الازمنة والامكنة
رجال لا ينساهم الوطن
خليفة طلال الجري
لا أدري لم تقف الكويت هذا الموقف الغريب تجاه أبنائها الذين كان لهم السبق في العمل العام، وكان لهم دورهم في البناء الوطني في شتى المجالات، فما إن يدرك الموت أحد هؤلاء وينتقل إلى رحمة ربه حتى يُسدل وطنه عليه أستار النسيان، وكأنه لم يعمل شيئا لهذا الوطن، ولم يخدم المواطنين بأية صورة من الصور، بل كأنه لم يرد إلى هذه الدنيا، وكأنه لم يقم بأي عمل يذكر له.
إنه ليحز في النفس أن يحدث هذا بالنسة لرجال الكويت الذين لو تذكرنا أعمالهم التي قاموا بها أثناء مقدرتهم على العمل لوجدنا الشيء الكثير الذي يدل على إخلاصهم لبلادهم ومحبتهم لها ولأهلها. فهل يستجد في أمر حياتنا الراهنة ما يدعو إلى إحياء ذكرى هؤلاء وتمجيدهم بدلا من نسيانهم وإهمال ذكراهم؟
في ذهني الآن رجل من أولئك الرجال هو المرحوم خليفة طلال الجري.
ولد هذا الرجل الفاضل في الكويت سنة 1928م، وفي قرية بوحليفة، تلقى تعليمه في مدرسة أهلية كان صاحبها والمدرس فيها الملا عبدالله العصفور، وفي أول شبابه عمل في مهنة الغوص كغيره من أمثاله من شبان الكويت في ذلك الوقت. وعندما تم إنشاء شركة نفط الكويت التحق بها فعمل في أحد أعمالها المتاحة آنذاك، وأسس بعدها شركة هي شركة الجري والراشد للمقاولات، مغتنما فرصة التحرك الاقتصادي والإعماري في الكويت ثم لم يلبث أن التحق ببلدية الكويت، فصار رئيسا للقسم الذي يمثلها في بوحليفة. وبعد سنة 1961م تطلع إلى المشاركة في العمل العام، فقد وجد نفسه حاصلا على خبرة حياتية كبيرة، وكون له علاقات ومعارف مع كثيرين من الناس الذين يمثلون أهله وأصدقاءه والمعارف الذين استطاع أن يرتبط معهم بعلاقات طيبة خلال أعماله السابقة.
ونتيجة لكل ذلك فإنه أقدم على ترشيح نفسه لأول انتخابات من نوعها تجري في الكويت وهي انتخابات أعضاء المجلس التأسيسي في سنة 1962م، وذلك من أجل وضع دستور البلاد، وقد تم له ما أراد ففاز في تلك الانتخابات، وعبر فوزه هذا عن محبة الناس له، واعتقادهم بأنه قادر على أن يقوم بالمهمة التي سوف يشارك زملاءه أعضاء المجلس في إنجازها. وقد تم عمل المجلس بعد أن أدى دوره، وبناء على الدستور الذي أقر واعتمده الشيخ عبدالله السالم الصباح أمير دولة الكويت آنذاك، فقد بدأت الخطوة الثانية بالانتخابات الأولى لاختيار أعضاء مجلس الأمة في أول دور انعقاد له من الفصل التشريعي الأول، وذلك في سنة 1963م، وقد قام خليفة طلال الجري بترشيح نفسه لهذا المجلس، وفاز بعضويته كما كان متوقعا وأدى فيه دوراً محمودا كما حصل له في المجلس التأسيسي.
وقد توقف بعد انتهاء دور انعقاد المجلس الأول عن المشاركة في الانتخابات أثناء عضويته، وبقي بعيدا عن المجلس، ولكنه لم يكن بعيدا عن المشاركة العامة، ولا عن الاتصال بالمواطنين، ومتابعة الأعمال التي تضطلع بها الحكومة أو التي يقوم بها المجلس، إلى أن جاء دور الانعقاد الخامس لمجلس الأمة الذي بدأ في سنة 1981م، وانتهى في سنة 1985م، فوجد نفسه على استعداد للمشاركة في هذه المرة، فتقدم للترشيح في الانتخابات التي جرت لذلك، وفاز فيها كما هي عادته. وعلى الرغم من انقطاعه فترة من الزمن عن متابعة هذا النوع من النشاط إلا أنه أثبت قوة علاقاته بالأهالي، وأكد محبة ناخبيه له.
إضافة إلى ما كان يقوم به في مجلس الأمة بصفته عضوا فيه، ومن مناقشات ومداخلات واقتراحات واسئلة فقد كان ذا حضور ملحوظ في الأنشطة الخارجية التي يشارك فيها مجلس الأمة، ولقد اختير لعضوية عدد من الأعمال الخارجية المهمة منها مؤتمر البرلمانيين العرب الذي تم انعقاده في مدينة القاهرة سنة 1964م، ومؤتمر الاتحاد البرلماني الدولي الذي عقد في مدينة هافانا عاصمة كوبا سنة 1983م، ومؤتمر البرلمانيين الدولي الذي عقد في عاصمة كوريا الجنوبية سنة 1984م.
وكانت له إلى جانب هذا أنشطة أخرى متعددة في البلاد. فقد كان له اهتمام بالنشاط الاجتماعي والرياضي، وكان من مؤيدي نادي الساحل الرياضي،وبلغ من قوة تأييده لهذا النادي أن تولى رئاسة مجلس إدارته في دورتين متلاحقتين أولاهما في سنة 1976م والثانية في سنة 1980م، وهذا الاهتمام قد لا يعرف به عدد كبيرمن الأوساط الرياضية، أو في أوساط الشباب بشكل عام، الأمر الذي ترك في نفوس أبناء الأجيال اللاحقة لجيله أثرا قويا من المحبة والتقدير له .
وابتداء من سنة 1969م اتجه إلى المساهمة في الأعمال التربوية عن طريق إنشاء مؤسسة تعليمية خاصة لا تزال تؤدي دورها بصفتها من أهم مؤسسات التعليم الأهلي في محافظة الأحمدي. وقد دعا زملاءه أصحاب المدارس الخاصة في الكويت إلى تأسيس اتحاد يضمهم، يكون داعما لهم ولمدارسهم، وقد تم ذلك بتجاوب الجميع معه، وبرز: الاتحاد الكويتي لأصحاب المدارس الخاصة إلى الوجود في سنة 1974م، وقد انتخب رئيسا له منذ ذلك الوقت إلى سنة 1992م، وكانت له مواقف مهمة في هذا السبيل.
***
هذه نظرة عامة إلى أعمال وسيرة المرحوم خليفة طلال الجري، وهنا ينبغي أن نتحدث عن مساهماته في المجلس التأسيسي والأمة خلال عضويته فيهما، وهذه هي بعض النقاط، مع البدء بفترة قيام المجلس التأسيسي، والانتهاء بدوري مجلس الأمة.
فيما يتعلق بنشاطه في المجلس التأسيسي فإننا نرى ذلك واضحا في المناقشات التي كانت تدور في الجلسات وبخاصة منها ما يتعلق بالدستور، ولقد كان اهتمامه كبيرا بهذا الأمر لأنه يوقن تماما بأن مصلحة الكويت ومستقبلها مرتبطان بصدور دستور يضمن مسيرة حكومية ونيابية سليمة، ويحتفظ بحق المواطنين في الحريات بكافة أشكالها. ولذا فقد بذل من اتصالاته مع زملائه ومن مناقشاته في الجلسات جهودا جعلته يطمئن إلى حسن النتيجة، وعندما صدر الدستور بتوقيع أمير البلاد عليه كان ذلك اليوم يوم فرحة غامرة لصديقي الذي تأكد بعد ذلك أن الكويت العزيزة قد نالت ما تصبو إليه.
وفيما يتعلق بآثار صاحبي عضو مجلس الأمة خليفة طلال الجري في ما جرى خلال فترة عضويته في هذا المجلس، فإننا نجد نشاطه واضحا ومتعددا ويزيد كثيرا على نشاطه في المجلس التأسيسي، وذلك لأن مدة هذا المجلس كانت قصيرة مرتبطة بزمن محدد وعمل معين، وعندما تم ذلك انتهى الدور المطلوب منه.
ولكن مشاركته في مجلس الأمة تختلف من حيث طبيعة المجلس المختلفة تماما عن المجلس الذي سبقه. لقد أتيحت الفرصة لهذا لعضو الجديد في أثناء عضويته لمجلس الأمة ما لم يتح له في المجلس التأسيسي، لذا فنحن نراه يشارك في كل مجال من مجالات العمل فيشارك في النقاش ويقدم الأسئلة، ويقترح المقترحات التي تخص منطقته الانتخابية وغيرها، ويشارك في تقديم مقترحات بإصدار القوانين التي يراها تخدم العمل العام في البلاد وتدفع بعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وكان له دور كبير في الدعوة إلى ترسيخ العمل في خدمة الإسكان الحكومي للمحتاجين، وله دور في الدعوة إلى تعميم المدارس في المنطقة التي يمثلها فهو حريص على أداء الأمانة على خير وجه.
في سنوات العمل بالمجلس 1981م و 1982 و 1983 و 1984م، نشط خليفة طلال الجري في كثير من مجالات العمل النيابي الذي نقدم مثالا له فيما يلي باختصار:
-1 في 1981/5/13 م تقدم مع خمسة آخرين من زملائه الأعضاء باقتراح بقانون يتضمن تعديلا على قانون الخدمة المدنية.
-2 في 1982/10/11 م تقدم هو وخمسة من زملائه الاعضاء باقتراح قانون يعدل بعض أحكام القانون الخاص بالهيئات الرياضة.
-3 وفي اليوم المذكور آنفا قدم بمفرده اقتراحا يتضمن تعديل حكم المادة 237 من قانون الجزاء رقم 16 لسنة 1960م.
-4 في 1982/12/6م قدم بمفرده - أيضا - اقتراحا بمشروع قانون يتضمن تعديل بعض أحكام القانون رقم 15 لسنة 1972 م بشأ بلدية الكويت.
-5 في 1982/5/19م تقدم - متفردا - باقتراح مشروع قانون بشأن درجات ومرتبات العاملين في إدارة التحقيقات بوزارة الداخلية.
وفي سنة 1983م قدم عددا كبيرا من المقترحات تشمل إنشاء جمعيات تعاونية في منطقته الانتخابية التي كانت محرومة منها وقتذاك. كما قدم مقترحات أخرى بشأن إنشاء مدارس وطرق ومكتبة عامة لحاجة المنطقة إلى كل ذلك، واقترح إنشاء عدد من بيوت ذوي الدخل المحدود لتوزيعها على المحتاجين في تلك المنطقة، كما قدم عدداً كبيرا آخر من الطلبات والاقتراحات التي تدل على مدى اهتمامه بالكويت بصورة عامة وليس كما كان الامر متوقعا بحصر هذا الاهتمام بمنطقته دون غيرها فهو بصفته نائبا يمثل الكويت كلها على استعداد لبذل مايستطيع من أجلها.
وفي سنة 1984م كان له اهتمام كبير بتقديم الأسئلة التي يقصد من ورائها الإحاطة ببعض ما يجد أنه من المهم أن يعرفه من معلومات عن عدد من الأمور العامة الجارية في الوزارات أو في بعض المؤسسات الحكومية الأخرى.
في 1984/2/15م قد سؤالاً طويلا ضم ست عشرة فقرة ووجهه إلى وزير الصحة، وزير التخطيط آنذاك، وكان ذلك السؤال الشامل متعلقا بمجلس حماية البيئة، وقد تطرق السؤال إلى عدد كبير من الأمور التي تناولت كافة مايقوم به هذا المجلس من أنشطة، ودقق في السؤال بصفة خاصة في المصروفات التي يقدمها مجلس البيئة، وكان يرغب في معرفة جوانب تلك المصروفات، وجدوى تقديمها وكان - أيضا - يريد أن يتأكد من مقدرة الجهاز الفني والإداري العامل في هذا المجال المهم على أداء المهمة المنوطة به.
وكان هذا السؤال ضمن اسئلة كثيرة عن المدارس والمستشفيات والرعاية الاجتماعية والاسكان، بل وعن مجلس التعاون الخليجي، وعن الحرب العراقية الايرانية التي كانت مشتعلة وقتذاك، وبالاختصار فإننا نجده قد قدم مجموعة كبيرة متنوعة من الاسئلة بحيث لم يترك مجالا من المجالات إلا أثار حوله الأسئلة ولفت إليه الأنظار، وكانت بعض اسئلته تدل بوضوح على أنه ينوي متابعة الموضوع الذي يسأل عنه واستقصاء الكثير مما يجب ان يستقصي بحيث لا يدع الأمر معلقا ويكتفي - فقط - بالسؤال وبالاجابة عنه، فهو لايريد مجرد التظاهر بما يفعل وإنما يريد أن يصل إلى نتائج تفيد الوطن.
وإذا عدنا القهقرى وجدناه في 1965/11/29 م يقدم اقتراحا بإنشاء روضة الاطفال في قريته بو حليفة استكمالا للأعمال المدرسية التي تمت بها. وفي اليوم نفسه قدم اقتراحا آخر بإنشاء مدرسة بنات في القرية ذاتها، وفي 1965/4/7م قدم اقتراحا بإنشاء مستوصف في بوحليفة، وقدم في التاريخ نفسه اقتراحا آخر بإنشاء مخفرين للشرطة أحدهما في الفنطاس والآخر في بو حليفة، وفي 1965/2/17م قدم اقتراحين أحدهما بشأن إنشاء مساكن لذوي الدخل المحدود في قرية المنقف، والآخر بشأن تبليط شوارع قرية بو حليفة.
ونراه في 1965/5/3م يخرج عن هذا الاطار لكي يقدم هو وأربعة من زملائه الأعضاء اقتراحاً بإنشاء دار للإفتاء في البلاد.
وفي سنتي 1965م، 1966م قدم عدداً لا بأس به من الأسئلة وكلها ذات مغزى مهم لأنها تلفت أنظار من وجهها إليهم إلى أبواب من الخدمة العامة ينبغي ان يلاحظوها، أو أمور من القصور ينبغي أن يقوموا بتلافيها. ولم تكن هذه الأسئلة مقتصرة على منطقة بعينها بل كانت تشمل دولة الكويت بأسرها، وفي غير مجال الأسئلة وجدناه في 1966/2/27م يقدم مع الأعضاء: أحمد السرحان، وعبدالعزيز الخالد، وأحمد الفوزان، وحمد المشاري اقتراحا بقانون بشأن المساعدات العامة التي تقدمها الدولة للمحتاجين، وكان اهتمام هؤلاء الأعضاء بهذا الأمر الاجتماعي والإنساني من الأمور التي لاتنسى لهم.
***
لا أدعي أن كل ما قدمته هو ما قام به خليفة طلال الجري من أعمال في المجلس أو في خارجه ولكنني حرصت على أن أضع بين يدي القارئ نماذج لما كان يقوم به. ويكفي ماذكرته من أمور أنها تدل على إخلاصه ووفائه وصدقه في التعامل مع الناس. رحمه الله رحمة واسعة.
المرحوم خليفة طلال الجري في صورة مع المرحوم الشيخ علي صباح السالم بمناسبة إحتفال مؤسسة أم القرى بالعيد الوطني
http://www.alwatan.com.kw/Default.as...0&AuthorID=987
تاريخ النشر 02/09/2009