المعلم
مجلة تربوية ثقافية جامعة
على الرغم من اهتمام التربية الحديثة بجوانب النمو الوجداني والمهاري إلى جانب النمو العقلي المعرفي ، إلا أن المعرفة لاتزال -وسوف تظل - ذات أهمية خاصة للمعلم ولعمله في المدرسة.
دليل المعلم
تجربة تستحق تأمل كل معلم ومعلمة
القراءة عادة نسيناها في حين ورثها عنا الغربيون فأحسنوا رعايتها حتى جنوا ثمارها تقدما علميا مذهلا لا ينكره إلا مجحف , في حين بقينا نبحث عن البدائل اليسيرة للقراءة على الشاشات الفضية وبين موجات الأثير فألفنا الكسل واستسغنا اللقم الباردة و أصبحت أدمغتنا أوعية حفظ محددة الصلاحية تضمر داخلها كل خلية تفكير يتيمة .
و القراءة عادة تبذر في تربة النشء الخصبة لتورق فكرا قويما وتثمر نجاحات باهرة في مستقبل الأيام..فأين القراءة من نشئنا وأين منا النجاح ؟
الطفل يسير يوميا في حلقة مفرغة مابين منزله ومدرسته وكله استعداد لتقبل أي تغيير يطرأ في مسيرته فأما أن يحدو به النجاح و أما أن ينحدر به إلى الضياع . فالمنزل مطالب بإيجاد الجو المناسب لتثقيف هذا الطفل ثقافة لا منهجية تعتمد بالدرجة الأولي على قراءات هذا الطفل و استماعه لتجارب ذويه المفيدة وليست تلك المفسدة لبراءته وطيب معدنه , و لكن التقصير أو يكاد يكون انعدام هذا الدور في المنزل معضلة كل البيوت العربية و لست أعمم هذا الحكم و لكنه الأغلب , فلو أوجدنا إحصائية لعدد البيوت التي يوجد بها مكتبة للطفل لما تجاوزت نسبتها العشرة بالمائة في احسن الأحوال فبيوتنا تفتقر للكتاب بشتى أنواعه فما بالكم بكتاب الطفل خاصة .
و لان دور المدرسة دور تكميلي لدور المنزل كان من اللازم تنبه مدارسنا لهذه المسألة وحلها و إصلاح جوانب التقصير المنزلية والقيام بالدور التربوي خير قيام , ولكن كل مدارسنا العربية منفرة لهذا الطفل من القراءة فطريقة التلقين والإجبار و كتابة القطعة مالا يقل عن خمس مرات تجعل من هذا الطفل طير حبيس في قفص هذه المدرسة ما أن يرن جرس نهاية الدوام حتى يحلق بعيدا عن كل ما يثقل عقله الصغير الغر , و أيضا ارجع لأقول ليست هذه الفكرة عامة لكل المدارس فهناك من المدارس من يبذلون قصارى جهدهم و هناك أيضا من المدرسين الذين يحملون شرف المهنة و أمانتها في قلوبهم وعقولهم من يحاولون بكل ما يستطيعون جذب هذا الطفل إلى القراءة و إلى حبها .
هناك تجربة لا تفارق ذاكرتي اشعر بأنها كانت من الأسباب الدافعة لي إلى حب القراءة علاوة على تشجيع والدي حفظهما الله لي باستمرار على اقتناء ما يروق لي قراءته كطفل في ذلك الحين . هذه التجربة بطلها أستاذي الغالي عبد الرحمن رائد فصلي في السنة الثالثة الابتدائية فما زلت اذكر اسم هذا الرجل مع أن ذاكرتي قد أسقطت أسماء كثير من أساتذتي في السنين القريبة و ما هذا إلا لفضل هذا المعلم علي , فهذا الرجل الفاضل اغتنم حصتي النشاط المدرسي المقررة في أحد أيام الأسبوع خير اغتنام . فكان أن أتى بدولاب صغير الحجم زهيد الثمن و وضعه في زاوية الفصل و سألنا بأن يأتي كل واحد منا نحن الطلاب بالكم الذي يستطيعه من الكتب التي تروق لكل طالب منا و من كان عاجز عن شراء الكتاب الذي يريده فليأتي إلى المدرس في وقت الفسحة ليعطيه ما يلزم من المال لشراء ذلك الكتاب ولم تمض ثلاثة أسابيع حتى اصبح هذا الدولاب ممتلئا و كان يأتينا في حصة النشاط حاملا كتابا يخصه هو ليقرأه في الفصل و يأمرنا بأن يأخذ كل واحد منا ما يعجبه من كتب الدولاب و لاحظوا معي بأنها كتب أطفال أختارها أطفال الفصل بأنفسهم و ليس لهذا المعلم عدا الإشراف على نوعية هذه الكتب فما كان لا يتناسب مع سننا يرفعه عنا . وكانت هاتان الساعتان من أروع الحصص إذ ننغمس جميعا طلابا ومعلما في بحور من القراءة والاطلاع في حين يبقى طلاب الفصول الأخرى في كفاح مع أنفسهم مكتوفي الأيدي مطرقي الرؤوس يقف فوق رؤوسهم عريف منهم يدون كل نفس زائدة ثم يبعث بقائمة المارقين عن أنظمة الفصل الى رائدهم ذو العصا الغليظة و آه من تلك العصا كم غلظت علينا .
تجربة أستاذي عبد الرحمن _ حفظه الله أينما حل _ لم تجبلنا على حب القراءة و حسب بل على النظام أيضا واحترام المواعيد فلقد قسم الفصل إلى مجموعات في كل أسبوع تقوم مجموعة جديدة بجمع الكتب في آخر الساعتين و إحصائها حتى لا ينقص كتاب من المكتبة و من ثم ترتيبها في ارفف المكتبة و من كان يرغب في الاستعارة فله ذلك شريطة أن يعيد الكتاب في الأسبوع القادم و تدون المجموعة اسمه والكتاب الذي استعاره و أخيرا نقفل الدولاب الخشبي الصغير و نعطي المفتاح لرائدنا الرائع الأستاذ عبد الرحمن . و لقد كنا نشعر بالمسؤولية و الحب و الحرص على محتوى هذه المكتبة المختصرة و ننضبط في مواعيدنا خشية أن تصيبنا عقوبات رائدنا الصارمة المؤدبة و المهذبة لنا . و لست ادري أما زالت حصتي النشاط موجود في نظام مدارسنا أم انهما قد ألغيتا لعدم جدواهما !! و لكنني سقت لكم التجربة الرائعة التي غرست في صدري و صدور ذلك الفصل حب القراءة و على يد أستاذ حريص شعر بالمسؤولية و رغب في التغيير فكان له ما تمنى و لم يكلفه ذلك أي مبلغ يثقل راتبه القليل , و لكن كم هي تلك الفصول التي لم تنعم بمثل هذا الرائد الرائع ؟! ... كثيرة والأكثر من يتخرجون منها و هم أبعد ما يكونوا عن القراءة التي هي بداية نهضة أمتنا الإسلامية و أول أمر نزل به القرآن على نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم .
فيا أخي المعلم و يا أختي المعلمة و إن قصرت سياسات تعليمنا عن النهوض بنشئنا فما يزال الأمل قائما فيكم بتقويم ذلك الغرس المائل حتى تمضى غصونه نحو العلا و يضرب بجذوره قيعان الثرى .
بقلم / فيصل أحمد