر منذ قامت المنظمة بجهد مماثل، فى التسعينيات الأولى.
وقام على تركيب حصيلة الأوراق والتقارير فى صياغة أولى فريق عمل يضم: د. حامد عمار، د. نبيل نوفل، ود. نادر فرجانى (منسق الفريق).
ثم طرحت صياغة أولى للمناقشة فى اجتماع شارك فيه ممثلون للدول العربية وخبراء فى مسقط (مايو/أيار 1998).
وتضم الوثيقة الحالية تنقيح الصياغة الأولى بناء على حصيلة مناقشات اجتماع الخبراء.
المحتويات
تمهيد
أولاً: المحتوى الإنسانى للتربية
ثانياً: السياق العالمى والإقليمى للتربية
ثالثاً: أهم دروس التجربة العالمية فى تطوير التعليم
رابعاً: التوجهات الاستراتيجية
خامساً: سياسات نشر التعليم وتجويده
سادساً: مجالات نشر التعليم وتجويده
تقانات التعليم الحديثة
تعليم الكبار
التعليم قبل المدرسي
ذوو الاحتياجات الخاصة (بالتركيز على المتفوقين)
التعليم الفنى والمهنى
تكوين المعلمين
المدرسة والمجتمع
التعليم العالى
سابعاً: فى الحاجة وإمكان الإنفاذ
تمهيد
لقد حققت البلدان العربية إنجازات كبيرة فى ميدان التعليم، خاصة منذ أواسط هذا القرن، إلا أن الإنجاز التعليمى فى عموم الوطن العربى، حتى بالمعايير التقليدية، مازال متخلفاً بالمقارنة بباقى العالم، وفى بعض الأحوال حتى بالنسبة للبلدان النامية.
بداية، انتشر التعليم بين النشء، على حين صمدت الأمية أمام محاولات القضاء عليها، فظل مستوى التحصيل التعليمى الإجمالى منخفضاً بوجه عام بين السكان البالغين فى البلدان العربية. ولا ريب فى أن البلدان العربية قد حققت تقدماً واضحاً فى مكافحة الأمية، إذ يقدر أن انخفضت نسبة الأميين بين البالغين من قرابة 60% فى عام 1980 إلى حوالى 43% فى منتصف التسعينيات . لكن يرد على هذا الإنجاز تحفظان مهمان: الأول، أن معدلات الأمية فى الوطن العربى مازالت أعلى من متوسط العالم، وحتى من متوسط البلدان النامية. والثانى، أن عدد الأميين ما فتئ يتزايد، حتى أن البلدان العربية تدخل القرن الواحد والعشرين مثقلة بحوالى سبعين مليون أمياً، غالبيتهم من النساء.
وحيث يطرد تأكيد البحوث العلمية حديثاً على الأهمية القصوى لسنوات الطفولة المبكرة فى تشكيل العقل البشرى وتحديد مدى إمكاناته المستقبلية، استقرت ضرورة التركيز على التعليم قبل المستوى الأول. ولكن هذا ميدان آخر تتخلف فيه البلدان العربية عن متوسط البلدان النامية.
فبينما تضاعف عدد الأطفال الملتحقين بالتعليم قبل المستوى الأول فى البلدان العربية بين عامى 1980 و1995، لم يتعدَّ العدد مليونين ونصف المليون فى السنة الأخيرة، بما يوازى نسبة استيعاب أقل من متوسط البلدان النامية. غير أن الأسوأ من هذا القصور هو انخفاض نصيب البلدان العربية من جملة أطفال البلدان النامية الملتحقين بالتعليم قبل المستوى الأول عبر الفترة المعتبرة ( من 4.8% فى عام 1980 إلى 4.0% فى عام 1995). كذلك ما برحت نسبة البنات فى هذه المرحلة التعليمية، رغم تزايدها باطراد، تقل عن نظيرتها فى البلدان النامية (42% مقابل 47% فى عام 1995).
وتحكى بيانات الالتحاق بمستويات التعليم الثلاثة فى البلدان العربية قصة تطور كمى مطرد. فقد زاد عدد الملتحقين بمراحل التعليم الثلاث من 31 مليوناً فى عام 1980 إلى ما يقارب 56 مليوناً فى عام 1995. إلا أن المشاهدة الأهم هى تباطؤ التحسن فى نسب الاستيعاب فى التسعينيات، فى مستويات التعليم الثلاثة، عن معدل إنجاز الثمانينيات، خاصة فيما يتصل بالمستويين الثانى والثالث. كذلك يعيب التطور الكمى الكبير فى الالتحاق بالتعليم عامة فى البلدان العربية نقص نصيب البنات من الملتحقين، خاصة فى المستوى الثالث (العالى)، على الرغم من تزايده.
وهكذا تدل البيانات المتاحة، حكماً بنسب الالتحاق، على أن المستوى الأول من التعليم النظامى فى البلدان العربية قد قصر حتى الآن عن استيعاب الأفواج الجديدة من المواطنين العرب، مع تحيز واضح ضد الإناث، سواء قارنا بالبلدان النامية أو العالم ككل.
ورغم تفوق نسب الاستيعاب الإجمالية فى المستويين الثانى والثالث فى البلدان العربية (54%، 13%) عن البلدان النامية (49%، 9%) فى منتصف التسعينيات، إلا أنها تقصر بشدة عن المستوى السائد فى البلدان المصنعة (106%، 60%)، ويزداد القصور، مقارنة بالبلدان المصنعة، فى حالة البنات. ويتأكد هذا الاستخلاص من انخفاض نصيب المستويين الثانى والثالث من الملتحقين بالتعليم فى البلدان العربية بالمقارنة بالبلدان المصنعة، وبشكل واضح فى المرحلة الثالثة (6% فى البلدان العربية مقارنة بحوالى 20% فى البلدان المصنعة).
ويتعين أن تكون المقارنة بالبلدان المصنعة أساس المعيار الواجب تبنيه للأهداف المستقبلية للتعليم فى البلدان العربية. ويعنى ذلك أن يستمر سعى البلدان العربية لتوسيع نطاق الالتحاق بمراحل التعليم كافة، مع التركيز على التعليم قبل المستوى الأول والمستويات الأعلى- عماد المهارات المتقدمة. ولهذا التصور تبعات مهمة بالنسبة لتمويل التعليم لا يجب التنصل منها، كما تدعو بعض المنظمات الدولية، بتعلة الحاجة لإعادة توزيع الموارد المخصصة للتعليم لمصلحة التعليم الأساسى، على حساب المستويات الأعلى، تحقيقاً للعدالة الاجتماعية. فالمطلوب توفير موارد أكبر للتوسع فى جميع مستويات التعليم فى البلدان العربية، خاصة الأعلى منها.
والواقع أن هناك مؤشرات مزعجة على تدنى القيمة الحقيقية لمخصصات الإنفاق على التعليم فى البلدان العربية. لقد ارتفع الإنفاق على التعليم فى البلدان العربية، بالأسعار الجارية، من 18 بليون دولار فى 1980 إلى 28 بليوناً فى 1995. ولكن معدل الزيادة منذ عام 1985 كان أقل بكثير من الفترة (1980-1985). أما إذا أخذنا فى الاعتبار معدلات التضخم، وقد كانت شديدة الارتفاع فى كثير من البلدان العربية، لتبيَّن أن القيمة الحقيقية للإنفاق على التعليم فى البلدان العربية كان فى انخفاض منذ بداية الفترة المدروسة.
صحيح أنه حسب المؤشر، المنقوص، الذى يستخدم عادة فى المقارنات الدولية، أى نسبة الإنفاق على التعليم إلى الناتج الإجمالى، يظهر أن البلدان العربية تتفوق على مجموعتى البلدان النامية والمصنعة على حد سواء. ولكن حتى على هذا المؤشر يتبين أن نصيب الإنفاق على التعليم من الناتج فى البلدان العربية ارتفع بدرجة ملحوظة بين عامى 1980 و 1985، على حين كان أدنى فى عام 1995 منه فى عام 1985، على عكس الحال فى كلا البلدان النامية والبلدان المصنعة.
والأفضل من هذا المؤشر المعيب هو تتبع التغير فى نصيب الفرد من الإنفاق على التعليم. بالأسعار الجارية، نجد تحسناً بين عامى 1980 و 1985، ثم تدهور. فقد انخفض نصيب الفرد فى البلدان العربية، بالأسعار الجارية، فى النصف الثانى من الثمانينيات، مقابل تحسن واضح فى المجموعتين الأخرتين، خاصة البلدان المصنعة، وهى لم تكن مقلة فى الإنفاق على التعليم أصلاً. ورغم تفوق البلدان العربية على البلدان النامية على هذا المعيار، فإن هذه الميزة النسبية تدهورت منذ منتصف الثمانينيات. أما بالمقارنة بالبلدان المصنعة، فقد تردى نصيب الفرد من الإنفاق على التعليم فى البلدان العربية من حوالى الخُمس فى عام 1980 إلى العُشر فى منتصف التسعينيات.
أما إذا أدخلنا فى الاعتبار معدلات التضخم، لتبين لنا التدهور البالغ فى نصيب الفرد من الإنفاق على التعليم فى البلدان العربية عبر الفترة المدروسة كلها، خاصة فى النصف الثانى من الثمانينيات (إذا كان معدل التضخم يساوى 10% سنوياً، وهذا تقدير مقلل فى حالة البلدان العربية، لاقتضت المحافظة على نصيب الفرد، باستبعاد تأثير التضخم، أن يزداد بحوالى 60% كل خمس سنوات).
والأهم من ذلك أن الفئات الاجتماعية الأضعف، مثل النساء والفقراء، تعانى معدلات أمية أعلى نسبياً، خاصة فى المناطق الريفية. وتعانى البنات والمناطق الفقيرة، خاصة فى الريف، حرماناً أشد من التعليم، يتصاعد فى المراحل التعليمية الأعلى. وبعبارة أخرى، تتبع التفاوتات فى الالتحاق بالتعليم الأساسى، حسب النوع والمستوى الاجتماعى ومناطق البلاد، نمط التفاوتات فى الأمية نفسه. وهكذا تؤدى التفاوتات فى الالتحاق بالتعليم الأساسى إلى تفاقم التفاوت فى رصيد التحصيل التعليمى حسب النوع والمستوى الاجتماعى.
ويتعين الانتباه إلى أن التغيرات فى البيئة الاقتصادية الكلية فى سياق إعادة الهيكلة الرأسمالية التى بدأت فى البلدان العربية، بدرجات وأشكال متباينة، منذ منتصف السبعينيات (ضغط الإنفاق الحكومى، والتضخم، وانتشار الفقر، والعودة إلى فرض الرسوم فى التعليم تحت عباءة "استعادة التكلفة"، ...) قد اقترنت بآثار سالبة على تراكم رأس المال البشرى من خلال الالتحاق بالتعليم. وقد دفع الفقراء، والنساء والبنات، ثمناً أبهظ من المتوسط لهذه التغيرات.
وتتكاثر الشواهد على تدهور الكفاءة الداخلية للتعليم فى البلدان العربية، كما تتبدى فى ارتفاع نسب الرسوب والإعادة، الأمر الذى يؤدى إلى طول بقاء الطلبة فى المراحل الدراسية.
إلا أن نوعية التعليم هى المشكلة الأخطر. ورغم قلة الدراسات المضبوطة، تعم الشكوى من تردى نوعية التعليم فى البلدان العربية، وتؤكد الدراسات القليلة المتاحة غلبة سمات ثلاث أساسية على ناتج التعليم فى البلدان العربية: تدنى التحصيل المعرفى وضعف القدرات التحليلية والابتكارية، واطراد التدهور فيها.
ويقوم كذلك خلل جوهرى بين سوق العمل ومستوى التنمية، من ناحية، وبين ناتج التعليم من ناحية أخرى، ينعكس على ضعف إنتاجية العمالة، ووهن العائد الاقتصادى والاجتماعى على التعليم فى البلدان العربية. وليس أدل على ذلك من تفشى البطالة بين المتعلمين، وتدهور الأجور الحقيقية للغالبية العظمى منهم.
ويترتب على هذه السمات قيام مشكل مزدوج على المستويين الفردى والجماعى: فالتعليم، بشكله الحالى فى البلدان العربية، لم يعد مدخل الفقراء للصعود الاجتماعى، أو حتى للوفاء بالحاجات الأساسية، على حين يبقى تعليماً أرقى هو السبيل الوحيد لنهضة البلاد.
ويؤدى النظر فيما ينطوى عليه استمرار الاتجاهات الحالية فى المعالم الرئيسية للتعليم التى تطرقنا لها أعلاه، على صورة امتداد خطى، إلى نتائج-كوارث يجب أن تحمل العرب على التحرك الجاد دون إبطاء أطول.
فلا يُتوقع أن يمكن القضاء على الأمية، الهجائية فحسب، بين الرجال فى البلدان العربية قبل انقضاء ربع القرن القادم. وبالنسبة للنساء فسيكون علينا الانتظار حتى ما بعد عام 2040.
ويُتوقع أن تتمكن البلدان العربية من نوال مستوى الالتحاق بالمستويات الثلاثة للتعليم الذى ساد فى البلدان المتقدمة فى منتصف التسعينيات، ولكن ليس قبل حلول عام 2030.
وإذا اقتصرنا على المستوى الثالث من التعليم، فعلى البلدان العربية أن تنتظر حتى مرور مائة وخمسين عاماً من القرن الثانى (نعم، الثانى!) والعشرين لتنال مستوى الالتحاق الذى ساد فى البلدان المتقدمة فى منتصف التسعينيات).
أما إذا ابتغينا النظر فى مغزى اطراد تردى نوعية التعليم فى البلدان العربية، أو سوء خدمة التعليم لأغراض التنمية بوجه عام، لتعدى الأمر منظور التعليم، والتنمية، إلى صعيد البقاء، الكريم، فى هذا العالم.
وهكذا يظهر أن بلدان الوطن العربى، رغم إنجازاتها الواضحة، مازالت عاجزة عن تقديم الحد الكافى من التعليم لأجيالها القادمة. ويتردى الإنفاق على التعليم فيها لدرجة تنذر بالخطر. وليس من قبيل المبالغة القول بأن النوعية المتدنية قد أمست أخطر مساوئ التعليم فى الوطن العربى، الأمر الذى يلقى ظلالاً قاتمة على الإنجاز الكمى للتعليم. إن كل ذلك يكاد ينبئ بكارثة مستقبلية فى القرن الواحد والعشرين، قرن تسارع المعارف والقدرات البشرية المتطورة، إن استمرت الأوضاع الراهنة فى مضمار التعليم فى البلدان العربية.
وعليه يمكن القول بأن أبرز سمات أزمة التعليم فى البلدان العربية عجزه عن الوفاء بمقتضيات تطوير المجتمعات العربية، خاصة فى العصر الذى نعيش قرب مطلع القرن الواحد والعشرين. الأمر الذى يكاد يكرس قطيعة عن مجرى التحول الهائل الذى يمر به العالم، وصولاً لعالم المعرفة والمعلومات والتقانة الواحد، الذى هو فى الوقت نفسه عاصف بمقدرات البلدان العربية.
لقد استقر أن صلب هذا العالم الآتى هو محور التعليم-التعلم المستمر، ودائب الترقى، على مستوى الأفراد، وربما أهم، على صعيد المجتمعات التى سيمكن لها أن تشارك فى العالم الجديد من موقع الاقتدار، والتى أضحت توسم "مجتمعات التعلم". ومن هنا ينبع الاهتمام الفائق بالتربية عامة، وبالتعليم خاصة، من حيث هما عماد تمكين البشر من الإمساك بناصية التعلم مدى الحياة. فهل من سبيل لنقلة جسور فى التعليم فى البلدان العربية؟
تضم هذه الوثيقة "رؤية مستقبلية" للتعليم فى الوطن العربى تستهدف تمكين الوطن العربى من بناء "مجتمعات التعلم" فى أمصاره من خلال إعادة نظر جذرية فى نسق التعليم فى البلدان العربية.
والافتراض الجوهرى للرؤية المقدمة أن التربية يمكن أن تكون قاطرة للتقدم. هى كذلك بالفعل فى المجتمعات المتقدمة. وأضحت كـذلك فى جميع البلدان التى نهضت فى العالم المعاصر. وتزداد أهميتها فى العالم الجديد الذى يتشكل الآن. والسبب بسيط. فالفعل يبدأ فى العقل، والتربية المؤدية لنهضة حق ترسى دعائم النقد والإبداع، وهذان هما أساس التغيير والتطوير. ولهذا يقوم متصاعد خير بين التربية والتقدم: التربية الجيدة تؤسس اطراد التقدم عبر النقد المستمر للواقع وتغييره، والمجتمعات الناهضة لا تألوا جهداً فى دعم التربية وصولاً لمعارج أرقى من التعليم-التعلم.
وفى هذا المنظـور وجب على العرب دوماً، كشأن الأمم الحية جميعاً، تسليط النظر الفاحص على أوضاع التربية والتعليم ومساهمتهما فى تقدم المجتمعات العربية، وصوغ التصورات المستقبلية لتجويدها وتعظيم مساهمتها فى رقى الأمة.
وخليق برؤية مستقبلية تتوخى نهضة الأمة أن يكون تناول الموضوع فيها "معيارياً"، بمعنى تناول ما يجب أن يكون خدمة للغاية النهائية المرتجاة.
وتتوفر "الرؤية" على تحديد، الوجهة العامة المرغوبة للتعليم فى البلدان العربية، فتركز على الخطوط العريضة دون الدخول فى تفاصيل الأهداف، أو المسارات، أو الآليات، أو الآفاق الزمنية، أو الإمكانات اللازمة. هذه أمور يأتى دورها فى أعمال ذات طابع تخطيطى تلى، منطقياً، تبنى رؤية مستقبلية.
وحيث ينطوى تلمس رؤية مستقبلية، ضرورة، على انتقاء للعناصر التـى تعتبر جوهرية فى بنية الموضوع المثار، أو ينتظر أن تلعب دوراً حاسماً فى صوغ تطوراته المستقبلية، فإن التناول فى الوثيقة أيضاً انتقائى.
ولاشك فى أن البلدان العربية تتفاوت بيِّناً فى الحجم وفى البنية الاجتماعية والاقتصادية، بما ينعكس على أوضاع التعليم فيها. وتقوم كذلك تفاوتات مهمة داخل البلدان العربية. غير أن التركيز يقع هنا على القسمات العامة والغالبة فى البلدان العربية مع التحفظ، مسبقاً، بقيام التنوع. وعلى كل بلد عربى أن يجد موقعه الملائم فى "الرؤية" المقدمة بما يتناسب مع أوضاعه وإمكاناته.
غير أن الرؤية المقدمة تنطلق من منظور قومى حاكم، فى النظر فى الواقع الراهن، وبوجه خاص، فى اقتراح العمل المستقبلى. وتنطوى "الرؤية"، كما سيظهر، على عدم كفاية الحلول القطرية الخالصة للنهوض بالتعليم فى مجمل البلدان العربية.
إن أية "رؤية مستقبلية" تنطلق من سبر الواقع فى مقطع زمنى معين، ومن تصور للمستقبل فى هذا الزمن. ومن ثم فإن متابعة التبصر بالمستقبل، والتدبر له، يقتضيان أن تراجع الرؤية دورياً، وكلما استجد ما يدعو إلى ذلك من أحداث جسام.
ولعل نضج رؤية مستقبلية رصينة يشحذ العزم على صوغ "استراتيجية" تكفل تحقق هذه الرؤية.
وإذا عُقدت النوايا، وعُبئت الإمكانات اللازمة، يصير ممكناً وضع "خطة" عربية كفيلة بإنفاذ هذه الاستراتيجية.
إن تطوير "رؤية مستقبلية للتعليم فى الوطن العربى" يمثل استجابة واجبة لتطورات اقتصادية واجتماعية وثقافية هائلة، وبالغة التسارع، على صعيد العالم والمنطقة. وتستدعى مسايرة هذه التطورات نقلة جوهرية فى نسق التعليم تقوم على التوسع والتجديد والتجويد باستمرار، حتى أصبح تطوير التعليم مجالاً للتنافس الدولى الحاد، باعتباره أحد أهم مكونات القدرة التنافسية الكلية لأى مجتمع فى عصر المعرفة والعولمة.
وتفرض هذه التطورات على العرب تحدياً ضخماً وجب أن ينهضوا لمجابهته بما هم أهل له. وعلى قدر هذه المجابهة سيتعين حظ العرب فى العزة والمنعة فى الزمان الآتى.
ولابد من إشارة إلى أن هناك رؤية سائدة للتعليم فى البلدان العربية، فى سياق منظور للتطور الاجتماعى والاقتصادى يدور فى فلك النسق الرأسمالى الطليق الذى تتحول إليه البلدان العربية، فى خضم تحولات عالمية عاتية. والخشية أن هذه الرؤية السائدة تنطوى على مخاطر على التعليم، وعلى دوره الاجتماعى، وعلى وظيفته النهضوية، ومن ثم على مستقبل الأمة.
ولقد أزف الوقت لتخليق رؤية بديلة.
فالرسالة الأساسية التى تنجلى عنها نظرة مدققة لأوضاع رأس المال البشرى عامة، والتعليم خاصة، ومساهمتهما فى تطوير المجتمعات العربية قرب نهاية القرن العشرين، هى شعور بالخطر شديد يستوجب الانتباه اليقظ، والفعل المبادر والحاسم.
وقد يبدو هذا الاستخلاص مدعاة للدهشة حيث يسود انطباع بالرضى عن أحوال التعليم فى البلدان العربية. ويعود الرضى، الخادع، إلى التركيز على التعليم بين الصغار، حيث وقع تقدم كمى كبير فى العقود الثلاثة الأخيرة. غير أنه قد اتضح أعلاه استمرار عبء للأمية ثقيل من ناحية، وتدنى الالتحاق بمراحل التعليم الأعلى من ناحية ثانية، وإهمال مسألة النوعية، فى ناتج التعليم، التى تتعاظم الدلائل، غير المباشرة، على تدنيها، من ناحية ثالثة. وفى هذه النقائص الثلاث، خاصة الأخيرة، ما نعتبره مقتل التعليم، ودوره النهضوى، فى البلدان العربية فى المرحلة الراهنة من تطورها.
ومن ثم، يمثل نشر التعليم، خاصة فى مراحله الأعلى، ورفع نوعية التعليم فى الوطن العربى التحدى الأكبر لتكوين رأس المال البشرى الواسع وراقى النوعية، وهو بوابة العبور إلى التقدم فى القرن الواحد والعشرين.
وكى يقدّر لرؤية مستقبلية فرصة معقولة للتوصل إلى غاياتها، يجب أن تحقق توازناً دقيقاً بين واقعية المنطلق وتجاوز الراهن. إذ تتوقف فاعلية الإنجاز المحتمل، بين عوامل أخرى، على مدى التجاسر على تجاوز سمات الوضع الراهن التى أنتجت الواقع الذى تسعى الرؤية لتغييره. فالواقعية، وإن كانت أمراً محموداً فى تحديد نقطة الانطلاق، وشرطاً لازماً فى تصور الوسائل، قد تكون مجرد غطاء لتكريس الواقع القائم إن اقتصرت الوسائل على ممكنات الوضع الابتدائى.
إن الجسارة منطلق التجاوز، والتربية العربية أمست تشكو الحاجة لنقلة جسور.
أولاً: المحتوى الإنسانى للتربية
لقد ساهمت التربية العربية فى عزل الأمة عن روح حضارة العصر- وإن تمتع البعض بأحدث المنتجات المادية للحضارة الغربية، وفى تشويه نظم التفكير عند الأجيال التى تعاقبت منذ الحرب العالمية الأولى. ولم تخضع التربية لتقويم جذرى حتى غدت الممارسة التربوية نفسها نوعاً من السلفية الاجتماعية. وظلت هذه التربية غارقة فى تسييس ذى طبيعة قهرية وماضوية. وكان- بالتبعية- طبيعياً ألاّ يكون فى هذه التربية مكان ذو معنى للديمقراطية أو لفكرة التقدم، ولا لإنسانية المتعلم نفسه: قدراته وطاقاته وحريته وفرديته وحقوقه الإنسانية.
لقد كان القرن العشرون عصر العلم أو عصر التحليل، وسيكون القرن الحادى والعشرون عصر الإنسان، عصر ما بعد الثورة الصناعية.
ولن يمكن الإفلات من "ماضوية التربية" و "السلفية الاجتماعية" المتولدة منها إلا بالتحول إلى نمط ثقافى يكون "محوره" الإنسان، ومنه- كقيمة عليا- يشتق رؤاه وتطبيقاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية.
منطلقات معيارية
تتلاحم ست مقولات معيارية تكوّن- مجتمعةً- أساساً لبنيوية تربوية جديدة فى الوطن العربى تلحق الأمة العربية بالقرن الحادى والعشرين.
مركزية الفرد فى العملية التربوية. غير أن هذا لا يعنى قلة الاهتمام بالجماعة أو غياب السلوك التعاونى. فالحرية هى الأساس فى السلوك التعاونى، وهذا هو جوهر الديمقراطية فى العصر الحديث. إن "الفردية" المقصودة ليست فردية الاستحواذ والتكاثر. إنها فلسفة أخلاقية يرتضى بموجبها الفرد التضحية من أجل الآخرين فى قضية أو موقف ذى مضمون أخلاقى. ولكى يكون الفرد قادراً على هذا، لابد من أن يُعَّد لذلك ويربى عليه.
ويتفرع عن ذلك اعتماد فلسفة تربوية تقوم أساساً على احترام الكرامة الإنسانية للفرد. على أن مفهوم الكرامة الإنسانية هو بالضرورة مفهوم دقيق جداً، ولابد من توافر جملة شروط أخلاقية واجتماعية لازمة لتحديد معناه تحديداً علمياً، تحديداً يجعل من الإنسان قيمة مركزية تُسخَّر المؤسسات الاجتماعية المختلفة فى كل ما يؤدى إلى ضمان حقوقه فى الأمن والحرية والحماية من الحاجة والاستمتاع بكل جميل فى الحياة. فاحترام الحقوق هو المقابل الموضوعى لاستدعاء الفرد للقيام بالواجبات، عن طيب خاطر، بما يحقق مصالح الجماعة.
دون المساس بالعقائد والقيم العليا، ليس هنالك ثوابت فى الواقع الاجتماعى للإنسان، كل شئ يتحرك، وهو يتحرك فى أنساق مركبة وتتوسع باطراد. الأمر الذى يوجب التقليل من الاعتقاد بعصمة المواريث الفكرية والاجتماعية من الخطأ أو القصور إذا ما أثبت التحليل العلمى ذلك. ويعنى ذلك نَظْم طرق التعليم والمناهج بصورة تؤدى إلى نشأة الأجيال الجديدة وهى مقتدرة على التفكير بحرية ضمير- ومن دون شعور بالإثم- وبأكبر قدر من الحركية فى النظر إلى الذات، وإلى الأوضاع الإنسانية والاجتماعية، وإلى العالم المحيط بها. ويتفرع عن ذلك إعلاء قيمة الحوار، الذى يمكن أن ينتهى بالاختلاف الخلاق بدلاً من حتمية الاتفاق.
المعرفة الحديثة هى بذاتها قوة. فالثقافة اللفظية، والثقافة التاريخية العاطفية، لم تعد تجدى كثيراً فى التنافس الذى يشهده العالم الحديث. ويستدعى ذلك تربية الناشئة العربية على موقف عقلانى واضح من المشاكل الطبيعية والإنسانية، كما يجب تدريبها على المحاكمة العقلية والاعتراف بالحقائق المتوفرة، مادية كانت أم إنسانية، مداراً للتفكير فى مشاكل الحياة ومنفذاً إلى التماس الحلول لها. ويرتبط بذلك تربية القوة الناقدة عند الناس لكى يستطيعوا فى ضوئها، وبواسطتها، أن يفكروا فى بنى اجتماعية أفضل من تلك التى يحيون فى ظلها الآن.
إن التقدم الهائل الذى يتميز به العصر الحديث إنما جعله ممكناً جرأة الإنسان الخلاقة فى تحدى القيود الطبيعة والأوضاع البشرية غير المواتية لتقدم الإنسان. ولهذا لا بديل عن إثارة روح التحدى فى الإنسان العربى، وبناء قدرته على صنع مصيره من خلال الاستجابة الخلاقة لمحيطه الطبيعى والبشرى.
إن التقانة الحديثة جعلت من الفقر أمراً غير ضرورى. ولا ينجم الفقر فى المجتمعات العربية عن نقص فى الثروات، قدر ما ينتج عن ضعف استثمار هذه الثروات. وتجمع النظريات التربوية الاقتصادية المعاصرة على أن القيمة الحقيقية لأى شئ تكمن فى العمل الإنسانى المبدع. لذا يتعين أن نعيد النظر فى بناء التعليم فى الوطن العربى بشكل يؤكد كرامة العمل والإنتاج، ومعرفة قيمته الحقيقية، وترغيب الشباب فى العلوم التطبيقية والممارسة العملية.
يتمثل النبل الحضارى فى كفاح الإنسان للارتفاع بنفسه إلى مستويات أفضل من المعرفة. وينطوى هذا على أن المناهج والكتب وطرائق التعليم ومدى الإنجاز التعليمى فى البلدان العربية يجب أن تظل عرضة للمحاكمة والمراجعة والمقارنة باستمرار مع الأمم الأخرى المتقدمة.
أخلاقيات تربوية جديدة
إن الصعود إلى هذا الأفق الأرحب، يتطلب من المؤسسة التربوية العربية الالتزام بأخلاقيات مهنية ومجتمعية جديدة تكون ضابطاً لعملها وناضحاً لها بمضمون تربوى جديد.
المساواة التربوية
لقد قامت التربية العربية على التسليم بإمكانية تصنيف الأطفال إلى من هم "مؤهلون للتربية" ومن هم "مؤهلون للتدريب" على عمل من الأعمال أو حرفة من الحرف ولكنهم ليسوا أكفاء للتربية على واجبات المواطنة والاستمتاع بمعطيات العقل والروح، هذه المعطيات التى تمثل شروطاً للحياة الإنسانية الكاملة.
إن هذه المفاهيم يجب أن تختفى من الفكر والممارسة التربوية إذا ما أردنا صدقاً أن نضع حداً للعدوان على حق الأطفال فى نمو عقلى، ونمو اجتماعى متناظر، يؤهلهم لحياة سوية ومسؤولة. إن جميع الأطفال يولدون مؤهلين لتربية كاملة وليس لمجرد التدريب على حرفة من الحرف.
والمجتمع الفاضل يجب أن يوفر لكل أطفاله فرصاً تعليمية متكافئة، دون أن يعنى ذلك إعطائهم كلهم نفس الكمية من التعليم ولا نفس العدد من السنين المدرسية.
وتستدعى النخبوية المتزايدة للتعليم، خاصة فى المراحل الأعلى، فى البلدان العربية، إيلاء عناية خاصة لتمكين أبناء الفئات الأضعف اجتماعياً، خاصة البنات، من الالتحاق بمراحل التعليم المختلفة بما يتناسب مع قدراتهم، وليس بما تحكم به إمكانات أهلهم، المالية أو الاجتماعية. ويقتضى الأمر نوعاً من التمييز الإيجابى لهذه الفئات من أبناء العرب شاملاً منح الالتحاق، وتوفير التغذية السليمة- خاصة فى المراحل الأولى من التعليم- والرعاية الصحية.
ويجب أن تبدأ ممارسة المساواة التربوية قبل مجىء الطفل إلى المدرسة الابتدائية، بمعنى أنه يجب النظر إلى التعليم قبل المدرسى- فى رياض الأطفال على الأقل- على أنه جزء من نظام التعليم العام، وأنه يجب أن يقدم للطفل المحروم على النفقة العامة- حتى إذا استوفاه كان فى مستطاع المدرسة الابتدائية وما بعدها أن تزوده بتعليم متكافئ مع تعليم أقرانه الذين يأتون إليها من بيئات اجتماعية لا تعرف الحرمان من الخدمات التربوية المنظمة قبل المدرسة الابتدائية.
تكامل المقاصد التربوية
لابد من تأسيس حق المتعلم فى أن يُفهم ككيان إنسانى واحد، تستهدف التربية نموه الجسدى والوجدانى والاجتماعى والمعرفى، فى تكامل وانسجام. إذ تتفاعل الديناميكيات العضوية والنفسية والاجتماعية والتربوية كلها لتعطى الفرد شخصيته المتميزة وتجعله ما سيكون فى نهاية المطاف.
لقد كان من مفسدات التربية العربية حتى الآن إغفال الجانب المادى من وجوده واحتياجات نمائه. غير أن التأثيرات الاجتماعية تفعل فعلها فى كائن عضوى فقط، ويؤدى الاختلاف فى "البنية العضوية" بالضرورة إلى اختلاف فى ردود الفعل للمؤثرات الاجتماعية ولذا فإننا لا نفهم استجابة الفرد للمؤثرات الاجتماعية إلا إذا فهمناه على مستوى بنيته العضوية.
إن إغفال دور العامل العضوى طالما أدى إلى سوء فهم التعامل مع المتعلمين وظلمهم إذ جعل المعلمين والمعلمات يفسرون القصور التعليمى أو المسلكى عند الأطفال على أنه حال من التمرد أو عدم الانضباط يجب أن تقابل بالعقوبة بدل التفهم على حين أن الأطفال أبعد ما يكونون عن إرادة التمرد أو رفض الانضباط، بل هم فى كثير من الأحيان لا يعرفون معنى التمرد ولا رفض الانضباط، وهكذا يكون الجور عليهم مضاعفاً، الطبيعة تفسد نظام الأشياء فى وجودهم العضوى، والمدرسة تعاقبهم على فعل الطبيعة فيهم. وفى كلتا الحالتين هم يحرمون من حقهم المشروع فى توقع المعونة على فهم أنفسهم والتخلص من معوقات وجودهم السوى ومن وعى هذا الوجود الحر الذى هو وسيلتهم الوحيدة إلى تكاملهم إيجابياً مع مجتمعهم والظفر بدور فعال لهم فى حياة هذا المجتمع تكسبهم ما هم مؤهلون له طبيعة وشرعاً من احترام الذات والثقة بالنفس والقدرة على الفعل.
مضمون حضارى لتربية عربية مستقبلية
إن التربية يجب أن تساعد الأطفال والراشدين على تفهم أفضل لثقافتهم الخاصة، الماضى منها والحاضر، ولكن فى نطاق مجتمع عالمى يعتبر فيه انفتاح الثقافات الخاصة على بعضها، وحوارها مع بعضها، وإيجابية تعاملها مع غيرها، هو الوسيلة الوحيدة لازدهار أى منها.
فى عصر الإبداع الذى ستولد فيه الأجيال العربية الجديدة سيكون من الذنوب المدمرة الإصرار على التمسك بتربية هذه الأجيال على "التوافق القسرى" مع مواريث بالية فى الزمن الجديد لأن هذا التمسك سيجردها من قدرة "الإبداع" ويعيدها إلى دائرة "الاتباع" المعوِّقة.
لقد آن الأوان للخروج بالتربية من "ماضويتها" إلى "مستقبلية" منعشة تعيد رسم علاقة العرب المحدثين بالتاريخ، والتاريخ العربى على وجه التحديد. فقد قامت هذه العلاقة على سحب الماضى على الحاضر، وتحكيم الماضى فى مسيرة الحاضر تحكيماً يبلغ حد إجهاض إمكانات التقدم فى الأمة وأفرادها. ويعود ذلك لأنها رجحت كفة "الثابت" على كفة "المتحول" من مقومات الحياة المعاصرة، واحتسبت العرب أسرى أمراض تاريخية لم يكن لهما يد فى صنعها ولم يعد لهم- على وجه التأكيد- نفع فى دوامها.
لقد بات لازماً القضاء على أحادية الرؤية فى تفسير الأحداث والدوافع الإنسانية الكامنة ورائها. فالسلوك الاجتماعى العربى يتميز بدرجة عالية من الحدّية. فالأشياء إما خطأ وإما صواب، ولا مكان لمنزلة بين المنزلتين. والمواقف من هذه الأشياء إما الرفض وإما القبول، مع تجاهل احتمالات التعامل المرن والتسليم للزمن بحقه فى توضيح الرؤية أو تنضيج الحلول. وفى كل الأحوال لا مكان لحسن النية وكرامة الاجتهاد عندما يكون التعامل مع الآخرين من موقف الاختلاف فى الرأى والتباين فى تقدير الظروف.
على وجه الخصوص، لقد بُنى التعامل مع التاريخ- دراسة وتدريساً- على مبدئية "السبب الواحد" فى وقوع أحداث التاريخ ونظام سياقها وغالباً ما كان "السبب" فى ذلك "فرداً". إن خطر هذا النمط من تدريس التاريخ يتجاوز النمط فى ذاته إلى إفرازه فى عقول الناشئة إذ إنها ستتعلم أن تنحو النحو ذاته فى تفسير الأشياء وسلوك الآخرين وكيفية التعامل معهم، هذه الكيفية المنبثقة من مبدأ "البعد الواحد" والعجز عن رؤية الأبعاد الأخرى.
لذا تقوم حاجة لتطوير تدريس التاريخ بحيث يزوّد الناشئة بنظام جديد فى التفكير يستبعد وحدانية السبب فى وقوع الحدث التاريخى، ومن ثم ينسحب على السلوك العام للفرد أو الجماعة فيبتعد به عن "البعد الواحد" فى الرؤية الاجتماعية، وبهذا نقرّب هذه الناشئة من جوهر الطريقة العلمية، خاصة فى تنظيم العلاقات الاجتماعية.
ومن جانب آخر، من أجل أن لا نكرر خطيئة الحياة على هامش التاريخ، لابد أن تشتق غايات العمل التربوى من الرؤى الكونية لتربية القرن الحادى والعشرين. فيجب أن تصل التربية العرب بالعصر الذى سيعيشون فيه، وهو عصر محكوم بمبادئ علمية، مثل مبدأ "النظام" ومبدأ "الطريقة" السليمة التى تؤدى إلى فهم سياقات السبب والنتيجة فى تحليل وقوع الظواهر الطبيعية والاجتماعية. لقد أدى التسليم بوجود "النظام" و "الطريقة"- فى العالم الصناعى- إلى أن يمتلك الإنسان زمام نفسه ويتعلم كيف "يتقدم"، لا نظرياً وحسب بل وأخلاقياً وعملياً أيضاً، فى شؤون الحياة كلها.
وستكون مهمة التربية فى القرن القادم تهيئة الأفراد لتحقيق طاقاتهم الداخلية، والسعى من أجل دور نافع لهم فى المجتمع. إن التربية يجب أن تقود الناشئة إلى التطلع إلى مستقبل يكتنفه عدم التأكد، وتكون وظيفة التربية فى عملية التطلع هذه مساعدة الناشئة على اكتساب المرونة لمواجهة هذا المستقبل، وفى الوقت ذاته المساعدة فى عملية تشكيله.
على وجه التحديد، يتعين تجديد فهم ما يتوقع من التربية أن تنشئ الأفراد عليه من مفاهيم ونظم تفكير وخبرات ومهارات تمكنهم كذوات فردية، وكأعضاء فى كيانات اجتماعية، من منافسة الأمم الأخرى فى ميادين الاقتصاد والتحليل الرمزى اللذين هما نداء المعركة الحضارية فى القرن القادم. إن ما يحتاجه الفرد العربى للصمود والتفوق فى حومة "العولمة" هو القدرة على التفكير السليم وحل المشاكل والإبداع فى مواجهة ظروف الحياة الجديدة، وستكون عدَّته إلى ذلك رصيد ضخم من المفردات اللغوية، المرمّزة وغير المرمّزة، وفهم عميق للوضع الإنسانى فى الكون المحيط.
بداية، لابد من توافر كفايات أساسية يجب أن يحققها التعليم فى الأطفال، هى كفايات الضرورة الوظيفية للعيش فى العالم المعقد الذى صاروا يولدون فيه. الأمر الذى يوجب اكتساب الأطفال- كل الأطفال- للعُدد التربوية التالية: حيازة اللغة المنظمة، نمو القدرات العقلية، وتوسعة فهم الفرد للعالم المحيط به.
ويتطلب ذلك تطوير المهارات الآتية: الكفاية فى استعمال اللغة القومية ومهاراتها المتنوعة مثل القراءة والكتابة والكلام والإصغاء والملاحظة مع تأهيلهم لامتلاك لغة عالمية أخرى. والتمكن من العمليات العلمية الأساسية كالقياس والتخمين والتقدير والعمليات التفاضلية. والتمرين على استعمال المبتكرات الرمزية مثل الحاسب الآلى والأدوات العلمية الأساسية وهى أدوات التحليل الرمزى.
إن النموذج المعيارى للتربية فى العصر الجديد هو "التحليل الرمزى" وستقاس قوة الأمم العلمية فى القرن القادم بعدد "المحللين الرمزيين" الذين تعدّهم وتفتح لهم هامشاً واسعاً من الحرية للإبداع والابتكار. إن الأمم التى ستمتلك أكبر عدد من هؤلاء المحللين الرمزيين هى الأمم التى ستكون أكثر فعلاً فى الوضع الاقتصادى العالمى الجديد وهى ستكون الأقدر على تحليل وتشخيص وحل ليس مشاكل الاقتصاد والإنتاج فقط، ولكن ستكون لها المعرفة والمعلومات اللازمة لتحليل المشاكل الاجتماعية والأوضاع العسكرية المحتملة أو المفاجئة، كما سيكون فى مقدورها بيع واستثمار خبرات وكفايات محلليها الرمزيين فى السوق الدولية لأغراض متنوعة. وتقوم تربية "المحلل الرمزى" على أربعة عناصر يتوجب على التربية استيعابها: التجريد، التفكير وفق منطق النسق، التجريب، والعمل المشترك.
ثانياً: السياق العالمى والإقليمى للتربية
إن تيارات جارفة فى العالم تضع العرب أمام تغيرات بعيدة المدى، تعيد تشكيل الحياة الإنسانية بمختلف أبعادها. وتضم الجوانب الجوهرية فى البيئة العالمية. أولاً، الثورة التقانية والمعرفية، التى تغير جوهرياً من معالم البنيان الاقتصادى وفنونه الإنتاجية وبنية الإنتاج- حيث تخلى القطاعات التقليدية السبيل أمام المعلوماتية والاتصالات والخدمات، وثانياً، عولمة العملية الإنتاجية. وتنطوى هذه التغيرات على تبعات اجتماعية وثقافية- وربما سياسية- واسعة وعميقة، من ناحية. وهى تحمل بوجه عام مخاطر محتملة على الوطن العربى يتعين التحسب لها، من ناحية أخرى. غير أن الاهتمام ينصب هنا على الانعكاسات المتوقعة على التربية فى البلدان العربية.
الثورة التقانية والمعرفية
يتسارع فى الدول المتقدمة ظهور فنون إنتاجية كثيفة المعرفة. وتدفع الثورة التقانية، بأبعادها المادية والاجتماعية، الدول النامية إلى إحداث تغيرات جذرية ليس فقط فى هياكلها الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، بل أيضاً فى هياكل علاقاتها الدولية، ابتداء من مواقع شديدة الضعف تجاه القوى الخارجية. خاصة وقد عمدت الدول المتقدمة، فى قيادتها للتطوير التقانى، إلى توجيهه بما يتفق بدرجة أكبر مع تركيبة الموارد لديها.
وبذلك يتأكد دور المعرفة كعنصر إنتاجى حاكم. إن حقبة صعود المعرفة تمكن من يعلم من أن يتجاهل- بل ويستبعد- من لا يعلم. وبالتالى تصبح المناطق التى تعيش عالة على ما يحدث من تقدم تكنولوجى فى باقى العالم، كما هو الحال فى المنطقة العربية، معرضة للتهميش المستمر الذى يفقدها أهميتها الاقتصادية. ولن يكون هناك عطاء فى مجال المعرفة إلا من خلال النهوض بالتعليم. ولا يقتصر عائد النهوض بالتعليم على الفرد، بل هو يساهم فى الواقع وبالدرجة الأولى فى رفع قدرات المجتمع على النمو، إذا أحسن توجيهه.
إن التقدم أصبح يقوم على، وفى الوقت نفسه يؤدى إلى، امتزاج للمعارف العلمية، وإسقاط الحدود التقليدية بين فروع المعرفة، وإنشاء فروع جديدة، وفتح آفاق رحبة أمام الكثير من العلوم الأساسية والتطبيقية. وتحقق الشبكة المكونة من منظومتى البحث والتعليم مزايا علمية متصاعدة، من خلال تزويد المجالات العلمية المتجددة بخلفية ترفع من كفاءة كل منها.
وتتأكد باستمرار ظاهرة المضاعف التقانى، بمعنى ما يستتبعه التقدم التكنولوجى من مزيد من التقدم. ويرتبط بها أن الدخول فى مجالات تقانية جديدة لا يمكن أن يتم من خلال آليات السوق التلقائية. فالولايات المتحدة مثلاً استغلت برامج التسليح وغزو الفضاء فى توليد طلب- لم يكن ليأتى من قوى السوق العادية- على أنشطة بحثية فى مجالات جديدة، فاتضحت، بالتبعية، ضرورة النهوض بمنظومتها التعليمية.
ومن جانب آخر، فإن الدول النامية (ومن بينها العربية) عندما تستورد سلعاً متطورة تكنولوجياً من دول متقدمة، فإن جانباً مما تدفعه ثمناً لها يذهب إلى تمويل العمليات البحثية فى هذه الأخيرة، محدثاً أثراً مضاعفاً.
وفى المنظور العربى، يعنى كل ذلك ضرورة استكمال الحلقة الداخلية التى تربط الطلب الاقتصادى بالبحث العلمى والتطوير وبالمنظومة التعليمية، بشكل يتعدى آليات السوق التلقائية، وهو ما يحتاج- فى الحقيقة- إلى تكامل عربى، إذ أن القدرات العلمية لكل دولة منفردة تظل محدودة، لاسيما فى مراحل النمو المبكرة.
ويؤدى التقدم العلمى والتقانى إلى تراجع المهارات التقليدية أمام المعرفة والقدرة التقنية، وهو ما يترتب عليه إحداث تحولات رئيسية فى هيكل العمالة. ويمكن القول إننا بصدد نوع جديد وراقٍ من الحرفية، تتوقف فيه وضعية العامل ليس فقط على تحصيله المعرفة التراكمية التى تمكنه من إجادة تطبيق أنماط متعارف عليها للعمل، بل على قدرته على الإبداع. إن هذه التطورات تضيف أبعاداً كثيرة إلى الإعداد التعليمى للفرد، تشمل بالإضافة إلى التكوين المهنى، القدرة على مواصلة التعلم، والإلمام بالجوانب القانونية والأوضاع الاجتماعية، بل وإدارة استخدام الوقت.
ويتسم التطور التقانى والمعرفى، بالإضافة لما سبق، بسمات جوهرية، لها تبعات مباشرة على التعليم، يمكن إيجازها فى النقاط الآتية:
سرعة الإيقاع وضخامة الإنجاز، حيث يقدر أن المعرفة العلمية باتت تتضاعف فى أقل من عقد من الزمان، بينما يتضاعف الإنتاج العلمى فى أقل من عامين.
يترتب على ذلك الإيقاع السريع حاجة الفرد إلى استيعاب كمّ كبير ومتجدد من المعرفة على مدى سنوات العمر، وهو ما يطيل فترة التعلم ويوزعها على مراحل متعاقبة. وبالتالى قصور أى محاولة لتزويد الفرد فى مستهل حياته بمخزون من المعرفة المتراكمة عن تمكينه من ملاحقة المعارف التى تستجد، ليس فقط فى الجوانب التطبيقية، بل وأيضاً فى العلوم الأساسية.
تؤدى سرعة التغير، وتفاوت قدرات الاستيعاب مع تقدم العمر، إلى تغير العلاقات الأسرية والعلاقات بين الأجيال المتتالية، بما فى ذلك أجيال المعلمين، وبينهم وبين الطلاب.
تزايد عدم التأكد تجاه المستقبل، وهو ما ينشئ حاجة إلى تعميق القدرات على التنبؤ وإعادة التنبؤ، وإلى مداومة اتخاذ قرارات ذات أهمية مصيرية إلى جانب القرارات الوظيفية المعتادة.
وعلى جانب آخر، يتيح التقدم التقانى إمكانيات ضخمة لتطوير أساليب التعليم، وإتاحة وسائل التعلم، والوصول بالتعليم إلى مختلف الأماكن أيا كان بعدها عن مراكز التجمع العمرانى، أو مدى انحصارها فى الإطار الأسرى- كما هو الحال بالنسبة للإناث فى بعض المجتمعات العربية، وإلى مختلف الأعمار.
عولمة العملية الإنتاجية
لقد مكنت العولمة، التى تعنى حدوث تغيرات موضوعية فى قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج نتيجة الثورة التقانية والمعرفية بأبعادها سالفة الذكر، من الحديث عن القرية العالمية، نتيجة كثافة تبادل المعلومات بين الأمم، بما فى ذلك القيم والمعتقدات. فقد جعلت الثورة التقانية والإنتاجية التقارب الجغرافى غير ذى شأن، لأن قطع المسافات لا يستغرق زمناً يذكر، سواء من أجل الانتقال الفعلى أو انتقال الأفكار التى تصل الإنسان بالآخرين.
وعلى الرغم من أننا مازلنا بصدد ظاهرة فى طور التشكيل، فقد بتنا إزاء نظام عالمى لا دولى، ترسم خطوطه قوى عدة، منها مجموعة الدول الكبرى (السبع) والشركات عابرة القوميات، وحركة رؤوس الأموال فى العالم، والمؤسسات العالمية التى توجه حركة العلاقات، وتغير طبيعة الأسواق إلى ما بات يعرف بالأسواق العالمية، باختصار هناك تحركات مجتمعية تعيد ترتيب أمور العالم مستندة إلى الإمكانيات التى أطلقتها الثورة التقانية.
ويطرد تزايد الترابط أو الاعتماد المتبادل بين الدول، وفى الوقت نفسه تغيرت أدوات هذا الترابط، إذ لم تعد مركزة على التبادل التجارى، بل بدأت عمليات انتقال المعلومات والخدمات تحتل موقعاً متقدماً. وإذا كان هذا الترابط يساعد على تقريب أدوات المعرفة من الراغبين فى التعلم، إلا أنه يترك الحركة خارجة عن السيطرة اللازمة للاطمئنان إلى سلامة المحتوى العلمى وتلاؤمه مع الأصول التربوية. بعبارة أخرى، يزيد هذا الاعتماد المتبادل من وقع ما يسمى "الغزو الثقافى".
وينطوى التغير فى الهياكل الاقتصادية على تقدم موقع الخدمات، ليس فقط على القطاعات الأخرى بل وأيضاً فى ضبط إيقاع النشاط الاقتصادى على الصعيدين القطرى والعالمى. لذلك تقدمت التجارة فى الخدمات، ومنها الخدمات التعليمية- خاصة فى المراحل الأعلى، لتشغل حيزاً هاماً من التبادل الدولى، مما جعل الدول المتقدمة تدفع المجتمع الدولى إلى تنظيم التعامل فيها على نحو يحافظ على قدراتها الاحتكارية بدعوى حماية "الملكية الذهنية"، التى باتت تحتل موقعاً متقدماً على ملكية الثروات الطبيعية والمادية التى تغلب على تركيبة الثروات العربية (إن وجدت).
وينشئ تبادل الخدمات صلة مباشرة بين منتج الخدمة ومستهلكها، لها عواقبها الثقافية والاجتماعية، ومن ثم السياسية. وساعدت ثورة الاتصالات على تغيير معالم الكثير من الخدمات، من أنشطة ذات طبيعة محلية غالبة، إلى أنشطة تتصف بالعالمية، وهو ما غير من مغزى الأسواق المحلية، كما فرض تقارباً فى فنون الإنتاج ونوعية المنتجات لمسايرة التطور الذى تقوده الدول المتقدمة.
كذلك أصبحت حرية انتقال رأس المال من الأمور التى تعيد تشكيل اقتصادات الدول المختلفة، فضلاً عن تنامى تيار فكرى بات يسيطر على الدول النامية بضرورة القيام بجذب الاستثمارات الأجنبية، ويدفع للاستجابة إلى مطالب أصحاب رأس المال باتخاذ كل ما يلزم لتيسير ما يسمى "النفاذ إلى الأسواق"، بمعنى تهيئة المناخ الاستثمارى الذى يوفر حرية دخول رأس المال وخروجه وفق ما تمليه عليه مصلحته.
ولكن حتى فى منظور جذب رأس المال، فإن القضية الأساسية هى العمل على خلق مزايا قوامها البشر. فرأس المال، وطنياً كان أم أجنبياً، يبحث فى عصر التقدم التقانى، عما يرفع إنتاجيته ويعينه على حسن تطبيق التقانة وعلى تطويرها. وقد أدركت الدول المسماة بالنمور فى جنوب شرق آسيا هذه الحقيقة، فعملت على النهوض بالعنصر البشرى لا ليكون عملاً رخيصاً (فقط) بل ليكون مرتفع الإنتاجية، وبالتالى قادراً على تعظيم ربحية رأس المال، وعلى اجتذابه.
وتعنى العولمة تحول شركات كبيرة إلى شركات دولية النشاط، ثم اتخاذها شكل عابرات للقوميات، تستفيد من ترابط الأسواق المالية العالمية، بل تعمل على السيطرة عليها. أى أن تطور هذه الشركات يرتبط بتوسع حركة رأس المال على النطاق العالمى، وهو ما يعطى قضية النفاذ إلى الأسواق دفعة قوية بمساندة هذه الشركات، وتأثيرها على مراكز اتخاذ القرارات فى الدول المتقدمة.
ويُحدث تغلغل عابرات القوميات نوعاً من "هجرة" الأفراد، حتى داخل مواطنهم، حيث يرتبط ولاؤهم بالمؤسسة الكبرى. وينتهى بعضهم، خاصة الكفاءات، منتمياً إلى "الشركة" أكثر، سواء بقى فى الموطن الأصلى أو تركه معها. الأمر الذى يعنى أن ظاهرة هجرة الكفاءات التى تعانى منها الدول العربية سوف تقوى، وبصيغ مختلفة.
ولهذه التغيرات انعكاسات على قواعد السلوك وأنماط التعليم فى الدول النامية، إذ تؤدى إلى تغيير مواصفات القوى العاملة فيها، وهو تغيير مستمر بسبب التطورات المتلاحقة فى أساليب الأداء، الأمر الذى يتطلب إعادة التدريب بالإضافة إلى التغيير المستمر فى مناهج وطرق التعليم التخصصى. ويمتد الأمر إلى أساليب السلوك اليومى. إذ لهذه التطورات متطلباتها غير المباشرة، منها الإلمام بلغات أجنبية وإنشاء شبكات اتصال أفراد ومؤسسات ينتمون إلى دول متقدمة.
كما أن دخول الدول النامية حلبة المنافسة فى التصنيع، انطلاقاً من قاعدة تقانية محدودة (إن وجدت أصلاً) يلزمها بالانصياع لمواصفات للمنتجات تحددها الدول الصناعية فى إطار الالتفاف الذى تقوم به على حرية التجارة التى تطالب بها. بل هى تفرض شروطاً للإنتاج تتيح لها التدخل فى العملية الإنتاجية بدعوى الاطمئنان إلى سلامتها. إن ما يدعى النفاذ إلى الأسواق، هو فى النهاية "نفاذ إلى المجتمعات" بأدوات جديدة.
وزيادة على ذلك أنشأ ارتفاع الدخل الريعى غير المواجه بإنتاج فعلى محلى فى البلدان العربية، نزعات مرتفعة للاستيراد، نشرت أنماط استهلاك بذخية أضرت بالقيم الذاتية. وعززت هذه الأنماط المشوهة قوة تأثير أدوات الاتصال.
وتنطوى "الهجرة العكسية" على تمكين أفراد اكتسبوا صفة رجال الأعمال فى الخارج من تشكيل الطليعة التى يدفع بها رأس المال العالمى، لتفتح أمامه أبواب الاقتصاد الوطنى، حاملين معهم الثقافة الأجنبية التى اكتسبوها- بما فيها اللغة- سواء فى جانب المعرفة المهنية أو القيم والعادات.
ونتيجة لكل ذلك، يتحدد جانب هام من سلوكيات الأفراد، المهنية والثقافية، فى سياق العولمة، خارج المنظومتين التعليمية والتربوية، مما يفرض عليهما واجباً إضافياً، لمواجهة ما يمكن تسميته ظاهرة المسخ الثقافى. حيث تقدم حزمة ذات أبعاد ثقافية ومعرفية ومادية على أنها حضارة متكاملة إما أن تؤخذ كلها فيكون التقدم، أو تترك كلها فيكون التخلف.
الواضح أن الأمر يتطلب توجيه التعليم العربى إلى حماية المنظومة الثقافية الذاتية وتوظيفها لخدمة التقدم العربى، إلى جانب عنايته بتطوير الجانب المهنى الذى يعالج مباشرة الجوانب المادية.
وتُدخل العولمة تغييرات جوهرية على النظم الاقتصادية لجميع الدول، بغض النظر عن اختياراتها الذاتية ومستويات نموها حتى تتوافر للمستثمرين ولمراكز اتخاذ القرار فى عابرات القوميات القدرة على إجراء مقارنات وفق أسس معيارية، وتنفيذ هذه القرارات بأقل قدر من القيود التى يترتب عليها تكلفة إضافية أو تعذر الحركة فى الوقت المناسب. وبينما تضع الدولة قيوداً على الحياة الاقتصادية ترى أنها ضرورية لتحقيق صالح المجتمع، فقد تعيّن أن يتراجع دورها هذا، وأن يسلم أمر التسيير إلى قوى السوق، بدعوى أنها تعمل بموضوعية وحيادية، تعكس تقابل مصالح جميع الأطراف.
فيجرى العمل على إزالة العوائق أمام العلاقات بين الاقتصادات بما يجعلها أقرب إلى العمل كما لو كانت اقتصاداً عالمياً واحداً، فى بعض الجوانب على الأقل (ليس من بينها حركة البشر بوجه خاص).
ويترتب على ذلك تقلص الإيرادات العامة نتيجة التخلى عن فوائض القطاع العام إلى الأفراد الذين يستولون على المنشآت العامة من خلال عمليات الخصخصة، والإعفاءات الضريبية التى يتمتع بها المستثمرون الذين يطالبون فى الوقت نفسه بتحسين البنية الأساسية بما يساعد على دفع النشاط الاقتصادى وربط الاقتصاد الوطنى بالعالم الخارجى، ويستتبع هذا تقليصاً أكبر فى الإنفاق العام.
وعلى عكس ما يقال من أن الدولة يجب أن تتخلى عن النشاطات الاقتصادية التى تنتج للسوق إلى القطاع الخاص، حتى يتسنى لها أن تركز على المنتجات ذات النفع العام، كالمرافق والخدمات الأساسية، فإننا نجدها تتخلى عن الاستثمار فى الثانية أسرع، الأمر الذى يقلل من الإنفاق على التعليم بما يفضى إلى تزايد حرمان الفئات الاجتماعية الضعيفة من فرص التعليم- حتى الأساسى. ويروج فى سياق هذا المنهج أن التعليم، فيما يتجاوز التعليم الأساسى، هو خدمة تفيد الفرد عليه أن يتحمل تكلفتها، مما يضع فرصة الالتحاق بالتعليم فى المراحل بعد الأساسية فى مواجهة خطر أكبر.
الأبعاد الإقليمية
يشهد العالم تغيراً فى ظاهرة الإقليمية عامة، وفى موقعها بين الوطنية والعالمية، وهو الموقع الذى أدى إلى الاهتمام بعمليات التكامل الإقليمى، واتخاذها كوسيلة لتأمين المجتمعات الوطنية من الضغوط العالمية. غير أن التحديات التى تواجه الوطن العربى فى الإقليم الذى يقع فيه، والذى تُدفع فيه عناصر غريبة عنه، لها خصوصية مهمة.
وهناك ثلاثة مشروعات تفت فى عضد المنظور القومى العربى، ليست بالضرورة متنافية- وإن تنافست أحياناً. الأول، هو سعى البلدان العربية منفردة إلى الاندماج فى العولمة، من موقع ضعيف، والذى تتبين بعض خصائصه، ومضاره، أعلاه. والثانى، هو إقامة بعض الدول العربية، منفردة أيضاً، علاقات "شراكة" مع الاتحاد الأوربى. والثالث، بالطبع، هو "الشرق أوسطية".
ومن حيث المبدأ، يتعين أن يقوم التعايش الصحى مع أية كيانات غير عربية، على التفهم الصحيح للأسس والغايات التى تحدد مناهجها ومواقفها إزاء الوطن العربى وأقطاره. وعلى التعليم العربى أن يؤدى هذه الوظيفة، بما فى ذلك تصوير القوى المهيمنة على العالم، وعلى المنطقة، على حقيقتها.
يقوم نهج "الشراكة" (المطروح بشكل قوى من الاتحاد الأوربى) مثلاً على أنه لا مانع من أن تتلقى الدول النامية عوناً، ليس فى شكل معونات بدون مقابل تعوض محدودية قدراتها الادخارية، بل استثمارات رأسمالية، يصحبها بطبيعة الحال فرض التقانات السائدة لدى الدول المانحة، على أن تستبقى الدول النامية عمالها، باستثناء الكفاءات العالية منهم، حتى تتوقف الهجرة التى باتت تقض مضاجع أهل الشمال.
ولما كانت الدول النامية غير متمرسة فى تلك التقانات، فإن الحلقة تستكمل بأن تهيئ لها الدول المانحة برامج تؤهل بها صناعاتها من ناحية، وتعيد تدريب الأفراد فيها على أساليب الإنتاج التى يراد تطبيقها، بغض النظر عن مدى صلاحية هذه الأساليب لظروف الدول النامية، وعما قد يعنيه ذلك من ابتعادها عن متطلبات التعاون والتكامل مع دول مماثلة لها فى مرحلة النمو. الأمر الذى يجعل العلاقات بين طرفى الشراكة، كما هو الحال فى انتقال الأموال، تمر عبر الطرف الأكثر تقدماً وتتضمن نوعاً من فرض الوصاية على الدول الأقل تقدماً.
كذا تتضمن الاتفاقيات المطروحة جوانب سياسية واجتماعية وثقافية على جانب كبير من الخطورة. فعلى عكس ما تهدف إليه الدول الساعية إلى الاتحاد وفق الإقليمية التقليدية، فإن هذه الإقليمية الجديدة، بانطلاقها من تفاوت القوى الاقتصادية، تعطى الشركاء الأغنى حقوقاً فى فرض رؤيتهم بشأن مدى الالتزام بحقوق الإنسان- فى المنظور الغربى، والالتزام بنظام السوق، وتوفير متطلبات استقرار رؤوس الأموال وأصحابها، دون أن يكون هناك ما يؤكد أن هذه الأثمان الباهظة سياسياً واجتماعياً وثقافياً سوف تقابلها منافع اقتصادية ذات شأن. هذه صورة خاصة، "أوربية" الطابع، من ظاهرة العولمة التى وصفنا أعلاه.
ويطرح فى سياق الإقليمية الجديدة مفهوم "الشرق الأوسط" الذى يحقق أخيراً حلم إسرائيل فى اختراق الأمة العربية، على خلفية من إهدار الحقوق العربية، والهيمنة الإسرائيلية فى المنطقة. إن مرور خمسون عاماً على النكبة، وحصيلة نصف قرن من انتهاك الحق العربى، وتزايد الصلف الإسرائيلى مؤخراً، يفرض أن تقوم التربية العربية بدور محورى فى تعبئة قوى الأمة العربية لمجابهة التحدى الصهيونى بفعالية.
إذ علاوة على إيضاح الأبعاد الحقيقية للصراع العربى الصهيونى، بأبعاده الإقليمية والدولية، فى سياق بناء الشخصية العربية المقتدرة التى وصفنا فى القسم السابق، تمثل مساهمة التربية فى بناء القدرات البشرية والتقانية العربية ركناً أساسياً فى المجابهة الفعالة للتحدى الصهيونى. فلا مراء فى أن تأخر للعرب فى مواجهة إسرائيل، فى مضمار القدرات البشرية والتقانية، وما يترتب عليهما من سمات مجتمعية، ومن إمكانات حسم مجريات الأحداث فى المنطقة، قد أمسى صارخاً، ويتسارع.
إن كثرة العرب، مقابل قلة عدد البشر فى إسرائيل، تنقلب قلة فى منظور النوعية. وتهبط كفة العرب أبعد بسبب البنية المؤسسية لتوظيف القدرات البشرية وتوليد التقانة. ولا عجب، والحال كذلك، أن يتمايز الإنجاز التقانى والإنتاجى لإسرائيل على العرب بشدة. ومن ثم يصبح التفوق العسكرى، والسياسى، النسبى لإسرائيل فى المنطقة مجرد تحصيل حاصل. هذه هى الحدود الخارجية لمعادلة القدرات البشرية والتقانية بين العرب وإسرائيل كما تبلورت فى القرن العشرين، وتتجسد الآن فى وهن مفرط للقضية العربية، بوجه عام، وفى مواجهة إسرائيل بوجه خاص.
فى منظور المواجهة الفعالة للمشروع الصهيونى، لم يعد هناك مناص من أن يتوفر العرب على تحد تاريخى لبناء رأس المال البشرى راقى النوعية وإقامة قدرة ذاتية فى التقانة- وهذان مجالان مؤهلان بامتياز لتعاون عربى فعال- تؤسسان لنهضة تنموية، تغير من ميزان القوى فى المنطقة. فالمؤكد أن البديل الموضوعى الوحيد، للدعم الخارجى لإسرائيل، المتاح للعرب هو ترقية التعاون العربى، وصولاً لأشكال أرقى من التوحد، تزيد من قوتهم فى المعترك الدولى عامة، وفى مواجهة إسرائيل خاصة. بقى أن يختار العرب هذا السبيل، وأن يترجم لفعل حاسم فى مضمار التربية.
ثالثاً: أهم دروس التجربة العالمية فى تطوير التعليم
يمكن أن نخلص من مراجعة مسيرة التعليم، فى العالم بوجه عام، وفى البلدان النامية بوجه خاص، إلى أمور أربعة أساسية:
أولها، أن أزمة التعليم أزمة عالمية، وإن اتخذت فى العالم المتقدم أبعاداً تختلف عن أبعادها فى العالم النامى.
وثانيها، أن النظام العالمى الحالى- الذى قوامه العولمة، وحرية السوق الاقتصادية (ولاسيما المالية)، وإهمال الهويات الثقافية وما تشتمل عليه من قيم ومواقف لابد من التعامل معها لاستخراج فضائلها ولتطويرها وتجديدها- نظام يملى على نظم التعليم فى العالم كله مطالب جديدة، ويفرض عليها أن تلجأ إلى جدائد مبتكرة، ما تزال بذورها فى طور التكوين.
وثالثها، حقيقة بديهية، كثيراً ما تنسى، وهى أن النسق التعليمى جزء من نسق اقتصادى واجتماعى وثقافى شامل، وأن التصدى لمشكلاته بالتالى لا تكون إلا من خلال شبكة تعليمية واسعة متفاعلة مع ذلك النظام الشامل. وهذه الحقيقة البديهية تعنى الكثير فى هذا العصر فائق السرعة فى تطوره وفى تجدد ملامحه وسماته، وفى تشابك مشكلاته الاقتصادية والمالية والإعلامية والسياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية والتقانية.
ورابعها، ولعله أهمها، هو أن النظم التعليمية، فى مثل هذا العالم دائب التغير، ينبغى أن تتصف أولاً وقبل كل شئ بالمرونة. فالمرونة فى بنية النظام التعليمى، وفى مساراته والانتقال بين فروعه، وفى مناهجه وتخصصاته، وفى طلابه وأعمار المنتسبين إليه، وفى سنوات الدراسة فيه، وفى وسائل تقويمه، وغيرها، مطلب ضرورى لمواجهة الحاجات المتجددة لسوق العمل ولمشكلات الاقتصاد ومطالب الحياة الاجتماعية والثقافية. والنظام التعليمى الثابت الجامد نظام لابد أن يأخذ طريقه إلى الزوال، إن لم يمت فعلاً فى كثير من بلدان العالم.
أهم منطلقات التجربة العالمية فى تجديد التعليم
يمكن أن نوجز أهم منطلقات التجربة التعليمية العالمية فى مجال التجديد التعليمى فى أربعة أمور أساسية.
أ) التعليم المستمر طوال الحياة. إن التعليم أيام ازدهار الحضارة العربية الإسلامية كان يستهدف تربية مستمرة، من المهد إلى اللحد، فضلاً عن أنه كان تعليماً يتم فى أى مكان. وقد سئل أحد علماء السلف: ما حدُّ العلم؟ فأجاب "الحياة".
ويتفرع عن منطلق التعليم المستمر أمران:
المزاوجة بين التعليم النظامى والتعليم غير النظامى بأشكاله المختلفة عن طريق مراكز التدريب، والتعليم العارض الذى يتم عن طريق مؤسسات الثقافة والإعلام، وفى الأسرة ودور العبادة والجمعيات والروابط وغيرها.
ضرورة التدريب وتجديد التدريب بل وإعادة التدريب، تلبية لحاجات المجتمع المتغيرة ولحاجات مواقع العمل (الاقتصادية والاجتماعية) بوجه خاص.
ومادام التدريب وتجديده واستبداله وإكماله أموراً ممكنة، ومادامت المعارف والمهارات التى يحصل عليها الذين يرتادون المدارس النظامية بداية للتكوين والإعداد وليست نهاية لهما، فينبغى أن تتغير بنية المدرسة النظامية ومناهجها، بحيث تركز المدرسة، ولاسيما فى مرحلة التعليم الأساسى، على امتلاك المعلومات والقدرات الأساسية.
ب) التعلم الذاتى. ويعنى ذلك أمرين:
التركيز على المتعلم، والاهتمام بدوره الفعّال وبمشاركته المباشرة فى التعليم، وتغير دوره من مستمع سلبى إلى مشارك وباحث وناقد ومصدر أساسى من مصادر المعرفة، بل حتى إلى مقوّم أساسى لنتاج جهده.
ذيوع استعمال التقانات التعليمية الحديثة، بأشكالها العديدة والمتطورة، الأمر الذى يسّر، بل أملى، أن يعلّم الطالب نفسه بنفسه، خاصة عن طريق الحاسوب. والتقانات الحديثة تيسّر التعلم، وتمكن من التغلب على معيقات انتشار التعليم، وتولّد لدى الطلاب بواعث إيجابية ورغبة ذاتية فى التعلم. إلا أنه يتعين أن ندرك هذه التقنيات ونستوعبها، وأن نقف منها- خاصة فيما يتصل بمضامينها- موقفاً انتقائياً واعياً.
وفى وسع القدرة على التعلّم الذاتى أن تخفف الأعباء عن المدرسة النظامية، وأن تجعل الاستمرار فى الدراسة والتعلّم ممكناً حتى حين يغادر الشخص المدرسة (قبل أو بعد الانتهاء من مرحلة دراسية معينة).
ج) مرونة النظام التعليمى: شرط لابد منه لمواجهة التغيرات العالمية الضخمة، وبعضها مفاجئ، فالمستقبل صعب التحديد. ولكن بوجه عام، لم يعد التعلم يقتصر على سنوات معينة فى بدايات العمر، ولم يعد محصوراً داخل جدران مدرسة أو جامعة، ولم يعد مقترناً بكمّ من المعلومات والمهارات يتقنها الفرد فى برامج تعليمية مقننة ويستخدمها بقية حياته.
وتمتد المرونة لتشمل كامل بنية نسق التعليم: عدد سنوات الدراسة، ومحتواها، وانفتاح المدرسة دوماً على عالم العمل وحاجاته، وتنويع التعليم وتشعيبه، وتيسير الانتقال بين المراحل والأنواع التعليمية، والقضاء على الحواجز بين التعليم النظامى وغير النظامى، والتكامل والتناوب بين الدراسة والعمل.
د) المجتمع المتعلم-المعلِّم: بمعنى أن يكون كل فرد فى المجتمع متعلماً وساعياً إلى فضل من المعرفة، وأن يكون فى الوقت نفسه مُعلماً لسواه. وهذا يعنى فيما يعنى أن تكون مؤسسات المجتمع كلها، ولاسيما مؤسسات العمل والإنتاج، مؤسسات تدريبية وتعليمية فى الوقت نفسه. كما يعنى أيضاً وبوجه خاص المشاركة الفاعلة من المجتمع كله فى عملية التعليم. إنه يعنى جعل التعليم-التعلّم شأناً مجتمعياً شاملاً.
رابعاً: التوجهات الاستراتيجية
والتوجهات الاستراتيجية هى مجموعة من المبادئ الحاكمة لعملية إنفاذ مشروع معين، تعد- مجتمعة- لازمة لتحقيق غاياته. ويقدم هذا القسم حزمة أساسية من التوجهات الاستراتيجية لتطوير التعليم كأساس لبناء رأس مال بشرى متنام، وراقى النوعية، فى البلدان العربية.
والمهم فى بناء الرؤى المستقبلية هو نظم مجمل عناصرها فى شمول واتساق وتماسك. ويعنى ذلك أن تقوم درجة حرجة من التكامل بين عناصر "الرؤية" تنفى إمكانية تقسيم التصور داخلياً إلى أجزاء منبتة الصلة ببعضها. لذلك ينبغى أن تؤخذ محاور التصور المطروح، كحزمة كلية عبر تقسيمات الموضوع. وعلى وجه الخصوص، لا يتصور إسقاط عناصر جوهرية فى هذه الحزمة دون تقليل، أو إهدار، إمكانية بلوغ الغايات المبتغاة.
التوجه الأول: بناء رأس المال البشرى راقى النوعية
ليس من قبيل المغالاة القول بأنه، فى منظور مستقبل التقدم فى البلدان العربية، لا توجد غاية تعدل تطوير نسق التعليم بحيث يؤدى إلى إكساب-اكتساب البشر للمعارف والقدرات والتوجهات التى تتناسب ومقتضيات القرن الواحد والعشرين، والذى يؤذن بقسمة جديدة بين البشر على هذا الكوكب حسب مدى تملكهم لناصية المعرفة والتقانة الأحدث من ناحية أخرى.
ويتبلور الطموح للنهضة فى الوطن العربى، فى مجال بناء رأس المال البشرى راقى النوعية، فى غايات ثلاث:
النشر الكامل للتعليم الأساسى، مع إطالة مدته الإلزامية إلى عشر سنوات على الأقل، وتوسعة نطاق التعليم بعد الأساسى باطراد.
استحداث نسق مؤسسى لتعليم الكبار، مستمر مدى الحياة، فائق المرونة ودائب التطور، من أجل مكافحة فعالة للأمية- بصنوفها- من ناحية، وإعمالاً لمبدأ التعلم المستمر مدى الحياة لخريجى النظام التعليمى من ناحية أخرى.
إيجاد وسائل داخل جميع مراحل التعليم تكفل ترقية نوعية التعليم، بما يؤدى إلى تبلور مسار للحداثة والتميز والإبداع كمدخل للإمساك بناصية المعرفة والتقانة الأحدث فى المجتمعات العربية.
وتتضمن الوسائل الفعالة لتعميم التعليم الأساسى أن يكون شاملاً بحق، ومجاناً بالكامل. بل تحتم الآثار السلبية لانتشار الفقر فى البلدان العربية العمل على توفير الدعم المالى لتعليم الأطفال فى الأسر الفقيرة، خاصةً البنات، على أن يشمل ذلك التكلفة المباشرة بالإضافة إلى تكلفة الفرصة البديلة للتعليم عند الحاجة (ما يوازى عائد عمل الأطفال فى الأسر المحتاجة)، ولتوفير التغذية المجانية والرعاية الصحية فى مدارس التعليم الأساسى.
ولكن يبقى تحدى ترقية النوعية أعصى. ونتصور أن هناك سمات أربع جوهرية لنوعية التعليم المؤسس للتقدم:
- تأسيس العقلية النقدية.
- تكوين الملكات الابتكارية.
- بناء التوجهات الاجتماعية المواتية، مثل الاجتهاد، والكفاءة، والدقة، والانضباط، والمبادأة، والعمل الجماعى، وخدمة الجماعة، والعدالة، والديمقراطية.
- تأمين التعلم الذاتى، والمستمر، كسبيل لتملك معرفة واسعة، وقدرات وتوجهات بناءة، ومتنامية.
ولا مناص، فى ضوء المقترحات السابقة، من أن توفر البلدان العربية موارد أضخم للتعليم وزيادة كفاءة استغلالها فى البلدان العربية. ويوجد مجال واسع لرفع كفاءة الموارد المخصصة للتعليم حالياً، ولزيادة الموارد المالية المخصصة للتعليم، وحتى لإعادة تخصيص الموارد الكلية المتاحة، لإعطاء تكوين رأس المال البشرى الراقى الأولوية الحاسمة التى يستحق فى تخليق مستقبل زاهر للأمة العربية، على أوجه إنفاق أخرى.
وفيما يتصل بزيادة الموارد المالية للتعليم، تبنى الأردن تجربة مفيدة فى مضمار توفير الموارد المالية للتعليم العالى، تشمل اقتطاع نذر يسير من الرسوم الجمركية، وفرض رسوم ضئيلة على أرباح الشركات، ومعاملات الهاتف، ورخص الأبنية، ورخص المهن، وعقود الإيجار، والمعاملات القانونية، وإيرادات الغرف التجارية والنقابات، ومعاملات الأراضى، والعطاءات الرسمية.
والواقع أنه بسبب ترافق انتشار الفقر بين العامة واستشراء الثراء بين قلة فى البلدان العربية، ربما أصبح من الضرورى استهداف القادرين لزيادة مساهمتهم فى تمويل التعليم، خاصة العالى. سواء من خلال اقتضاء رسوم تعليم عالية من أبناء القادرين (وليس مجرد إعفاء المتفوقين من غير القادرين) أو تشجيع الأفراد الموسرين، ومشروعات الأعمال، على منح الهبات والوقفيات لمؤسسات التعليم (من خلال إعفاءات ضريبية مغرية). والواقع أن لقطاع الأعمال، بوجه خاص، مصلحة ذاتية فى دعم التعليم لضمان توافر المهارات والكفاءات البشرية اللازمة لتحسين إنتاجيته، وفى النهاية، لتعظيم أرباحه (يعى قطاع الأعمال هذه الحقيقة فى المجتمعات الرأسمالية الناضجة ويترجمها فى صورة دعم ضخم لكل أنواع التعليم والبحث، خاصة فى مؤسسات التعليم العالى الأعلى تكلفة).
ويثار أحياناً أن البلدان العربية، خاصة الأفقر منها، لا تطيق تكلفة النمط التعليمى السائد فى البلدان المصنعة والقائم على الإنفاق الكبير. وهذا صحيح، وليس محبذاً على الإطلاق مجرد تقليد النمط الغربى للتعليم.
ولا جدال فى أن مجرد إغراق أزمة التعليم فى البلدان العربية بالموارد المالية لن يكفى لحلها. فالسياسات المناسبة، والسياق العام المواتى، لا يقلا أهمية عن حجم التمويل. والحق أن زيادة التمويل، فى غياب السياسات المناسبة والسياق العام المؤازر، لا تضمن تكوين رأس المال البشرى راق النوعية، كما تشهد خبرة بعض البلدان العربية الأغنى. ويمكن القول بأن التحدى المستقبلى الضخم الذى تواجهه البلدان العربية هو التوصل لحلول ابتكارية عربية تؤدى إلى تطوير نظام تعليمى بديل يمكن أن ينتج تعليماً أكثر كفاءة، وأرقى نوعية، وبتكلفة مادية ملائمة. وهذا مجال رحب لاجتهاد المجتهدين.
على سبيل المثال، يَعِد أسلوب "مدارس المجتمع" فى مصر بحلول فعالة لمشاكل الالتحاق والنوعية. ومدارس المجتمع مشروع تجريبى بين وزارة التعليم واليونيسف فى مصر، ويتم تنفيذه من خلال مشاركة المنظمات غير الحكومية المحلية والمجتمعات المعنية. ويستهدف المشروع توفير تعليم أساسى، راقى النوعية، ومناصر للفتيات، وحساس لمطالب المجتمع، فى أكثر المناطق حرماناً فى ريف مصر. ويقوم المشروع على مشاركة فعالة من المجتمع، فيقدم المجتمع المحلى مكاناً للمدرسة، وينشئ لجنة تساهم فى إدارة المدرسة. ولا تشترط المدرسة زياً ولا يدفع التلاميذ رسوماً. وتعطى البنات أولوية فى الالتحاق بدون استبعاد الصبية. و"ميسّرات" التعلم الذاتى، بدلاً من المدرسين، هن خريجات من المستوى المتوسط من التعليم على الأقل، من أهالى المجتمع الذى تقوم به المدرسة، أو آخر قريب. وتعطى الميسرات تدريباً مكثفاً، قبل بدء العمل وطوال الخدمة. وتستخدم مناهج وزارة التعليم، ولكن تطبق أساليب التعليم المتركز حول التلاميذ بشكل صارم من خلال ترتيب الفصول، وأساليب التعليم، ومشاركة التلاميذ فى التخطيط لنشاطات المدرسة وتقييمها. وتعد نتائج المشروع إيجابية للغاية سواء بدلالة التحسن فى الالتحاق، أو التحصيل المعرفى، أو تطور شخصيات التلاميذ.
لكن يتعين التنبه إلى أن التعليم الجيد، خاصة فى المراحل الأعلى، هو تعليم مكلف. ولا ريب فى أن رفع تحدى تطوير التعليم فى البلدان العربية إلى المستوى القومى، الذى سيناقش فيما يلى، يخفف كثيراً من قيد الموارد، وهو أكثر إحكاماً على المستوى القطرى.
التوجه الثانى: صياغة علاقة تضافر قوية بين التعليم والمنظومة الاجتماعية والاقتصادية
تكررت الإشارة فيما سبق إلى التشابك الوثيق بين حال التعليم وبين السياق الاجتماعى الاقتصادى العام فى البلدان العربية، ومغزى هذا التشابك بالنسبة للتخطيط لتطوير رأس المال البشرى. وليس من أمل يرجى من استمرار النظرة القطاعية التى تضيّق من مجال الاهتمام بالتعليم وجهود تطويره. فالتعليم، فى نهاية المطاف، هو جهد مجتمعى يقوم على تفاعل مختلف القوى النشطة فى المجتمع، ولا يقتصر على عمل وزارة أو أكثر.
بعبارة أخرى، يتعين أن يصبح التعليم همّاً للمجتمع كله. لمؤسسات الحكومة وأجهزة الدولة كافة، وقطاع الأعمال والمجتمع المدنى- خاصة على مستوى المجتمعات المحلية- متضافرين.
إن التضافر المجتمعى الموصوف يضمن تواؤم نسق التعليم، مدخلات وبنية ومخرجات، مع حاجات تنمية الإنتاج وتقدم المجتمع.
فبالإضافة إلى إيجاد حلول كفء لمشكلات تمويل التعليم مثلاً، يمكن الاعتماد على هذه الشراكة المجتمعية، خاصة إذا قادتها الدولة بفعالية، فى مواجهة التأزم الهيكلى للعلاقة بين نسق التعليم وحاجات عالم العمل والإنتاج، فى البلدان العربية. فالأسواق، وبوجه خاص أسواق العمل، لم تتطور بعد إلى أسواق تنافسية كفء فى البلدان العربية. بل مازالت تشكو الكثير من التشوه. وعليه لا يمكن الاعتماد على الأسواق فى إحداث التواؤم بين نسقى التعليم والعمل بكفاءة وبتكلفة إجمالية مقبولة. والواقع أنه حتى فى الاقتصادات الرأسمالية الناضجة ينطوى الاعتماد لإحداث هذا التواؤم على تكلفة اجتماعية كبيرة لا تطيقها البلدان النامية، الأمر الذى يستلزم زيادة كفاءة التخطيط والجهود التعاونية بين قطاعات المجتمع للمواءمة بين نسقى التعليم والعمل فى البلدان العربية.
ويثار، فى سياق سياسات وبرامج "التكيف الهيكلى"، فى البلدان العربية مسألة تشجيع القطاع الخاص على الدخول فى ميدان التعليم.
ولا ريب فى أن تحسين تراكم رأس المال البشرى يمكن أن يستفيد من وجود نظام تعليمى وطنى وقوى، غير حكومى، ولكن لا يستهدف الربح، كمنافس للتعليم الحكومى، مع وجود ضمانات قوية للنوعية من خلال نسق محكم لضبط الجودة. وإذا أمكن نفخ الروح فى العمل الأهلى الطوعى من خلال المنظمات غير الحكومية، فقد تنفسح فرصة طيبة فى هذا الميدان.
ولكن، فى ظل السياق المؤسسى الحالى، يستحيل أن يوفر حافز الربح أساساً للوفاء بحاجات الفئات الاجتماعية الضعيفة من التعليم، وتضم غالبية العرب، والتى يتوقع أن يزداد حرمانها منه فى سياق التعليم الخاص. فلا يحمل تعليم أبناء الفقراء هامش ربح يغرى على الاستثمار الخاص. والأقرب، وفى الخبرة الفعلية حتى الآن دليل قوى، أن يتوفر رأس المال الخاص على تقديم تعليم مدلل لأبناء الأغنياء. ولن يقوم حلاً لحرمان جموع أبناء الفقراء أن "يُسمح" لنسبة قليلة منهم بالالتحاق بمدارس الأثرياء يعانون فيها عزلة اجتماعية وتعليمية قاسية. تحت هذه الظروف يصبح التعليم وسيلة لتكريس الفوارق الاجتماعية، بدلاً من دوره التنموى المنشود فى مساعدة الفقراء على التغلب على ضعفهم وتمتين اللحمة الوطنية، فى بلدان تعانى من استشراء داء التفرقة. وإذا أقام مستثمرون ذوو سطوة قطاعاً خاصاً، يستهدف الربح، فى ميدان التعليم، فقد يستحيل أيضاً أن تمارس إدارة حكومية غير كفء وحريصة على اجتذاب الاستثمار الخاص، ضبطاً محكماً لمستوى جودة التعليم.
التوجه الثالث: إقامة برنامج لتطوير التعليم على الصعيد العربى
هناك حاجة ماسة لقيام برنامج عمل قصدى لتطوير التعليم فى البلدان العربية، يقوم على أساس برامج قطرية ولكن فى إطار تعاون عربى فعال.
إن بناء رأس المال البشرى راقى النوعية هو تحدى المستقبل فى البلدان العربية مجتمعة. ولم يعد التطور فى السياق القطرى المنفرد، فى هذا الميدان فى عموم الوطن العربى كافياً. لقد حقق التطور القطرى ما يمكن تحقيقه من توسع كبير فى الانتشار الكمى للتعليم الأساسى، خاصة فى البلدان العربية الأغنى، محدودة السكان. بينما يبقى تحدى الكم كبيراً فى البلدان العربية الفقيرة، خاصة فى المراحل الأعلى. ويلاحظ أن القضاء على الجيوب الأخيرة للاستبعاد من التعليم أصعب من الإنجازات الأولى فى نشر التعليم. وتشكل البيئات الرعوية والصحراوية تحدياً خاصاً فى هذا الميدان. كذلك أتى التطور السابق بمشكلات تدنى النوعية التى تعانى منها البلدان العربية الغنية والفقيرة على حد سواء. وتمثل ترقية النوعية تحدياً أكبر من نشر التعليم، ولكنه تحد من نوع مختلف.
ومن المتفق عليه أن التعاون العربى الفعال شرط جوهرى للتنمية الجادة فى الوطن العربى. ويصح هذا بشكل واضح فى مجال تنمية رأس المال البشرى عامة، وفى حقل التعليم خاصة، نتيجة لتفاوت الإمكانات البشرية بين الأقطار العربية بشدة، بحيث يصعب على أى قطر عربى، منفرداً، تحقيق إنجاز ملموس فى نشر التعليم وترقية نوعيته. وقد ترتب على هذه الحقيقة قيام تعاون عربى كبير فى مجال التعليم لعدة عقود- وإن لم يستهدف بالضرورة خدمة أهداف الأمة مجتمعة. كما أن نتيجة هذا التعاون، حتى الآن، أقل بكثير من المرغوب. وكما اتضح عند مناقشة السياق الإقليمى للتربية، تفرض المواجهة الفاعلة لإسرائيل، والقوى الداعمة لها، تضافراً وثيقاً فى الجهود العربية لبناء القدرات البشرية والتقانية. وتجدر الإشارة، نهاية، إلى أن التعاون العربى فى مجال التعليم يمكن أن يكون عامل صهر اجتماعى يساعد على قيام أشكال أكثر رقياً من التعاون العربى فى المستقبل.
لقد بات تطوير التعليم فى مجمل البلدان العربية، بما يسهم فى تفادى كارثة الانعزال عن المشاركة الفاعلة فى عالم القرن الواحد والعشرين، يتطلب قيام سلطة تعليمية فوق-قطرية وفعالة على الصعيد العربى. وبقدر ما تقترب الدول العربية من بناء هذه السلطة بقدر ما سيكتب لها أن تقيل مجتمعاتها من أزمتها التنموية الحالية، وأن تشارك، من موضع قدرة، فى صنع العالم الجديد.
وليس بكثير، على سبيل المثال، أن يصبح تطوير التعليم فى الوطن العربى بنداً جوهرياً، ودائماً، على جدول أعمال مؤتمرات القمة العربية. ومازال المجال بعد فسيحاً لإنشاء مؤسسات قومية، حكومية وأهلية، ولتدعيم المؤسسات القائمة، فى ميدان التعليم؛ ولتوجيه مؤسسات تنموية أخرى قائمة لأن تهتم- جدياً- بتطوير التعليم. فالميدان رحب، والتحدى هائل، والجهد المبذول حتى الآن أقل من جهد المقل.
وتتمثل الغاية من برنامج عربى لتطوير التعليم فى تضييق الفجوة فى المعارف والقدرات والتوجهات بين البلدان العربية وتلك المتقدمة، إلى الحد الذى يمكّن العرب، ابتداء، من المتابعة النشطة، واسعة النطاق والنقدية، لتطور المعرفة والتقانة فى العالم، واستخدامها بكفاءة؛ ثم من المشاركة الفاعلة فى تطور المعرفة والتقانة فى منظور خصوصية المسار التنموى العربى.
وتُنال هذه الغاية من خلال هدفين: العمل على نشر التعليم الأساسى بالكامل بين أطفال العرب جميعاً، فى أفق زمنى محدد وقصير، والتوسع المطرد فى نطاق مراحل التعليم بعد الأساسى، أولاً؛ وعلى تحقيق حد أدنى مقبول لنوعية التعليم، ثم ترقيتها باطراد، فى جميع المراحل وفى عموم الوطن العربى، ثانياً.
ويُقترح أن يتكون البرنامج ذاته من مجموعة من الوسائل الكفيلة بتحقيق الأهداف المبتغاة فى آفاق زمنية معينة. وأن تنتظم الوسائل حول محاور ثلاثة، واحد بحثى وتقويمى، والثانى تخطيطى، والثالث ترويجى وتمويلى، تتضافر لضمان تحقق الغاية من البرنامج، من خلال تعظيم التعاون العربى والاستفادة من إمكانات التعاون الدولى.
ويُعنى المحور البحثى والتقويمى بدراسة تطور وواقع التعليم فى البلدان العربية، وعلى وجه الخصوص تقييم الناتج الحقيقى للتعليم من حيث التوجهات والمعارف والقدرات التى يحصل عليها الخريجون. ونرى أن هذا التقييم يجب أن يحتل أولوية متقدمة فى أنشطة البرنامج، خاصة فى مراحله الأولى. فمن ناحية نعتقد أن نتائج مثل هذا التقييم ستعطى دفعة كبيرة لجهود تطوير التعليم فى الوطن العربى عامة. ومن ناحية أخرى، فإن النتائج المتوقعة من التقييم يمكن أن تشكل أساساً متيناً لعقد العزم على أن يلعب البرنامج المقترح دوراً جوهرياً فى مجال تطوير التعليم.
وإضافة إلى ما سبق، يتسع المحور البحثى لتحليل العوامل المؤثرة فى الناتج التعليمى فى المجتمعات العربية، ولدراسة محاولات تطوير التعليم فى الوطن العربى والتجارب الناجحة فى هذا المضمار خارج البلدان العربية، لاستخلاص الدروس المستفادة منها. كذلك يدخل فى نطاق البحث طبيعة الناتج التعليمى فى البلدان المصنعة حالياً، وفى المستقبل. ومن الطبيعى أن ينجم عن العمل على البرنامج مسائل تكون بحاجة إلى بحث معمق ترفد المحور البحثى بمهام غير تلك المذكورة.
ويعمل المحور التخطيطى فى اتجاهين: الأول داخلى، يسعى لتعيين غايات البرنامج والوسائل الكفيلة بالوصول إليها فى الآفاق الزمنية المعتمدة، ومتابعة التقدم تجاهها، بما يعنيه ذلك من تصحيح المسار عند الحاجة. ويراعى هنا أن مبدأى "التمرحل" و "التدرج" يسمحان بأن تكون خطة البرنامج أوفى تفصيلاً فى مراحله الأولى على حين تبقى المراحل التالية فى حدود التصورات العامة الكفيلة بالتضافر لتحقيق الغاية من البرنامج. أما الاتجاه الثانى للمحور التخطيطى فخارجى، ويُعنى بالمساهمة فى التخطيط لقيام برامج ومشروعات تهم دولة عربية أو أكثر فى مجال تطوير التعليم.
ويتبع محور الترويج والتمويل ناتج المحور التخطيطى. ويسعى إلى حث الأقطار العربية، والمؤسسات والمنظمات التجمعية والقومية، على تبنى المخططات الناتجة عن البرنامج. ويتضمن الجانب الترويجى أيضاً نشر نتائج المحورين البحثى والتخطيطى بأشكال مختلفة مما يساعد على تكوين رأى عام مواتٍ لتبنى جوهر مخططات البرنامج.
وبديهى أن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم مرشحة للقيام بدور قيادى فى البنية المؤسسية لبرنامج عربى لتطوير التعليم فى الوطن العربى عامة. غير أنه من الضرورى تعبئة طاقات مؤسسات عربية أخرى فى هذا المضمار، مثل الصندوق العربى للإنماء والصناديق العربية الأخرى، وإن كانت بحاجة لبناء إمكاناتها فى هذه الحقول فيما يتصل بموضوع التعليم. والأمل أن يكون للصناديق العربية دور مهم فى تمويل بعض المشروعات والبرامج التى تصمم لتحقيق الغاية من البرنامج، خاصة فى حالة البلدان العربية الأفقر. ويتوقع أن يكون لمساهمة هذه الصناديق فى تمويل المشروعات أثر إيجابى على تبنيها.
ومازال ميدان الدعم المؤسسى لتطوير التعليم فى البلدان العربية يتسع لصنوف متباينة من المنظمات، الحكومية والأهلية، خلاف تلك القائمة، شريطة ألا تنشأ كيانات عاجزة لا توفر أكثر من وظائف مغرية للمحظوظين- دون كفاية.
وفى النهاية، فإن هناك منظمات دولية عديدة تعمل فى مجال التعليم ويمكن أن تتوافر لديها أفكار ودروس وخبرات مهمة يستفاد منها، من منطلق نقدى، فى بلورة تصور متكامل عن إصلاح التعليم فى الوطن العربى، بالإضافة إلى إمكانات العون التمويلى. وهنا، على وجه الخصوص، مشروعاً كبيراً يتبناه المكتب العربى لبرنامج الأمم المتحدة للإنماء ويستهدف تهيئة القوى البشرية فى البلدان العربية لاقتصاد المعلوماتية.
ولعل التعليم العالى من أهم مجالات التعاون العربى فى ميدان التعليم، مما يوجب إيلاءه عناية خاصة. فالحاجة إلى تعاون عربى فعال فى التعليم العالى، والعائد المتوقع عليه، أعلى ما يكن. والمجالات المرشحة بجدارة كأولويات للتعاون العربى فى التعليم العالى هى: الدراسات العليا، والبحث، والنشر.
ويقتضى تفعيل التعاون العربى تغليب البعد القومى على الاتجاه التنافسى-القطرى فى التعليم العالى العربى. ومن المحبذ، نظراً لارتفاع تكلفة البنية الأساسية لمؤسسات التعليم العالى، تعظيم الاستفادة من البنى المؤسسية القائمة فى الأقطار العربية، وبعض منها غير مستغل بالدرجة الكافية، بعد دعمه وتطويره، فى العمل العربى المشترك فى ميدان التعليم العالى. ولاشك فى أن التطور الهائل فى تقانات الاتصال يمكن أن يساهم فى تمتين ذلك التعاون على غرار البرامج القائمة بين البلدان الأوربية مثلاً .
ومشروع "جامعة العرب للدراسات العليا"- الذى اقتُرح، أول مرة، منذ خمسة عشر عاماً- يجب أن يعتبر المحك الأول لقدرة العرب على التعاون فى ميدان التعليم العالى بما يحقق تحركاً جاداً فى هذا المضمار.
وربما يتناسب "معهد عربى للتقانة" يقوم على مستوى راق مع روح العصر، يركز على التقانات الأحدث، خاصة تلك المناسبة لإمكانات المنطقة واحتياجاتها، بما يعوض تخلف العرب فى هذا الميدان.
وقد تفتح "جامعة العرب المفتوحة"، إن قامت بكفاءة لا يشوبها حافز الربح، أفقاً رحباً فى مضمار توفير التعليم العالى لمن لم تواتهم فرصة الانتظام فى مؤسساته، وتيسير فرص التعليم المستمر مدى الحياة للجميع.
خامساً: سياسات نشر التعليم وتجويده
لا يجدى فى بناء التعليم العربى المرجو إصلاح هنا وإصلاح هناك- فى بنية تعليمية تظل فى جملتها معوقة. ولا يفلح معه تجويد بعض مقومات النظام التعليمى. ولا يشفى غليله حتى الإنفاق المالى الكبير حيث يتوافر. بل لابد فيه من تجديد كامل متكامل لبنية التعليم ومحتواه وأدواته، يحمل فى ثنايا بنيته بذور تجدده دوماً، بما يفجّر لدى أبنائه الطاقات المبدعة القادرة على إنتاج مجتمع جديد حيوى ومقتدر. ومنطلق هذا التجديد الكامل، توفير صلة عضوية متلاحمة بين التعليم وبين البنى الاجتماعية والمهنية والتقانية والثقافية الجديدة التى يستلزمها بناء مجتمع عربى يحاول أن يتشكل فى سياق عالمى وإقليمى مضطرب وسريع التغير.
يتضمن هذا القسم جملة من السياسات، تنضوى تحت التوجهات الاستراتيجية الواردة فى القسم السابق، وبوجه خاص الأول منها، وتحدد المبادئ العامة لسبل التصرف التى يمكن أن تؤدى إلى تجويد التعليم جملة، والتعليم الأساسى خاصة.
ويتعين، بداية، توضيح أن هدف التعليم الأساسى- كما يتم التأكيد عليه هذه الأيام- هو تلبية حاجات التعلم الأساسية لكل فرد (طفلاً كان أو يافعاً أو راشداً). وتشمل هذه الحاجات، كما جاء فى "الإعلان العالمى حول التربية للجميع" الذى أطلقه مؤتمر "جومتيين"، كلاً من أدوات التعلم الأساسية (كالقراءة والكتابة والتعبير الشفهى والحساب وحل المشكلات) والمضامين الأساسية للتعلم (كالمعرفة والمهارات والقيم والاتجاهات) التى يحتاج إليها البشر من أجل البقاء ومن أجل تنمية كافة قدراتهم، ومن أجل العيش والعمل بكرامة، والمساهمة مساهمة فعالة فى عملية التنمية، ومن أجل تحسين نوعية حياتهم، ومن أجل امتلاكهم القدرة على اتخاذ قرارات مستنيرة ومواصلة التعلّم. ومن ثم، فإن التعليم الأساسى لا يكتسب كامل معناه ومداه وتأثيره إلا إذا تكاملت عناصره هذه كلها (شاملة العناية بالطفولة، والتعليم الابتدائى والمتوسط، وتعليم وتدريب اليافعين والكبار).
غير أن السياسات المقدمة لا تقتصر على التعليم الأساسى. فمنظومة التعليم كُل يتعين أن تتناغم حلقاته. ونجمل هذه السياسات فى السبع الآتية:
أ) التعلم الذاتى أو تعلم التعلم: ويأتى فى رأس قائمة السياسات لأنه مفتاحها جميعاً. ويعنى التعلم الذاتى أشياء كثيرة، على رأسها التركيز على أدوات التعلم.
وتتضمن هذه الأدوات فى حالة التعليم الأساسى: تعلم القراءة والكتابة والتعبير الشفهى والحساب وحل المشكلات، والمعارف العلمية والاجتماعية الضرورية، وتكوين الدوافع والمضامين الأساسية للتعلم كالمهارات اليدوية والتقنية، والقيم والاتجاهات الملائمة للعمل والإنتاج، والقدرة على البحث الذاتى عن المعرفة.
ولاشك أن تحديد المعارف الأساسية، ووضع تفصيلات مناهجها، أمر يمكن أن يختلف من بلد إلى بلد. وتتطلب هذه المهمة جهوداً كبيرة ودراسات اجتماعية واسعة ودراية خاصة بأصول وضع المناهج التربوية وتطويرها، وبوجه خاص تحديداً إجرائياً عملياً لهذه المعارف فى البلدان العربية. كما تتطلب مراقبة مستمرة وتقويماً مستمراً للمناهج أثناء تطبيقها وبعد تطبيقها.
ومع ذلك يمكن، على نحو تقريبى، إجمال هذه المعارف والأدوات الأساسية فى زمر سبع، جرياً على ما تأخذ به بعض الدراسات الحديثة فى البلدان المتقدمة:
- تربية الجسد والإحساس والعاطفة؛
- اكتساب المعايير والقيم الدينية السمحة- مع احترام عقائد الآخرين، وتلك التى تمليها المواطنة، والاهتمام بتكوين المواقف والاتجاهات الملائمة للعمل فى المجتمع، والتى يستلزمها بشكل خاص عصر العلم والتقانة؛
- تعلم القراءة والكتابة والحديث بلغة عربية سليمة؛
- معرفة الحساب وامتلاك معلومات أولية عن الأشكال والحجوم؛
- إدراك المكان والزمان وفهمهما، عن طريق التاريخ والجغرافيا وعلوم الطبيعة وعلوم الحياة؛
- التمرس العقلانى والمنظم بملاحظة الأشياء ومشاهدتها وبالأعمال اليدوية التى تتصل بها؛
- تعلم لغة أجنبية.
هكذا يهدف التعلم الذاتى فى خاتمة المطاف إلى تزويد المتعلم بالمعارف والقدرات والمواقف والاتجاهات التى تمكنه من أن يعلم نفسه طوال الحياة، ومن أن يجدّد تكوينه دوماً وأبداً.
ب) تنويع التعليم وتجديد إطاره: ويعنى ذلك أموراً كثيرة. منها توفير فرص التعليم لجميع فئات العمر، وفتح باب التعليم النظامى لمختلف الأعمار على صور وأشكال مختلفة، وإفساح المجال لتعليم العاملين فى مواقع الإنتاج عن طريق الدراسة بعض الوقت، وعن طريق مراكز تعليم وتدريب داخل مواقع الإنتاج نفسها، وتعليم بعض الوقت للأطفال العاملين.
ويمكن البدء فى تنويع التعليم منذ المرحلة المتوسطة، تمهيداً لتفريعه وتشعيبه فى المرحلة الثانوية- مع الإبقاء على أساسيات مشتركة. فالمرحلة المتوسطة (وهى جزء من التعليم الأساسى) ينبغى أن تكون مرحلة تعليم ومرحلة كشف عن القابليات وتوجيهها فى الوقت نفسه. ولكى يتحقق ذلك لابد من اعتماد التوجيه، أو الإرشاد، التعليمى بجدية وكفاءة، فالنظام المدرسى فى معظم البلدان حالياً يصطفى ولا يوجه.
ولا يأخذ تنويع التعليم كامل معناه إلا إذا امتد ليشمل التعليم الثانوى والتعليم العالى وسائر أنماط التعليم النظامى وغير النظامى. ولا يقتصر الأمر على تفريع التعليم وتشعيبه، بل يشمل التنويع (الذى يرتد إلى مرونة النظام التعليمى فى خاتمة المطاف) تيسير الانتقال بين فروع التعليم، وربط التعليم المهنى والتقنى الممارسة العملية عبر نظام "التلمذة المهنية"، وسائر ضروب التنويع التى تنطلق من مستلزمات إعداد الطالب للحياة العملية. ويعنى التنويع بهذا المعنى فيما يعنى، إيلاء الاهتمام لكل ما يؤدى إلى الربط بين التعليم وسوق العمل (كالتعليم المتناوب بين المدرسة ومؤسسات العمل)، ولتقوية ضروب التعليم غير النظامى بوجه خاص، بأشكال وصور مختلفة.
ج) استغلال التقانات التربوية الحديثة ووسائل الاتصال والإعلام المتطورة: فلهذه التقنيات دورها الهام فى التعليم النظامى، كما أن لها دوراً واسعاً فى التعليم غير النظامى والتعليم العفوى.
ومن شأن استغلال تقانات التعليم الحديثة أن يقود إلى تزويد المتعلم بأدوات قوية قادرة تساعده على أن يكون معلّم نفسه. ويساعد على إقبال الطلاب على التعلم ومحبتهم له وتفتيح طاقاتهم ومواهبهم من خلال ذلك. وللتقنيات التربوية دور مهم فى التعليم غير النظامى. وتشمل النماذج المطبقة فعلاً فى أنحاء مختلفة من العالم البرامج التعليمية الخاصة بالتعليم الابتدائى العام، بالإضافة إلى التدريب على المهارات المتصلة بالمهنة والعمل، والتعليم الثانوى مجاناً لليافعين غير القادرين، والنماذج المرنة للتعليم الذاتى. ويمكن كذلك رفع مستوى كفاءة المعلمين عن طريق التعليم من بُعد.
وتفتح القنوات الفضائية العربية المتعددة المتاحة حالياً، إن أُحسن استغلالها، الباب واسعاً للمساهمة فى نشر التعلم من بُعد.
د) التقويم المستمر للتعليم: إن تجديد التربية تجديداً يستجيب لحاجات نمو المتعلم والمجتمع ومستلزمات التنمية الشاملة يستلزم تقويم حصيلة التجديد. فلابد من قياس مدى نجاح العمل التربوى لمعرفة مقدار ما اكتسب المتعلم والنظر فى الطريقة التى يمكن بها تحقيق التعلم على أكمل وجه، ومعرفة مدى استجابة التعلم لاحتياجات الفرد والمجتمع على السواء. ومثل هذا التقويم هو بدوره منطلق لتجويد جديد أو لتجديد محدث، فالتجديد يستلزم التقويم، والتقويم بدوره منطلق للتجديد وللتجويد.
ويعنينا بوجه خاص تقويم ما اكتسبه الطلاب من حياتهم التعليمية (ولاسيما فى مرحلة التعليم الأساسى) وتقويم مدى تحقيق التعليم للأهداف المرسومة، خاصة من خلال دراسات تتبعية، من أجل معرفة مدى ملاءمة ما اكتسبه الطلاب لحاجات تنمية الفرد والمجتمع. ويجب العناية بوجه خاص بالمفاهيم والأساليب الأحدث لتقويم التحصيل التعليمى مثل التقويم متعدد الأبعاد، والتقويم الذاتى وغيرها.
هـ) المعلم هو محور العمل التجديدى: تضفى السياسات السابق طرحها على دور المعلم أهمية متزايدة وشأناً أكبر. فهى تنطوى على تغيير جوهرى فى أدوار المعلم الوظيفية، يتحول معها إلى مرشد إلى مصادر المعرفة والتعلم، ومنسق لعمليات التعلم، ومصحح لأخطاء التعلم، ومقوّم لنتائج التعلم، وموجه إلى ما يناسب قدرات كل متعلم وميوله. وهى تستلزم معلماً من طراز جديد، وإعداداً للمعلم ملائماً للأهداف المحدثة، وتدريباً مستمراً له على الجدائد التربوية المتطورة.
وتستلزم التقانات التربوية الحديثة بوجه خاص تغييراً جذرياً فى أساليب إعداد المعلم وتدريبه. ومن الضرورى أن يتم استخدام هذه التقانات فى إطار تكوين المعلمين.
بوجه خاص، ينبغى إعداد المعلم وتدريبه فى إطار التغير الجذرى الذى يجب أن يتم فى بنية التعليم ومناهجه وطرائقه، وفى أهدافه الأساسية، ولاسيما فيما يتصل بتمرس المعلم بأساليب التعلم الذاتى، وبالتعليم عن طريق فريق من المعلمين، وبأساليب التعاون مع الآباء ومع المجتمع المحلى، وتدريبه على الوسائل الجديدة فى تقويم الطلاب، وعلى "التوجيه التربوى"، وبربط التعليم الأساسى بحاجات المجتمع وبمواقع العمل.
ومن الضرورى أن يتم إعداد معلم التربية الأساسية فى البلاد العربية من قبل مؤسسات التعليم العالى المتخصصة. ويمكن إعداد المعلم إعداداً جيداً، وتجديد تدريبه أثناء الخدمة بعد ذلك- بفضل التقانات الحديثة- بتكاليف منخفضة.
و) إدارة "تطوير" لا إدارة "تسيير": لا غنى عن إدارة تربوية مجدِّدة، وقادرة على قيادة عملية التجديد. ويتطلب ذلك اعتماد اللامركزية فى الإدارة بتوسيع سلطات الإدارة فى المناطق إلى حد كبير، وإفساح قدر واسع من الحرية التربوية للإدارة، وإطلاعها دوماً على جدائد التربية، والعناية بوجه خاص بتدريبها على الوسائل التى ينبغى أن تلجأ إليها المدرسة من أجل تنمية روح التضامن والعمل المشترك والعمل فى فريق، ومن أجل تعميق مفاهيم الديمقراطية والمواطنة، وربط التعليم بالعمل ومواقع العمل، والتربية الدائمة المستمرة، ومن أجل خدمة المجتمع المحلى. ويتضمن تطوير الإدارة التعليمية أيضاً إدخال نظم جديدة فى إدارة المعلومات والبيانات تستند إلى الحاسوب، واستخدامها فى التعرف على المشكلات واتخاذ القرارات، وتطوير أساليب إعداد الميزانية، والأخذ بأساليب جديدة فى توزيع النفقات توزيعاً يعكس الأولويات الجديدة فى التعليم. كل ذلك فى سياق من المتابعة الدقيقة من قبل الإدارة المركزية للتعليم للإدارات فى المناطق من ناحية، وتفاعل حيوى فى الاتجاهين من ناحية أخرى.
ز) المشاركة الفاعلة لمختلف الفئات الاجتماعية فى التعليم، خاصة الأساسى، بحيث تمتد مشاركة الأسر والمنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص والمجتمعات المحلية إلى صنع السياسات والتمويل والإشراف. وتضمن هذه السياسة، على وجه الخصوص إفساح مجال أوسع للتعليم الأهلى (غير الحكومى وغير الهادف للربح) مع مراقبته لضمان النوعية.
ويترجم القسم التالى السياسات المقدمة أعلاه، فى سياق التوجهات الاستراتيجية، بقدر من التفصيل، فى مجالات منتقاة ذات أهمية خاصة لنشر التعليم وتجويده فى البلدان العربية. ويتقاطع اثنان من هذه المجالات مع سياسات مقدمة مما يقوى من أولويتهما.
سادساً: مجالات نشر التعليم وتجويده
تقانات التعليم الحديثة
تكررت الإشارة إلى ضرورة استغلال تقانات التعليم الحديثة، خاصة تلك القائمة على المعلوماتية ووسائل الاتصال الحديثة، فى نشر التعليم وتجويده فى البلدان العربية. ويقتضى ذلك وضع استراتيجيات واضحة للاستفادة من التقانة الحديثة فى التعليم، ودمجها فى العملية التعليمية، وتقديم كل الدعم لتوفير التقانة فى المؤسسات التعليمية، وتشجيع المؤسسات التعليمية على التوظيف الفعال والنشط للتقانة.
لقد أثبتت التقانات الحديثة المتجسدة فى شبكات الحاسوب، والبث التلفزيونى الفضائى، والفيديو التفاعلى، والوسائط المتعددة، والأقراص المضغوطة المقروءة، قدرتها كوسيط فعال فى التعلم بأوسع معنى. فشبكات الحاسوب مثلاً مستخدمة حالياً على نطاق أوسع فى التعليم الجامعى، غير أن التعلم عبر شبكات الحاسوب يمكن أن يطبق على جميع مراحل التعليم وأنواعه، من التعليم المدرسى إلى التعليم الجامعى إلى برامج التدريب فى أماكن العمل، أو خارجها، إلى التعلم العرضى فى المنازل. وبوجه خاص تتأتى فرصة التعليم عبر شبكات الحاسوب بعد انتهاء العاملين من أعمالهم، حيث تسمح لهم هذه التقانة بتطوير المهنة أو الاستزادة من المعلومات والثقافة العامة دون الحاجة للانقطاع عن العمل. كذلك يمكن استخدام شبكات الحاسوب فى تدريب المعلمين وتطويرهم مهنياً. وتتمتع الوسائط المتعددة بقدرة عالية على توفير بيئة تفاعلية تساعد المتعلم على اكتساب المهارات والخبرات والمعرفة وحل المشكلات. وتحتوى الأقراص المضغوطة على الصوت والصورة المتحركة أو الثابتة، وتحمل الموسوعات والقواميس وغيرها من مصادر المعلومات، مما يجعل قيمتها التربوية مرتفعة جداً.
وبوجه عام يساعد استخدام هذه التقانات الحديثة على زيادة حب التعلم، ونشر استخدام التقانة المتقدمة فى المجتمع، مما يمهد لتحسن رأس المال البشرى وقيام قدرة ذاتية فى العلم والتطوير التقانى.
وتعود مبررات استخدام تقانات التعليم الحديثة إلى مشكلات حالية، وتوجهات مستقبلية، للتعليم تشمل:
وجود أعداد غفيرة راغبة فى التعليم فى مراحله الأساسية، وفئات أخرى راغبة فى مواصلة التعليم من أجل تطوير المهنة والتدريب، بينما تبقى الأنظمة التعليمية الحالية عاجزة عن تقديم خدمة التعليم لهذه الأعداد الضخمة.
عدم التوازن فى التوزيع الجغرافى للمؤسسات التعليمية نتيجة للتركيز على المناطق المكتظة بالسكان والمناطق الحضرية على حين يتعذر الحصول على الخدمات التعليمية فى المناطق النائية، الريفية والصحراوية.
انخفاض مستوى التعليم، وعدم قدرة المؤسسات التعليمية على الإيفاء باحتياجات المجتمع فى التنمية.
تدفق المعلومات بصورة غزيرة وتعدد مصادرها وصعوبة متابعتها من قبل المعلمين والمتعلمين.
اعتماد أسلوب التعلم الذاتى فى التعلم المستمر وحق المتعلم فى تعليم نفسه بنفسه واختيار نوع التعليم والأساليب والوقت والمكان الذى يريده للتعلم.
تغير دور المعلم من المنفذ إلى المخطط، ومن المسيطر إلى الموجه والمرشد، ومن الملقن إلى المناقش والمحاور. فلم يعد المعلم المصدر الوحيد للتعلم والمعلومات، فظهور مصادر التعلم والمعلومات الحديثة، مثل الشبكات العالمية للمعلومات وشبكات الحاسوب المحلية وقواعد المعلومات وبنوكها، أثَّر بشكل كبير على دور المعلم فى العملية التعليمية. فأصبح المعلم موجهاً ومرشداً للمتعلمين للاستفادة من مصادر المعلومات وكيفية توظيفها فى التعلم.
ويجب ملاحظة أن استغلال التقانات الحديثة فى التعليم يواجه صعوبات كثيرة من أهمها:
تقف عقبات مالية فى وجه توفير هذه التقانات الحديثة، وصيانتها. الأمر الذى يمكن أن يزيد من اتساع الفجوة المعرفية بين الأفراد، والفئات الاجتماعية، والمناطق.
عدم قدرة المعلم أو عدم رغبته فى استخدام التقانات الحديثة. وتكمن المشكلة أساساً فى مرحلة إعداد المعلمين حيث يتم التركيز فى مرحلة الإعداد على استخدام وسائل تعليمية تقليدية، وعندما يُعين المعلمون فى المدارس يقومون بتقليد معلميهم الذين دربوهم بتوظيف نفس الوسائل التقليدية التى كانوا يستخدمونها. ولاستخدام التقانات الحديثة فى التعليم لابد من التأكيد على أهميتها فى تكوين المعلمين، قبل وأثناء الخدمة، وتوضيح دورها فى العملية التعليمية.
صعوبة الحصول على البرامج التعليمية عبر تقانات التعليم الحديثة باللغة العربية.
ولكى يتحقق الاستغلال الناجع للتقانات الحديثة فى التعليم لابد من وضع استراتيجية واضحة لتوظيفها، تقوم على:
التخطيط والإعداد المسبق. بحيث يتم اختيار التقانات المناسبة بناء على أسس واضحة تنبثق من الجوانب المتعددة للعملية التعليمية-التعلمية: الأهداف التعليمية، والمحتوى الدراسى، وخصائص المتعلمين، وتجربة المعلم وقدرته على التعامل مع تقانات التعليم الحديثة، وتفاعل هذه التقانات مع غيرها من مكونات الاستراتيجية التعليمية، وسهولة توافرها بأسعار معقولة، وسهولة صيانتها وتوافر قطع الغيار للأجهزة.
الاستخدام الفعال والناجح، الذى يتوقف على قدرة المعلم والمتعلم على التعامل مع هذه التقانات وسهولة استخدامها.
المتابعة والتقويم، اللذان تزداد أهميتهما نتيجة لحداثة استخدام هذه التقانات، وارتفاع تكلفتها، مما يوجب التأكد من حسن توظيفها.
وتتضمن السياسات التفصيلية المؤدية لنجاح استخدام تقانات التعليم الحديثة:
اعتماد تقانات التعليم الحديثة كأساس فى التعليم وليس كوسيط.
تشجيع المعلمين والمتعلمين على استخدام تقانات التعليم الحديثة وعدم التخوف من استخدامها، وإعداد وتدريب وإعادة تأهيل المعلمين فى مختلف المراحل الدراسية بشكل يؤهلهم للتعامل مع تقانات التعليم والمعلومات ووسائلها وبرامجها للاستفادة منها لأقصى درجة ممكنة فى التعليم.
توفير تقانات التعليم والمعلومات بأشكالها المختلفة للمؤسسات التعليمية، وتقديم كل التسهيلات اللازمة لهذه المؤسسات وأفرادها للوصول إلى المعلومات بأسهل الطرق وأقلها تكلفة، وربط هذه المؤسسات بمراكز وشبكات المعلومات بالداخل والخارج، بشكل متكافئ لجميع المتعلمين فى مختلف المراحل التعليمية.
تدريس تقانات التعليم والمعلومات كمقررات أساسية، وخاصة ثقافة الحاسوب واستخدام أصناف التقانة الأخرى، فى مختلف مراحل التعليم.
تشجيع المؤسسات والأفراد على إنتاج وتوفير المواد والبرامج التعليمية عبر التقانات الحديثة.
دعم التعاون بين المؤسسات التعليمية والمؤسسات الإعلامية والتجارية التى ترعى تقانات التعليم والمعلومات وتسوّق منتجاتها.
الاستفادة من تقانات الاتصال الحديثة المتوافرة حالياً فى الدول العربية وبالذات القمر الصناعى العربى الذى مازال استخدامه تربوياً وتعليمياً محدوداً.
تعليم الكبار
إن التعلم، كوظيفة جوهرية للمجتمعات الحية، يتعين أن يكون طائراً جناحاه تعليم الصغار وتعليم الكبار. وبقدر كفاءة الجناحين، وتناسقهما، يتحدد ما إذا كان التعلم يستطيع أن يطير، وإلى أى مدى يمكن أن يحلق، ويرفع المجتمع معه.
ومن أسف أن تعليم الكبار لم يلق العناية الواجبة فى البلدان العربية، وخاصة بالمقارنة بتعليم الصغار، سواء فى تخصيص الموارد، أو إعداد الكوادر التعليمية المؤهلة، أو إنشاء القنوات المؤسسية المناسبة، أو حتى البحث والتقييم.
فى الحد الأدنى، يتعين أن تعرّف الأمية على المستوى المستهدف، وليس الفعلى، لمستوى التحصيل التعليمى المخطط تحقيقه عند إتمام الحلقة الأولى من التعليم الأساسى (المرحلة الابتدائية).
غير أنه يمكن إعمال نفس المنطق الذى استخدم لتوسيع نطاق التعليم الإلزامى ليشمل التعليم الأساسى، من أجل تعريف مستوى وسيط من محو الأمية: أى مستوى التحصيل التعليمى المخطط تحقيقه عند إتمام التعليم الأساسى (مرحلة التعليم الإعدادى).
ويثور التساؤل عما إذا كان مستوى حتى أعلى من إتمام التعليم الإعدادى يمثل اختياراً أنجع للقرن الواحد والعشرين. والحق أن الإجابة ينبغى أن تكون بالإيجاب.
وعلى هذا الأساس، يوصى بتعريف ثلاث مراحل متتالية لتعليم الكبار: أساسى، ومتوسط، ومتقدم، بما يضع البلدان العربية فى مواجهة جادة لعملية للتعليم المستمر، الذى يؤمل أن يقوم، بشكل متزايد، على مبدأ التعلم الذاتى. ويمثل هذا التصور صياغة تتسق مع مقتضيات العصر لمفهوم تعليم الكبار. وتنطوى ضرورة مسايرة العصر على حتمية أن يتطور محتوى كل من هذه المراحل الثلاث مع تسارع الانفجار المعرفى الذى يعد أهم سمات القرن القادم.
ويعنى هذا التصور أن تعليم الكبار سيبقى ما بقى التسارع المعرفى، أى ما بقى البشر خلفاء فى الأرض. وأحد الوظائف المهمة لتعليم الكبار، فى ضوء التصور المطروح، هى التطوير المستمر لقدرات ومهارات خريجى برامج محو الأمية، بل والمراحل التعليمية المختلفة.
وكما اتضح فى "التمهيد"، فإن وتيرة الإنجاز السابق فى تعليم الكبار لا تكفى على الإطلاق لتحقيق هدف القضاء على الأمية، فى أى مدى زمنى مقبول، ناهيك عن الأهداف الأكثر طموحاً لتعليم الكبار.
ولذلك يتعين تخصيص موارد مجتمعية أكبر، لا تقتصر على المال، للقضاء على الأمية وتعليم الكبار. ومن قبيل ذلك توفير حوافز إيجابية مغرية للأفراد للتحرر من الأمية، وتقنين حوافز إيجابية وسلبية للجهات الحكومية ومنشآت قطاع الأعمال ومنظمات المجتمع المدنى على قدر نشاطها فى محو أمية العاملين بها. وتشجيع العمل الأهلى على القيام بدور نشط فى تعليم الشرائح الأصعب من الأميين المتناثرين فى تجمعات صغيرة فى طول البلاد وعرضها. والشبكة الأخرى التى توفر إمكاناً هائلاً للمساهمة فى محو الأمية هى دور العبادة، ومازالت إمكاناتها فى هذا الصدد غير مستغلة. وفى النهاية، لابد من اعتماد التعبئة المجتمعية التى تؤدى إلى بناء توافق عـام حول الأهمية الحرجة لمحو الأمية وتعليم الكبار ومتابعة تطور جهود القضاء على الأمية، بما فى ذلك التقييم الجاد للإنجاز.
ومن الأهمية بمكان توفير مقومات عدم الارتداد إلى الأمية. فالارتداد إلى الأمية سهل دون دعم متواصل، بل وتطوير مستمر، للمهارات المكتسبة بالتحرر من الأمية. كذلك يمثل الارتداد إلى الأمية إضاعة للفائدة المتوقعة فى مجال ترقية العنصر البشرى، وإهداراً لموارد المجتمع التى بذلت فى مكافحة الأمية. وأنجع وسائل منع الارتداد للأمية هو فتح باب التعلم المستمر على مصراعيه، سواء بتسهيل الالتحاق بمراحل التعليم النظامى المختلفة أو من خلال برامج راقية لتعليم الكبار.
ويلاحظ أنه ستبقى الحاجة لأعداد كبيرة من المعلمين وكوادر الإشراف والتوجيـه المؤهلين فى مجال تعليم الكبار، بل ستزداد فى المستقبل إذا ما أخذنا تحدى تعليم الكبار بالجدية الواجبة. ومن المعلوم أن لتعليم الكبار مقتضيات معرفية ومهارية تختلف عن تعليم الصغار. فى الأجل القصير، لابد من إنشاء برنامج كبير لإعداد معلمى الكبار، يقوم على توفير المرونة لتبنى الأساليب التعليمية الأنجع. ومن الضرورى فى هذا الصدد تعبئة الطاقة الهائلة للجامعات، هياكل مؤسسية وأساتذة وطلاباً، بشرط التدريب الجاد. والاستفادة كذلك من قدرات وخبرات المحـالين على المعاش، خاصة من المعلمين.
ولكن التطوير الحق للبنية المهنية لتعليم الكبار، كجناح أساسى للتعلم فى المجتمع، يتطلب تخليق مكون لتعليـم الكبار يتكامل عضوياً فى المنظومة العربية لإعداد المعلمين وفى الهيكل المهنى للمعلمين. ويقتضى ذلك العمل المنسَّق على عدة محاور: إدخال مواد عن تعليم الكبار فى برامج كليات التربية، إنشاء أو تقوية فروع فى كليات التربية متخصصة فى تعليم الكبار، وإقامة معاهد أو مراكز للبحث والدراسات العليا فى تعليم الكبار.
التعليم قبل المدرسى
يتطلب تحدى مجتمع المعلوماتية العالمى إعداد الأطفال مبكراً لكسب مهارات تجعلهم قادرين على الدخول فى مجتمع التنافس، ومؤهلين لمواجهة التحديات التنموية والحضارية، وعاملين على التوفيق بين الحفاظ على الهوية واحترام الاختلاف.
ويرتبط التعليم قبل المدرسى ارتباطاً وطيداً بالتربية الشاملة للطفولة المبكرة، كما أنه يشكل جزءاً لا يتجزأ من التعليم الأساسى، ويمثل أول خطوة للتوصل إلى التعليم للجميع. فتنمية وتطور الطفل عملية متعددة الأبعاد، شاملة ومستمرة، تتم عبر التواصل والتفاعل مع ظواهر الطبيعة والمجتمع.
وتتوقف قدرة الطفل على التعلم لدرجة كبيرة على سن التحاقه بالتعليم قبل المدرسى، وعدد السنوات التى قضاها به، ونوعية خبرة التعلم فيه. لذلك أصبحت كل البرامج الهادفة إلى ضمان التعليم للجميع تتوجه أولاً إلى الطفولة المبكرة معترفة بأن نمو الطفل وتطوره مرتبط بنوعية التجارب التى مر بها فى صغره وبأهمية التعليم فى هذه المرحلة كركيزة للتعليم الأساسى. لذلك تلعب رياض الأطفال دوراً جوهرياً، خاصة بالنسبة للمتعلمين ذوى الاحتياجات الخاصة أو الأطفال المحرومين من رعاية أسرية كافية.
مع ذلك لم يحظ التعليم قبل المدرسى حديثاً باهتمام الحكومات العربية حيث ينحصر مفهوم التعليم فى مراحله الثلاث: الابتدائى، الثانوى والعالى، وقلما يأخذ التعليم قبل المدرسى مكانته داخل السلم التعليمى.
فالبلدان العربية لا تضمن التعليم قبل المدرسى إلا لنسبة طفيفة من الأطفال. وهو فى غالب الأحيان ليس إلزامياً، ولا يبرمج ضمن النسق التعليمى العام، ولا يعد الالتحاق به شرطاً للالتحاق بالتعليم الأساسى، وتبقى كلفته بالنسبة للأسر، وخاصة الفقيرة، باهظة. ويقوم على تسيير قطاع التعليم قبل المدرسى فى غالب الأحيان القطاع غير الحكومى. كما تتسم رياض الأطفال فى البلدان العربية بطابع حضرى واضح.
ولكى تقوم بدورها على أكمل وجه، يتعين ألا تكون روضة الأطفال مدرسة ابتدائية مصغرة، ذات صفوف ومقررات، وإنما يجب أن تكون بيئة متكاملة ومؤسسة انتقالية توفر للطفل مجالاً للعب والتعلم والنماء الجسدى وتنمية الحواس والتكيف مع الجماعة، وتبرز قدراته الفكرية والعاطفية والاجتماعية.
وحيث تتم التنشئة بداية داخل الأسرة عبر المساهمة التلقائية والمساهمة الموجهة، فقد أكدت التجارب العالمية والقطرية على أن توعية الآباء وإدماجهم فى تحديد البرامج التعليمية، يساهم فى تشجيعهم على تحسين التواصل مع الأطفال، وتقوية وعيهم بالاحتياجات المتعددة للطفل، ويزودهم بمهارات جديدة ونماذج تربوية أخرى، الأمر الذى يؤدى إلى تفاعل أنجع بين الأسرة ورياض الأطفال والمدرسة فيما بعد.
غير أن مساهمة الأسرة تبقى رهينة وضعها الاقتصادى والاجتماعى. ويشكل تردى الظروف الاقتصادية والاجتماعية، الذى تعانى منه فئات عريضة من المجتمع العربى، أحد العوامل الأساسية التى تحرم الأطفال من التعليم قبل المدرسى، وتساعد على فشل برامج التعليم المبكر، وتؤثر سلبياً على تنمية الطفل العقلية والانفعالية والاجتماعية.
وتجدر الإشارة إلى الدور الحاسم الذى تقوم به وسائل الإعلام الحديثة، واسعة الانتشار، خاصة التلفاز، فى تشكيل عقول الأطفال ووجدانهم، الأمر الذى يكتسى خطورة واضحة مع تهافت المادة المذاعة فى أحيان كثيرة، وفى سياق قلة انتشار التعليم قبل المدرسى.
وليس من قبيل المبالغة القول بأن من أهم مقومات تجديد التعليم العربى أن تعنى السلطات التعليمية فى الوطن العربى، قطرياً وقومياً، بنشر التعليم قبل المدرسى وتوفير مقومات التربية الراقية فيه، وإقامة صلات وثيقة فى هذا المجال مع جميع مؤسسات التنشئة الاجتماعية الأخرى المؤثرة على الأطفال، خاصة الأسر ووسائل الاتصال الجماهيرى.
وتؤكد "الاستراتيجية العربية للتربية السابقة على المدرسة الابتدائية (مرحلة رياض الأطفال)" على أن مرحلة الطفولة تعد مرحلة حاسمة فى تكوين الإنسان. ومن هذا المنطلق فإن مرحلة التربية السابقة على المدرسة الابتدائية تكوّن الحجر الأساس فى تعليم الفرد وفى البنية التعليمية ككل. ولذلك فمن الجوهرى أن تتضافر المؤسسات الاجتماعية كافة فى إرساء حجر الأساس هذا، كبيراً ومتيناً.
وتدعو الاستراتيجية إلى التركيز على اللعب والقصة والحوار والاستكشاف والمناقشة فى الأنشطة والطرائق التعليمية فى التعليم قبل المدرسى؛ وإلى الاهتمام بوجه خاص بالتعلم الذاتى وبكل الوسائل التى تؤدى إلى تكوين الاتجاهات والمواقف والقيم الثقافية الحية والمبدعة، ولاسيما ما يتصل بمحبة العمل والنشاطات الحرفية، وبث روح التخطيط والتنظيم والتعاون والتضامن والعمل الجماعى المشترك وإيجابيات الثقافة العربية، فى نفوس الأطفال.
ذوو الاحتياجات الخاصة (بالتركيز على المتفوقين)
تختلف الحاجات الإنسانية من فرد لآخر. وتتباين القدرة على التعلم بين فرد وآخر. ولذا لابد أن تلتفت المجتمعات العربية إلى أفرادها جميعاً، وتوفر لهم فرص النمو والمشاركة الفاعلة فى الحياة الاجتماعية، كل وفق قدراته وإمكاناته. إن هذا لحق إنسانى أساس.
ويعتمد نجاح برامج رعاية ذوى الاحتياجات الخاصة، بداية، على مدى القبول الاجتماعى لها. ولا تواجه برامج المعوقين عادة مقاومة، إذ يسود الاعتقاد فى المجتمع بأن هذه الفئة محرومة، ومن الواجب دينياً واجتماعياً أن تتم رعايتها. أما بالنسبة لرعاية المتفوقين فالأمر مختلف. فلم تلق فئة المتفوقين الرعاية الواجبة، خاصة فى منظور مساهمتها فى تقدم الأوطان. بل هناك من يعارض وجودها أصلاً من حيث إنها "تربية نخبة".
ولذلك، وعلى حين تقوم الحاجة لتحسين جوهرى فى تعليم ذوى الحاجات الخاصة فى البلدان العربية بوجه عام، يقع التركيز هنا على تعليم المتفوقين، حيث يلعبون دوراً مهماً فى مجال الإبداع الضرورى للتقدم فى عصر المعرفة والتقانة. إلا أنه يتعين التأكيد على أن المقصود ليس التركيز على تعليم نخبة المتفوقين مع عدم الاهتمام بكل من عداهم. فالإبداع سمة مجتمعية. وغاية التعليم المنشود فى الوطن العربى هى تفجير أقصى الطاقة الإبداعية الممكنة فى الأفراد جميعاً. ولكن ستبقى دائماً فئة المتفوقين، طاقة هائلة محتملة، يتعين على نسق التعليم أن يساهم بقسط جوهرى فى إطلاقها وتوجيهها خدمة لنهضة الأمة.
ومن الضرورى التعرف على خصائص المتفوقين حتى تتبين السمات اللازمة فى برامج رعايتهم.
أولاً، يتسم التفوق بتعدد الأوجه. وعادة ما يختلف أداء المتفوق فيما يتصل بالنضج المبكر، والقدرة على التعلم الذاتى، وعلى توليد الأفكار الجديدة من المجال الذى يتعامل معه. فقدرة المتفوق على إدراك عناصر المجال عالية مما يعطيه الفرصة لإدراك العلاقة بين عناصره ومن ثم إعادة تشكيل المجال. كذلك تزداد حرارة دافعية المتفوق للعمل كلما ازداد انغماسه فى العمل وارتفع مستوى أدائه. فحين يبدأ المتفوق فى العمل ويسيطر على بعض مفردات المجال تبرق شرارة الدافعية. وإذا سيطر على المجال فإن شرارة الدافعية هذه تزداد سخونة. وتستعر الدافعية إذا بدأ المتفوق فى اكتشاف العلاقات وتمكن من الانتقال إلى مستويات أعلى لدرجة أنه يفقد الإحساس بالوقت وكذلك المحيطين به، ومن هنا ينشأ العلماء. وقد يتركز التفوق فى مجالات معينة دون غيرها. ولا يستغرب أن يظهر المتفوق عجزاً فى بعض المجالات. كما لا يحتاج بعض أصناف التفوق إلى ذكاء عال جداً، وخصوصاً عندما نتحدث عن الموهبة.
والتفوق هو محصلة لتفاعل الوراثة والبيئة معاً: الوراثة تزود الفرد بمدى من الاستعدادات ثم تأتى البيئة لتضع الفرد على أحد نقاط الاستعداد. ويكون المتفوقون أكثر قدرة من غيرهم على التوافق النفسى، وأقل عرضة للإحباط والقلق، فقط إذا عاشوا فى بيئة تتفهم قدراتهم واختلافهم عن الآخرين ولا تدفعهم لأن يكونوا على غير ما هم عليه.
وفى النهاية، فإن هناك فروقاً فردية بين المتفوقين. إذ يختلف المتفوقون فيما بينهم فى درجة التفوق ونوعيته، ومن حيث مجالات التفوق. ولذلك يجب أن تضع رعاية المتفوقين فى الاعتبار ضرورة مراعاة الفروق الفردية بينهم.
متطلبات رعاية المتفوقين
يجب أن يكون لرعاية المتفوقين حضور واضح ضمن السياسات والبنية التعليمية. وإذا تحقق ذلك يسهل عندئذ ترجمة رعاية المتفوقين إلى خطط وبرامج ومشاريع.
انتقاء أسلوب الرعاية المناسب: فى حالة أسلوب الفصل الكامل للمتفوقين فى "مدرسة خاصة" تواجهنا مشكلة التكلفة المادية والكثافة البشرية اللازمة، والتضحية التى ندفعها نتيجة عزل المتفوقين اجتماعياً عن الطلاب العاديين. أما إذا اخترنا "الفصول الخاصة" فى مدارس عادية، فهى أقل تكلفة وتحقق قدراً معقولاً من التفاعل الاجتماعى، لكنها فى الوقت نفسه تضحى بتوافر الظروف المتكاملة لرعاية المتفوقين مثل التجهيزات الخاصة والمدرسين المعدين للتعامل مع المتفوقين. وإذا اخترنا الأسلوب "الإثرائى" فإنه يتيح للمتفوقين التفاعل التام مع غيرهم من الطلبة العاديين، إضافة إلى خفض التكلفة المادية، لكن يفقد المتفوقون عندئذ فرصة التحدى مع بعضهم البعض، ولا ينجح هذا الأسلوب إلا بنسق مركب من الرعاية الخاصة للمتفوقين بين الطلبة العاديين.
توفير الدعم المادى والبشرى. برامج المتفوقين غير عادية فهى تحتاج إلى تكلفة مادية مرتفعة نسبياً وتسهيلات خاصة. وعلى سبيل المثال، تقتضى هذه البرامج تكلفة مرتفعة فى توفير تقانات التعليم الحديثة ومستلزماتها. وتظهر الحاجة لأدوات البحث وممكناته أكثر من برامج التعليم العادية. ولكن إذا أردنا أن نعرف التكلفة الحقيقية لرعاية المتفوقين فيجب أن نحسب التكلفة والمصروفات فى ضوء العائد المستقبلى، أى ما يمكن أن يحققه المتفوقون للمجتمع.
وفوق هذا تحتاج برامج المتفوقين إلى كادر بشرى يتناسب فى قدراته مع قدرات المتفوقين. على وجه الخصوص، لمعلم المتفوق دور محورى فى رعاية المتفوقين. فلا يفهم المتفوق بشكل جيد إلا متفوق مثله. ويجب الاعتماد على مدرسين يتمتعون بدافعية عالية أعدوا خصيصاً للتعامل مع المتفوقين. ولذلك فمن الضرورى إعداد هذه الفئة الخاصة من المعلمين على مستوى عال، الأمر الذى يستلزم زيادة جرعة التعلم فى الخارج.
استمرار الرعاية بعد التعليم العام. إن رعاية المتفوقين فى مرحلة التعليم العام ما هى إلا نقطة البداية فقط. فرعاية المتفوقين يجب أن تأخذ شكل حزمة من السياسات تبدأ بالتعليم العام، وتستمر إلى مرحلة التعليم العالى. بل يجب ألا تقف الرعاية عند الإعداد بل تتعداها إلى خلق مجالات عمل ملائمة لتوظيف قدرات المتفوقين. فلا يوجد سبب يؤدى إلى إحباط المتفوقين أكثر من عدم توفر فرص العمل التى تتناسب مع قدراتهم. إن المتفوقين بطبيعتهم لا يستطيعون أن يعملوا فى أوساط روتينية ونمطية ومقيدة، تفتقر إلى مقومات الإبداع، وهذه الصفات من الأسباب الرئيسة لسوء توافق المتفوق النفسى مع عمله. ويؤدى غياب هذه المتطلبات إلى فقدان المجتمع لعائد قدرات الموهوبين، وإن بقوا داخله. وإضافة إلى الفقد فى الداخل، يتسارع خطر فقد المتفوقين إلى مراكز النظام الاقتصادى العالمى لدرجة خطرة مع العولمة، كما أشير فى القسم الثانى.
ضرورة قيام عمل مجتمعى لمناصرة برامج رعاية المتفوقين. فى شكل رابطة أو جمعية لرعاية المتفوقين تضم فى عضويتها أولياء الأمور والمختصين فى مجال رعاية المتفوقين.
التعليم الفنى والمهنى
التعليم الفنى والمهنى هو أكثر أنماط التعليم التصاقاً بمواطن الإنتاج. وحجبها عنه، أو عزله عنه، ينطوى على ضرر بالغ. ومشكلة التعليم الفنى والمهنى الجوهرية فى المنطقة العربية أنه ظل فترة طويلة بعيداً عن مواطن الإنتاج. ونتيجة لذلك يعيش التعليم الفنى والمهنى، وينتهى، غريباً عن الإنتاج وفنونه.
وبينما قد يمتلك كثرة من خريجى مؤسسات التعليم الفنية والمهنية معلومات طيبة عن موضوع التخصص، فهم لا يمتلكون الخبرة المهنية والتقنية. حتى أولئك الذين يقضون وقتاً طويلاً فى العمل لا يقدرون بالضرورة على امتلاك الخبرة. لذلك كان لزاماً أن تتضمن برامج الإصلاح التعليمى، وبرامج إصلاح سوق العمل، ما يكفل لطلاب التعليم الفنى والمهنى أن يحصلوا على الخبرة الحقيقية.
وقد أصبح التأهيل لمعظم المهن يتطلب مستوى تعليمياً مرتفعاً بالمقارنة مع الماضى، ويستلزم وقتاً أطول من التعليم العام قبل التخصص المهنى. وعلى حين تناقصت الحاجة إلى المهارات اليدوية التقليدية بشدة فى معظم المهن، يزداد الطلب بسرعة على المهارات الاجتماعية والاتصالية والعقلية. ولذلك يكون التعليم الفنى والمهنى مجدياً إذا كان مفتوح القنوات، متصل الحلقات، مستمراً، لا يتوقف مداه عند حد معين.
كذلك صار مطلوباً أن تتوافر السمات الآتية فى خريجى التعليم الفنى والمهنى: امتلاك المهارات الخاصة بمهنة معينة أو مجموعة من المجالات المهنية؛ وامتلاك مهارات أساسية عديدة قابلة للتحول إلى حقول مهنية متعددة؛ والقدرة على استغلال المهارات فى مجالات جديدة؛ والفاعلية الذاتية، بمعنى القدرة على المبادأة والتصرف فى مواقف غير معتادة.
ويجب أن تعتمد معايير التعليم الفنى والتدريب المهنى، بالدرجة الأولى، على رؤى مؤسسات الإنتاج. فهناك حاجة دائمة إلى ربط التعليم الفنى والمهنى بسوق العمل الأمر الذى يستلزم على الدوام مراجعة مدى جودة التعلم الذى يتم داخل مؤسسات التعليم الفنى والمهنى. كما أن هناك ضرورة مستمرة لاختبار المعايير المتبعة فى تحديد المهارات والمعارف المطلوبة فى ضوء الواقع، بحيث يشارك فى هذا الاختبار المؤسسات الإنتاجية وأجهزة الاعتماد التعليمى والمهنى المتخصصة والجمعيات المهنية.
سبل تحسين التعليم الفنى والمهنى
إدخال مقدمات للتعليم الفنى والمهنى مبكراً فى التعليم الأساسى، ونشر الثقافة المهنية والتقنية من خلال وسائل الإعلام والتعليم من بُعد بالتعاون مع مؤسسات الإنتاج.
تغيير معايير توجيه الطلاب إلى التعليم الفنى والمهنى بحيث لا يبقى هذا المسار "عقاباً" لمن لا ترقى درجاته للاستمرار فى التعليم العام.
تحسين برامج خدمات التوجيه والإرشاد المهنى فى التعليم العام للطلبة من الجنسين، خاصة على نطاق التعليم الثانوى.
زيادة الاهتمام بالتعليم الفنى والمهنى الذى يقوم على درجة كافية من الفهم العام للعلوم التطبيقية والرياضيات فى الإطار التقنى والإنتاجى، بدلاً من الاقتصار على تعليم المهارات المحددة التى تتطلبها حرف معينة.
إيجاد صلة وثيقة بين مؤسسات التعليم الفنى والمهنى ومؤسسات العمل والإنتاج. وتستوجب هذه الصلة مشاركة مؤسسات العمل مشاركة مؤثرة فى تحديد أهداف التعليم الفنى والمهنى، وبرامجه وإدارته، ومتابعته وتقويمه، وفى توظيف خريجيه عند انتهائهم من البرامج الدراسية بنجاح. ويتطلب ذلك توفير قنوات اتصال فعالة بين معاهد التعليم الفنى والمهنى ومؤسسات الأعمال، خاصة فيما يتصل بتطوير المناهج الدراسية، وتحسين مؤهلات هيئة التدريب، والتخطيط لقبول الطلاب، والتوجيه المهنى لهم، وتوظيفهم.
تصميم مناهج التعليم الفنى والمهنى لتناسب احتياجات العمل، ولإكساب الطلبة المهارات اللازمة لمزاولة المهن فى الواقع مباشرة من خلال الارتباط بعالم العمل الحقيقى. ويشمل ذلك إتاحة فرص حقيقية للطلبة للعمل المنتج ضمن المنهاج الدراسى المعتاد من خلال تأمين فرص اتصال الطلبة بمواقع الإنتاج بما يؤدى إلى دمج الخبرة الدراسية المدرسية بالخبرة التطبيقية فى أماكن العمل.
توسيع قاعدة التعليم الأهلى الفنى والمهنى، فالتعليم الأهلى يمكن أن يكون أكثر قدرة على ربط التعليم بسوق العمل واحتياجاته، وأكثر فاعلية فى الاستجابة لاحتياجات قضاء الطلبة- ضمن برنامجهم الدراسى- لفترة تدريب ميدانى فى مؤسسات الأعمال، يتوفرون خلاله على الممارسة الفعلية للمهنة لتثبيت المهارات والخبرات التى حصلوا عليها ولترسيخ مفاهيم أخرى جديدة واكتساب مهارات عملية ضرورية.
تنويع برامج التعليم الفنى والمهنى بحيث لا يكون الهدف منها فقط منح درجات علمية، وإنما تعطى الفرصة لمن يحتاج للحصول على قسط من التدريب المهنى يساعده فى تطوير عمله وتوفير فرص التدريب الفنى والمهنى المستمر، خاصة بالتركيز على التعليم والتدريب فى المجالات الحديثة (المعلوماتية، الأتمتة، ... الخ).
توفير المعدات اللازمة للمدارس والمعاهد الفنية والمهنية (بما فى ذلك توفير التكلفة الجارية للمواد التدريبية والصيانة).
العناية بتوفير برامج التعليم الفنى والمهنى للنساء، وتوفير برامج وخدمات من شأنها أن تساعد على التأهيل المهنى لذوى الاحتياجات الخاصة.
مد مستوى الإعداد الفنى والمهنى إلى مستوى الكليات المتوسطة، وفتح مراحل الهيكل التعليمى لخريجى التعليم الفنى والمهنى.
تطوير برامج إعداد معلمى ومعلمات التعليم الفنى والمهنى وبمشاركة مؤسسات الإنتاج.
شمول التعليم الثانوى لبرامج جديدة ذات طابع مهنى وذلك لإعداد كوادر فنية يمكنها دعم احتياجات القطاعات المهنية من الأفراد المؤهلين، ودراسة التخلى عن نمط المدارس الثانوية التقليدية واستبداله بالمدرسة الثانوية الشاملة.
مراجعة التصنيفات المهنية القائمة حتى تعكس المهن المتاحة فى سوق العمل ومهن المستقبل ومجالات التعليم الفنى والمهنى المستحدثة. فسوق العمل تتميز بالتغير السريع والتطور المتلاحق، الأمر الذى قد يتطلب إيجاد آلية جديدة لتحديد المهن، وأدوار المهنة ومواصفاتها وأساليب تأديتها، وانعكاس ذلك على مضمون البرامج التعليمية.
العناية بالبحث العلمى فى مجال التعليم الفنى والمهنى.
تكوين المعلمين
تتعدد العوامل التى تؤدى إلى تقدم التعليم وتتشابك. غير أن إصلاح تكوين المعلمين هو أحد أهم العوامل، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، فى تحقيق التقدم التعليمى. فالإصلاح التعليمى لا يعطى النتائج المرجوة بدون مشاركة فعالة من المعلمين، تعنى أن يصبح المعلم مهنياً محترفاً وفناناً فى القيام بعمله لتحقيق أقصى نماء ممكن لجميع المتعلمين، آخذاً فى الاعتبار قدراتهم ومستوياتهم العقلية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية، من ناحية، وبحيث يُحسن المعلم ذاته من خبراته ومهاراته واتجاهاته أثناء هذه العملية التفاعلية مع المتعلمين، من ناحية ثانية. ويتطلب تطوير تكوين المعلمين فى البلدان العربية اتباع عدد من السياسات المتضافرة، تتلخص فيما يلى.
فى سياق تراكم المعرفة السريع، لا يمكن تحصيل المعلومات واكتساب المهارات التى يحتاجها المعلم فى فترة تعلّم قصيرة. إن أربع سنوات من التعليم العالى هو الحد الأدنى من الوقت اللازم للإعداد الأول للمعلمين، بغض النظر عن المرحلة التعليمية التى يعدون للتدريس فيها. وكلما زادت سنوات الإعداد عن ذلك كان ذلك أفضل من أجل الارتقاء "بالمهنة" واستعادة "مكانة" مرموقة للمعلم.
وفى هذا المنظور يجب أن تلغى معاهد إعداد المعلمين المتوسطة فى أقرب فرصة ممكنة، كما يجب أن تتبنى الدول العربية استراتيجيات غير تقليدية لرفع مستوى غير الجامعيين من العاملين فى الجهاز التدريسى وحسب خطة زمنية واضحة.
ويفضل قصر تكوين المعلمين على الجامعات ذات السمعة العلمية الرصينة فى البحث والتطوير، ويجب أن تنظر هذه الجامعات إلى برامج تكوين المعلمين كجزء من مسؤولياتها تجاه المجتمع.
ويتعين الاهتمام، بوجه خاص، بالتطوير المستمر لقدرات معلمى المعلمين- هيئات التدريس بكليات التربية- الذين يلعبون دوراً محورياً على قمة العملية التعليمية، من خلال فرص البحث وتدارس التطورات الحديثة، والتجارب المهمة، فى التعليم، فى الداخل وفى الخارج.
تطوير قاعدة معرفية ملائمة لبرامج تكوين المعلمين تتناول الثقافة العامة والمواد التخصصية والثقافة التربوية وطرق التدريس والتربية العملية، وتستمد جزئياً من الأدبيات العالمية، ومن نتائج البحوث والدراسات الأصيلة، ومن تراث الأمة. على أن تشمل القاعدة المعرفية طبيعة العلم وطرق البحث فيه وكيفية الوصول إلى المعرفة. ويجب التأكيد على أن تشمل مواد الثقافة العامة عناصر مشتركة بين كافة الأقطار العربية تجسد وحدة التراث والهدف والمصير، وكذلك إسهام العرب والمسلمين فى العلوم والحضارة الإنسانية، منهجاً وفكراً وأسلوباً. كما يجب تحويل هذه القاعدة المعرفية إلى بنى معرفية تربوية، وإلى طرائق فى التعليم، تتلاءم مع الكيفية التى يتم فيها تعلّم هذه المعرفة.
وضع سياسات جديدة لقبول الطلبة فى كليات التربية بهدف استقطاب أصحاب القدرة والموهبة، والمحافظة عليهم فى "المهنة" أطول فترة ممكنة. ويشمل ذلك تحديد أسس اختيار الطلبة والتى لابد من أن تأخذ بعين الاعتبار امتلاك المرشح القدرات اللغوية والاتصالية والتفكيرية النقدية، والحس بالمسؤوليات والواجبات الأخلاقية والمهنية، والإيمان بالدور التثقيفى الواسع للمعلمين كوكلاء للمجتمع فى نقل تراثه وحفظه ونقده وتنميته.
لابد لكل كلية تربية من إنشاء واحدة على الأقل من مدارس التطوير المهنى، ليس باعتبارها مختبراً للكلية فحسب، بل مجالاً للبحث والتطوير حول التدريس، تجرب فيه الأفكار الجديدة، ويتعاون القائمون عليها مع أعضاء هيئة التدريس فى الكلية فى وضع المشروعات التطويرية، والبحثية. وعلى هذا تصبح المدرسة موقعاً للتدريب العملى على التدريس من ناحية، ووسيلة لابتداع مضامين وأساليب جديدة للتعليم من ناحية أخرى.
على كليات التربية أن تقيم الجسور بينها وبين المدارس من جهة، وبينها وبين الخريجين من جهة ثانية، بحيث تحقق الربط الوظيفى بين هذه الأطراف، ليس فقط من أجل مساعدة المدارس، بل أيضاً من أجل تقويم قدرات ومهارات خريجى الكلية ومدى إسهامهم فى تطوير المهنة، ولكى يعمل الخريجون القدامى على تسهيل عمل المعلمين الجدد ومساعدتهم أثناء فترة العبور من التعلم إلى التدريس.
اعتماد البحث والتطوير كمسؤولية أساسية لكليات التربية وكعنصر رئيس فى برامج تكوين المعلمين- يستهدف بناء القاعدة المعرفية لتكوين المعلمين، وتطويرها باستمرار من خلال بحوث أعضاء هيئة التدريس والممارسين التربويين الخبراء من جهة، وتزويد المعلمين بالمهارات اللازمة لإتقان البحث العلمى، منهجاً وطرقاً وأساليب وأدوات، بحيث يمكنهم تبنى المقاربات العلمية النظامية للمشكلات والتفكير فيها موضوعياً من جهة أخرى. وعندما يقوم المعلمون- بدورهم- بتدريب طلبتهم على هذه المقاربات العلمية يتكون تأثير تراكمى يساعد على بناء القاعدة المعرفية والعلمية للمجتمع كله على المدى البعيد.
إزالة الحواجز الوهمية بين مستويات تكوين المعلمين الثلاثة، ما قبل الخدمة، سنة العبور، وأثناء الخدمة، والنظر إلى تكوين المعلمين على أنه عملية مستمرة تبدأ ولا تنتهى. كذلك يجب تحقيق درجة عالية من التكامل بين هذه المستويات بحيث تُبنى برامج تكوين المعلمين اللاحقة على التدريب الأوّلى لهم مما يؤدى إلى تراكم المعرفة بشكل طبيعى وتلقائى سواء تعلق ذلك بالمعارف أو المهارات أو الاتجاهات. ومن هذا المنطلق يجب أن تبادر المؤسسة التربوية، والمدرسة بشكل خاص، من تلقاء نفسها بتصميم وتنفيذ برامج التدريب من أجل حل مشكلات قائمة والتحسين والتطوير. كذلك يجب إنشاء شبكة تعاونية واسعة بين مؤسسات التدريب- قبل الخدمة وأثنائها- والمدارس من أجل تدريب المعلمين.
تحسين البنية المهنية للتعليم من خلال إنشاء وتدعيم الروابط والجمعيات المهنية التى تؤسس أخلاقيات المهنة، وتقوم على تطوير المعلمين مهنياً، وحماية مصالحهم خاصة فى ميدانى الكسب اللائق والتقدير المعنوى، وتساهم بصورة فعالة فى تطوير التعليم عامة، وتكوين المعلمين خاصة.
إدخال نظام رتب المعلمين على أن تناظر كل رتبة مستوى واضحاً من المسؤولية والاستقلالية والمكافأة- المادية والمعنوية. ويمكن التفكير مبدئياً بثلاث رتب للمعلمين؛ "المعلم العام"،
و "المعلم الخبير" و "المعلم الاستشارى"، على أن يترجم ذلك التراتب إلى وصف وظيفى لكل رتبة سواء فيما يتعلق بالواجبات التدريسية أو الإشرافية أو الإدارية، وأن ينعكس ذلك فى برامج التدريب أثناء الخدمة بحيث لا يرقى المعلم من رتبة إلى الأعلى إلا بعد اجتياز برامج تدريبية معينة والنجاح فى الاختبارات العلمية والعملية اللازمة، وأن ترتبط الترقية إلى رتبة أعلى بإظهار القدرة على التطوير والإبداع.
إقامة نظم لاعتماد برامج تكوين المعلمين والترخيص بمزاولة المهنة كما هو الحال فى المهن الراقية، على أن يبنى الاعتماد على مجموعة من المعايير التى توجد لها محكات واضحة للتحقق، وأن يتم الاتفاق على هذه المعايير والمحكات بين أطراف العملية: الحكومات، والجامعات أو كليات التربية، ومنظمات المعلمين. ويفضل أن يوكل أمر الاعتماد لجهة مستقلة عن التأثير المباشر للحكومة. أما الترخيص فيجب أن تتولاه مؤسسة حكومية تربوية غير تلك التى تقوم بالاعتماد. ويجب أن يكون الترخيص فى البداية أولياً على أن لا يُثبّت فى الخدمة إلا أولئك الذين يظهرون القدرة والموهبة والكفاية والالتزام والحس المهنى المتطور والرغبة فى تطوير المهنة. ويمكن أيضاً إدخال نظام التجديد الدورى للترخيص، بعد اجتياز برامج تدريب إذا اقتضى الأمر.
ولعل هذا هو الموقع الملائم لإثارة مشكلة "الدروس الخصوصية" التى تتفشى فى بعض البلدان العربية. وليس التدريس "الخصوصى"- خارج المدرسة- إلا تعبيراً عن أزمة نسق التعليم- المتفاقمة- بأبعادها المتعددة، وتعبيراً بوجه خاص عن تفاعل عدد من العوامل المتداخلة منها التركيز الزائد على درجات الامتحانات، وضعف العملية التعليمية داخل المدارس، وتدنى دخول المعلمين، وافتقاد الانضباط فى الخدمة الحكومية- وفى المدارس خاصة، وتدهور أخلاقيات مهنة التدريس مع صعود قيمة الكسب المادى- بصرف النظر عن مصدره- فى المجتمعات العربية.
ويتضح من هذه القائمة المختصرة من "الأسباب" أن المشكلة معقدة، وبعض أسبابها يتعدى نسق التعليم فى حد ذاته إلى السياق المجتمعى الأكبر، ومن ثم لا تقبل هذه المشكلة حلولاً سهلة. بل ينتظر، إذا استمرت أزمة التعليم على حالها، أن تستشرى "الدروس الخصوصية" بحيث تصبح نسق تعليم مواز، خارج نطاق التنظيم والمراقبة.
ومن جانب آخر، فإن تبنى الرؤية المقدمة هنا ينبغى أن يؤدى لتحسين فى التعليم يتمخض عن تضييق الخناق على بعض روافد مشكلة الدروس الخصوصية. إلا أنه يتعين أن يكون واضحاً أن القضاء على المشكلة رهن بتحقيق أعلى مستوى من تجديد التعليم فى البلدان العربية- الأمر الذى يتطلب تبنى مجمل عناصر الرؤية وسياقاً مجتمعياً مواتياً.
المدرسة والمجتمع
تدل دراسات نوعية التحصيل التعليمى على أن تخصيص الموارد الأعلى للتعليم، وتوفير مدخلات أفضل للعملية التعليمية (على صورة إمكانات وتجهيزات للمدارس وعبء تدريسى أقل للمدرسين مثلاً)، وارتفاع التحصيل التعليمى التراكمى فى المجتمع، عوامل كلية ترتبط بتحسن نوعية التعليم. وتزداد أهميتها مجتمعة. ولكنها لا تكفى لتفسير كامل لاختلاف مستوى نوعية التعليم من بلد لآخر. والسؤال المهم هو: ماذا إذاً يهم؟
الاتفاق السائد الآن أن توليفة العوامل ذات الأهمية الحرجة فى تحديد نوعية التعليم تتصل بعملية التعليم-التعلّم بالمعنى الواسع: ما يدور داخل الفصل، فى المدرسة ككل، والعلاقات بين المدرسة والمجتمع المحلى، بالإضافة إلى العوامل الكلية المواتية التى تعد لازمة، ولكن غير كافية.
يتعين النظر إلى المدرسة كمستقبل للتوجيهات، وللمدخلات، من الإدارة التعليمية ومن المجتمع المحلى. ومن أهم مدخلات المجتمع المحلى للمدرسة، بالطبع، التلاميذ وخصائصهم. ويتعين أن تتدعم ديمقراطية التعليم ولا مركزيته بحيث يظهر الاتجاه العكسى فى العلاقة بين المدرسة والإدارة التعليمية- التى تتسم حالياً بمركزية مفرطة فى البلدان العربية- بحيث تتحول المدارس إلى محدد لهوية النسق التعليمى- ومشارك فاعل فى التطوير التعليمى- من ناحية، ويتنامى دور المجتمع المحلى فى تكوين المدرسة وتسييرها، من ناحية أخرى. ويتطلب ذلك أن تتعدد قنوات تفاعل المدرسة مع المجتمع المحلى بحيث لا تقتصر على الآباء.
وتقع عملية التعليم-التعلم، أو تفاعل التلاميذ والمدرسين، أساساً داخل الفصل، فى قلب منظومة المدرسة. وتفعل فيها توليفة متشابكة من المكونات: التوجيهات والمدخلات من الإدارة التعليمية ومن المجتمع المحلى، العلاقات داخل المدرسة، نوعية هيئات التعليم، الإمكانات المادية للتعليم، ومحتوى المواد، وطرق التعليم، وتنوع النشاطات التعليمية. ومن تفاعل كل هذه العوامل فى بوتقة المدرسة تتحدد نوعية المخرجات التعليمية.
وتشدد الدراسات الحديثة على أن التنوع فى المدارس من الضخامة بما يكاد ينفى فكرة "المدرسة النمطية"، وأن أداء المدرسة لا يفهم بحق إلا فى سياقه المحلى. ولذلك لا يوجد أمل كبير فى تطوير التعليم إلا من خلال إقامة علاقة تضافر قوية بين المدرسة والمجتمع المحلى. وعلى المخططين، والإدارة التعليمية، أخذ ذلك التنوع، وأهمية السياق، جدياً فى الاعتبار، بمعنى الإقرار به، ودراسته، والعمل على تعظيم الاستفادة من الخصوصيات المحلية فى إطار من المرونة واللامركزية، إذا أريد تحقيق أعلى مستويات الكفاءة والجودة.
كذلك هناك ضرورة لفهم جانب "الطلب" على التعليم، من قبل الأسر والمشروعات، خاصة فى سياق تعاظم دور آليات السوق، والإقرار بأن الخطط والإصلاحات التى تتجاهله كثيراً ما تبوء بالفشل، دون أن يعنى ذلك التخلى عن دور التعليم كقاطرة لتأسيس التقدم فى المجتمع.
وقد سبقت الإشارة إلى أهمية التركيز على العنصر البشرى: هيئات التعليم، فى عملية التعليم-التعلم. ويعنى ذلك الاهتمام بإعداد هيئات التعليم، قبل وأثناء الخدمة، وضمان توفرهم على العملية التعليمية فى المدارس، وتهيئة ظروف عمل مؤاتية ومعيشة كريمة لهم، وتفعيل الإشراف والتوجيه عليهم، مع تشجيع مشاركتهم الفعالة فى التخطيط للتعليم وإدارته. وجماع هذا العنصر البشرى هو المدرسة كمؤسسة اجتماعية، يفلح بها التعليم أو يخيب.
ولكن كل ذلك لا يعنى أن تغدو المدرسة غاية فى ذاتها، وعلى الطالب أن يتكيف- شاء أم أبى- مع ما تفرضه من مناهج وطرائق، وإلا كان جزاؤه الرسوب فالتسرب. فالاتجاهات الحديثة كلها تؤكد أن على المدرسة أن تتكيف أيضاً مع الطالب وقابلياته وقدراته. وبتعبير آخر، علينا أن نوازن الأمور، فبدلاً من أن نقتصر على الحديث عن "نجاح الطالب فى المدرسة"، علينا أن نتحدث أيضاً عن "نجاح المدرسة" فى تعاملها مع الطالب.
ولابد أن يحل محل أسلوب الاصطفاء الذى تقوم به المدرسة، حين ترفع وتخفض، وتكافئ وتعاقب، أسلوب "التوجيه التربوى" الذى يؤدى إلى تقديم تعليم يصمم حسب قابليات الطلاب وحاجاتهم بحيث ينمى قدراتهم، وإلى تزويد المجتمع بالتالى بتشكيلة متنوعة من أنماط الخريجين الذين يلبون حاجات المجتمع وحاجات العمل المتعددة والمتجددة، ويلبون فى الوقت نفسه حاجات نموهم النفسى والاجتماعى وانطلاقهم المبدع. ويتكامل التوجيه "فى المدرسة" مع "التوجيه المهنى" خارجها، فى مؤسسات العمل والإنتاج، وهى علاقة حين تتوافر تؤدى إلى ربط عضوى وثيق بين مخرجات التربية وبين النمو الاقتصادى.
ويعنى تنويع التعليم، بين ما يعنى، إعادة النظر فى إيقاع الحياة المدرسية، أى فى عدد أيام الدراسة وفى مواعيدها خلال السنة، بحيث تتلاءم مع واقع الحياة فى مختلف المناطق، من حضرية إلى ريفية، ومن زراعية إلى صناعية، وبحيث تفسح المجال "للتعليم بعض الوقت" أو للتناوب بين المدرسة والمشاركة فى النشاط الاقتصادى والاجتماعى وفق ظروف المجتمعات المحلية.
ولابد من اللجوء إلى أنواع غير تقليدية من المدارس فى منظور تنويع التعليم، خاصة الأساسى، حتى يتحقق تعميمه.
فنجد "المدرسة ذات المعلم الوحيد" فى كثير من البلدان العربية. ولاشك أن انتشارها يستجيب لحاجات نشر التعليم فى المناطق النائية، وستزداد الحاجة لها مع تركز الجيوب الباقية من الحرمان من التعليم الأساسى فى تجمعات سكانية قليلة العدد، مستقرة أو رحل. وفى الحالة الأخيرة تظهر الحاجة إلى مدارس الفصل الواحد المتنقلة، حيث ينتقل العلم مع البدو وتنعقد المدرسة فى خيمة أو سيارة. ويمكن لمدرسة الفصل الواحد أيضاً أن تقدم خدمة التعليم فى المناطق الجبلية الوعرة والشاهقة الارتفاع.
وتمثل هذه المدارس ضرباً من ضروب التجديد فى النظام التربوى، ولكن شريطة أن تتوافر مستلزمات هذا التجديد، من إعداد جيد للمعلم ومن وسائل تعليمية ملائمة ... الخ.
ومن الضرورى العمل على تخفيض كلفة الأبنية المدرسية باستخدام الخامات المحلية، والتصميمات الملائمة للبيئة، مع التركيز على "الأبنية المدرسية الوظيفية" التى تشتمل فى بنائها على الأهداف والوظائف التى سوف تضطلع بها، والاهتمام بالقاعات ذات الحواجز المتحركة التى تساعد المدرسة على تنويع أساليبها ومرونة مهماتها، وبالإضافة إلى "الأركان" المتنوعة التى تشتمل عليها حجرة الصف.
التعليم العالى
لا مِراء فى الدور الحاسم الذى يلعبه نشر التعليم العالى، وترقية نوعيته، فى نهضة المجتمعات خاصة فى سياق عصر المعلوماتية والعولمة. فلا صلاح لأمة دون تعليم عال، فعال وحيوى ودائب التطور.
ومع ذلك فإن التعليم العالى فى البلدان العربية يتسم بالقصور وبالتقصير عن متطلبات نهضة حق، فى مدى انتشاره، وبالأخص من حيث نوعيته والمساهمة فى رقى المعرفة وتوظيفها خدمة للتنمية. بل الأخطر أن استمرار الاتجاهات الراهنة فى ميدان التعليم العالى تنذر بازدياد نخبويته وتكريس تردى نوعيته.
ومن ثم فقد صار ملحاً أن يتوفر العرب على إصلاح جذرى للتعليم العالى فى سياق نهضة تعليمية عامة أمست ضرورية لمستقبل أفضل فى الوطن العربى.
إن إصلاحاً حقاً للتعليم العالى فى البلدان العربية أصبح بحاجة إلى هزة كبرى. فلم تعد التدرجية مفيدة. ولابد، فى النهاية، من دفع التكلفة الاجتماعية التى ينطوى عليها أى إصلاح جذرى. وهناك أربع سياسات أساسية صار ملحاً أن تتضافر فى عملية جادة لإصلاح جذرى للتعليم العالى فى البلدان العربية، يتعين أن تبدأ دون إبطاء.
أ) استمرار مسؤولية الدولة مع تحرير التعليم العالى من سيطرة الحكومة ومن حافز الربح
إن الدولة مسؤولة عن بناء رأس المال الإنسانى بكافة أشكاله. ويزداد حرج مسؤولية الدولة فى حالة التعليم العالى نظراً لضخامة مؤسساته وعظم احتياجاتها.
غير أن مسؤولية الدولة عن التعليم العالى لا تعنى أن تكون مؤسسات التعليم العالى حكومية. بل ربما الأصلح ألا تكون كذلك، خاصة فى سياق سياسات "التكيف الهيكلى" التى تنطوى على تضييق دور الحكومة فى المجتمع.
والنموذج المطروح هو أن تقوم على مؤسسات التعليم العالى مجالس إدارة مستقلة رباعية التمثيل (الدولة، وقطاع الأعمال، والمجتمع المدنى، والأكاديميون- بما فى ذلك الطلبة)، الأمر الذى يمهد الطريق لإطلاق طاقات مؤسسات التعليم العالى، فى تعاون وثيق مع أجهزة الدولة ومشروعات قطاع الأعمال ومنظمات المجتمع المدنى، لتحقيق أقصى مساهمة فى التنمية من خلال التدريس والبحث وخدمة المجتمع.
ويتكامل مع المطلب السابق استبعاد حافز الربح من ميدان التعليم العالى وتشجيع قيام مؤسسات التعليم العالى الأهلية غير الهادفة للربح.
ولكن مسؤولية الدولة عن التعليم العالى تعنى القيام، بكفاءة، بوظائف ثلاث:
1. زيادة التمويل الحكومى والمجتمعى للتعليم العالى
فمازال هناك مجال لزيادة مخصصات التعليم العالى من الموازنة الحكومية، ولو على حساب أوجه إنفاق أخرى لا تدانى التعليم العالى أهمية. كذلك يمكن للحكومات أن تفرض رسوماً متنوعة على القادرين تستخدم لتمويل التعليم العالى، وللأردن تجربة فى هذا الصدد، سبقت الإشارة إليها.
ومن المفيد أن يتم تخصيص هذين الموردين لمؤسسات التعليم العالى، من خلال مجلس رباعى للتعليم العالى، على أساس شفاف تلعب فيه اعتبارات الجودة والخدمة المجتمعية، شاملة توفير احتياجات سوق العمل، والقدرة على تبنى برامج البحث الأساسى والتطوير التقانى، وتعزيزها، دوراً مهماً.
2. العمل على رفع كفاءة استغلال موارد مؤسسات التعليم العالى، وتعظيم العائد المعرفى والمجتمعى عليها، من خلال تقنين المحاسبة الجادة لمؤسسات التعليم العالى، خاصة فيما يتصل بالمال العام.
3. إقامة نظم اعتماد جدية لبرامج التعليم العالى، وتطبيقها بصرامة، لضمان النوعية فى جميع مؤسسات التعليم العالى.
ب) نشر التعليم العالى
مازال البون شاسعاً بين البلدان العربية والبلدان المتقدمة فى انتشار التعليم العالى كما اتضح فى "التمهيد". الأمر الذى يبين فساد القول بتقليل الإنفاق على التعليم العالى لمصلحة التعليم الأساسى من ناحية، ويؤكد حاجة النهضة فى الوطن العربى لنشر مؤسسات التعليم العالى فى ربوعه، من ناحية أخرى.
إلا أنه من الضرورى مراعاة اعتبارين مهمين فى نشر التعليم العالى. الأول، تلافى أخطاء التوسع غير المحسوب، خاصة فى مؤسسات قائمة، والذى ارتبط فى الماضى بتدن ضخم فى النوعية. والثانى، التصميم على تميز مؤسسات التعليم العالى، خاصة المستحدثة منها، بالنوعية الراقية والتنوع والمرونة، والتركيز على المجالات المعرفية والأشكال التنظيمية المطلوبة للتقدم العلمى والتقانى.
ج) هزة شديدة لمؤسسات التعليم العالى القائمة بهدف تحسين النوعية مع عدم السماح بمؤسسات جديدة إلا بضمان مستوى نوعية أرقى جوهرياً من السائد
قد تكون مجموعة المقترحات المتضمنة فى هذا التوجه الاستراتيجى أقلها قبولاً، وأغلاها تكلفة، اجتماعياً وسياسياً. ولكننا لا نرى إصلاحاً جاداً للتعليم العالى فى البلدان العربية بدونها. والمعروف أن تفادى دفع تكلفة الإصلاح فى الأجل القصير يزيد من صعوبته فى الأجل الطويل.
بالنسبة لمؤسسات التعليم العالى الحالية تقوم ضرورة ملحة للقيام بالمهام التالية فى سياق خطة متكاملة الأبعاد:
1. تحسين الإمكانات وتجهيزات التدريس والبحث، بالمقارنة بعدد الطلاب، وبوجه خاص فى فروع العلوم الإنسانية والاجتماعية. ويساعد على ذلك تقليل القبول فى مسارات التعليم العالى التى تزداد البطالة بين خريجيها، مما يقلل أيضاً من الاختلال بين حاجات المجتمع وسوق العمل وبين ناتج التعليم العالى.
2. وضع برامج فعالة لترقية قدرات هيئات التدريس. تنتشر مشكلة ضعف قدرات أعضاء هيئات التدريس، خاصة البحثية، مع طول الخدمة- وبوجه خاص بانتهاء مراحل الترقى المعتادة، الأمر الذى ينعكس لا محالة على جودة التدريس. وعادة ما يعتبر البحث نشاطاً غير مجز إلا من أجل الترقية فى السلك الأكاديمى. ويعود بعض من فتور الهمة هذا إلى تخلف الإمكانات المساعدة على البحث، الأمر الذى يحتاج لعلاج جذرى. ولكن الأمر يتطلب أيضاً اعتماد برامج للتدريب والبحث والتدارس، فى الداخل والخارج، وأن يتأسس مبدأ التنافس كعنصر جوهرى، ومستمر، فى شغل مناصب هيئات التدريس، وقصر التعيين الدائم على الأساتذة المتميزين، وإنشاء مراتب أرقى من "الأستاذية".
3. إعادة النظر فى هياكل وبرامج مؤسسات التعليم العالى القائمة بما يؤدى لتفادى التكرار النمطى فى نسق التعليم العالى ككل، والتحول نحو نمط التعليم العالى المرن، المواكب لاحتياجات التنمية المشار إليه فيما بعد، بالتعاون مع مؤسسات الدولة وقطاع الأعمال والمجتمع المدنى.
أما فيما يتصل بإنشاء مؤسسات جديدة فمن الضرورى، كمكون أساسى لنظم الاعتماد التى أشرنا إليها أعلاه، وضع مستوى نوعية مستهدف لمؤسسات التعليم العالى الجديدة وتطبيقه بدقة، بحيث لا تضاف مؤسسات جديدة إلا وتساعد على تحسين جوهرى فى المستوى العام للنوعية، خاصة من خلال تنافس مؤسسات التعليم العالى الجديدة والقديمة. وبهذه الصورة يمكن، على وجه الخصوص، تفادى مشكلة أن تقام، فى سياق "تشجيع" القطاع الخاص فى البلدان العربية حالياً، كيانات تعليم عالى عليلة، تزيد من أزمة التعليم العالى فى المنطقة بدلاً من أن تساعد على حلها.
د) إقامة نسق للتعليم العالى المتنوع، والمرن، والمواكب لاحتياجات التنمية
لكى يحقق نسق التعليم العالى الدور المبتغى منه فى تطوير المجتمعات العربية يتعين أن يستهدف إعداد أفراد قابلين للتعلم الذاتى والمستمر، وقادرين عليه، عوضاً عن مجرد متعلمين، وأن يساهم عضوياً فى نهضة المجتمع. ولهذا يتعين أن يكتسب التعليم العالى مقومين أساسيين: التنوع والمرونة، خاصة فى الاستجابة لمقتضيات التغيرات السريعة محلياً وعالمياً. والأمل أن تساعد التغيرات الهيكلية الموصوفة أعلاه فى تحويل مؤسسات التعليم العالى هاتين الوجهتين.
ويستهدف التنوع تفادى أن تكون البرامج الأساسية لمؤسسات التعليم العالى القائمة نسخاً متكررة من وثائق قديمة لا تتجدد. والاهتمام بمؤسسات التعليم العالى دون الجامعية، والإعلاء من قيمتها المجتمعية.
ولكن التنوع يعنى أيضاً إنشاء، وتعضيد، مؤسسات للتعليم العالى للأفراد مدى الحياة مثل الجامعة المفتوحة التى تتيح المجال للاستزادة من المعرفة، بدءاً من المقرر الواحد إلى الدرجات العلمية، دون الالتزام بالنمط الجامعى الجامد القائم حالياً.
ويعنى التنوع كذلك زيادة أهمية التعليم المتكرر بالتعاون مع الدولة وقطاع الأعمال والمجتمع المدنى التى يفرضها التقادم السريع للمهارات التقنية فى العصر الحالى. وتتسم هذه البرامج بخدمة احتياجات التطور المؤسسى فى قطاعات النشاط المجتمعى الثلاثة، وبتمتين الاستفادة المزدوجة بين مؤسسات التعليم العالى وباقى المجتمع. كما يمكن أن تكون هذه البرامج مصدر تمويل جيد لمؤسسات التعليم العالى.
ويدخل فى نطاق التنوع تعميق الوظيفة الإنتاجية لمؤسسات التعليم العالى، سواء كمصدر تمويل أو كمجال لتعميق الوظائف البحثية والتعليمية.
وفى النهاية، يتطلب التنوع المؤسسى إنشاء مراكز البحث والتطوير ذات الاستقلال الذاتى، والقائمة على تداخل التخصصات، وبالمشاركة الفاعلة مع قطاعات المجتمع الثلاثة.
وتعنى المرونة، على مستوى الأفراد، حرية الخروج ثم العودة إلى مؤسسات التعليم العالى بأنواعها وفى مراحلها المختلفة. فالمعروف الآن أن الجمع بين خبرة العمل والدراسة الأكاديمية يحقق أفضل النتائج المعرفية للفرد وللمجتمع، وأن تنوع المناظير والخبرات داخل مؤسسات التعليم العالى يثرى المؤسسة، والدارسين بها، معرفياً.
أما على الصعيد المؤسسى، فتعنى المرونة أن يخضع هيكل المؤسسات، والبرامج التى تقدمها، ومحتويات البرامج، للمراجعة المستمرة من قبل مجالس إدارتها بما يضمن سرعة استجابتها للتطورات العالمية والمحلية. وهذه إحدى ميزات التمثيل الرباعى فى إدارة مؤسسات التعليم العالى.
سابعاً: فى الحاجة وإمكان الإنفاذ
إن الوطن العربى، فى مجمله، ثرى أساساً بالبشر، خاصة بمنطق اقتصاد المعرفة والمعلوماتية الآتى. ويدل تحليل منظومة التعليم، وعلاقاتها بالنسق الاجتماعى الاقتصادى، فى البلدان العربية على أن هذا الإمكان يُهدَر، إلى حد بعيد. إذ يشكل قصور القدرة الإنسانية عائقاً ضخماً للمنطقة العربية على درب مواجهة تحديات العولمة، ولا يضفى على المنطقة ميزة نسبية تذكر فى مجال استعدادها لدخول القرن الواحد والعشرين.
لذلك لا نغالى إذا قلنا أنه فى منظور العطاء البشرى، وبالتبعية التنمية ككل، لا توجد غاية تعدل تطوير منظومة التربية والتعليم فى البلدان العربية، بحيث يؤدى إلى إكساب البشر فى الوطن العربى المعارف والقدرات والتوجهات التى تتناسب ومقتضيات القرن الواحد والعشرين.
غير أنه يتعين مراعاة أن منظومة التربية والتعليم هى أيضاً انعكاس، فى مجال معين، لمجمل النظام الاجتماعى والاقتصادى. وعليه، فإن تغييراً عميقاً فى أداء، وناتج، منظومة التربية والتعليم يتطلب تفاعلاً مع تغيير واسع المدى فى السياق الاجتماعى والاقتصادى، وفى السياسات والمؤسسات المجتمعية، يغذى فاعلية التعليم، ويتغذى منه. ولا ريب فى أن أى تغيير بالعمق ينطوى على تكاليف، اجتماعية وسياسية، لابد من تحملها.
كذلك تحمل الرؤية المقدمة تكاليف مالية كبيرة، بينما الاقتصادات العربية راكدة، وعلى حين تتجه الحكومات، فى إطار إعادة هيكلة الاقتصادات العربية على النسق الرأسمالى الطليق، إلى تقليل إنفاقها على الخدمات العامة، ومن بينها التعليم، وتتعالى أصوات مطالبة بتقليل الإنفاق على المراحل الأعلى من التعليم، على وجه الخصوص. وليست البلدان العربية، بالطبع، على حدٍ سواء فى هذا التحدى، فالأفقر منها يواجه مشكلة أعوص.
والتعاون العربى، الذى تعوّل على فعاليته "الرؤية" كثيراً، ليس على أحسن ما يشتهى، ويقصر شديداً عن متطلباتها.
والرد، الموجز، على التحفظات المثارة أعلاه هو أن العرب عامة، ومتخذى القرار لهم خاصة، لا يطيقون التهاون فى توفير متطلبات الرؤية المقدمة هنا، إلا إذا كانوا غير عابئين باحتمال تدهور العرب فى مصاف الأمم حتى أبعد مما حملت الحوادث مؤخراً.
إن بناء رأس المال البشرى راقى النوعية هو المهمة التاريخية المطروحة على المنطقة العربية فى هذه المرحلة من تاريخها، ومن ثم فلا مناص عن تحمل التكاليف المطلوبة.
ويمكن، بالقطع تحويل موارد مالية تهدر الآن فى أوجه إنفاق، بعضها سفيه والبعض الآخر بذخى، لا تدانى بناء رأس المال البشرى أهمية، ولو من بعيد.
ولكن، حتى إن اقتضى الأمر التضييق على ما يعد الآن "أساسيات"، فخيار الاستثمار فى البشر هو الأهم: إذ هو سبيل الفلاح فى المستقبل، ودونه البوار. وعلى الدول العربية، مجتمعة، تبنى مسئولية تدبير التمويل اللازم، وإقامة السياق المجتمعى المواتى، باعتبار هذا المنحى أولوية قومية ملحة تقارب مواجهة الكوارث الحالة.
إلا أن المورد الأهم لضمان إنفاذ الرؤية التى حملتها الصفحات السابقة هو إطلاق الطاقات الخلاقة لكل العرب، فى إطار عقد اجتماعى ممكّن من ذلك، وبطرق تتجاوز الحسابات الاقتصادية التقليدية، وتسمح بتحقيق إنجازات أبعد بتكلفة مالية حتى أقل.
ففى مجال التعليم الأساسى، على سبيل المثال، لا يمثل تكرار النظام التعليمى السائد فى الغرب، بتكلفته الاقتصادية المرتفعة، أفضل الحلول لتعميم التعليم الأساسى راقى النوعية. فيتعين استكشاف بدائل لبناء مدارس ضخمة، عالية التكلفة، من خلال استخدام المواد المحلية، والتأكيد على نظم التعليم الأكثر كفاءة.
إن قلب الحسابات الاقتصادية الضيقة للتكلفة والمنافع يقع من إنفاذ الرؤية المقترحة فى القلب.
فى النهاية، يبقى التفكير الجسور مفتاح النجاح فى إنفاذ الرؤى المستقبلية، كما فى تصورها. كذلك تطلب الأهداف الكبرى أعمالاً من حجمها. وبالمقابل، فإن الركون إلى تتالـى الحلول السهلة، سلوك قصير النظر، لا يمكن أن يؤدى إلى إنجازات ملموسة فى الأجل الطويل. وقد يجر كوارث غير محسوبة.
وليس الإهمال أسوأ مصير يمكن أن يصيب الرؤية المقدمة.
فمغبة التشدق بما جاء فيها دون تكريس الطاقات والإمكانات اللازمة لتحققها بعد أسوأ.
.................................................. ......................................