تعريب التعليم الجامعي
وأهم المشاكل التي تواجهه
د. عبد الرؤوف خـريوش (*)
أهمية التعريب والحاجة إليه في الحياة العربية المعاصرة:
بقيت جهود الاستعمار الرامية إلى طمس لغة ودين المجتمع العربي متواصلة، تهدأ حيناً وتحتد حيناً آخر؛ لكنها ظلت منذ الحملات الصليبية إلى اليوم حلماً يراود المستعمرين وأملاً في أعماقهم، وسيبقى صراعاً حضارياً علمياً يعبر عن وجود أمة –لغة وعقيدة- تبقى ببقائها وتزول بزوالها.
إن الجهود العربية في المجال العلمي والتي بدأت في عهد النهضة تعد حلقة من سلسلة متواصلة لدعم التراث العلمي العربي وتطويره، وقد واجهت هجمة استعمارية شرسة، عصفت بتلك الجهود إثر استعمار الوطن العربي من محيطه إلى خليجه، هذا الاستعمار أدى بدوره إلى قتل روح الإبداع، ومنها البذرة الأولى وهي التدريس باللغة العربية في المجالات العلمية في مناطق الشام ومصر وتونس؛ مما أدى إلى النزوح عن اللغة العربية وهجرها كلغة تدريس، والتدريس بلغة المستعمر الأجنبي الإنجليزية في المشرق والفرنسية في المغرب العربي.
رغم زوال الاستعمار مازلنا نشهد بقايا الاستعمار واضحة جلية في جامعاتنا باعتماد لغته، إذا ما استثنينا سوريا والسودان مؤخراً، ورغم النداءات الصادرة عن المجامع اللغوية والجامعة العربية ونداءات العلماء العرب الداعية إلى اعتماد اللغة العربية كلغة تدريس، إلا أن هذه النداءات لم تلق مجيباً.
إن التدريس باللغة العربية لا يعني إهمال اللغة الأجنبية، إذ من خلالها يمكن الاطلاع على ثقافة العالم الآخر وإبداعاته وتطوراته في المجالات العلمية، وإنما الدعوة إلى التعريب تأتي باعتماد اللغة العربية لغة حوار وتأليف علميين، من أجل تعميق الوعي والفهم باللغة الأم، الأمر الذي يؤدي إلى التطوير والنهوض؛ لهذا كله فإن للتعريب أهميات: علمية، ولغوية، وقومية، هذه الأهميات ترتبط بالحياة المعاصرة للإنسان العربي الساعي دوماً للتقدم والتطور والتخلص من التبعية والجمود ليعود كما كان في الماضي ذا إشراقات وإبداعات علمية تدفع به ليكون في مصاف الأمم المتقدمة.
أهمية التعريب القومية:
إن أهمية التعريب قومياً تأتي في أنه يوحد العرب في لغة الحوار الموحدة والمعروفة لديهم، أضف إلى أن اللغة قادرة على إيجاد كيان عربي موحد، يتمتع بمركزية عربية قوية " اللغة مكون أساسي من مكونات هويات الأمم " (1). لذلك فإن من شأن التعريب أن يصبغ الحياة بصبغة عربية، وهو مظهر من مظاهر التوحيد الفكري لشعوب مقسمة إلى كيانات سياسية مختلفة؛ لذلك فإن عامل التوحيد قومياً مهم لأبناء الأمة العربية الواحدة ولا بد من أن تركز الأمة على حضارتها ودينها من جديد "والآن وقد تخلصنا من الاستعمار المباشر في صوره العسكرية والسياسية، والذي شل قدراتنا على الحركة ، فإن واجبنا الديني والقومي أن نتابع حركة التحرر الوطني، ونقبل بها إلى غايتها المنطقية بأن نرفد ثورتنا السياسية التي خرّجنا بها الاستعمار المباشر بثورة ضارية نعيد بها النظر في كل مجالات حياتنا، فننفي عن وجودنا كل مظاهر التخلف والجمود وموروثات الاستعمار ونظمه"(2).
أهمية التعريب العلمية:
تتجلى في أن التعريب يرتبط بالثقافة العربية الإسلامية في مواجهة التحديات لأن اللغة العربية لغة الثقافة والحضارة وليست لغة العلم فقط؛ لذلك فإن أسباب عدم النهوض العلمي كحقيقة في عالمنا الإسلامي والعربي حتى الآن، هو ارتباط علومنا باللغة الأجنبية المستمر في سبيل الوصول إلى المعرفة بدلاً من ربطها باللغة العربية فانعزلت عن ماضيها في غربة عن تراثها وتاريخها ولغتها،فحدث الإنفصام الثقافي الذي زاد اليوم بين العلم وحضارة الأمة ، فغدا العلم هجيناَ في شجرة لا تألفه ، وأدى ذلك إلى بقاء الأمة ناقلة بدلاَ من أن تكون أُمة مبدعة (3). من هنا فإن أهمية التعريب العلمية هي ربط التراث العلمي القديم بمستجدات العلوم الحديثة للنهوض بالأمة؛ فنعيد صقل تراثنا العلمي من جديد بلغتنا القومية بقالب علمي حديث يوصلنا إلى التقدم العمي، ويخرجنا من ردهات الثبوت ويجد لنا مكاناً بارزاً وهاماً إلى جانب الحضارات المتقدمة الأخرى، "لم تقم نهضة علمية حقيقية في عالمنا العربي والإسلامي حتى الآن، ولم نتقدم صناعياً وتكنولوجياً لأننا نجتر أساليب الغرب ومعرفته اجتراراً ونقلدها تقليداً دون أن يكون ذلك جزءاً من تكويننا الفكري والاجتماعي"(4).
من هنا فإن للتعريب أهمية علمية على المستوى القومي إذ يرفد الأمة بعلوم العصر ويساهم في تنمية المجتمع عامة فيكون العلم في تناول الجميع مما يساعد على ازدياد الوعي وتنامي الجماهير عامة.
ولعل التعريب يساهم في فتح آفاق علمية واسعة ويساهم في إيجاد التكنولوجيا وإبداع المشتغلين بالعلوم مما يؤهلهم إلى الابتكار العلمي حين يتعمقون في فهم التعريب بلغتهم، لأن اللغة القومية تكون هي لغة الأفكار والأحاسيس للإنسان، ومن خلال التجارب التي قيست في الجامعات، وجد أن أهمية التعريب في المستوى العلمي، تساهم في انخفاض نسبة الرسوب، إضافة إلى ازدياد نسبة الوعي والفهم، ففي أواسط الستينات في الجامعة الأمريكية في بيروت،أجريت تجربة على مجموعتين من الطلاب: الأولى تلقت المادة العلمية بالعربية والأخرى بالإنجليزية بتوزيع متكافئ للطلاب؛ فوجد أن نسبة الوعي والفهم والاستيعاب بالعربية 76% في حين ان الفهم في اللغة الإنجليزية 60% (5). أضف إلى ذلك، أن تعريب العلوم له أهمية في الجانب المهني، إذ إن التلقي باللغة الإنجليزية يخلق لدى الطبيب والصيدلي عزلة عن المجتمع لغوياً وعلمياً؛ لذلك لا بد أن يعي المجتمع هذه الجوانب، وأن يساهم في رفع مكانته ؛لأن التدريس باللغة الأجنبية يؤدي إلى قطيعة لغوية تؤدي إلى قطيعة فكرية.
أهمية التعريب اللغوية
إن للتعريب أهميات لغوية كثيرة فهو يساهم في إثراء اللغة العربية لدى الأستاذ حيث يتعمق بلغته أكثر مما يقتضي الابتكار والإبداع.
إن تدريس المواد العلمية باللغة العربية يحفز بصورة تلقائية المدرس والمترجم إلى ترجمة هذه المواد باللغة العربية مما يدفعه إلى الأمام ولدعم تجربته وممارسة الترجمة.
وهناك أهمية لغوية أخرى للتعريب وهي الخوض في ألفاظ لغوية ترد إلى لغات أجنبية وردها إلى جذورها العربية، وهذا يفتح ويسهم في إثراء الدراسات اللغوية المقارنة فقد تعرف الدارسون والباحثون العرب على الكثير من الألفاظ المشكوك فيها وفي معرفة ألفاظ ومصطلحات غريبة هي في الأصل عربية مثل مصطلحات المعادن وألفاظ أثبتها علماء العرب بعد أن شكك علماء الغرب بأصلها وردوها إلى أصولها العربية؛ فمكنت الدارسين من الوقوف في وجه الدخيل الذي لا يتناسب والذوق اللفظي العربي (6).
إن قبول اللغة العربية للكثير من المصطلحات العلمية واللغوية ناتج عن خصائص اللغة العربية المتصفة بالمرونة والاشتقاق والنحت والتطور. وهذا يعمل على إغناء اللغة لغوياً وقلّ ما تتصف به لغة أخرى.
ولأهمية التعريب وضرورته، فإن التوصيات حوله صدرت عن كل مؤتمرات التعريب السبعة التي عقدت في أرجاء مختلفة من الوطن العربي فركزت معظم هذه المؤتمرات على ضرورة التعريب. ونجد قرار مجلس الجامعة العربية الذي عقد (1945م) يدعو إلى توحيد المصطلحات العلمية، كما نجد ندوة (1979م) التي عقدت في الخرطوم توصي الضرورة التعريب وهي ندوة عقدت حول التعليم في مراحله المختلفة ، وأيضاً اجتماع المعلمين (1976م) الذي عقد بنفس المدينة أوصى كذلك بضرورة التعريب. إضافة إلى توصيات مؤتمرات المجامع اللغوية العربية واتحادها.
ورغم ذلك فإننا نجد معظم الكليات العلمية تدرس العلوم باللغات الأجنبية إذا استثنينا سوريا والسودان وبعض أقسام الكليات في جامعة العراق.
إن اللغة العربية نعيشها منذ الطفولة، نحس بالألفة معها والأنس بها. إنها ليست شيئاً منفصلاً عنها أو زياً نرتديه اليوم ونخلعه غداً حينما نشاء، بل هي معنا منذ نعومة أظافرنا، فتشبه الأم قرباً إلى النفس، وإثباتاً في حنايا القلب وخلجات الضمير.
ولا يفهم من التعريب إضعاف اللغات الأجنبية بل تعتبر رافداً يطلع به على ما يستجد من علوم،نفهمها ونعيد صقلها بلغة عربية سليمة، مما يؤهل علماءنا إلى الإنتاج والإبداع.إذ إن التعريب الجامعي تلبية لطموح الأمة العربية في أن يعود إليها مجدها العلمي على أيدي علمائها المعاصرين وهي قومية لها مقوماتها وأسانيدها وقضية تعليمية حتى يستطيع الشباب العربي بلغته الأم تمثل ما يدرسون في العلوم البحثية والتطبيقية تمثلاً علمياً قوياً.
المشاكل التي تواجه التعريب:
واجهت قضية التعريب منذ إن بدأت في العصر الحديث مشاكل عدة، ولعل احتدام تلك المشاكل بدأ مع بداية الاستعمار الأوروبي للوطن العربي،إذ ألغي التعريب في مصر ولبنان واستمر في سوريا.
ورغم استقلال الدول العربية من الاستعمار مع أواسط القرن الحالي، ورغم إنشاء المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ومؤسساتها ، ورغم نداءات المؤتمرات والندوات إلا أن هذا لم يحد كثيراً من مشاكل التعريب، بل بقيت مشاكله قائمة في كل الدول العربية تتفاوت من قطر إلى قطر. لكنها متقاربة في المشاكل الكبرى. وهذه المشاكل هي:
1- مشكلة الكتاب الجامعي:
هذه المشكلة تعيق التعريب، فالمراجع العلمية باللغة العربية نادرة وقليلة ، ولعل سبب ذلك يعود إلى مشكلتي التأليف والترجمة. فعلى صعيد التأليف: نجد أن الكتب العلمية المؤلفة باللغة العربية قليلة جداً إذا ما قيست بالكتب المترجمة والكتب المؤلفة باللغة الأجنبية،ولعل سبب ذلك يعود إلى عدم وجود مؤلفين أكفاء باللغة العربية، وإن وجدوا فهم قلة. وعملية التوزيع، إذ الكتاب العلمي المؤلف باللغة العربية يواجه مشكلة في التوزيع ومشكلة الطباعة والإخراج الفني غير الدقيق.
أما على صعيد الترجمة، فإن الكتب المترجمة أيضاً قليلة على الرغم من وجود مكتب للتعريب والترجمة والنشر تابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بدمشق إلا أنه حديث العهد تأسس (1991م)، وعلى الرغم من ذلك تبقى المشكلة قائمة والسبب يعود في ذلك إلى عدم وجود الترجمة الفورية لما يستجد من أبحاث في مجالات المعارف والعلوم عدم ترجمة الكتاب بطبعاته الجديدة إذ الكتاب يصبح قديماً في معلوماته إذا لم يلاحق ويترجم كل جديد في الكتاب الأصل. و الكتب المترجمة لا تفي بالغرض لقلتها، ففي السودان مثلاً ما بين عامي 1970-1980 لم يترجم أي كتاب في حين أن كل ما ترجم في الأردن إلى حدود 1985 لم يتجاوز 50 كتاباً وفي تونس 92 كتاباً (7). وكذلك قلة المترجمين الأكفاء ذوي القدرة والخبرة. لذلك تبقى المكتبة العربية بشكل عام تفتقر إلى الكتب العلمية باللغة العربية مما يعيق الطالب الجامعي ويدفعه إلى الرجوع للمراجع الأجنبية لتوافرها. و لذلك لا بد من مواجهة هذا كله من خلال التأليف العلمي باللغة العربية بإعطاء الحوافز واعتماد ذلك في الترقيات العلمية. والترجمة الفورية لكل ما يستجد من معارف وعلوم الطباعة الجيدة، والتوزيع الجيد. وتدريب متخصصين أكفاء في التحرير والإخراج الفني مع التزام الدقة في المعلومات العلمية.
2- مشكلة المصطلح:
إن مشكلة توحيد المصطلح في الوطن العربي ما تزال قائمة بحد ذاتها، رغم جهود مكتب تنسيق التعريب. ورغم قرار الجامعة العربية ورغم جهود اتحاد المجامع العربية في توحيده؛ فاختلاف مصدر المصطلح يؤدي إلى اختلاف في ترجمته إضافة إلى قلة المعاجم الاصطلاحية المتخصصة.
كل هذا يشكل مشكلة في طريق البحث العلمي، ولكن مشكلة التوحيد ليست مشكلة صعبة في حالة استعمال المصطلح المترجم في حقل التأليف العلمي لأن حياة المصطلح بالكتب والاستعمال، لا في طيات المعاجم على الرفوف، وفي حال إيجاد لجنة عربية موحدة متخصصة تتولى أمر تعريب المصطلح، وفي حال التعاون بين المؤسسات العلمية العربية فإن هذا كله سيساهم في الحد من مشكلة المصطلح وتوحيده وترجمته.
3- مشكلة المدرس الجامعي:
تعتمد هيئة التدريس في مصادرها العلمية على لغات عدة وليست الإنجليزية (لغة التدريس في الجامعات) فقط؛ لذلك فالإنجليزية هي لغة أجنبية لبعض المدرسين الذين تلقوا علومهم بلغة أخرى غير الإنجليزية، ومع قلة إتقان بعضهم اللغة العربية الفصيحة، فإنهم يلجأون إلى التدريس بالعامية العربية مع التطعيم بالإنجليزية، مما يؤد ي إلى التشتت في المعلومات العلمية بتشتت مصادرها فيؤدي بدوره إلى تشتت الطالب فكرياً، ويحدث فجوة علمية بين العلم واللغة.
ومن مشاكل هيئة التدريس قلة إيمانهم بقضية التعريب والسبب في ذلك يعود إلى عدم اعتماد الأبحاث المترجمة والمؤلفة باللغة العربية في السلم الوظيفي، كما أن نشر الأبحاث في دوريات عربية مشهورة معدوم لديهم لقلة توفر هذه الدوريات التي تتمتع بالمكانة العالية؛ لذلك فإن عميلة تحسين وضعهم المادي والعلمي كإدخال الترقية على الأبحاث المترجمة والمعدة باللغة العربية يساعد المدرس على الاهتمام باللغة العربية وبالتعريب، كما أنه لا بد من مواجهة العامية في التدريس المطعمة بالإنجليزية ولا بد من الإلمام بالفصحى لكي يتمكن المدرس من التدريس بها.
4-مشكلة المعاجم:
لا شك أن المخطوطات العربية التي رهن الرفوف هي بالملايين ولعل العلمي منها يتجاوز الآلاف ، وهذا كله أدى إلى ضعف المعاجم العربية المؤلفة في الميادين المختلفة وقلتها، إذا ما قيست بالمعاجم المؤلفة باللغات الأجنبية، ولعل أهم ما تفتقر إليه المكتبة العربية هو المعجم التاريخي الذي أصبح لا بد منه ، وهذا لا يتم إلا إذا تحقق عدد كبير من المخطوطات العلمية والأدبية.
إضافة إلى أن المعاجم المتخصصة بالميادين العلمية المنشورة باللغة العربية أو المترجمة لم تتضمن كل المصطلحات، في اللغات الأجنبية، ولن تكفي الثلاث السنوات القادمة في ظل الظروف الراهنة من ترجمة كل المصطلحات العلمية وإصدارها على شكل معاجم اصطلاحية كما يخطط لذلك مكتب تنسيق التعريب بالرباط والسبب في ذلك يعود إلى تطور العلوم إضافة إلى تشتت الجهد العربي ومؤسساته وقلة إيمان معظمها كالجامعات -مثلاً- بالتعريب.
لهذا كله لا بد من البحث عن هذه المصطلحات في التراث العلمي العربي واستخدامها في حقل التأليف العلمي، وهذا يتم من خلال تحقيق المخطوطات العليمة في التراث العربي مما يساهم في إيجاد معجم تاريخي قادر على استيعاب كثير من المصطلحات والكلمات وردها إلى أصولها، على غرار معجم أُكسفورد التاريخي ومعجم وجريم الألماني كما أن الترجمة الفورية للمصطلحات تساعد على وضع اشتقاقات للمصطلح بصبغة عربية وهو المطلوب من المصطلح في الوقت الراهن.
5- مشكلة اللغة العربية:
عاشت اللغة العربية عصوراً زاهرة، وكانت لها مكانة مرموقة بين لغات العالم، فقد كانت لغة العلوم في كافة الميادين المعرفية، وهذا يعود إلى العناية والاهتمام الكبير بها من قبل أُولي الأمر في العصور الإسلامية المزدهرة كالأمويين والعباسيين.
على أن اللغة اليوم تشهد قلة العناية والاهتمام منذ المراحل الأساسية من التعليم إلى المراحل التعليمية العليا، كما أن إدخال لغة أجنبية تدرس بنفس الزمن منذ المراحل الأساسية إلى جانب اللغة العربية يؤثر على مدركات الطالب ، مما يدفعه إلى التشتت في التفكير ما بين لغتين فيؤثر على إبداعه ونمط تفكيره، فينتج عن ذلك ضعف في لغته الأولى (الأم) فيبدأ بالتفكير بنمطين مختلفين ليعبر بلغتين مختلفتين.
وفي المراحل التعليمية العليا،أصبح التدريس باللغة الأجنبية في معظم الجامعات العربية إذا ما استثنينا سوريا والسودان وبعض المواد للسنوات الأولى في بعض الجامعات المصرية، لأن لغة الحوار أصبحت بالمحافل العلمية العربية باللغة الأجنبية، فمؤتمر طب الأسنان العربي التاسع عشر الذي عقد بالخرطوم 12/1994 كان فيه الحوار بالإنجليزية، بل الذي أثار الاستغراب أن إحدى الندوات كانت عن "المسواك وفوائده" ولكنه قدم باللغة الإنجليزية وتلاه النقاش بالإنجليزية.
إن كل هذا يؤدي إلى قلة الاهتمام باللغة العربية ويدعم رأي القائلين بأن اللغة العربية لغة دين وليست لغة علم وحضارة، لأجل ذلك فإن الاهتمام باللغة العربية من الأساس بعدم إدخال لغة أجنبية في المراحل الأولى تدفع بالطالب إلى التفكير بلغة واحدة يتكلمها ويفكر بها دون أن يتشتت فكره مع لغة أخرى ملازمة له في التفكير والنطق، كما أن الطالب الجامعي بحاجة إلى التشجيع على البحث في اللغة العربية والترجمة كاعتماد ذلك في المقرر الجامعي. هذا كله يدفعه إلى الاهتمام باللغة العربية والتركيز على الفصيحة منها.
ومن مشاكل اللغة إدخال العامية في الحوار وفي قاعة الدرس بحجة ان إيصال المعلومة هو الهدف . ولكن كيف يفكر ويبدع بلغة بعيدة عن العلم؟ فالعامية ليست لغة مصطلحات ولا لغة علمية، فمن أسباب قلة الاهتمام بالعربية إدخال العامية بدل الفصيحة في محافل عدة حتى في قاعة الدرس منذ المراحل الأساسية إلى المراحل العليا من التعليم لذلك لا بد من احترام الفصيحة وجعلها لغة تدريس والتركيز عليها خصوصاً في المراحل الأساسية.
6-مشكلة الطالب الجامعي:
إن قلة المراجع العربية وقلة المصطلحات والمعاجم وضعف هيئة التدريس وقلة إيمانهم بالتدريس باللغة العربية الفصيحة يؤثر سلبياً على الطالب فتصبح قضية التعريب بالنسبة إليه مشكلة بحاجة إلى حل؛ فالطالب الجامعي في المجالات العلمية يتلقى تعليمه بالأجنبية فتصبح هي لغة الحوار والتفكير والبحث بالنسبة إليه، وهذا يؤثر على المجتمع بصفة عامة إذ يجد صعوبة في الموازنة بين لغة الحياة اليومية (المجتمع) ولغة العلم (الأجنبية).
لذلك فإن إدخال التعريب خطوة بعد خطوة مع جعل لغة الحوار بالعربية الفصيحة ودفعه إلى الترجمة وكتابة الأبحاث بالعربية كل هذا يؤدي إلى حل هذه المشكلة ومن شأنه أن يرفع مكانة اللغة العربية التي أصبحت اليوم إحدى لغات العمل في الأمم المتحدة.
7-مشكلة المؤسسات العلمية العربية الحكومية وغير الحكومية:
إن المؤسسات العلمية المحلية والعربية الحكومية وغير الحكومية، ضعيفة الإيمان باعتبار اللغة العربية لغة علمية وهذا معوق أساسي للتعريب، إذ انقسمت الدول العربية في هذا الشأن ما بين مؤيد ومعارض خلال مؤتمر التعريب السابع في الخرطوم وأدى ذلك إلى تشتت الجهد العربي في هذا المجال. وحتى الدول المؤيدة للتعريب والتي حضرت المؤتمرات فإن جامعاتها العلمية ما زالت تدرس باللغة الأجنبية –لغة المستعمر- على الرغم من وجود قرار عربي صادر عن جامعة الدول العربية ينص على ضرورة التعريب،وجعل اللغة العربية لغة التدريس في الجامعات .
لذلك لا بد من إيمان هذه المؤسسات العلمية بضرورة التعريب، وتوحيد الصفوف العربية في هذه القضية والتي تتجاوز إمكانيات البلد الواحد، مع وجود قانون يلزم هذه المؤسسات بضرورة تنفيذ القرار، مع التنسيق بين المؤسسات العلمية في هذا المجال. كل ذلك يدفع بعملية التعريب إلى الأمام ويحد من المشكلة.
8-المشكلة الاجتماعية:
وهي من المشاكل التي تواجه المتعلم عند تخرجه، وولوجه الحياة العملية وخصوصاً المتخرج من الكليات العلمية المهنية، فالطبيب يجد هوة ما بين اللغة التي تعلم بها ولغة الحوار العلمي مع المجتمع، وكذلك المهندس الزراعي عند الحديث عن الآفات الزراعية التي تواجه المزارعين.
لهذا فإن حل هذه المشكلة مرتبط بحل كل المشكلات السابقة الذكر، إن هذه المشكلة مرتبطة بالمخرجات العلمية، أي بعد تخرّج الجيل الجديد القادر على حمل زمام المبادرة، فإعداده لفترة وجيزة بلغة أجنبية ووضعه في مقدمة الركب لمواجهة المشاكل بلغة الأم يؤثر على عطائه ويؤدي إلى عزلته عن العلم الذي تلقاه باللغة الأجنبية في فترة وجيزة، فالطبيب لا يتعامل مع مريضه بلغة العلم الأجنبية وكذلك المهندس مع الفلاح مثلاً . فهذا يؤدي كله إلى عزلته عن المجتمع لغوياً ويتعامل معه بلغته العامية، لذلك لا بد من رابط بينه وبين العلم وبين المجتمع، وهذا لا يكون إلا بلغة مشتركة وهي اللغة الأم.
9-المشكلة المادية:
إن قلة الدعم المادي وعدم وفرته يؤثر على كل ما ذكر، فالمادة هي أكبر المشاكل التي تواجه التعريب، إذ التعريب الشامل من تأليف وترجمة وإعداد الكادر المؤهل، كل ذلك بحاجة إلى دعم مادي كبير يتجاوز إمكانيات البلد الواحد، لذلك لا بد من تكاثف الجهود بين المؤسسات العلمية الوطنية في البلد الواحد وبين المؤسسات العربية في الوطن العربي.
كذلك لا بد أن تتبنى مشروع التعريب عربياً جهة مركزية قوية على صعيد الوطن العربي لها إمكانيات ضخمة متوفرة.
ولعل الحل الأمثل لمواجهة هذه التحديات كلها هو البدء بالتدريس باللغة العربية خطوة بعد خطوة ، لأنه الطريق الأمثل للتعرف على الصعوبات وحلها في نفس الوقت.
خاتمة:
إن قضية التعريب ليست تأليفاً وترجمة. أو بحثاً عن أصل كلمة ، إنما هي قضية تفكير، كيف نفكر؟ وبأي لغة؟ ولماذا؟ وقبل تحديد أداة التفكير يجب معرفة الذات من نحن؟ إذ الفكر غالباً لا بد أن يعبر عنه بلغة تتماشى مع تقدم الأمة الحضاري والفكري، لكي تجد لنفسها مكاناً بين الأمم تخرجها من ردهات الثبوت والجمود، وهذا يتم فعلاً إذا استطعنا أن نحدد لأنفسنا منهجاً فكرياً بعيداً عن التدخلات الخارجية، فالثقافة والفكر العربي والإسلامي المتجذر منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمن، كفيل بأن يخلق منهجاً فكرياً يخلص الأمة من بقايا الاستعمار، فها نحن خرجنا من دائرة الاستعمار ، فعلينا إذا أن نجد لغة علمية قادرة أن تربط الماضي بالحاضر، وتدفع الأمة إلى الأمام والازدهار وهذا يعني أن ترتبط اللغة بالتفكير الذي يفكر به المجتمع لكي يحصل التقدم.
أما إذا فكرت الأمة أي أمة بعقلها وعبرت عنه بلغة أخرى فإن الهوة ستزداد وسيبقى التفكير سطحياً؛ ولذلك فالأمة العربية إذا فكرت بعقلها العربي وعبرت عن هذا الفكر باللغة الأجنبية فإنها ستبقى ثابتة، لأن اللغة وعاء للأفكار والأحاسيس فلا التفكير وحده يكفي ولا اللغة وحدها تكفي. فلابد من تفكير تعبر عنه لغة تنتمي إلى الإطار الفكري للأمة.
والوطن العربي اليوم ومنذ الفكر النهضوي كان صراعه في أن يجد لغة تعبر عن تفكيره وحارب الاستعمار هذه الفكرة ليبقى المجتمع العربي بعيداً من روحه الفكرية المعبر عنها بلغته، بل هناك أدوات استعمارية حاولت محاربة اللغة بتغيير حروفها وأشكال رسمها بالأحرف اللاتينية، إلا أن محاولاتها باءت بالفشل، ولكن الاستعمار استطاع أن يحول لغة العلم والتفكير من العربية إلى لغته في مجال تدريس العلوم لكي ينجح في إثبات دعوته القائلة بأن اللغة العربية لغة دين لا لغة علم.
ورغم ذلك فإن هناك محاولات بدأت منذ بداية القرن وما زالت مستمرة ، بدأت مع الدولة العربية بدمشق 1918م ولا زالت. ومع بداية 1945 م نشأت الجامعة العربية، وبدأت الخطى تسير رغم أنها بطيئة، إلا أننا نلحظ إنجازات هامة في مجال التعريب كالحاصل في سوريا والسودان وما نلحظه من حركة نشطة لتعريب المصطلحات العلمية خصوصاً ما يقوم به مكتب تنسيق التعريب من جهود مع المجامع اللغوية .
إن قضية التعريب قضية ترتبط بعقولنا وانتمائنا. فإذا أحست المؤسسات العلمية العربية وأحس المجتمع بأنه من الضروري أن يحصل التعريب لتكون لغتنا تعبيراً عن فكرنا ووعاءً له فإن القضية ستنجح وستكون كل المعوقات هي معوقات يسهل التغلب عليها وليس حلها بالمستحيل ، لذلك ندعو إلى :
إنشاء مؤسسات للتعريب والترجمة والتوزيع وطنيا وإقليميا وعربيا دعماً لجهود المجامع اللغوية،
التعاون والتنسيق بين المؤسسات العلمية في الوطن العربي،
الاهتمام باللغة العربية من مراحلها الأولى .
توفير الدعم المادي المطلوب للتعريب.
الاهتمام بالتراث العلمي كتحقيق المخطوطات.
تطوير الدراسات العلمية باللغة العربية .
الهوامش
1- محمود إبراهيم: تعريب التعليم العالي، دار آفاق للنشر. عمان . 1994 ، ص46.
2- عوني الشريف قاسم ،الإسلام والثورة الحضارية ، دار القلم بيروت، 1980 ، ص65 .
3- تعلم العلوم الصحية والفنية باللغة العربية ، منظمة الصحة العالمية، القاهرة ،1991 ص6.
4- عوني الشريف قاسم، الإسلام والبعث القومي ،دار القلم،بيروت ، ص206 .
5- انظر تعلم العلوم الصحية ، ص11 .
6- انظر عبد العزيز بن عبد الله،التعريب ومستقبل اللغة العربية،صادر عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم،معهد البحوث والدراسات العربية،القاهرة ،1975ص105 .
7- دراسات من واقع الترجمة في الوطن العربي،المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم،تونس،1985،القسم الأول.