مجالس العجمان الرسمي

العودة   مجالس العجمان الرسمي > ~*¤ô ws ô¤*~المجالس العامة~*¤ô ws ô¤*~ > مجلس الدراسات والبحوث العلمية

مجلس الدراسات والبحوث العلمية يعنى بالدراسات والبحوث العلمية وفي جميع التخصصات النظرية والتطبيقية.

 
 
أدوات الموضوع طرق مشاهدة الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 08-05-2006, 09:09 AM
خالد المحفوظي خالد المحفوظي غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Apr 2005
المشاركات: 1,686
معدل تقييم المستوى: 21
خالد المحفوظي is on a distinguished road
المجتمع المدني والدولة السياسية في الوطن العربي - توفيق المديني

المجتمع المدني والدولة السياسية في الوطن العربي - توفيق المديني

دراسة - من منشورات اتحاد الكتّاب العرب - 199

مقدمة

يشكل التراث الفلسفي والسياسي للفكر الليبرالي الكلاسيكي الغربي، والفكر الماركسي سواء بسواء، سلسلة متصلة من الحلقات بعضها ببعض، على مستوى الفكر الإنساني، على الرغم مما قد تجد بينهما من تناقضات ومفارقات غاية في الجذرية والعمق، السلطة المرجعية المعرفية والنظرية والايديولوجية والثقافية، في تعريف ومفهوم المجتمع المدني بالمعني الحديث، عبر المراحل والمحطات، التي قطعها في سيرورة تطوره، وفي ارتباطه بأشكال وصور الدولة السياسية الحديثة.‏

وليس من فيلسوف أو مفكر سياسي مهما اسبغ على المجتمع المدني من مفهوم وتعريف مجددين يستطيع أن يكون خارج هذا الإطار المرجعي الكلاسيكي الغربي، منذ بداية عصر النهضة الأوروبية 1450- 1600، وامتداداً إلي عصر هيغل وماركس وغرامشي. ولقد أيقظت دراسة المجتمع المدني وعي الفلاسفة المختصين، والمفكرين السياسيين، من أجل بلورة المكونات المعرفية والنظرية، والايديلوجية الواضحة عنه، الأمر الذي جعل هذا المجتمع المدني، موضعاً لصراعات ايديولوجية، في سيرورة تطور المجتمع الغربي الحديث، حيث أصبح المجتمع الرأسمالي أو الصناعي التعبير التاريخي عنه بين مختلف المدارس الفكرية، سواء داخل النظرية الليبرالية بكل تفرعاتها، بداية من عصر النهضة والأنوار، باعتبارها التعبير التاريخي العام الفلسفي الايديولوجي والسياسي والاجتماعي عن المجتمع والدولة في العالم الرأسمالي الحديث والمعاصر، أو بين الليبرالية، والمدرسة الماركسية الكلاسيكية، ولعصرنا هذا.‏

وفي هذا التصدي لدراسة العلاقة بين المجتمع المدني والدولة السياسية وجوهر هذا التناقض المزدوج الذي يحكمها، سواء في ظل سيادة الديمقراطية البرجوازية في الغرب، أو في ظل نماذج الاشتراكية المشيدة قبل انهيارها، يهمنا أن نبدأ بتحديد المفاهيم والمنطلقات الرئيسية المرتطبة بالمجتمع عامة، والمجتمع المدني خاصة. ونحن نميز جذرياً بين المجتمع المدني القديم، باعتباره ثمرة من ثمار تطور المجتمع الانساني لحظة انفصاله عن الطبيعة، والدخول في صراع معها، من أجل السيطرة عليها، وتكييفها لتلبية حاجاته الضرورية، وباعتبار أيضاً التمدن والمدنية، خاصية متأصلة في المجتمع الانتاجي، وسمة ضرورية، وواقع تاريخي من التطور البشري، وقيمة حضارية، وإنسانية نبيلة، متولدة عن الغاية العليا، التي يعمل الاجتماع البشري على تحقيقها، متجسدة في مجموع الأخلاق وطرائق السلوك الاجتماعي، والقيم عامة، شكلت حالة من حالات جدلية الثورة الكبرى، التي عرفها التاريخ البشري، والتي قوامها السير التطوري، الذي قطعه الإنسان بفضل العمل أولاً، والنطق واللغة بعده، ليحقق وثبة قوية إلى الأمام متمثلة في ظهور عنصر جديد، انبثق مع الإنسان، على حد قول أنجلز، ألا وهو المجتمع، أو المجتمع المؤنسن، وبين المجهود العقلاني العصري للتحرر الحديث، لتحقيق المجتمع المدني المنعتق سياسياً في مناطق متعددة من العالم، باعتباره صفة جوهرية تاريخية وكونية، من صفات المجتمعات الحية السائرة في دوائر ودوران التطور والتقدم، وإن اختلفت عمقها، وشموليتها، ومداها، واتجاهها، باختلاف الشعوب والأمم والعهود، وبصرف النظر عن "التعرجات"، و"الانتكاسات"، والارتدادات المحلية المؤقتة، الحاصلة هنا وهناك، في سير حركة التاريخ الجدلية.‏

ما زالت التحليلات العلمية النظرية والسياسية النقدية في مجال المجتمع العربي، ومسألة الواقع الاجتماعي والسياسي (الدولة) في الوطن العربية، في نهاية عقد الثمانيات، لم تحرز التقدم المطلوب لاجلاء الغموض والابهام، حول المفاهيم أو المقولات، وتاريخية المجتمع المدني في الوطن العربي، والوظائف السياسية والايديولوجية، التي تمارسها بعض التيارات العربية المتبنية والمستخدمة لمقولات المجتمع المدني- ضمن التغيرات الاجتماعية، وبالتالي السياسة والثقافية الايديولوجية، التي شكلت التاريخ العربي الحديث والمعاصر، وضمن عملية التوسع الرأسمالي على الصعيد العالمي، وقانون التطور اللامتكافىء الذي يحكم النظام الرأسمالي العالمي، وما افرازاه من همجية وبربرية غربية متسطلة على الشعوب والأمم المتأخرة تاريخياً، وما كرساه من واقع الظلم وعدم المساواة بين الأمم والقوميات- في إطار صراعها الفكري والثقافي، ضد القوى الاجتماعية والايديولوجية المحافظة والتقليدية المعيقة للتطور، والتي تقف كعقبة بنيوية في وجه مشروع التحرر والتقدم والوحدة، وبناء الديمقراطية والمجتمع المدني الحديث المتلازم مع انجاز الثورة القومية الديمقراطية، التي تكتسب مضموناً قومياً معادياً للامبريالية والصهيونية والرجعية العربية في آن معاً، وتقوم على كسر حلقة التبعية البنيوية، لوطننا العربي من أسارها، وقهر التأخر التاريخي العام والشامل، عبر التخطي الجدلي للحدود التاريخية لعالمية الرأسمالية، باعتبارها ضرورة موضوعية سياسية وتاريخية..‏

في خضم حمأة هذا العصر التقاني، الذي يشهد ثورة علمية وتكنولوجية عارمة، وثورة معرفية هائلة، أصبحتا تشكلان القوة المحركة والصانعة للانتاج ومؤسساته وتسويقه، وتحدثان ايقاعاً تغييرياً قوياً وشاملاً، لجهة بروز وتحول الأنظمة المعرفية في شتى فروعها إلى قوة الانتاج المادية في ظل سيطرة العولمة الرأسمالية، من دون أن تكون لهذه القفزات المتوالية في وتيرة القطائع المتواصلة والمتفاصلة في ميدان المعرفة و "مركنتاليتها المتواثبة"، وأثرها على صعيد تغيير الوجه المادي للعالم، ايديولوجيا تعبر عنها، أو أحزاب سياسية، وتيارات شعبية، ورأي عام يحركها. يقينا بأن هذا التغيير على صعيد قدره آلية هذه المعرفة تحقيق الانتاج المادي والاقتصادي والمجتمعي الشامل يلقب بثورة الحداثة البُعْدِية، التي أصبحت تطرح أسئلة فلسفية ذات طابع كوني، منخرطة تجاورياً ومحتكة مع نسق هذه الحداثة البعدية، حول صياغة نظرة جديدة كلياً إلى مصير الانسان والعالم والكون. وفي وسط حمأة هذا العصر، الذي يقوض ويدمر الأعمده والمعتقلات الطوعية والقسرية للايديولوجيات الشمولية، التي وصلت إلى مأزقها المحتوم، يعود جدل الشرعية/ المشروعية العلمية للمجتمع المدني، من حيث هي مجموعة الدساتير والقوانين والأنظمة المرعية، التي انبثقت منذ عصر النهضة الأوروبية وعصر التنوير، حين طرح المشروع الثقافي الغربي ما يسمى الآن بالحداثة السياسية، المعبر عنها بالديمقراطية وحقوق الانسان، إلى واجهة الأحداث السياسية، لكي يبلغ أقصى توتره في الشرق، مثلما في الغرب، وفي الأطراف لهما.. علماً بأن الديمقراطية الغربية في ظل هذه الحداثة، لم تكن هي النظام السياسي للحداثة، "ذلك أن النظام السياسي احتكره المركب الاقتصادي التقني منذ أو وقع الانفصام بين جناحي حداثة التنوير بين الاقتصاد الثقافي من ناحيه، والثقافي من ناحية أخرى، وظلت الحداثة غالباً بدون سلطه سياسية حاكمة، واتخذت موقع المعارضة في معظم مفاصل التاريخ الغربي الحديث، لكن النظام السياسي لم يتنازل عن ادعاءاته الحداثوية.. ولذلك عانى النظام السياسي في المشروع الغربي طيلة تقلباته العنيفة الكبرى، من افتقاره لمواقعية الشرعية وافتقاده لمرجعيتها.‏

وكان من شأن هذا الوضع المتناقض دائماً أن تجلس المشروعية في موضع السيادة الدولتيه وتظل الحداثة مشردة في أروقة الحنين المجتمعي للأصول الضائعة، لا تجد في صولجانات التقدم، الموضوعة في كل حيز سلطوي إلا شبحاً مستعاراً عنهما"(1).‏

إذا المشروعية للمجتمع المدني في الغرب، الذي أفرزه المشروع الثقافي الغربي، والحداثة السياسية الناجمة عن انجاز الثورة الديمقراطية البرجوازية، استطاعت أن تتحرر من أحبول المجتمع القدسوي الديني القروسطي، حيث أن مؤسساته كانت مبنية على أساس المشروعية الكنسية، باعتبار أن الكنيسة كانت تحتل مواقعية الشرعية والمشروعية في آن معاً. وعلاوة على ذلك، فان المجتمع المدني في الغرب استطاع أن يبني مؤسساته، وأن يكون لنفسه مشروعيته القائمة على الجسم القانوني والاجرائي، وفي الوقت عينه أن يقيم حداً فاصلاً بين مرتبه معينه من الشرعية، وأخرى للمشروعية، ساعده في ذلك الصراع العنيف بين قوى التغيير الراديكاليه، التي تمثل القوى المنتجة الجديدة، وبين القوى المحافظة والاستبدادية، فضلاً عن التحولات التي أفرزتها الثورة الصناعية، والتطور الاقتصادي والتكنولوجي على صعيد تطور القوى المنتجة بوتائرها المتسارعة، وأثرهما في تبديد الحاله المزدوجة بين الشرعية والمشروعية، باعتبارها "عملية زمنية خالصة، وتقع داخل التحولات المجتمعية ذاتها".‏

أما على الصعيد العربي، فان المجتمع العربي يعتبر مجتمعاً قبل صناعي. ومن هذا المنظور فالمشروعية العلمية للمجتمع المدني ما زالت مسيطرة عليها قواعد ومؤسسات موروث المشروعية القدسية الدينية، التي تشكل عائقاً بنيوياً في العبور من الشأن العام إلى الشأن الخاص، فضلاً عن أنها تشكل نمطاً ونظاماً متكاملاً من العادات والقيم والقوانين، والأخلاق، والسلوك، وتحدد العلاقات بين الأفراد والمجتمع، التي تكلست على مر الزمان، والتي تبحث عن حمايتها داخل قوالب طقوس هذه المشروعية، في ظل الحداثة المستلبة نصف عصرية، ونصف دينية، السائدة عربياً. ولما كانت البنية الاقتصادية والاجتماعية العربية، تعطينا صورة واضحة عن الاستحالة التاريخية للمشروع البرجوازي القومي، بحكم أن الطبقة البرجوازية العربية الحاكمة ليست بطبقة اقتصادية، ولا هي بمنتجة، بل هي من نمط طبقة كمبرادورية، مندمجة كلياً في النظام الرأسمالي العالمي، ومتكيفة مع متقضيات وآليات وشروط توسعه عالمياً، عبر تجسيدها سياسة الانفتاح الاقتصادي، ونمط الاستهلاك الغربي، والرجعية السياسية، والتبعية الكاملة للمصالح الامريكية في الوطن العربي، فان المجتمع المدني لا يزال طفلاً رضيعاً، يحبو على أرض غير أرضه، وتحتك قواعد ومؤسساته الناشئة مع قواعد ومؤسسات المشروعية القدسوية الدينية، المتكلسة في بنية المجتمع التقليدي المتأخر تاريخياً، والتي يحكم منطقها الداخلي، وتطبيقها العملي براديغم الطاعة الفقهي والسياسي، والتي تستثمرها الأنظمة السياسية ذات الطبيعة الشمولية، المدعية لوحدها بأنها تمتلك حق الاحتكار المطلق للسلطة، واحتكار الكلمة الشعبية، وفرض سلطانها السياسي المطلق، في ظل غياب الشرعية المدنية السياسية، والمجتمعية، والثقافية، للمجتمع المدني الحديث.‏

والحال هذه، فان المجتمع المدني العربي لا يزال ملتبساً مع المجتمع القدسوي، "يعجز عن تثبيت مواقعيته، دون أن ينهزم تماماً، والدليل أن المجتمع المدني لم يستطع أن يفرض نظام ترميزته الخاصة، وصار مضطراً، تحت وطأة تداخله مع اعادة انتاج النمط الاستبدادي، إلى التصالح والتعايش مع المجتمع القدسوي ذاته. أي أنه صار محتاجاً للاستنجاد بذات المشروعية السلفية القائمة، وأن تجعلها تشتغل في مواقعيته نفسها. وبذلك يقف شبه المجتمع المدني بهذا سداً، حاجزاً موضوعياً في وجه انبثاق الشرعية المدنية التي يستمد منها اسمه الخاص"(2).‏

إن المشروعية العلمية للمجتمع المدني على الصعيد العربي ملتبسة ومستعارة من المشروعية العلمية للمجتمع المدني في الغرب، الذي تجسده الدولة البرجوازية الحديثة والمعاصرة. وإذا كان تطبيق هذه المشروعية العلمية على المجتمع المدني في الغرب الكلاسيكية المعروفة، بما تمثله من مقولات، وقيم، واجراءات قانونية تعبر عن العلاقات السائدة في هذا المجتمع البرجوازي، وتجسد انطباق التحليل العلمي على موضوعه، الذي لا يتمضن الخطأ، بحكم أن التشكيله الاقتصادية الاجتماعية الرأسمالية تخضع للقوانين الاجتماعية التي يقدمها لنا نظام الانتاج الرأسمالي، ومنقسمة في الوقت عينه إلى طبقات اجتماعية، حيث الوعي السياسي، والوعي المدني، مرتبطان أولاً وأساساً بالانتماء الطبقي، فان الأمر يختلف عند تطبيق هذه المشروعية العلمية على المجتمع العربي السابق على الرأسمالية، أو بالأحرى الذي يمر بمرحلة التطور نحو الرأسمالية التابعة والاستهلاكية في جوهرها. لأن التشكيله الاقتصادية الاجتماعية العربية، التي قاعدتها التخلف والتبعية ما زال مسيطراً عليها الانقسام العمودي من القبيلة والطائفة، والنقابات الحرفية والفرق الدينية والجماعات، ولم تنضج بعد سياسياً وايديولوجياً الانقسامات الطبقية الأفقية فيها، فضلاً عن أن هذه التشكيله ليست متحورة على ذاتها في سياق عملية نموها، لأنها ما زالت تفتقد المقومات الذاتية لذلك، وحيث أن الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فيها لم تطرح لنفسها كهدف لذاتها، وليس لها حضور ماثل للعيان من خلال المشروع الفكري والثقافي والسياسي النهضوي، الذي يعبر عنها.‏

وبسبب من هذا الفرق الجوهري بين المجتمع الرأسمالي الغربي وبين المجتمع العربي المتأخر تاريخياً، فان المشروعية العلمية للمجتمع المدني العربي، لا تعكس دائماً واقع الأساس الاقتصادي والاجتماعي والايديولوجي العربي، بل هي منقولة إليه من الخارج، لأن المشروعية العلمية للمجتمع المدني بلا تاريخ. ولذلك فهي ليست جزءاً من البنية الفوقية، وإنْ كانت هذه المشروعية العلمية لمفهوم المجتمع المدني تستمد شرعيتها عربياً من المشروعية السياسية. لأن المشروع القومي بمختلف مكوناته السياسية، والايديولوجية، الذي طرح قضية التحديث المادية، والعلمانية الخجولة، والاصلاح الجذري، في بنية المجتمع العربي التقليدية، لم يستطع أن يحقق عملية الانتقال نحو تأسيس حداثة حقيقية في الوطن العربي يكون عمادها، بناء دولة الحق والقانون، والمجتمع المدني الحديث، بل إنه على النقيض من هذا، قاد المشروع القومي إلى اعادة تشكيل البنى والعلاقات التقليدية والمتأخرة تاريخياً في المجتمع العربي، وتعزيزها باضفاء أشكال ومظاهر "مدنية" عليها، خصوصاً بعد انهياره وسقوطه التاريخي. ولأن الحداثة من حيث هي بنية كلية حضارية، ونمط فكري وسياسي وثقافي جديد، يحدد هوية المجتمع، والانتقال إلى بناء مجتمع مدني حديث في الوطن العربي، الذي يتطلب تحقيق القطيعة المعرفية والايبسيتمولوجية مع النظام المعرفي القديم، وأساليب التفكير التقليدية غير العلمية السائدة عربياً، وتأسيس نظام معرفي جديد، وبالتالي تبني أساليب تفكير جديدة، علمية، ونقدية، وجذرية.‏

إنه في ظل التحولات الكونية الكبيرة، التي يشهدها العالم مع انهيار الامبراطورية السوفياتية، وسقوط الأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، وثورة التكتلات الاقتصادية العملاقة على مستوى القارات، التي تشكل عنوان المرحلة الراهنة والقادمة، وظهور المبادرة الامبريالية الغربية التي تنشد "الديمقراطية" كمطلب امبريالي في صيغته الامريكية المركزة على حقوق الانسان، هذه "الديمقراطية، التي ظهرت في مظهر المنقذ للارادة الدولية، توظف الآن في اتجاه، الذي يخدم المصالح الامبريالية الامريكية، وكذلك بروز ظاهرة ما بعد الماركسية التي أصبحت ترى، أن تاريخ النضال من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان وأولوية الحريات الفردية على حساب العدالة الاجتماعية، يجب أن يحتل محوراً مركزياً في اطار التلاؤم بين بني المجتمع المدني الحديث والديمقراطية، باعتبارها تشكل مصداقية المشروعية السياسية لمفهوم المجتمع المدني، والحداثة، اللذين يتجسدان في الدولة الديمقراطية الحديثة والمعاصرة.‏

ثم إن النضال في سبيل بناء مجتمع مدني عربي حديث ومعاصر تقوم فيه مؤسسات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية واعلامية على قاعدة احترام حقوق الانسان وحرياته، وبناء فكر سياسي عربي متأسس على الديمقراطية في بنيته السياسية الداخلية، أصبحا يشكلان قفزة كيفية على صعيد الفكر السياسي العربي الثوري والنقدي، وبخاصة لدى الاتجاهات الايديولوجية والسياسية القومية الديمقراطية والتقدمية، التي تطرح قضية النضال في سبيل تحقيق المشروع القومي الديمقراطي الهادف إلى تغيير الوطن العربي تغييراً راديكالياً، لجهة بناء الديمقراطية، وتحقيق الحرية، والمساواة، والمشاركة السياسية للشعب، كما تفرضه العملية التاريخية، باعتبار ذلك من المستلزمات الأساسية لتحرير الأمة العربية من التأخر التاريخي البنيوي، الذي تعاني منه، من أجل تكسير المجرى المضاد لجدلية النهضة والسقوط ذات الخصوصية القطرية، لبعض المحاولات لتشييد أشكال جديدة من التقدم العربية من المنطقي والتاريخي، إن الفكر السياسي العربي المعاصر مدعو، وهو يتبنى المنهج العلمي، أي المنهج الجدلي المادي والتاريخي القائم على وحدة المنطق، ونظرية المعرفة، والجدل، أن يتحرر من آثار الدوغمائية الايديولوجية في اطار وحدة العقل والتناقض، من دون المساس بالقيمة العلمية والمحتوى المعرفي للمنهج الجدلي. وهو وحده القادر على التحرر من بنية العقل السياسي العربية المهزومة، والتي تحمل من الميثولوجيا، والأصولية، والقدرية، والقدسية، ما يشكل عائقاً بنيوياً معرفياً ايبستيمولوجيا في عملية تحرره، من الصناميات، والأوهام، والممنوعات والقيود، التي تشكل الأساس الايديولوجي والسياسي، والثقافي، للايديولوجية العربية المعاصرة، التمويهية، والمصابة بالانغلاق والتحجر، والجمود، وموت الحس النقدي الجذري فيها، والتي أحلت الايديولوجيا محل العلم، واستبعدت الاستفادة القصوى من الفروع الجديدة للثورة المعرفية، وحرمت بعض من مذاهبها، وقامت بالحجر على حرية العقل وصولاً إلى أخصائه، وتكريس الجهل المعرفي والثقافي والسياسي بالمذاهب المعرفية والايديولوجية والثقافية الأخرى، وسدت قنوات الاتصال والحوار الفكري والثقافي معها.‏

وعليه فان وحدة المنطقي والتاريخي، من وجهة نظر الفكر السياسي العربي المعاصر هي نواة الجدل المادي الثوري، تشكل في الوقت عينه المبدأ الأساسي للمنهج العلمي، ومنظومة مقولاته النظرية والسياسية، في صيرورة تطبيقاته على الواقع التاريخي العربي. ومما لا شك فيه أن هذا المنهج مطالب اليوم أن يحتل موقعاً مركزياً ومحورياً في بنية الفكر السياسي العربي المعاصر، وفي حقل الصراع الايديولوجي، ويرفض أن يكون تجريبياً أو وضعياً، أو ذرائعياً، وهو ليس مجرد "تطبيق خلاق" لمقولات وحقائق المادية التاريخية، على الرغم من سيطرة تأييد الرؤية الكلاسيكية الجاهزة للماركسية في مجال الدراسات النظرية والسياسية والأوضاع الانتقالية المتحولة الجارية داخل التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية العربية. والمنهج النظري، الذي ننشده، هو الذي يتخذ من الجدل ركيزة أساس في بنيانه الداخلي، ومن المشروع القومي الديمقراطي النهضوي، أي تأسيس فكر نهضوي معرفي، وثقافي، وسياسي نضالي، دعامة ثابتة رئيسة في بنية المجتمع العربي من أجل كشف وفهم جوهر القوانين النوعية الخاصة، التي تحكم ضرورة التحولات التاريخية في الوطن العربي، وخصائص الثورة فيه. وهذا المنهج لا يجرد الواقع العربي الاقتصادي والاجتماعية والسياسي إلى مقولات رياضية، ولا يعمم أجوبته النسبية، إلى مطلقات شمولية في مجال السياسة، كما هو الحال عند معظم القوى السياسية العربية. إنه يستفيد من التحولات التاريخية المهمة، التي يشهدها العالم بما يجعله يفسح في المجال للثورة العلمية والتكنولوجية، وللثورة المعرفية الجديدة، في ميادين علوم العصر الطبيعية وعلم الاجتماع من المدارس البنيوية، والانتروبولوجيا، والسوسيولوجيا الثقافية الفرنسية، والانكلوسكسونية المزدهرة في الولايات المتحدة، من أجل توظيفها الضروري لصقل العقل السياسي العربي في هذا العصر التقاني، ولكي ينتج فكراً حياً متحركاً بقواه الذاتية المبدعة، وانطلاقاً من تحليله ونقده الجدلي الموضوعي للمعضلات المتورطه بنيوياً في قلب المجتمع العربي، كحركة سوسيوثقافية دينامكية التفاعل مع بقية عناصر الوجود السياسي، وتحقيق برنامج فكري سياسي محدد يستخلص القوانين الاجتماعية والسياسية في موضوع مشروع النهضة العربية، ويبتدع مقولات نظرية بشأن تثوير النضهة، والاستمرار في انجاز المشروع القومي الدميقراطي العربي، بما يمكن القوى القومية الديمقراطية الثورية من رسم استراتيجية ثورية، تضع حركة النهضة العربية في اطار واقعها التاريخي، وتحديد مقوماتها الاجتماعية وحركتها الثقافية الفكرية والسياسية الثورية.‏

وإذا كان الفكر السياسي العربي المعاصر لم يرتق بعد إلى مستوى انتاج علم سياسي قائم بذاته (بالمعنى الأكاديمي) أعني "نظاماً مفهومياً متمتعاً بقدر من التماسك والاستقرار الدلالي النظري"(3)، نظراً للأزمة البنيوية، التي يعاني منها الفكر العربي ذاته على صعيد البنيتين العقلية والايديولوجية، فان المعضلة النظرية الأساسية برؤيتها للعالم المعاصر، رؤية عالمية الآفاق، تكمن في انتاج المعرفة النظرية العلمية للقوانين الخاصة لتطور الواقع الاجتماعي والتاريخي العربي، باعتباره الموضوع الأساس لانتاج فكر سياسي عربي جذري وثوري، ومستقل تاريخياً، ومتحرر عن السلطات المرجعية الفكرية المتنافرة (التوافق بين الأعداء) الايديولوجية الرأسمالية الغربية والأصولية الاسلامية السلفية، والتيارات القومية البرجوازية الشوفينية:" فبغير هذه المعرفة العلمية الضرورية لمنطلق التطور التاريخي في بنية اجتماعية محددة، تفقد الممارسة السياسية قاعدتها الأساسية، وبالتالي طابعها الثوري، فتتخبط حينئذ داخل منطق الفشل الثوري بين المغامرة والانتهازية"(4).‏

ومن هنا يبرز دور الفكر النظري في تحقيق منطق الاستقلال التاريخي للذات العربية، ولكن ضمن رؤية كونية، وعالمية الآفاق، ومتحررة في الوقت عينه من سلطة المرجعية، أو النموذج السلف. ويزيد هذه المهمة الأساسية المطروحة على الفكر السياسي العربي الحاحاً، هذه الدراسة التحليلية لواقع المجتمع المدني العربي في اطار تلازمه مع انجاز المشروع القومي الديمقراطي، حيث يمارس الفكر النظري تدخله المباشر، ضمن سياق العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع الاجتماعي التاريخي، وفي اطار اشتباكه النظري مع المعضلات والأسئلة، التي يطرحها الواقع العربي الراهن، والتي تستهدف التوصل إلى قراءة نظرية تركيبية، يتداخل فيها النقدى الايديولوجي مع الخيارات المنهجية، ولكنها متخطية في الوقت عينه، ومتحرره من نزعة تحزيب الأفكار، أو القراءة السياسوية، حتى وإن كانت تقع في مدار الموضوعات السياسية العربية الراهنة. ولأن "الفكرة السياسية تشكل الإطار النظري العام، الذي يعمل الفكر العربي المعاصر ويتحرك في دائرته، وذلك أياً كانت الموضوعات التي تناولها، سواء تعلق الأمر بالاستعمار أم بالتحرر، بالتجزئة، أم بالوحدة بالظلم أم بالعدل، بالاستبداد أم بالديمقراطية، بالتقدم أم بالتخلف"(5).‏

ولأن الفكر العربي الثوري يتحرك دوماً بين قطبين رئيسيين القطب النظري والقطب السياسي، فان هيمنة المسألة السياسية فيه، أي قيامه على اشكالية صريحة الطابع السياسي حتى في ثوريتها النظرية الخارجية، ينزع بالضرورة إلى عملية التسييس هذه، باعتبارها ممارسة ثورية للصراع الايديولوجي، وبالتالي للصراع الطبقي والقومي، ضد الآثار المتساقطة من الممارسة السياسية للطبقة البرجوازية المسيطرة، الكمبرادوية والهجينة في تكوينها الطبقي، والعاجزة سياسياً وتاريخياً عن انجاز مهمات البرجوازية الكلاسيكية، والمدارس الايديولوجية، التي تطمس جوهر وحقيقة الصراع الطبقي والقومي. فالتمييز بين القطب النظري والقطب السياسي ضرورة ملحة، لأن الممارسة النظرية تسهم في انتاج فكر علمي، تحدد وتنير الممارسة السياسية الثورية، وهي شرط مطلق لتحرير مشروع ثقافي وسياسي نهضوي قومي ديمقراطي، يطرح قضية الثورة السياسية وبناء مجتمع مدني حديث وعصري ديمقراطي بديل، كما أن القفزة البنيوية الثورية، لا يمكن أن تتحقق إلا عن طريق الممارسة السياسية للخيار التاريخي النهضوي.‏

ويظل التنازع النظري بين المسألة السياسية الضاغطة بحجم وجودها، وثقلها، في الخطاب العربي وبين الفكر العربي المعاصر قائماً، لأن السياسة في طبيعتها الأصلية، وهي تبحث عن التغيير، تخدم المصلحة طبقية كانت أم حزبية، بصرف النظر عن المشروع السياسي المنضوية في سيرورته، قد لا تستمد معاييرها من الحقيقة الموضوعية، في حين أن الفكر باستخدامه العقل العلمي والفلسفي، هو الذي ينتج التصورات الصحيحة والرؤى العلمية عن حقائق التاريخ الاجتماعي، وعلاقاتها.‏

فهيمنة المسألة السياسية على الفكر العربي، بادعائها أنها تحتكر الحقيقة العلمية للتاريخ الاجتماعي، وباستمالتها الفكر، واستخدامه، وأحياناً في جعله رهن الاعتقال، وتدجينه، وحتى التنكيل به، يجعل الفكر العربي متناقضاً ولا يسوده الانسجام والوحدة في بناه النظرية والمعرفية، لأن موضوعاته واشكالياته أتت في ظروف تاريخية، أو تحت وطأة الضغوطات السياسية، والايديولوجية، ويظل عاجزاً عن انتاج معرفه نظرية ابداعية ومتحررة.‏

ومن هنا تتطلب حركة العقلنة في السياسة أن يتحرر الفكر من آثار الحدود والقيود، التي ترسمها له السياسة بمعناها السطحي والسياسوي.‏

وهو بذلك يصبح فكراً تاريخياً مطابقاً، ويحقق انتصاراً داخل السياسة عينها، بما يترتب على العقلية السياسية أن تتعاطى مع الواقع الاجتماعي التاريخي الذي تتفاعل معه، انطلاقاً من الحقائق العلمية، والمعطيات النظرية التي ينتجها الفكر العربي لكي يتسنى لها استخدام المعركة النظرية لخدمة المشروع القومي الديمقراطي النهضوي.‏

الهوامش :‏

(1) مطاع صفدي - مقال كلام الحرة في مأزق الشرعية / المشروعية. مجلة الفكر العربي المعاصر رقم 72- 73 كانون ثاني - شباط 1990 (ص11).‏

(2) - المصدر السابق (ص14).‏

(3) - عبد الاله بلقزيز - النص والمرجعية - جريدة السفير 25/5/1989.‏

(4) - مهدي عامل مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني -دار الفارابي - الطبعة الخاسة (ص33).‏

(5) - سعيد بن سعيد - المفاهيم السياسية في التداول العربي المعاصر - ملاحظات منهجية - المستقبل العربي السنة 9 عدد 92 تشرين أول أكتوبر - 1986 (ص7).‏

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع إلى

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
المصارف الاسلامية-سلسلة حديثة-هامة د.فالح العمره مجلس الدراسات والبحوث العلمية 1 14-11-2010 02:40 AM
عرض كامل لكتاب المسلمون في الولايات المتحدة الأمريكية / الدكتور عبد الرزاق الزهراني سهيل الجنوب مجلس الدراسات والبحوث العلمية 10 16-09-2010 05:55 PM
الـفـضائيـــات وتأثيـرها على مجتمعنـا بحث كامل وتقرير أبو مسعود مجلس الدراسات والبحوث العلمية 2 17-04-2006 01:22 AM
في المصطلح العربـي (قراءة في شروطه وتوحيده) أ. د. علي توفيق الحمد سهيل الجنوب مجلس الدراسات والبحوث العلمية 1 22-01-2006 08:46 PM

 


الوقت في المنتدى حسب توقيت جرينتش +3 الساعة الآن 03:08 AM .


مجالس العجمان الرسمي

تصميم شركة سبيس زوون للأستضافة و التصميم و حلول الويب و دعم المواقع