مجالس العجمان الرسمي

العودة   مجالس العجمان الرسمي > ~*¤ô ws ô¤*~المجالس العامة~*¤ô ws ô¤*~ > مجلس الدراسات والبحوث العلمية

مجلس الدراسات والبحوث العلمية يعنى بالدراسات والبحوث العلمية وفي جميع التخصصات النظرية والتطبيقية.

رد
 
أدوات الموضوع طرق مشاهدة الموضوع
  #21  
قديم 16-04-2005, 11:57 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

جان بردي الغزالي المملوكي والدولة العثمانية
رؤية تاريخية جديدة


د. أسامة محمد أبو نحل

الأستاذ المساعد في التاريخ الحديث

ورئيس قسم التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية

جامعة الأزهر – غزة



1423هـ/2002م




--------------------------------------------------------------------------------



ملخص

تتناول هذه الدراسة شخصية مملوكية مهمة نسجت حولها العديد من الروايات التاريخية التي تلصق بها تهمة الخيانة والتواطؤ لحساب الدولة العثمانية وقد أسميت هذه الدراسة: "جان بردي الغزالي المملوكي والدولة العثمانية: رؤية تاريخية جديدة".

وأهمية هذه الدراسة تنبع من قصور بعض الباحثين في إظهار الحقيقة، وتسليمهم المطلق بما أورده المؤرخون القدامى دون تتبع لأهواءهم الشخصية، وإلقاء تلك التهمة الصعبة على شخص الأمير جان بردي الغزالي يدخل ضمن نطاق هذا القصور، فالباحثون نقلوا عن هؤلاء المؤرخين دون التحقق من أصل الروايات التي يتناقلونها، حتى غدت حقيقة واقعة مسلم بها ودون إدراك أن أصلها واحد.

وقد حاولت بهذا العمل أن أكون موضوعياً لكشف اللثام عن شخصية جان بردي الغزالي، متقصّياً الدوافع التي دعت المؤرخين لإلصاق تهمة الخيانة والتواطؤ به، لذلك فهذه الدراسة تعتبر رؤية تاريخية جديدة لقضية اعتاد الباحثون على جعلها أمراً مسلماً به غير قابلة للتغيير والدراسة.

المقدمة
دأبت المصادر والمراجع التاريخية على إلصاق تهمة "الخيانة" بالأمير المملوكي جان بردي الغزالي وغيره من أفراد المماليك، وأول من رمى الغزالي بتلك التهمة محمد ابن إياس وأحمد بن زنبل في محاولة منهما لإلقاء تبعة هزيمة المماليك في موقعة مرج دابق عام 922هـ/1516م، إلى عنصر الخيانة الذي كان موجوداً بالفعل داخل البيت المملوكي، وصبّا جام غضبهما على الغزالي وخاير بك على أساس أنهما كانا أكثر المتواطئين لحساب العثمانيين، علماً بأن العوامل والأسباب التي أدت إلى هذه الهزيمة عديدة ولا تقتصر على الخيانة.

وما فتأ بقيمة المؤرخين اللاحقين لابن إياس وابن زنبل حتى أخذوا في نقل تلك الروايات بعضهم عن بعض أو من الغير دون التحقق من صحة أصل الروايات التي يتناقلونها، حتى غدت حقيقة واقعة مسلماً بها دون إدراك أن أصلها واحد.

وأهمية هذه الدراسة تنبع من قصور بعض الباحثين في إظهار الحقيقة، وتسليمهم بما أورده المؤرخون القدامى دون تتبع لأهواءهم الشخصية، وإلقاء تهمة الخيانة والتواطؤ على شخص الأمير جان بردي الغزالي يدخل ضمن نطاق هذا القصور الذي ذهبنا إليه، فالباحثون تجاهلوا في كتابات ابن إياس وابن زنبل تعاطفهما مع السلطات المملوكية التي حكمت في مصر والشام.

وهذه الدراسة مجرد محاولة متواضعة لكشف اللثام عن شخصية الغزالي لإعطائه ما له وما عليه، كما أنها رؤية جديدة لأحداث تلك الفترة المهمة في تاريخ العالم الإسلامي الحديث.

وفيما يخص منهج البحث في هذه الدراسة، فقد جمع أساساً بين المنهجين الوصفي والتحليلي، مع عدم إهمال سرد الأحداث الذي يساعد عملية التحليل التاريخي.

أما مراجع البحث، فهي عديدة وكان جلّ الاعتماد على مؤلف ابن إياس المسمى بدائع الزهور في وقائع الدهور ومخطوط ابن زنبل المسمى تاريخ مصر، إضافة إلى عدد من المراجع الثانوية أهمها كتاب الفتح العثماني للشام ومصر لأحمد فؤاد متولي، حيث أفادت تلك المراجع البحث في كثير من جزئيا ته.

الأوضاع السياسية في عصر جان بردي الغزالي (توطئة لتحليل حالة):

قبل أن نُحمّل جان بردي الغزالي أو نحمِل عليه فيما يتعلق بهزيمة المماليك في موقعة مرج دابق، ينبغي أن نتعرّف على الظروف السياسية والعسكرية المحيطة والتي شكّلت عناصر النصر والهزيمة، عناصر النصر العثماني وعناصر الهزيمة المملوكية، لأن ذلك يساهم إلى حدٍ كبير في كشف الحقيقة التاريخية ويُلقي الضوء على ما يرمي إليه هذا البحث من تجلية موقف الغزالي، وبيان حقيقة دوره التاريخي.

وكانت السلطنة المملوكية قد أصابها في أواخر أيامها ما أصاب غيرها من الدول السابقة لها، فتخلى الأمراء والمماليك عن روح الشجاعة والوفاء والطاعة التي تحلى بها أسلافهم، وغدت روح التمرد والعصيان تغلب عليهم، كما أخذ الكثير من كبار الأمراء بالتطلع للفوز بمنصب السلطنة، فاتصل بعضهم بخصوم السلطان وأعدائه أحياناً، مما سبب لدولتهم تصدعاً شديداً(1).

وثمة عوامل عدة أدت إلى تصدّع الدولة المملوكية وتقويضها، ليس بالإمكان إيرادها هنا، لكن سنكتفي بإبراز أهمها، ومنها فرار فلاحي قرى مصرية بكاملها من الأرياف إلى المدن الرئيسة مخلّفين وراءهم المحاصيل التي لم يجمعوها، وإقفال الخياطين في القاهرة ورشهم، ونفس الشيء قام به صانعو الأسلحة، كما تعالت في الشوارع التهديدات والشتائم الموجهة ضد شخص السلطان المملوكي(2)، بينما كان الوضع في الشام أشد سوءاً لبعد الإدارة المركزية عنها، حيث كره الأهلون المماليك وعمد الفلاحون للقيام بأعمال معادية للسلطنة المملوكية بصورة مباشرة، وخرجت قرى عدة ومناطق بأسرها عن الطاعة، ما دعا أمراء المماليك فيها إلى الكتابة للسلطان قانصوه الغوري وإبلاغه بخطورة الموقف في الشام قائلين: "أيها السلطان، أرض حلب أفلتت من أيدينا وانتقلت إلى أيدي ابن عثمان (السلطان سليم الأول) فاسمه يذكر هناك في خطبة الجمعة وينُقش على النقود"(3).

لم تنتشر المشاعر المعادية للحكومة المملوكية بين أوساط السكان فحسب، بل انتقلت إلى صفوف الجيش، فانخفضت درجة الانضباط به بصورة لم يسبق لها مثيل، وارتفعت أصوات الجند تطالب السلطان بالمال والمكافآت، وبدأوا بالتمرد وعاثوا في الشوارع العامة فساداً، وصرخوا في وجه السلطان قبل معركة مرج دابق بأشهر قليلة:"ليش ما تمشي (لماذا لا تسير) على طريقة الملوك السالفة تقلّ(تقلل) من هذا الظلم؟"(4).

وازداد التفسخ واستشرت المشاكل الداخلية وتفاقمت في أوساط المماليك، ويؤكد البعض ذلك التفسخ بأن البطل عند المماليك أصبح من يستطيع تدبير مؤامرة ناجحة لا الذي يكسب معركة حامية، ومما عمق هذا النهج في نفوسهم، عدم اشتباكهم في حرب خارجية لعدة سنوات طويلة، باستثناء تلك الحرب القصيرة التي وقعت بين المماليك والعثمانيين في أواخر القرن الخامس عشر(5) . وبذلك تحولت هذه الكتل المملوكية المترابطة إلى التنافس المميت فيما بينها، ولجأ السلطان لدعم سلطته إلى الاعتماد أكثر فأكثر على مشترواته أو ما يطلق عليها الجلبان(6)، وإلى ضرب الكتل الأخرى ببعضها لإضعافها، وزاد في العداء بين طوائف المماليك تكتّل كل طائفة على نفسها بفعل رابطة الخشداشية، أو ما يُعرف بولاء المملوك لزميله المباشر، الذي شُري ودرس وأعُتق معه(7)

والأهم من كل ذلك، أن السلطنة المملوكية باتت تواجه دولاً متطورة من طراز جديد تقوم إما على أساس الفكر المذهبي مثل الدولة الصفوية الشيعية في بلاد فارس، أو على أساس الجهاد الديني مثل الدولة العثمانية في الأناضول والبلقان، أو على أساس اقتصادي مثل البرتغاليين(8). ذلك في الوقت الذي أخذت فيه السلطنة المملوكية بالانحطاط -كما أسلفنا الذكر. كما أن العثمانيين نجحوا في تقويض طاقة تلك السلطنة العسكرية، بعد ما وضعوا العراقيل على طريق شراء المماليك الفتيان من أسواق البحر الأسود لنقلهم إلى مصر(9).

في الوقت الذي كان فيه المماليك يطوون آخر صفحات دولتهم، كانت الفتوحات العثمانية تتوسع في أوروبا من إقليم إلى آخر، من البلقان إلى أوروبا الوسطى إلى شمال نهر الدانوب، غير أن أبصار العثمانيين اتجهت فيما بعد نحو البلاد الإسلامية المتاخمة لحدودهم في آسيا الصغرى، وراحوا يمنّون أنفسهم بالسيادة على العالم الإسلامي، بعدما انتشرت بينهم أواخر القرن الخامس عشر حماسة دينية، توجهت أولاً لقتال الصفويين الشيعة في فارس، واشتد العداء في ذلك الوقت بين الشاه إسماعيل الصفوي(10) و الدولة العثمانية، بعد وفاة السلطان العثماني محمد الثاني، حيث انتهز الشاه النزاع الذي نشب حول السلطة بين أبناء البيت العثماني، وحرّض الشيعة بآسيا الصغرى على الثورة والتمرد على العثمانيين السنيين، كما أغرى أمراء الأطراف المجاورين لدولته بالخروج على السلطنة العثمانية(11).

وعندما اعتلى السلطان سليم الأول عرش الدولة العثمانية عام 1512م، تدهورت علاقته بالشاه إسماعيل الذي احتضن أبناء البيت العثماني المناوئين لسليم، فبدأ الأخير عهده بإخماد ثورة الشيعة في آسيا الصغرى واضطهادهم فهجم الشاه على آسيا الصغرى دفاعاً عن الشيعة، وأصبح العداء سافراً بين الطرفين، مما أدى إلى مهاجمة سليم لممتلكات الشاه سنة 920هـ/1514 م، والاستيلاء على ديار بكر وكُردستان، والتوغل شرقاً في فارس، وملاقاة الجيش الصفوي أخيراً عند تشالديران بالقرب من تبريز، ودارت رحى معركة انتهت بهزيمة الشاه إسماعيل في 23 آب (أغسطس)1514م، ودخول سليم تبريز وإقامة صلاة الجمعة والخطبة له فيها(12).

ويبدو أن السلطان سليم كان قبل حربه مع الصفويين قد طلب المساعدة في قتالهم من السلطان قانصوه الغوري، ومع أنه كان بإمكان السلطنة المملوكية تقديم يد العون للعثمانيين، وكان بإمكان السلطان الغوري بصفته زعيماً للمسلمين السنّة، شنّ حملة ضد الحكام الصفويين، غير أنه فضّل اتخاذ موقف المراقب من بعيد للأمور، وترك العثمانيين السنيّين وحيدين في مواجهة الصفويين(13).

يتضح مما سبق الإشارة إليه، أن المماليك أرادوا بموقفهم الحيادي هذا استفزاز العثمانيين لإثارة الصدام بينهم وبين الصفويين، لكي يتحطم أحد العدوين بيد الآخر، ويسهل لهم فيما بعد التدخل والقيام بدور المنقذين للسُنّة، وربما وراثة ممتلكات الدولة العثمانية نفسها.

مهما يكن من أمر، فقد أدى التوسع العثماني في أجزاء من بلاد فارس إلى امتداد أملاك الدولة العثمانية إلى منطقة الأطراف التابعة للسلطنة المملوكية وهي المنطقة الممتدة من جبال طوروس في الشمال الغربي من الشام إلى مدينة ملطّية بآسيا الصغرى والخاضعة لحكم الأمير علاء الدولة دلغاضر المشمول بحماية المماليك والذي وقف من الجيش العثماني المتوجه لحرب الصفويين موقف الحياد المسلح، فاتهمه سليم بالعداء واستولى على بلاده سنة 1515م(14). وبذلك أضحى العثمانيون على مقربة من الأراضي المملوكية في الشام.

أحسّ السلطان الغوري بالخطر المحدق بدولته بعد الاعتداءات العثمانية واستخفاف العثمانيين بحماية المماليك على إمارة دلغاضر (ألبستان) وضمها إلى أملاكهم دون مجاملة، كما بدأ سليم يسيء الظن بالمماليك بعدما رفضوا مساندته في حربه ضد الصفويين(15).

وفي أوائل عام 1516م /922هـ، وصلت الأخبار إلى القاهرة باستعدادات العثمانيين في أستا نبول للحرب، وأدرك الغوري أن دولته هي المقصودة بهذه الاستعدادات، فأعدّ جيشه وخرج به إلى حلب بالشام في 15 بيع الآخر 922هـ / تموز (يوليه) 1516م، وأردف هذا العمل بإرسال رسولٍ إلى سليم يؤكد رغبته بالصلح وعدم الحرب، لكن سليماً رفض الحديث في أمر الصلح وقال للرسول: "قل لأُستاذك يلاقيني على مرج دابق"(16) داخل الأراضي الشامية الخاضعة لسلطنة المماليك.

ويبدو أن سليماً قد عقد العزم على تسوية حساب قديم مع المماليك الذين هزموا من قبل جيوش العثمانيين داخل الأراضي العثمانية أواخر القرن الخامس عشر- كما أسلفنا القول.

جان بردي الغزالي ومصلحته الشخصية:

شاءت الظروف أن ترتبط الصفحة الأخيرة في تاريخ السلطنة المملوكية بعددٍ من الأمراء مثل خاير بك(17) وجان بردي الغزالي اللذين اتهمتهما المصادر والمراجع بالخيانة والتواطؤ لحساب العثمانيين عند دخولهم بلاد الشام ومصر بين عامي 16-1517م / 22 – 923هـ.

وتشمل هذه الدراسة تتبعاً لحياة جان بردي الغزالي في محاولة جادة لإلقاء الضوء عليها من خلال المصادر والمراجع التاريخية التي تناولت شخصيته سواء من قريب أو من بعيد، لكشف اللثام عن حقيقة هذا الاتهام الخطير وجذوره.

لم يُعرف للأمير جان بردي الغزالي تاريخٌ لميلاده، وهو أصلاً من مماليك السلطان الأشرف قايتباي، وكان قد اشتراه ثم اعتقه، وأخذ في الارتقاء في المناصب في سلّم السلطنة المملوكية، وعُيّن فيما بعد كاشفاً(18) لمنطقة في الشرقية تسمى "منية غزال"، فنُسب إليها(19)، ثم جعله الأشرف قايتباي جمداراً(20) وقرره في كشف الشرقية(21).

وفي أواخر أيام حكم قايتباي رُقيَّ الغزالي إلى أمير عشرة(22). وفي بداية حكم السلطان قانصوه الغوري عُينّ محتسباً للقاهرة عوضاً عن الأمير قرقماس المقري، ثم حاجباً(23) لحلب في الشام، فنائباً لصفد عام 917هـ ، ثم حماة بعد ذلك بعام، واستمر بهذا المنصب حتى هزيمة المماليك في موقعة مرج دابق عام 922هـ/1516م(24).

وصف ابن إياس، الأمير جان بردي الغزالي بالرعونة "وكان الغزالي عنده رهج وخفة زائدة، أهوج الطبع ليس له رأي سديد، رهّاج في الأمور، ليس له تأمل في العواقب"(25). هذا الوصف يبدو أنه يناقض تماماً ما ذهب إليه ابن إياس نفسه عندما تكلم عن فترة حكم الغزالي للشام بعدما ولاه السلطان العثماني سليم الأول عليها، إذ قال: "وكان لما ولي نيابة الشام في غاية العظمة من الحرمة الوافرة والكلمة النافذة، وقد أصلح (أي الغزالي) الجهات الشامية في أيامه حتى مشى فيها الذئب والغنم سواء"(26) وهذا إن دلّ إنما يدل على العدل الذي اتصف به الغزالي أثناء فترة حكمه للشام قبل تمرده على الحكم العثماني فيما بعد.

وقبيل موقعة مرج دابق التي أنهى فيها العثمانيون نفوذ دولة المماليك تماماً من الشام، اختلفت آراء الأمراء المماليك حول كيفية مواجهة العثمانيين فرأى الغزالي نائب حماة ضرورة التقهقر إلى دمشق وحرق المحاصيل الزراعية التي في الطريق حتى لا تستفيد منها القوات العثمانية، فيطول عليهم الطريق ولا يجدوا طعاماً لهم أو لدوابهم، وبالتالي يتمكن الصفويون المتربصون بالعثمانيين من مهاجمتهم والإطباق عليهم، وإفنائهم عن آخرهم، لكن بعض الأمراء لم يقتنعوا على ما يبدو بهذا الرأي لشكّهم في ولاء الغزالي، فتم رفضه(27).

والواقع، أن أيُ من المصادر والمراجع التاريخية لم تعطِ دليلاً ملموساً للشك في ولاء الغزالي وخيانته لسلطانه الغوري، فكل ما ذُكر حول التشكيك في ولاء الغزالي أو خيانته، كان في مجمله كلاماً مبهماً يعوزه التوضيح، الأمر الذي سوف نتطرق إليه خلال هذه الدراسة.

ومهما يكن من أمر، فقد دارت موقعة مرج دابق عام 922هـ/1516م، وهّزم المماليك وقتل السلطان الغوري(28). وزال الحكم المملوكي نهائياً عن الشام، وشرع المؤرخون يرصدون العوامل والأسباب التي أدت إلى تلك النتيجة، فعزا كل من ابن إياس وابن زنبل الرمال المعاصرين لتلك الفترة، الهزيمة إلى عنصر الخيانة الذي كان متواجداً داخل البيت المملوكي، وصبّا جام غضبهما على جان بردي الغزالي وخاير بك على أساس أنهما كانا أكثر المتواطئين لحساب السلطان العثماني سليم الأول، وما فتأ بقية المؤرخين اللاحقين لابن إياس وابن زنبل أن أخذوا في نقل تلك الروايات بعضهم عن بعض أو من الغير دون إعمال جهدهم في التثبت من صحة أصل الرواية، حتى غدت تلك الروايات التي اقتبسوها حقيقة واقعة دون إدراك أن أصلها واحد.

لم يشر كل من ابن إياس وابن زنبل للدور الذي لعبه الأمراء اللبنانيون، خاصة الأمير فخر الدين المعني الأول في موقعة مرج دابق، فقد وقف هؤلاء الأمراء أثناء المعركة موقف المتفرج انتظاراً لما ستسفر عنه من نتائج لينضمّوا للفريق المنتصر. ويؤكد هذا الموقف حيدر الشهابي بقوله: "فقال الأمير فخر الدين لمن معه من رجاله وقومه دعونا لننظر لمن تكون النصرة فنقاتل معه"(29). أو بمعنى آخر كان هناك عوامل أخرى لهزيمة المماليك في مرج دابق غير عنصر الخيانة الذي كان موجوداً في الصف المملوكي.

وفي هذه الدراسة لن نتوقف فيها بإسهاب لما قيل حول خيانة الأمير خاير بك، إلاّ إذا اقتضت الدراسة التوقف عنده من خلال علاقته بالأمير جان بردي الغزالي.

إن أول اتهام تم توجيهه للغزالي بالخيانة والتواطؤ ما ذكره ابن زنبل، عندما اكتشف الأمير سيباي نائب دمشق تخابر الأمير خاير بك نائب حلب مع السلطان سليم قبل وقعة مرج دابق، فألقى القبض عليه وسلمه للسلطان الغوري الذي صمم على قتله(30). ولكن الغزالي تدخل لمصلحة زميله خاير بك ودافع عنه، وأظهر أن قتله في هذا الوقت وفي ظل الموقف العصيب الذي يمر به المماليك سوف يشعل فتنة بين الجند "فقام الأمير جان بردي الغزالي وقال: يا مولانا السلطان لا تفتنوا العسكر وتبدوا (وتبدأوا) في قتال بعضكم بعضاً وتذهب أخباركم إلى عدوكم، فيزداد طمعاً فيكم وتضعف شوكتكم، والرأي لكم، وتأخر من مكانه، وكانت هذه مكيدة من الغزالي، وإلاَّ كان خاير بكل قد هلك"(31)، وهذا يعني أن الغوري قد تراجع عن قراره وأبقى على خاير بك.

وبصرف النظر عن حقيقة خيانة خاير بك وتخابره مع العثمانيين، إلاّ أننا لا نستطيع إثبات صحة تدخل الغزالي لصالح زميله خاير بك، فربما كان تدخل الغزالي في هذا الموقف كان للمصلحة العامة، خشية أن ينتشر التمرد داخل الجيش المملوكي، خاصة بين أعوان خاير بك نفسه لو تم قتله بالفعل. وبما أن السلطان الغوري في موقف لا يحسد عليه ومقبل على الحرب، فلو صحت رواية خيانة خاير بك هذه، لكان بإمكان السلطان عزل خاير بك من منصبه، وإلقاء القبض عليه لحين الانتهاء من أمر القتال مع العثمانيين.

ومن خلال ما سطره ابن زنبل في مجمل ما كتبه عن تاريخ دولة المماليك وانحيازه الواضح لسلاطين المماليك، نستنتج أنه ذكر تلك الرواية وكأن عنصر الخيانة هو المسبب الوحيد لهزيمة المماليك وليس أي شيء أخر، ودون أن يؤكد بالقرائن صحة تواطؤ الغزالي لمصلحة زميله خاير بك.

وتشير بعض المصادر إلى دور الغزالي وغيره في خيانة الجيش المملوكي أثناء القتال في موقعة مرج دابق، فيشير ابن زنبل إلى أن النصر كان لصالح المماليك حتى تقهقر خاير بك الذي كان يقود الميسرة والغزالي مع الفلول المنهزمة من الجيش، ودخلوا وطاق(32) السلطان الغوري، فنادى خاير بك بأعلى صوته بضرورة الفرار لأن السلطان قد قُتل، وأن العثمانيين قد هجموا، فصدقوه، وفرّ إلى حلب برفقة أغلب المماليك الجلبان وما كان ذلك إلاَّ مكيدة منه لتشتيت شمل الجيش المملوكي(33).

ويؤكد أنور زقلمة أن الغزالي سار على درب خاير بك وانسحب من المعركة بجزء آخر من الجيش، فاختلّ نظام المماليك بعدما استخدم العثمانيون المدفعية التي لم يكونوا قد بدأوا باستعمالها قبل ذلك، فحصدت الكثير من القوات المملوكية(34).

إن المتمعن في رواية ابن زنبل السالفة الذكر لا يجد بها دليلاً على خيانة الغزالي وفراره من المعركة، بل كل ما ذكره يخص خاير بك بمفرده، أما رواية أنور زقلمة فهي ضعيفة لأنه لم يحدد الوقت الصحيح الذي انسحب فيه الغزالي من ساحة القتال، وأغلب الظن أن هذا الانسحاب أو التقهقر قد تم بالفعل، لكن بعد مقتل السلطان الغوري واختلال نظام الجيش المملوكي بالكامل، والتيقّن من حتمية الهزيمة، فخشي على نفسه وعلى جنده، فقرّر الفرار.

وبالإمكان التدليل على صحة ما ذهبنا إليه، بأن الغزالي لم يكن الوحيد الذي فرّ بعد التحقق من الهزيمة، إنما تبعه محمد ابن السلطان الغوري نفسه، الذي توجه إلى دمشق برفقة الغزالي(35). إذ لا يُعقل أن يهرب ابن السلطان من ساحة القتال تاركاً أبيه لمصيره دون الدفاع عنه، إلاّ إذا كان بالفعل قد تحقق من مقتل والده.

وإذا كان الأمير خاير بك قد انضم للعثمانيين بعد المعركة وتوجه إلى حماة وسار بركبهم(36)، فإن الأمير جان بردى الغزالي لم يقم بالشيء ذاته، وهذا ما يدل على أنه لم يكن بعد قد انضم للعثمانيين، فقد أكدت المصادر التاريخية أن الغزالي تم تعيينه نائباً على دمشق بموافقة المماليك المنهزمين(37). في حين أن البعض ذكر أن الغزالي أراد التسلطن في دمشق، لكن رفاقه من المماليك المهزومين اعترضوا على ذلك وقالوا بأن الأولى أن تكون السلطنة لمحمد ابن السلطان الغوري، ثم أجمعوا رأيهم على العودة إلى مصر مقر السلطنة وهناك يتم اختيار السلطان من أحد الأمراء الأكفاء المتسمين بالشجاعة، وأوكلوا حكم دمشق لأحد الأعيان من شيوخ العربان هو الأمير ناصر الدين بن الحنش بإيعاز من الغزالي الذي قال للحاكم الجديد: "البلاد بلادك، تسلم حفظها حتى ننظر الأمر كيف يكون"(38).

بينما يذكر ابن إياس في مدوناته أنه بعد وقعة مرج دابق انقطعت أخبار الشام عن مصر لمدة أربعين يوماً "لم يرد فيها خير صحيح، وكثر القال والقيل في ذلك على أنواع شتى ، ومن جملة ما أُشيع أن جان بردي الغزالي نائب الشام منع الأخبار أن لا تصل (أن تصل) إلى مصر وعوّق العسكر بالشام"(39).

بالإمكان أن نستنتج من رواية ابن إياس عدة أمور جديرة بالملاحظة منها:

1- أن الغزالي حسب ابن إياس وابن طولون تم تعيينه نائباً للمماليك في دمشق، بينما يناقضهما ابن زنبل ولم يذكر إطلاقاً أن الغزالي تولى هذا المنصب، بل حاول التسلطن بها، وفشل لاعتراض زملائه على تلك الفكرة – كما أسلفنا الإشارة.

2- أن ابن إياس يقول "ومن جملة ما أُشيع" أن الغزالي نائب الشام منع الأخبار من الوصول إلى مصر، وعمل على إعاقة عودة المماليك إلى مصر، ويلاحظ هنا قوله "ومن جملة ما أُشيع …" أي أن ابن إياس لم يجزم بتواطؤ الغزالي، وإنما اعتمد فحسب على الشائعات التي ترددت بهذا الصدد، بينما رواية ابن زنبل – الذي كانت رواياته وروايات ابن إياس المصدر الرئيسي لما قيل عن خيانة وتواطؤ الغزالي – تناقض ذلك، بدلالة أنه ذكر أن الأخير قد نزل عند رغبة رفاقه المماليك ونزلوا جميعاً إلى مصر دون إبطاء.

3- أن ابن إياس في روايته السابقة بخصوص ما أُشيع عن إعاقة الغزالي للمماليك الفارين من العودة إلى مصر يناقض نفسه في رواية أخرى مفادها أن أهل الشام لما تأكدوا من مقتل السلطان الغوري لم يعد هناك ما يردعهم عن مهاجمة بعضهم البعض، وقيام زُعّر(40) الشام بنهب حارة السمرة، واضطراب الوضع الأمني في دمشق(41). فإذا كانت الأوضاع الأمنية في الشام هكذا سيئة للغاية، فالأولى بالغزالي العودة وزملائه إلى مصر لا البقاء في هذه الأجواء المضطربة.

4- إن ما ذكره ابن إياس عن منع الغزالي لوصول الأخبار التي تحدث في الشام إلى مصر أمر مبالغ به، فالظروف الصعبة التي مرّ بها المماليك الفارون من وجه العثمانيين جعلتهم في شغل شاغل عن مكاتبة حكومتهم في القاهرة، خاصة وأنه لم يصلهم أي مساعدة منها يستطيعون بها إعادة ترتيب أمورهم من جديد لمواجهة الخطر العثماني الداهم.

وثمة رواية ضعيفة لم تقم أيٌ من المصادر التاريخية بإيرادها، تذكر أنه بعد انتصار السلطان سليم في مرج دابق بمساعدة خاير بك والغزالي وعدهما بتوليتهما مصر والشام. وتضيف تلك الرواية أن سليماً عندما قرر التوجه إلى دمشق، أخلى الأميران المذكوران تلك المدينة له، وخرجا لملاقاته ثم دعوا له فأكرمهم(42).

والضعف في الرواية السابقة واضح للعيان ولا يحتاج إلى ردٍ عليها، لأن خاير بك ببساطة لم يذهب إلى دمشق كما فعل الغزالي وغيره، بل اتجه إلى حماة – كما أسلفنا القول.

على أية حال عادت الفلول المملوكية التي نجت من وقعة مرج دابق إلى مصر في رمضان 922هـ/1516م، وهم في أسوأ حال، واتفق رأي جميع الأمراء المماليك على تعيين طومان باي(43) الدوادار(44) سلطاناً عليهم رغم اعتراضه الشديد لهذا التعيين(45)، ويبدو أن اعتراض طومان باي يعود للظروف الصعبة التي مرت بها السلطنة المملوكية في ذاك الوقت، وإحساسه بأنه لن يستطيع القيام بدورٍ ما لصد الخطر العثماني على مصر.

وبناءً على ما أورده ابن زنبل، فإن الغزالي عندما رفض زملاؤه تعيينه سلطاناً عليهم في دمشق، اشتاط غضباً، وأضمر لبنى جنسه الغدر، وبالتالي مال قلبه إلى رأى زميله خاير بك في تحريض السلطان سليم بالاستيلاء على مصر، بعدما كان السلطان العثماني قد نوى عدم الاستيلاء عليها والعودة إلى استانبول، والهدف من هذا التحريض كما يقول ابن زنبل هو أن يمنح سليم مصر لخاير بك والغزالي معاً(46).

ويؤكد ابن زنبل ذلك بقوله: "وكذلك السلطان سليم لما اخذ بر الشام وحلب قصد الرجوع إلى بلاده، فأغواه خاير بك وقنبردي (جان بردي) الغزالي وناصر الدين بن الحنش بالتوجه إلى مصر، وضمن له خاير بك أخذ مصر وذلك مكراً منه، فإنه علم إن رجع السلطان سليم إلى بلاده فلم (فلن) تُبقى الجراكسة على خاير بك ولو ذهب في تخوم الأرض…"(47).

بالإمكان القول أن جان بردى الغزالي قد حنق لرفض زملائه تعيينه سلطاناً عليهم، لكن ابن زنبل أو غيره من المؤرخين لم يعطِ دليلاً ملموساً على ميل الغزالي لرأي خاير بك، ولا كيف اتصل به ليعطيه الموافقة على تحريض السلطان العثماني، فكل ما ذكره ابن زنبل كلام عام يعوزه الإثبات للتثبت من تواطؤ الغزالي – كما أسلفنا الإشارة.

أما قوله أن كلاً من خاير بك والغزالي وناصر الدين بن الحنش قد أقنعوا السلطان سليم بالتوجه لمصر والاستيلاء عليها، فهو عار عن الصحة لأن ابن الحنش هذا لم تكن تربطه بالسلطان العثماني أية علاقة حميمة، مما سوف يؤدي إلى قتله – كما سيتم التطرق إليه لاحقاً.

ويبدو أن سليماً لم يكن بالفعل في تلك الأثناء، مهتماً كثيراً بفتح مصر بعدما حطم إمكانية قيام تحالف صفوي مملوكي، وأصبحت بلاد الشام تحت سيطرته المباشرة، ناهيك عن اعتقاده بأن حملته على مصر سوف تعرضه لمخاطر اجتياز صحراء سيناء، وبالتالي إمكانية تعرض قواته لهجمات القبائل البدوية فيها، إضافة إلى طول خطوط مواصلاته. وكان المماليك في مصر قد حشدوا قواتهم تحت زعامة السلطان طومان باي، الذي حصل على البيعة من والد الخليفة العباسي، بعدما احتجز العثمانيون الخليفة نفسه بعد وقعة مرج دابق(48).

وثمة أسباب أخرى دعت السلطان سليم للتريث في اتخاذ قرار بالزحف إلى مصر، منها: أن توجه العثمانيين إلى مصر من شأنه تشجيع الصفويين على استغلال ذلك والعمل على مهاجمة أملاكهم، وربما قطع الطريق على قواته التي سوف تتجه إلى مصر. كما أن استيلائه على مصر سترتب عليه مسئوليات دفاعية كبيرة، مثل التصادم بالبرتغاليين المتواجدين في البحر الأحمر والمحيط الهندي.

لكل هذه الأسباب مجتمعة ارتأى سليم المتواجد في دمشق، ضرورة مراسلة طومان باي لإقناعه بالبقاء في حكم مصر شريطة أن يُذكر اسمه في خطبة الجمعة وأن يُصك اسمه على النقود. لكن طومان باي رفض هذا العرض بضغطٍ من الأمراء المماليك، لأنه يعني تبعيتهم التامة للحكم العثماني، فاضطر سليم لإكمال مشروعه التوسعي بعدما ألحّ عليه خاير بك بالقيام به، بعدما خشي الأخير على حياته من بقاء السلطنة المملوكية(49).

ويبدو أن سليماً قد راسل طومان باي، عندما عيّن الأخير جان بردي الغزالي على رأس الحملة المملوكية المتجهة إلى غزة للدفاع عن حدود مصر الشرقية. وهذا ما يتضح من نص رسالة سليم لطومان باي، حيث جاء على لسان سليم: "ولما سمعنا ما يقال عن شخص جركسي يدعى جان بردي في ولاية غزة القريبة من مصر القاهرة اعتاد إفساد أشخاص كثيرين، صدر الفرمان إلى الوزير الأعظم سنان باشا بالاستعداد للتحرك بعددٍ من العساكر المنصورة. كذلك صدر حكم عالي الشأن بهذا الخصوص من العتبة العليا وأرسل إلى جان بردي المذكور"(50).

إن ما سبق الإشارة إليه دليل على أن الغزالي لم يكون له بعد أية صلة أو علاقة بالسلطان العثماني بدلالة طلب السلطان سليم من طومان باي بأن يرسل للغزالي بعدم الإفساد ضد العثمانيين في غزة. كما أن اختيار طومان باي لترأس الغزالي لحملة غزة دليل إضافي على أن الأخير كان عند حُسن ظن سلطانه به. فلو كانت هناك شائعات بتواطؤ الغزالي مع العثمانيين من قبل، لما أقبل طومان باي على اختياره لتلك المهمة التي سوف يتوقف عليها مصير السلطنة المملوكية في مصر فيما بعد.

وللتدليل على عدم صحة تخابر الغزالي بأي شكل من الأشكال مع العثمانيين قبل ذلك التاريخ، أن بعض الوزراء العثمانيين قاموا بإرسال عدة رسائل إلى جان بردي الغزالي وبعض الأمراء الجراكسة لحثهم على تقديم الطاعة والولاء للعثمانيين. وكانت هذه المراسلات تنفيذاً لأوامر السلطان سليم نفسه وبإيعاز من خاير بك الذي أرسل بدوره عدة رسائل إلى بعض أمراء الجراكسة حثهم فيها أن يحذوا حذوه، ورغبّهم في الدخول تحت طاعة السلطان العثماني الذي أطنب في وصف محاسنه وعدله(51).

لم يردّ الغزالي على جميع هذه الرسائل ولم يكترث بها، ونظراً لأهمية دور الغزالي في النظام الحاكم في مصر، قرر سليم نفسه أن يكتب إليه. وفي تلك الرسالة يذكر سليم أنه سمع من خاير بك ومن محمد أغا بن قرقماس أمير حماة السابق مدحاً كثيراً فيه (أي في الغزالي) لهذا يدعوه لتسليم نفسه ومن معه من الأمراء وتقديم الولاء له. يقول السلطان سليم في كتابه للغزالي: "عندما يصل في هذه المرة حكمي الشريف واجب الطاعة عجلوا بالمجيء نظراً لما سمعناه عنكم من كمال إخلاصكم وتمام اختصاصكم، ومرغوا الوجه عند موطئ سرير مصير العالم عندي. ولتسعوا سعياً جميلاً وتجدّوا جدّاً جزيلاً لكي تتشرفوا بتقبيل أناملي الكريمة. إذا جئتم إن شاء الله الكريم فعند لقاءكم تشملكم رعايتنا ويتم قبولكم بأنواع العناية السلطانية الجميلة وأصناف الرعاية العلية الشاهانية أكثر مما في تصوركم"(52) .

نستنتج من نص كتاب السلطان العثماني لجان بردي الغزالي عدة أمور حريٌ بنا إيرادها:

1- أن هذا الكتاب يختلف في أسلوب صياغته عن الكتاب الذي أُرسل من قبل إلى السلطان طومان باي، فهو رقيق التعبير يخاطب فيه الغزالي بضمير المخاطبين على الدوام، على الرغم من أن مرسله هو السلطان العثماني نفسه ومتلقيها هو أمير غزة جان بردي(53) .

2- أن هذا الكتاب يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن انضمام الغزالي للعثمانيين لم يكن قد حدث بعد، وهو ما ينفي صحة تعامل الغزالي مع العثمانيين في مرج دابق.

3- رغبة السلطان سليم المُلحة في ضم الغزالي إلى صفوفه، لأهمية موقعه في الساحة المملوكية من جهة، ولشق صفوف الأمراء المماليك وإثارة نوع من البلبلة تؤدي إلى سهولة تحركاته فيما بعد من جهة أخرى.

4- أن هدف سليم الأساسي هو مجيء الغزالي بنفسه لتقديم الطاعة له، وليس كما ذكر البعض أن الغزالي كان بالفعل قد قّدم ولائه للعثمانيين خلال وقعة مرج دابق.

ومهما يكن من أمر، فطومان باي والغزالي لم يعيرا كتب سليم لهما أي أهمية، ولم يردا عليها. بل صمم طومان باي على تصعيد الموقف وملاقاة العثمانيين مهما كانت النتائج. فلم يجد سليم مفراً أمامه سوى إكمال مهمته بالاستيلاء على مصر، فأمر الصدر الأعظم سنان باشا في 3 ذي القعدة 922هـ/ 27 تشرين ثاني (نوفمبر) 1516م، بالتحرك على رأس جيش قوامه أربعة آلاف جندي للاستيلاء على غزة(54).

وفي القاهرة، تم الاتفاق بين الأمراء المماليك على تعيين الغزالي قائداً للحملة المتجهة إلى غزة لمقاتلة العثمانيين ومنحه صلاحيات حكم تلك المنطقة، وكان يرافقه عشرة آلاف عسكري(55). ذلك في الوقت الذي وصلت فيه الأخبار من الشام بسوء أحوال العثمانيين نتيجة لتزايد الاضطرابات ضدهم ومن أهمها ثورة ناصر الدين بن الحنش الذي "ضيق عليه (أي على السلطان سليم) في الطرقات وصارت العربان تقتل كل من انفرد من عسكره في الضياع"(56).

ويروى ابن إياس أن ناصر الدين بن الحنش أرسل للسلطان طومان باي يستحثه على إرسال حملة عسكرية في أسرع وقت إلى الشام لمنع السلطان سليم من الوصول إلى غزة(57).

وفي 2 ذي الحجة / 26 كانون أول (ديسمبر) من العام نفسه، تلاقي سنان باشا مع جيش الغزالي داخل الأراضي الفلسطينية بالقرب من غزة، ودارت بينهما معركة حامية بدأت من الصباح وانتهت ساعة العصر بانتصار العثمانيين وهزيمة الغزالي. واستيلائهم على غزة وتعيين محمد بك بن عيسى حاكماً عليها بعد فتحها. وتؤكد المصادر العثمانية المعاصرة للأحداث أن الغزالي هرب بعد هزيمته في غزة(58)، وبذلك باتت الطريق إلى مصر أمام السلطان سليم مشرعة الأبواب لا تمنعه أي مقاومة.

وإذا كانت المصادر العثمانية قد أكدت هرب الغزالي بعد هزيمته، نجد المصادر العربية المعاصرة لنفس الفترة تذكر أن الغزالي بعد هزيمته تم أسره ثم تمكن من الفرار بمساعدة غلمانه بعد أن قتلوا من العثمانيين أعداداً كبيرة(59) .

رغم أن المصادر العربية لم تذكر شيئاً عن خيانة الغزالي في غزة، بل أكدت أنه قاتل قتال المستميت، وأبلى بلاءً حسناً في قتاله، إلاّ أننا نستغرب مما تسطره المراجع الحديثة التي تحاول إلصاق تلك الهزيمة في غزة للغزالي متهمة إياه بالتواطؤ عن عمد، مصممة على أنه قد بدأ تواطؤه لا في مرج دابق بل قبلها، وأنه قابل العثمانيين بقوة صغيرة هزمته قبل وصوله لغزة لأنه لم يقاتل قتالاً جدياً(60). وهذا غير مطابق للواقع التاريخي فالمصادر التركية ذكرت أن المعركة دارت في جلجولية بالقرب من غزة، بينما ابن إياس أكد أن المعركة بين الطرفين دارت نواحي بيسان، أي داخل الأراضي الفلسطينية لا في مصر.

ويزيد البعض أن الغزالي بعد عودته إلى مصر مهزوماً، لعب دوراً مزدوجاً، فهو إلى جانب السلطان طومان باي بالظاهر، وعلى اتصال خفي بالسلطان سليم وخاير بك في الباطن كما أنه زوّد العثمانيين عشية معركة الريدانية عام 1517م، بمعلومات مفصلة عن تنظيم الجيش المملوكي(61).

والواقع أنه لا يوجد مصدر معاصر لتلك الفترة عربياً كان أم عثمانياً أكد تلك الرواية، أي أن الغزالي كان حتى ذلك الوقت لا تربطه بالعثمانيين أي صلة لا من قريب ولا من بعيد.

ويذكر مصدر تركي – اعتمد عليه أحمد فؤاد متولي في دراسته- أن السلطان سليم قال في رسالة الفتوح التي بعثها إلى ابنه الأمير سليمان متناولاً معركة غزة: "أبدى جان بردى المذكور بعض مظاهر الإخلاص في هذه النواحي (غزة)، ثم تراجع وهرب إلى مصر، والتقى بطومان باي"(62).

ويستنتج أحمد فؤاد متولي من سياق كلام السلطان سليم، أن الغزالي ساعد على انتصار العثمانيين في غزة، ثم تراجع بعد أن تحقق النصر لهم وهرب إلى مصر. وربما رجع إلى مصر ليعمل من وراء خطوط المماليك لصالح العثمانيين(63).

لكن المتمعن في كلام السلطان سليم لا يجد تسليماً بتواطؤ الغزالي لحسابه فقوله أن الغزالي أبدى بعض مظاهر الإخلاص في غزة ربما يفهمها البعض على أن الغزالي قد أخلص في القتال ضد الجيش العثماني بدلالة قول السلطان سليم نفسه في رسالة الفتوح: "ذكر طومان باي أنه أعطى إيالة الشام لجان بردي الغزالي المهزوم. ولما علمنا أنه أرسله إلى غزة، بعثت إليه بوزيري سنان باشا … على رأس الجيوش لكي يلاقيه. دارت المعارك وانتصر الوزير المشار إليه بعناية الله تعالى. وهُزمت الطائفة المذكورة وتشتت"(64). ولم يُشر سليم على الإطلاق لعودة الغزالي إلى مصر ليعمل من وراء خطوط المماليك لحسابه.

ومهما يكن من أمر، فقد التحم العثمانيون بالجيش المملوكي في معركة فاصلة في صحراء الريدانية على أطراف القاهرة في 22 كانون الثاني (يناير) 1517م، انتهت بهزيمة المماليك ودخول العثمانيين للقاهرة، وخُطب للسلطان سليم في جوامعها، وفرَّ طومان باي إلى خارج القاهرة(65).

لم يكن دخول العثمانيين القاهرة معناه نهاية الحرب، وأن الأمور سُويت لصالحهم، فقد استمرت المعارك في الشوارع لعدة أيام، مما اضطر السلطان سليم لمنح العفو للمماليك سواء كانوا في القاهرة أم خارجها ومنهم بطبيعة الحال جان بردي الغزالي(66)، الذي أكرمه سليم بحُسن الاستقبال، لما أبداه من البسالة في مقاتلة العثمانيين في الريدانية(67).

وفي رسالة الفتوح التي أرسلها السلطان سليم لابنه سليمان تأكيد لنفس المعنى، إذ يقول سليم: "… تحققنا في هذه الأثناء من مصطفى باشا أمير الرملي (الرومللي) السابق ومن الجراكسة، أن جان بردي الغزالي جاء في ذلك الوقت، وأدى فروض الطاعة وأظهر العبودية والخضوع بإخلاص"(68).

ويبدو أن سليماً أراد بمنحه العفو عن مقاتلي المماليك بصفة عامة وجان بردي الغزالي بصفة خاصة، التفرغ فيما بعد للقضاء على آخر مقاومة لطومان باي خارج القاهرة الذي تسلح بالقبائل البدوية، وندلل على ذلك بما أورده ابن زنبل من قوله:"وأما ما كان من السلطان سليم فإنه ضاق صدره وندم على دخوله مصر، وخشي أن يطول عليه المطال ويدخل عليه الشتاء وينقطع عنه خبر بلاده من أمر النصارى (أي القوى المسيحية في أوروبا) ليلا (لكي لا) يدبروا أمراً في غيبته على أخذ القسطنطينية، فاشتغل فكره"(69).

إذن، دخل جان بردي الغزالي أخيراً في طاعة السلطان العثماني سليم الأول بعد نهاية موقعة الريدانية، بعدما بات مقتنعاً بأن آخر صفحة من صفحات تاريخ دولة المماليك في مصر قد طُويت، وانفرط عقد سلطنتها. ولم يعد أمامه من حيلة سوى تسليم نفسه للسلطة الجديدة الحاكمة في القاهرة، محاولاً أن يُنقذ نفسه من التصفية الجسدية التي كانت في انتظاره لو تأخر أكثر من ذلك. أو بتعبير آخر، فإن الغزالي آثر تبدية مصلحته الشخصية في ذاك الوقت، وتلك سمة تختلج أغوار الكثير من القادة والجند بعد هزيمتهم وإيثارهم السلامة علّهم يحصلون على منصبٍ جديد في الدولة الجديدة.

إن تصرف الغزالي هذا لا يمكن اعتباره بأي حالٍ من الأحوال تصرفاً انتهازياً. فلو كان الغزالي انتهازياً بالفعل، لانضم قبل ذلك التاريخ للعثمانيين للاستفادة والحصول على منصب في الدولة العثمانية، لكن نظراً لحاجة العثمانيين إليه ولمهارته، قبلوا العفو عنه وأسندوا له بعض المهام العسكرية في مصر لسببين: أولهما لاختبار صدقه في طاعة دولتهم. وثانيهما لمعرفته بأحوال مصر.

ونظراً لازدياد إحساس السلطان سليم بتورطه في المستنقع المصري، بعدما خرجت الكثير من المناطق المصرية عن طاعة العثمانيين، خاصة القبائل البدوية التي تعاطفت مع طومان باي، قرر إرسال حملة عسكرية إلى منطقة أطفيح وغيرها في دلتا مصر للقضاء على تمردها. وعيّن عليها جان بردي الغزالي لمعرفته بأحوال تلك المنطقة، ولخبرته السابقة في محاربة العربان. وتمكن الغزالي بالفعل من إلحاق هزيمة قاسية بتلك القبائل، وشتت شملهم، وأمر بنهب نجوعهم، وأسر نساءهم وأولادهم، وأرسلهم إلى السلطان سليم الذي أمر ببيعهم بالقاهرة بأبخس الأثمان(70).

أمر السلطان سليم، الغزالي بشن الهجمات على طومان باي وأعوانه، فأخذ يلاحقه من مكان لآخر، وألحق بقواته الكثير من الخسائر بمساعدة قبيلة بدوية تُسمى عرب غزالة، إلى أن تمكن طومان باي من إلقاء القبض عليه، لكنه سرعان ما عفا عنه بعد أن أخذ عليه عهداً بعدم محاربة مماليكه، "فقام الغزالي وهو ينفض التراب من على رأسه وجا{ء} إلى رجل السلطان (طومان باي) وقبلها في الركاب وهو يبكي ونادم على ما فعل، وسار إلى فرسه وركبه وأشار إلى جماعته ارجعوا عن القتال فقد حلفت له أني لا أقاتله"(71).

لكن الغزالي حنث بيمينه فيما بعد، وأشار على سليم بخطة حربية يستطيع بموجبها تحقيق النصر بسهولة على طومان باي ومن تبقى معه، وهي خطة تسمى في التعبير العسكري المعاصر فكي كماشة. وقد استطاعوا من خلال تطبيقها إلحاق الكثير من الخسائر بفلول طومان باي في منطقة الوردان التي تبعد 50 كيلو متراً إلى الشمال من القاهرة، وذلك في 2 نيسان 1517م، ما دعا ابن زنبل للقول: "وافترقوا على هذا الحال وقد قلت الجراكسة عن بعضها ورجعوا وهم لا يعرفون بعضهم بعضاً من شدة ما حصل من ذلك اليوم" (72).

أدت كثرة الضربات التي وجهت لطومان باي إلى اقتناعه بأن نهاية الحرب مع العثمانيين باتت وشيكة، فلم يجد مناصاً سوى اللجوء إلى الشيخ حسن بن مرعي شيخ بدو البحيرة، وأخذ منه عهداً بعدم خيانته وتسليمه للسلطات العثمانية، لكن الشيخ المذكور خشي على نفسه وسلّمه للعثمانيين الذين شنقوه على باب زويلة بالقاهرة في ربيع الأول 923هـ/ 13 نيسان(أبريل) 1517م(73).

وكانت نية السلطان سليم ترمى إلى عدم قتل طومان باي إعجاباً به، لما أبداه من صنوف الشجاعة، كما كان في نيته كذلك أخذه معه إلى أستا نبول بعد أن يأخذ منه تعهّداً بعدم الخروج عن طاعته، لكن خاير بك والغزالي خشيا على نفسيهما فيما لو تحسنت العلاقات بين سليم وطومان باي، فألحّا على السلطان سليم في قتله(74).

جان بردي الغزالي وطموحه الانفصالي:

بعد أن استتبت الأمور في مصر لصالح العثمانيين، عيّن السلطان سليم الأمير خاير بك المملوكي نائباً عنه فيها مكافأة له على وقوفه معه ومساعدته في الاستيلاء عليها، ثم بدأ رحلة العودة إلى أستا نبول في 23 شعبان 923هـ/10 أيلول (سبتمبر) 1517م، وأبقى مع خاير بك خمسة آلاف جندي انكشاري، إضافة إلى العسكر الخيالة لحفظ النظام(75).

أما الأمير جان بردي الغزالي الذي أثبت للسلطان العثماني ولائه وإخلاصه، فقد رافقه في رحلة العودة، وعندما وصل الركب السلطاني إلى غزة في 9 رمضان / 25 أيلول (سبتمبر) من العام نفسه، منح السلطان سليم حكم ولايات صفد والقدس وغزة والكرك ونابلس للغزالي(76).

وقبيل وصول سليم إلى دمشق في 6 شوال /22 تشرين أول (أكتوبر)، كانت الثورات في بلاد الشام قد اشتعلت بسبب الإجراءات العثمانية الجديدة كإبطال العملة القديمة وإصدار عملة جديدة وتشديد الإجراءات لضمان الأمن(77). وأعقب العثمانيون تلك الإجراءات بإجراء آخر شقّ على سكان دمشق قبوله وهو تخفيض سعر العملة العثمانية الجديدة بمقدار النصف، مما أدى إلى تضرر السكان. كما اتخذوا إجراءات أمن مشددة لردع الزُعّر الذين نشطوا في دمشق في أعقاب الأنباء المتضاربة عن مصير العثمانيين في مصر(78).

ويبدو أن تلك الاضطرابات قد أقنعت السلطان سليم عند دخوله دمشق بضرورة تعيين والٍ جديد عليها، يكون بإمكانه إخمادها، ووجد ضالته المنشودة في شخص جان بردي الغزالي. وشرع الاثنان معاً في القضاء على المناوئين للحكم العثماني في الشام، فتوجها في 26 ذي الحجة 923هـ/8 كانون ثاني (يناير) 1518م، إلى الأمير ناصر الدين بن الحنش للقبض عليه، ولكنهما فشلا في مهمتهما وعادا إلى دمشق وأصدر السلطان سليم قراراً بعزل ابن الحنش حاكم البقاع اللبناني وحماة وصيدا وتولية محمد أغا بن قرقماس الجركسي مكانه(79).

غادر السلطان سليم دمشق في 27 محرم 924هـ/8 شباط (فبراير)1518م، تاركاً فيها الغزالي والياً عليها مع منحه إياها إقطاعاً له حتى وفاته، ولم يفرض عليه دفع أي مال لخزينة الدولة العثمانية، بعد أن آنس فيه الإخلاص والولاء(80). وسمح له بتملك قوات عسكرية خاصة به(81).

ومهما يكن من أمر، فإن الغزالي في بداية عهده طبق السياسة العثمانية بحذافيرها، وظل على ولائه التام للسلطان سليم، وسرعان ما قضى على تمرد ناصر الدين بن الحنش وحليفه ابن الحرفوش – الذي لم تذكر له المصادر التاريخية اسماً- قرب بعلبك في 26 ربيع الأول 924هـ /7 نيسان (إبريل) 1518م، وقطع رأسيهما ، وأرسل بهما إلى السلطان في حلب الذي عجز من قبل من قتله. وهذا ما دعا ابن إياس للقول: "ولولا تحيّل الغزالي على ابن الحنش وقتله بحيلة صعدت من يده لما قدر على قتل ابن الحنش أبداً، وقد عجزت عن ذلك سلاطين مصر والأمراء" (82).

وبطش الغزالي أيضاً ببعض الأمراء المحليين في نابلس وغيرها منهم قراجا بن طراباي الحارثي، وأخضعهم للسلطة العثمانية(83). وشن عدة حملات ضد القبائل البدوية في حوران وعجلون، الذين دأبوا دوماً على التعرض لقافلة الحج الشامي عند طريق غزة، وانتصر عليهم وقتل الكثير منهم، وغنم أموالهم، وأعاد ما كانوا قد سلبوه من قافلة الحج(84). وبذلك امتدت ولاية الغزالي من معرّة النعمان إلى العريش بمصر(85).

ويُحسب للغزالي أيضاً، تمكنه من هزيمة القراصنة الإفرنج الذين نزلوا ساحل بيروت عام 926هـ/1520م، ومكثوا بها ثلاثة أيام، حيث استولى منهم على عدة مغانم وأسر ثلاثمائة من رجالهم إضافة إلى ثلاث سفن كبيرة(86). ويبدو أن هؤلاء الإفرنج هم فرسان القديس يوحنا الأورشليمي، الذين كانوا وقتذاك يستقرون في جزيرة رودس بالبحر المتوسط قبل أن يستولي عليها السلطان سليمان القانوني فيما بعد ويطردهم إلى جزيرة مالطة.

إن هذه الانتصارات التي حققها الغزالي، أدت إلى إعجاب السلطان سليم به، وسروره منه خاصة فيما يتعلق بحمايته لقافلة الحج الشامي. وأغدق عليه الخلع، فازداد نفوذه في دمشق واكتملت هيبته في كافة أنحاء الولاية الخاضعة لحكمه(87).

لكن وفاة السلطان سليم في 9 شوال 926هـ/ 22 أيلول (سبتمبر) 1520م، أدت إلى استيقاظ الحلم الدفين داخل أعماق جان بردي الغزالي، المتمثل في إقامة دولة مستقلة في الشام تحت قيادته، بعيدة عن السيادة العثمانية(88). ذلك الحلم الذي راوده يوماً بعد مرج دابق وفشل في تحقيقه – كما أسلفنا الإشارة. وقد فتحت وفاة سليم الباب على مصراعيه لاحتمالات مغرية من جهة وكذلك وخيمة العواقب من جهة أخرى بالنسبة للغزالي(89).

ويبدو أن الغزالي كان قد بدأ قبل وفاة السلطان سليم في إعادة بعض العادات المملوكية، التي كان العثمانيون قد أبطلوها، مثل دق الطبل في القلعة وعلى أبواب مدينة دمشق، وأعاد الشهود إلى المحاكم كالسابق. واستقطب السكان من حوله، وذلك بمعاقبة الجنود العثمانيين الذين تعرضوا لهم، كما قوّى الدفاع عن دمشق بتحصينه أبواب المدينة(90)، وازدادت علاقته سوءاً بقاضي دمشق الحنفي ولي الدين بن الفرفور المعروف بولائه للسلطات العثمانية، واضطره للهروب إلى حلب(91).

استضعف الغزالي، السلطان العثماني الجديد سليمان الملقب بالقانوني لصغر سنه، وبدأ يُمنّي نفسه بالتسلطن في الشام. ويبدو أنه قد كشف عما يجول في سويداء قلبه من تلك الأماني أمام المقربين إليه، فعارضوه لقلة قواته العسكرية التي يمكن أن تصمد في وجه أي رد فعل عثماني مذكرّين إياه بانتصارات العثمانيين السابقة في مرج دابق والريدانية، وأشاروا عليه بالكتابة لنائب مصر خاير بك، ليساعده فيما نوى القيام به(92).

لكن الغزالي قلّل من شأن الانتصارات العثمانية السابقة فقد أورد ابن زنبل رد الغزالي للمقربين إليه: "إنما كان ذلك من السلطان سليم، وإنما هذا (أي السلطان سليمان) ولد صغير، وليس له قدرة على فعل شيء من ذلك ولا أظنه يتم سنته في المملكة"(93).

إن هكذا تصرف من جانب الغزالي إن دلّ، إنما يدل على مدى رعونته التي أشار إليها ابن إياس سابقاً، ولعدم تقديره للمعطيات السياسية والعسكرية التي كانت موجودة وقتذاك في المنطقة. فقد اعتقد الغزالي أنه بإمكانه تحقيق نتائج عجزت قوى كبرى عنها. والواضح من رواية ابن زنبل أن الغزالي رهن مستقبله السياسي في الشام، على أن السلطان الجديد للدولة العثمانية صغير السن لن يكون له حول ولا قوة. وقد نسى أو تناسى أن هذا السلطان له مستشارون وقياديون يسيّرون أمور الدولة نيابة عنه .

قرر الغزالي بالفعل مراسلة نائب مصر خاير بك ليحثه على الانضمام إليه في تمرده ضد السلطات العثمانية. ويبدو أن المصادر التاريخية تباينت في إيرادها لمضمون الخطابات المتبادلة بين الغزالي وخاير بك. فابن زنبل على سبيل المثال يقرر أن خاير بك حاول إثناء الغزالي عن عزمه، غير أن الأخير كرر المراسلة مع نائب مصر وهدده بأنه في حالة عدم إطاعته، فسوف يجّرد عليه جيشاً لقتاله. ويقرر ابن زنبل أيضاً، أن خاير بك لما رأى إصرار الغزالي على رأيه "أرسل يخادعه ويقول له إن كان وإلاّ … اذهب إلى حلب وخذها، فإن ملكتها، كنت أنا مساعدك فيما تريد وموافق لك على ما تقول"(94) .

والواضح أن خاير بك كان من الخُبث والدهاء في رده على ما طلبه منه الغزالي، فاشتراطه للانضمام إلى التمرد مرهون باستيلاء الغزالي على مدينة حلب المهمة والتي تعتبر مفتاح الشام. وخاير بك يبدو أنه كان متأكداً من عدم قدرة الغزالي في الاستيلاء عليها بسب تحصيناتها – كما سيرد بيانه .

والرواية الأخرى، فقد تبناها ابن إياس الذي ذكر أن جان بردي الغزالي أرسل كتاباً إلى خاير بك مع رسول يسمى خشقدم اليحياوي يعلمه فيه بنيته للخروج عن طاعة السلطان العثماني الجديد سليمان. وحسب ما ذكره ابن إياس، فإن مزاج خاير بك قد تبدل بعد قراءته للكتاب، وأمر باعتقال رسول الغزالي، وشرع في تحصين قلعة القاهرة، ثم بعث رسول الغزالي وصحبته الكتاب المذكور إلى استانبول، ليُعلم السلطان سليمان بتمرد الغزالي بالشام(95).

من خلال ما أورده ابن إياس بالإمكان أن نستنتج أنه بالفعل قد حصل من الغزالي مراسلات مع خاير بك، لكن ابن إياس يختلف في روايته عن ابن زنبل في عملية التعاطي بين الأميرين، فالأول لم يُورد مطلقاً أن خاير بك قد ردّ على كتاب الغزالي له بل أرسل هذا الكتاب إلى السلطان العثماني ليطلعه على تمرد الغزالي.

ومهما يكن من أمر، فمن الممكن التوفيق بين الروايتين السابقتين، بأن خاير بك كان يود بالفعل لو أنحسر الحكم العثماني عن الشام ومصر، ويوّد أيضاً لو نجح الغزالي في تمرده، أو إن جاز التعبير لو نجح في حركته الانفصالية، ليقوم هو بدوره بثورة في مصر يتخلص بها من الحكم العثماني أيضاً. ويبدو أنه انتظر ليرى ما سوف تسفر عنه الأحداث حتى يجرؤ على إعلان الثورة(96)، خشية أن يورّط نفسه في أمرٍ من الصعب عليه تداركه فيما بعد، فيخسر بدوره مقاليد الحكم في مصر أهم الولايات العثمانية في المشرق الإسلامي.

والظاهر، أن خاير بك لم يكن يساوره أدنى شك، أن محاولة زميله الغزالي الانفصالية سوف يكون مصيرها الفشل، لذلك أرسل له موافقته المشروطة للانضمام إلى تلك المحاولة، بالاستيلاء على حلب. علماً بأنه كان قد نصحه من قبل من مغبة القيام بهذا الأمر –كما أسلفنا الإشارة. ثم نراه يرسل كتاب الغزالي الذي أعلن فيه عزمه عن الانفصال إلى السلطان سليمان.

ويبدو أن الغزالي اغتنم فرصة الخلاف الناشب بين العثمانيين والصفويين، واستعداد الأخيرين على الحدود لمهاجمة الدولة العثمانية بعد وفاة السلطان سليم، فأعلن الثورة على الحكم العثماني وشرع بمحاصرة قلعة دمشق التي كانت تحت سيطرة الانكشارية واحتلها وارتكب مذبحة مروعة بحق الجنود العثمانيين. ومنع خطباء المساجد من ذكر اسم السلطان سليمان على المنابر، وأمر بالدعاء له شخصياً في خطبة الجمعة، ونقش اسمه على النقود المصكوكة في دمشق(97). واتخذ لنفسه لقباً مملوكياً هو "الملك الأشرف"(98).

وفي محاولة من الغزالي لجمع المؤيدين حوله، أعاد آل الحنش إلى حكم البقاع وولى أحمد بن الحنش مكان الأمير سنان باشا. والتف من حوله في دمشق بقايا المماليك وشبان الحارات من الزُعّر، الذين اغتنموا الفرصة كعادتهم لإبراز قوتهم(99)، كما تمكن من الاستيلاء على طرابلس وحمص وحماة وغير ذلك من المدن(100).وثمة وثيقة عثمانية تبيّن استعداد الشاه إسماعيل الصفوي لمساندة حركة الغزالي الانفصالية، ومده بالجنود بعد اتصالات تمت بين الطرفين، فقد ورد على لسان الغزالي في إحدى رسائله للشاه إسماعيل: "تعال يا ابن أردبيل (أي الشاه إسماعيل) بنفسك أو أرسل إلينا عسكراً، إننا نفتح هذه الولاية (الشام)، ولتعلم أن من بمصر (أي نائبها خاير بك) معنا أيضاً"، وتذكر الوثيقة أن الشاه إسماعيل تمكن من جمع حوالي اثني عشر ألف جندي لمساعدة الغزالي في تمرده(101).

وعلى أية حال، لم تذكر المصادر التاريخية المعاصرة للأحداث شيئاً عن رد الفعل لدى الشاه إسماعيل الصفوي فيما يخص تمرد الغزالي في دمشق. ومن المحتمل أن يكون الشاه قد جمع هذا العدد الكبير من الجند انتظاراً لما ستسفر عنه حركة الغزالي، فإذا ما تأكد من نجاحها دخل المعركة مناصراً له ضد العثمانيين، لأنه كان يعلم جيداً منذ هزيمته في تشالديران قوة بأس الجنود العثمانيين ويخشى جانبهم(102).

ويظهر من خلال ما ورد في الوثيقة السابقة، رغبة الشاه الصفوي الجامحة في تحطيم قوة العثمانيين في الشام، لاستعادة مجده الغابر في بلاد فارس والمناطق الأخرى التي كانت تحت سيطرته قبل وقعة تشالديران بعد أن مرّغ العثمانيون سمعته في التراب، وبالتالي يكون بمقدوره التغلب عليهم بسهولة، وربما يكون بإمكانه القضاء على نفوذهم في آسيا الصغرى.

لم يبق في الشام من الحصون القوية أمام جان بردي الغزالي سوى قلعة حلب، فجهز حملة كبيرة من الدروز وبدو جبل نابلس ومن الأكراد وبعض القبائل الأخرى(103). كما أن فرسان القديس يوحنا في جزيرة رودس أرسلوا له بعض قطع المدفعية لمساندته، وحشد الغزالي قرابة 23 ألف مقاتل لتلك الحملة(104).

وفي 14 ذي الحجة 926هـ/25 تشرين ثاني (نوفمبر) 1520م، توجه الغزالي بنفسه من دمشق صوب حلب للاستيلاء عليها. وشرع والي حلب قراجا باشا العثماني الأصل بالاستعداد للدفاع عن مدينته، وأرسل للسلطان سليمان يطلب منه المساعدة. وفرض الغزالي حصاراً حولها استمر لمدة اثني عشر يوماً، وتمكن من إحراز النصر، لكنه لم يتمكن من الاستيلاء عليها، على الرغم من أنه قطع القناة التي تدخل الماء إلى المدينة. لكنه اضطر فيما بعد لرفع الحصار عن حلب بسبب دخول فصل الشتاء القارص وخشيته من وصول إمدادات عثمانية لدعم الحماية العثمانية في حلب، ولفشله في الحصول على دعم كان يتوقعه من نائب مصر خاير بك، وعاد إلى دمشق(105).

ويورد ابن إياس في مدوناته، أن نية خاير بك اتجهت إلى تجريد حملة عسكرية على جان بردي الغزالي في ذي الحجة 926هـ، أي في ذات الوقت الذي بدأ فيه الغزالي حصاره لمدينة حلب، غير أن خلافاً نشب بينه وبين الجنود العثمانيين المتواجدين في مصر، جعله يعدل عن رأيه، بعدما قالوا له: "نحن ما نخرج إلى قتال نائب الشام (أي الغزالي) إلاّ بمرسوم من عند السلطان سليمان بن عثمان، ونحن ما علينا إلاّ حفظ القلعة والمدينة(106) (أي القاهرة).

إن ما أورده ابن إياس يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن خاير بك بعدما أيقن بفشل استيلاء الغزالي على حلب، أراد أن يثبت للسلطان العثماني سليمان مدى إخلاصه وصدقه في مساعدة الدولة العثمانية، فقرر إرسال تلك الحملة دون إذنٍ مسبق من السلطان نفسه، وبالتالي لإبعاد أي شبهة ممكن أن تحوم حول نيته في مساعدة الغزالي في تمرده.

على أية حال، وصل تمرد الغزالي إلى نهايته المحتومة، فقد أرسل السلطان سليمان حملة ضخمة لرسم السيناريو المنتظر لهذه النهاية، وإن اختلفت الروايات التاريخية حول القائد العثماني الذي ترأس تلك الحملة، فبينما يجعله ابن زنبل، إياس باشا(107)، يجعله محمد بن جمعة المقاري، فرهاد (فرحات) باشا(108)، وهو ما يميل إليه المؤرخون المحدثون. ويذكر ابن إياس أن السلطان سليمان كتب لخاير بك في مصر يوصيه بعدم إرسال أي تجريدة إلى الشام لثقته بأن الحملة التي أرسلها سوق تحقق أهدافها دون الحاجة لمساعدة خاير بك(109).

ومع وصول الحشود العثمانية إلى الشام، بدأت أطراف مقاطعات الغزالي بالتفتت، فقد فرّ نوابه من طرابلس وبيروت وغيرهما من المدن(110). وذلك في الوقت الذي طلب فيه الغزالي من أهالي دمشق مساندته ضد الهجوم العثماني، حيث قال لهم: "لا تقاتلوا الأروام (العثمانيين) لأجلي، وإنما قاتلوهم خوفاً على حريمكم"(111).

وفي 26 صفر 927هـ/27 كانون ثاني (يناير)1521م، نشبت معركة عند قرية الدوير شرقي قرية برزة بالقرب من دمشق، انتهت بهزيمة قوات الغزالي الذي تنّكر فيما بعد في زي درويش وحاول الهرب، لكنه وقع في الأسر وأعُدم في 6 شباط (فبراير) من العام نفسه، وأرسلت رأسه إلى استانبول، وأحتل العثمانيون دمشق. وكانت هذه الثورة آخر ثورة قام بها المماليك في بلاد الشام(112). وكانت مدة ولاية الغزالي على الشام ثلاث سنين وسبعة أشهر(113).

وقد نتج عن فشل حركة الغزالي الانفصالية تلك عدة نتائج أهمها:

1- ألغى العثمانيون الحكم الذاتي في الشام، وتم تقسيمها إلى ثلاث ولايات هي: دمشق وحلب وطرابلس، ووضعت منذ ذلك الحين تحت إدارة الولاة العثمانيين وخضعت لسلطة الباب العالي مباشرة(114).

2- أقرّ السلطان سليمان، إياس باشا في نيابة دمشق عوضاً عن الغزالي، وفرهاد (فرحات) باشا في ولاية طرابلس(115).

3- ألقى خاير بك نائب مصر القبض على المماليك الذين كانوا عند الغزالي وأمر بقتل بعضهم(116).

خاتمة الدراسة

بعد الانتهاء من هذه الدراسة بالإمكان تدوين عدد من النتائج والملاحظات الجديرة بالذكر منها:

أنه يَصعُب على أي باحث اتهام الأمير المملوكي جان بردي الغزالي بخيانة السلطنة المملوكية والتواطؤ لحساب السلطان العثماني سليم الأول، دون إيراد دليل ملموس على هذا التواطؤ. فقد أثبتت الدراسة أنه لم يكن للغزالي يد في هزيمة المماليك في مرج دابق، وإنما ترك ساحة القتال بعد أن تأكد من مقتل السلطان المملوكي قانصوه الغوري.

كما أن الغزالي ظل يعمل بإخلاص لحساب السلطان المملوكي الجديد طومان باي، بعدما اختاره الأخير ليقود الحملة العسكرية المتجهة إلى غزة لصد التقدم العثماني في اتجاه مصر. إذ لا يُعقل أن يختار طومان باي، الغزالي لهذه المهمة الصعبة، وهو يعلم بخيانته لبني جنسه من قبل في مرج دابق.

ثم أن دخول الغزالي في خدمة السلطان العثماني سليم الأول، تم بعد نهاية معركة الريدانية الفاصلة بين المماليك والعثمانيين، وبعد ما بات مقتنعاً بأن آخر صفحة من صفحات دولة المماليك في مصر قد طُويت، وانفرط عقد سلطنتها، فلم يعد أمامه من حيلة سوى تسليم نفسه للسلطة الحاكمة الجديدة في القاهرة لينقذ نفسه من التصفية الجسدية التي كانت في انتظاره فيما لو تأخر أكثر من ذلك. أو بتعبير آخر، فإن الغزالي آثر تبدية مصلحته الشخصية، لذلك فقد أثبت البحث، أن ما قام به الغزالي لم يكن من قبيل الخيانة أو التواطؤ مع أعداء قومه الذين هم في الأساس مسلمون سُنيّون.

وكان لإخلاص الغزالي لولي نعمته الجديد، السلطان سليم، أن دعاه لتعيينه نائباً عنه في دمشق ليخلصه من أعدائه في بلاد الشام.

لكن ما قام به الغزالي فيما بعد بإعلان الثورة والتمرد على حكم الدولة العثمانية بعد وفاة السلطان سليم وتعيين ابنه السلطان سليمان مكانه، لم يكن أيضاً من باب الخيانة، بل المغامرة الانفصالية، التي لم يحسب الغزالي عواقبها، مغتراً بقوته المحدودة التي سرعان ما سوف تنهار بعد فشله في الحصول على حلب. وعلى أية حال، فإن تلك المغامرات الانفصالية ستكون فيما بعد سمة عامة من سمات المماليك بمصر في ظل حكم الدولة العثمانية، مثل الحركات التي قام بها جانم السيفي، وأينال السيفي، وعلي بك الكبير.



--------------------------------------------------------------------------------

(1) حمزة، عادل عبد الحافظ: "دور خاير بك المملوكي في موقعة مرج دابق 922هـ/1516م: رؤية تاريخية". المجلة التاريخية المصرية، مج36 ، 1989، ص241-242.

(2) ابن إياس، محمد بن أحمد: بدائع الزهور في وقائع الدهور، ط3، 5 أجزاء، تحقيق: محمد مصطفى، ج5، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة 1404هـ (1984م)، ص 28، 31.

(3) نفس المرجع، ج4، ص 463.

(4) نفس المرجع، ج4، ص 485.

(5) لمزيد من التفاصيل. أنظر:

ابن طولون، محمد: مفاكهة الخلان في حوادث الزمان. جزءان، نشر: محمد مصطفى، ج1، القاهرة 1962-1964، ص43-53. ونوار، عبد العزيز سليمان: تاريخ الشعوب الإسلامية، دار الفكر العربي، القاهرة بدون تاريخ، ص 79. ومتولي، أحمد فؤاد: الفتح العثماني للشام ومصر، ط1، الزهراء للإعلام العربي، القاهرة 1414هـ(1995م)، ص45-51.

(6) الجُلبان: هم المماليك الذين جُلبوا حديثاً.

دهمان، محمد أحمد: معجم الألفاظ التاريخية في العصر المملوكي. ط1، دار الفكر، دمشق 1410هـ (1990م)، ص53.

(7) رافق، عبد الكريم: العرب والعثمانيون (1516-1916). ط1، دمشق 1974، ص6.

(8) نوار: المرجع السابق، ص77.

(9) إيفانوف، نيقولاي: الفتح العثماني للأقطار العربية 1516-1574. ط1، نقله إلى العربية: يوسف عطا الله. راجعه وقدّم له: د. مسعود ضاهر، دار الفارابي، بيروت 1988، ص55-56.

(10) بعد أن وجد الشاه إسماعيل الصفوي نفسه سيد بغداد والعراق دون أن تتحرّك ضدّه أي من الدولتين الكبيرتين السُنتين (العثمانية والمملوكية)، منّى نفسه بتوسيع رقعة دولته إلى ما وراء العراق لعلّه يستطيع تحقيق آمال الشيعة في إقامة دولة كبرى في المنطقة. وحاول الشاه إسماعيل إيجاد حلفاء له في أوروبا، فكتب إلى البنادقة والبرتغاليين وفاوضهم في طلب المساعدة والاشتراك معاً في مقاتلة السلطنة المملوكية في مصر واقتسام ممتلكاتها، بحيث يأخذ هو الشام ليطلّ على البحر المتوسط، بينما يستحوذ البنادقة على مصر.

الحنبلي، مرعى بن يوسف: نزهة الناظرين فيمن ولى مصر من الأمراء والسلاطين، مخطوط موجود في المكتبة الوطنية بميونخ رقم Cod.Arab.889، ورقة 206أ. وابن طولون: مفاكهة الخلان، ج1، ص 343. وابن إياس: بدائع الزهور، ج4، ص191، 205. والعدوي، إبراهيم: مصر والشرق العربي درع الإسلام. مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1985، ص183. ونوار: المرجع السابق ، ص68.

(11) العدوي: المرجع السابق، ص175.

(12) نفس المرجع، ص175- 176. والحلاق، محمد بن يوسف: تحفة الأحباب بمن ملك مصر من الملوك والنواب، مخطوط موجود في مكتبة The Beinecke Rare Book and manuscript Library، بجامعةYale بالولايات المتحدة الأمريكية، رقم 229 Land berg ، ورقة 73ب.

(13) ابن إياس: المرجع السابق، ج4، ص372-373. وإيفانوف: المرجع السابق، ص57.

(14) لمزيد من التفاصيل أنظر:

ابن إياس: المرجع السابق، ص 435 –438، 446، 462-463.

كان سليم عندما بدأ بالتقدم عبر الأناضول في اتجاه المقاطعات الصفوية، يأمل من علاء الدولة أمير "ألبستان" تقديم المساعدة للجيش العثماني- وكان علاء الدولة جداً لسليم من أمه – لكن علاء الدولة على ما يبدو تعرض إلى قوافل المؤن والإمدادات الحربية العثمانية المتجهة نحو الجبهة الصفوية، كما سمح لتركمانه بالإغارة على القوات العثمانية.

Holt (p.m.), Egypt and the Fertile Crescent, 1516-1922, Cornell University press, New York 1966, p.36.

وزقلمة، أنور: المماليك في مصر، ط1، مكتبة مدبولي، القاهرة 1415هـ (1995م) ص 100.

(15) العدوي: المرجع السابق، ص176.

(16) لمزيد من التفاصيل أنظر:

ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 22-34، 38-39، 45، 53، 60-68.

(17) ولُد خاير بك عام 868هـ/1463م، في قرية "صمصوم" بالقرب من بلاد الكرج، وهو من أصل جركسي، وكان أبوه يُدعى مال باي أو ملباي الجركسي، قدّمه إلى السلطان الأشرف قايتباي. ثم تولى خاير بك عدّة وظائف في دولة المماليك فغدا صاحب نفوذ وكلمة مسموعة في البلاط المملوكي.

وقد واكبت فترة ترقّي خاير بك السابقة، الصدامات التي وقعت بين المماليك والعثمانيين على أطراف الحدود الشمالية للسلطنة المملوكية، وتواجد جواسيس للعثمانيين بمصر سنة 894هـ/1489م، خاصة من أهالي حلب يراسلون السلطان العثماني.

ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 483، 265.

(18) الكاشف: هو وكيل السنجق حيث يحكم أحد الأقاليم المصرية الصغيرة. وكان الكاشف يتم اختياره من بين المماليك ويعينه الوالي بموافقة الديوان.

يحيي، جلال: المجمل في تاريخ مصر الحديثة. المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، بدون تاريخ، ص60.

(19) ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص383.

وجان بردي الغزالي سلافي الأصل من كُرواتيا، كان قد وقع في أسر العثمانيين في عهد السلطان بايزيد الثاني والد السلطان سليم الأول عند فتح منطقة البلُقان (الروملي). ثم أُرسل ضمن مجموعة من الأسرى هديةً إلى السلطان المملوكي الأشرف قايتباي في القاهرة الذي أعتقه حتى وصل إلى درجة الأمارة في عهد السلطان قانصوه الغوري وطومان باي. وجان بمعنى: الروح، وبردي: تعني أعطى.

حرب، محمد: العثمانيون في التاريخ والحضارة. ط1، دار القلم، دمشق 1409هـ (1989م)، ص143-144.

(20) الجمدار: من الجمدارية وهو الذي يتولى إلباس السلطان أو الأمير ثيابه وأصل اللفظة جاما دار، فارسية، بمعنى اللباس داخل البيت ومنها البيجاما.

دهمان: المرجع السابق، ص54. وعاشور: المرجع السابق، ص427.

(21) ابن إياس: المرجع السابق، نفس الصفحة. وهيئة الموسوعة الفلسطينية: الموسوعة الفلسطينية. القسم العام، 4 أجزاء، ج2، دمشق 1984، ص6.

(22) أمير عشرة: رتبة عسكرية في الجيش المملوكي، يكون في خدمة صاحبها عشرة فرسان، ومن هذه الطبقة يتم تعيين صغار الولاة.

دهمان: المرجع السابق، ص22. وعاشور: المرجع السابق، ص415.

(23) حاجب الحجاب: منصب مملوكي، كان صاحبه يقوم مقام النائب في الولايات، وإليه يشير السلطان، وإليه يرجع عرض الجند وما شابه ذلك، وإليه تُقدّم العروض.

دهمان: المرجع السابق، ص59.

(24) ابن إياس: المرجع السابق، نفس الصفحة.

(25) نفس المرجع، ص 382.

(26) نفسه.

(27) حمزة: دور خاير بك، ص 247-248.

(28) لمزيد من التفاصيل حول موقعة مرج دابق، أنظر:

ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 68 – 73، 86-87. و ابن طولون: إعلام الورى بمن ولى نائباً من الأتراك بدمشق الشام الكبرى. تحقيق وتقديم: عبد العظيم حامد خطاب، القاهرة 1973م، ص240-241.

(29) الشهابي، حيدر أحمد (الأمير): تاريخ الأمير حيدر أحمد الشهابي، 4 أجزاء، ج3 علقّ على حواشيه: د.مارون رعد، إشراف: نظير عبود، دار نظير عبود، بيروت 1993، ص738.

(30) ابن زنبل، أحمد: تاريخ مصر، مخطوط موجود في المكتبة الوطنية بميونخ، رقم Cod. Arab.411 ، ورقة 14 أ.

(31) نفسه.

(32) الوطاق: لفظ تركي بمعنى الخيمة الكبيرة أو المخيم التي يستقر بها السلطان.

دهمان: المرجع السابق، ص 155.

(33) ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 19أ-19ب.

(34) زقلمة: المرجع السابق: ص 104.

(35) ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 25أ. وابن طولون: إعلام الورى، ص241.

(36) ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 76.

(37) نفس المرجع، ص 82. و ابن طولون:المرجع السابق، ص 241-242.

(38) ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 25 أ – 26ب.

(39) ابن إياس: المرجع السابق، ص 82.

(40) مصطلح الزُعّر الذي يستخدم في بلاد الشام يقابله مصطلح الفتوات في مصر والقبضايات في لبنان.

(41) ابن إياس: المرجع السابق، ص 84.

(42) الحنبلي: المرجع السابق، ورقة 206 ب.

(43) طومان باي: أصله من كتابيّة السلطان الأشرف قايتباي، اشتراه السلطان قانصوه الغوري وكان بينهما قرابة. ثم قدمه لقايتباي، وطومان باي يعتبر السلطان السابع والأربعون من سلاطين المماليك في مصر وأخرهم.

ابن إياس: المرجع السابق: ج5، ص 102.

(44) الدوادار: هو الذي يحمل دواة السلطان أو الأمير، ويتولى أمرها مع ما ينضم لذلك من الأمور اللازمة لهذا المعنى من حكم وتنفيذ أمور وغير ذلك بحسب ما يقتضيه الحال.

دهمان: المرجع السابق، ص 77.

(45) ابن إياس: المرجع السابق، ص 85-86.

(46) ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 26 ب.

(47) نفس المرجع، ورقة 31 أ – 31ب.

(48) ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص102-105. و الصديقي، محمد بن محمد أبي السرور البكري: التحفة البهية في تملك آل عثمان الديار المصرية. مخطوط موجود في المكتبة الوطنية في فيينا، رقم Cod. Arab. 925. A.F. 283 ، ورقة 21 أ – 23 أ.

(49) ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 124 – 125. وابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 31 ب – 34أ. وابن أبي السرور: المرجع السابق، ورقة 29 أ –33ب.

(50) أنظر ترجمة نص رسالة السلطان سليم لطومان باي كاملة في:

متولي: الفتح العثماني للشام ومصر، ص 176 – 178 (الذي اعتمد على مخطوط لجلال زاده قوجه نشانجي مصطفى بعنوان: مآثر سليم خاني طاب ثراه. وهذا المخطوط موجود في مكتبة طوبقبو سرايي، رقم 415، ورقة 133 أ – 134ب).

(51) ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 125.

(52) أنظر ترجمة نص رسالة السلطان سليم لجان بردى الغزالي كاملة في:

متولي: المرجع السابق، ص 179 – 181 (اعتماداً على نفس المصدر التركي السابق ورقة 134ب – 135ب).

(53) متولي: المرجع السابق، ص 181.

(54) نفس المرجع، ص 182.

(55) ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 34 أ – 34 ب. وابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 108.

(56) ابن إياس: المرجع السابق، ص 116 – 117.

(57) نفس المرجع، ص 117.

(58) متولي: المرجع السابق، ص 185، اعتماداً على المصادر التركية التي رجع إليها.

(59) ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 35. وابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 128 – 131.

(60) العدوي: المرجع السابق، ص 177 –178. وزقلمة: المماليك في مصر، ص 106.

(61) هيئة الموسوعة الفلسطينية: الموسوعة الفلسطينية، ج2، ص6.

وإيفانوف: المرجع السابق، ص 69.

(62) متولي: المرجع السابق، ص 186 (الذي اعتمد على مخطوط لأحمد فريدون بعنوان: منشآت الملوك والسلاطين، موجود بمكتبة طوبقبو سرايي، رقمR 1960، ورقة 594ب – 598ب).

(63) متولي: نفس المرجع، ص 186.

(64) نفس المرجع، ص 204–205 (الذي أورد ترجمة كاملة لنص رسالة الفتوح، ص 204 - 209).

(65) أنظر تفاصيل معركة الريدانية:

ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 144 – 148.

(66) نفس المرجع، ص 159 – 160.

(67) زقلمة: المرجع السابق، ص 108.

(68) أنظر رسالة الفتوح في: متولي: المرجع السابق، ص 208.

(69) ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 69 أ.

(70) نفس المرجع، ورقة 69 أ – 73 ب. وابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 168.

(71) أنظر تفاصيل تلك الهجمات في: ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 93 ب –100ب.

(72) نفس المرجع، ورقة 102 ب – 103ب. وإيفانوف: المرجع السابق، ص 70.

(73) ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 174 – 177.

وابن أبى السرور البكري الصديقي: المرجع السابق، ورقة 29 أ – 33ب.

(74) أنظر ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 122 أ – 123 أ. والحنبلي: المرجع السابق، ورقة 206 ب.

(75) أنظر: ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 128 ب. وابن إياس: المرجع السابق، ص 203. ومتولي: المرجع السابق، ص 234.

(76) متولي: المرجع السابق، نفس الصفحة.

(77) ابن طولون: مفاكهة الخلان في حوادث الزمان، ج2، ص 43-47، 58 -59.

(78) نفس المرجع، ج2، ص 41 – 43.

(79) متولي: المرجع السابق، ص 234 (اعتماداً على المصادر التركية).

وابن جمعة، محمد: الباشات والقضاة في دمشق في: صلاح الدين المنجد: ولاة دمشق في العهد العثماني، دمشق 1949، ص1.

ولمزيد من التفاصيل عن المعركة التي دارت بين الغزالي وناصر الدين بن الحنش.

أنظر:

سويد، ياسين: التاريخ العسكري للمقاطعات اللبنانية في عهد الإمارتين. جزءان، ج1، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت 1985، ص129 – 130.

(80) ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 130 ب. وابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 244.

(81) إيفانوف: المرجع السابق، ص 77.

(82) أنظر: ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 252 – 253. وابن طولون: إعلام الورى: ص 255 – 256. وسويد: المرجع السابق، ص130. و Lammens (S.J.), La Syrie precis Historique, vol.II, Beyrouth 1921, p.56.

(83) ابن طولون: مفاكهة الخلان، ج2، ص 119 – 121. وابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 295.

(84) ابن طولون: إعلام الورى، ص 258. وابن إياس: ص 293.

(85) ابن طولون: إعلام الورى، ص 255. والموسوعة الفلسطينية، ج2، ص 6.

(86) ابن إياس: ص 359 – 360. وابن طولون: المرجع السابق، ص 259.

(87) رافق: المرجع السابق، ص 65.

(88) ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 130 ب. ومتولي: المرجع السابق، ص244.

(89) Holt, op.cit,p. 43.

(90) ابن طولون: إعلام الورى، ص 260. ورافق: المرجع السابق، ص 83 – 84.

(91) ابن طولون، محمد: الثغر البسام في ذكر من ولي قضاء الشام، تحقيق: د.صلاح الدين المنجد، دمشق 1956، ص 309.

(92) ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 130 ب – 131أ.

(93) نفس المرجع، ورقة 131 أ.

(94) نفس المرجع، ورقة 131 أ – 131 ب.

(95) ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 367 – 368.

(96) متولي: المرجع السابق، ص 244.

(97) أنظر: ابن جمعة: المرجع السابق، ص 1. وابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 133 أ – 133ب. وابن طولون: إعلام الورى، ص 260. وإيفانوف: المرجع السابق، ص 78.

(98)ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 370.

(99) متولي: المرجع السابق، ص 247. ورافق: المرجع السابق، ص 84.

(100) ابن جمعة: المرجع السابق، نفس الصفحة.

(101) أنظر نص الوثيقة في:

متولي: المرجع السابق، ص 244 – 246.

(102) نفس المرجع، ص 246.

(103) ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 131 ب.

(104) إيفانوف: المرجع السابق، ص 78.

(105) أنظر: ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 131ب – 132ب. وابن طولون: إعلام الورى، ص 262 – 265. ومتولي: المرجع السابق، ص 251.

(106) ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 373-375.

(107) ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 133ب.

(108) ابن جمعة: المرجع السابق، ص 3.

(109) ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 376 – 377.

(110) إيفانوف: المرجع السابق، ص 78. و Holt, op.cit, p.47.

(111) ابن جمعة: المرجع السابق، ص 2.

(112) أنظر تفاصيل الحملة العثمانية على الغزالي في:

ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 133ب – 136 أ. وابن جمعة: المرجع السابق، ص 3 – 4.

(113) ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 382.

(114) إيفانوف: المرجع السابق: ص 78 – 79.

(115) ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 391.

(116) نفس المرجع، ص 387 – 388.



مراجع البحث



أولاً: المخطوطات:

1- الحلاق، محمد بن يوسف: تحفة الأحباب بمن ملك مصر من الملوك والنواب. موجود في The Beinecke Rare Book and Manuscript Libraryبجامعة Yale بالولايات المتحدة الأمريكية رقم Landberg 229.

2- الحنبلي، مرعى بن يوسف: نزهة الناظرين فيمن ولى مصر من الأمراء والسلاطين. موجود في المكتبة الوطنية بميونخ، رقم Cod. Arab. 889.

3- ابن زنبل، أحمد: تاريخ مصر، موجود في المكتبة الوطنية بميونخ رقم Cod. .Arab. 411

4- الصديقي، محمد بن محمد أبي السرور البكري: التحفة البهية في تملك آل عثمان الديار المصرية. موجود في المكتبة الوطنية في فيينا، رقمCod Arab.925, A.F. 283 .

ثانياً: المصادر الأوّلية:

1ـ ابن إياس، محمد بن أحمد: بدائع الزهور في وقائع الدهور، ط3، 5 أجزاء، تحقيق: محمد مصطفى، ج4،5، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة 1404هـ (1984م).

2ـ ابن جمعة، محمد: الباشات والقضاة في دمشق في د.صلاح الدين المنجد: ولاة دمشق في العهد العثماني، دمشق 1949.

3ـ الشهابي، حيدر أحمد (الأمير): تاريخ الأمير حيدر أحمد الشهابي، 4 أجزاء، ج3، علقّ على حواشيه: د.مارون رعد، إشراف: نظير عبود، دار نظير عبود، بيروت 1993.

4ـ ابن طولون، محمد: إعلام الورى بمن ولى نائباً من الأتراك بدمشق الشام الكبرى، تحقيق وتقديم: عبد العظيم حامد خطاب، القاهرة 1973.

5ـ ابن طولون، محمد: الثغر البسام في ذكر من ولى قضاء الشام، تحقيق : د.صلاح الدين المنجد، دمشق 1956.

6ـ ابن طولون، محمد: مفاكهة الخلاّن في حوادث الزمان، جزءان، نشر: محمد مصطفى، ج2، القاهرة 62 – 1964.

ثالثاً: المراجع الثانوية والدوريات والموسوعات:

1ـ إيفانوف، نيقولاي: الفتح العثماني للأقطار العربية 1516- 1574. ط1، ترجمة: يوسف عطا الله، راجعه وقدّم له: د.مسعود ضاهر، دار الفارابي، بيروت 1988.

2ـ حرب، محمد (الدكتور): العثمانيون في التاريخ والحضارة. ط1، دار القلم، دمشق 1409 هـ (1989م).

3ـ حمزة، عادل عبد الحافظ (الدكتور): "دور خاير بك المملوكي في موقعة مرج دابق 922هـ/1516م. رؤية جديدة ". المجلة التاريخية المصرية، مج 36، 1989، ص 241 – 257.

4ـ دهمان، محمد أحمد: معجم الألفاظ التاريخية في العصر المملوكي. ط1، دار الفكر، دمشق 1410هـ (1990م).

5ـ رافق، عبد الكريم (الدكتور): العرب والعثمانيون (1516-1916)، ط1، دمشق 1974.

6ـ زقلمة، أنور: المماليك في مصر. ط1 مكتبة مدبولي، القاهرة 1415هـ (1995م).

7ـ سويد، ياسين (الدكتور): التاريخ العسكري للمقاطعات اللبنانية في عهد الإمارتين. جزءان، ج1، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت، 1985.

8ـ عاشور، سعيد عبد الفتاح (الدكتور): العصر المماليكي في مصر والشام. ط2، دار النهضة العربية، القاهرة 1976.

9ـ العدوي، إبراهيم (الدكتور): مصر والشرق العربي درع الإسلام. مكتبة الأنجلو المصرية القاهرة 1985.

10ـ نوار، عبد العزيز سليمان (الدكتور): تاريخ الشعوب الإسلامية. دار الفكر العربي، القاهرة، بدون تاريخ.

11ـ هيئة الموسوعة الفلسطينية: الموسوعة الفلسطينية، القسم العام، 4 أجزاء، ج2، دمشق 1984.

12ـ يحيي، جلال (الدكتور): المجمل في تاريخ مصر الحديثة. المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، بدون تاريخ.

رابعاً: المراجع الأجنبية:

1. Holt (P.M.), Egypt and the Fertile Crescent, 1516- 1922, Cornell university press, New York 1966.

2. Lammens (S.J.), La Syrie, Precis Historique, vol.11, Beyrouth 1921.

 

التوقيع

 



من كتاباتي
صرخاااات قلم (( عندما تنزف ريشة القلم دما ))
قلم معطل وقلم مكسوووور
عندما ’تطرد من قلوب الناس !!!!!!(وتدفن في مقبرة ذاتك)
دعاة محترفون لا دعاة هواه ( 1)
الداعية المحترف واللاعب المحترف لا سواء(2)
نعم دعاة محترفين لا دعاة هواة!!!! (( 3 ))
خواطر وجها لوجه
همسة صاااااااااااارخه
خواطر غير مألوفه
اليوم يوم الملحمه ...
على جماجم الرجال ننال السؤدد والعزه
عالم ذره يعبد بقره !!!
معذرة يا رسول الله فقد تأخر قلمي
دمعة مجاهد ودم شهيد !!!!!!
انااااااااا سارق !!!!
انفلونزا العقووووووووول
مكيجة الذات
الجماهير الغبيه
شمووووخ إمرأه

 
 
رد مع اقتباس
  #22  
قديم 16-04-2005, 11:59 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

الرملة.. عاصمة فلسطين المنسية


--------------------------------------------------------------------------------

كانت مدينة الرملة -والتي تبعد أقل من خمسة أكيال مترية عن مطار تل أبيب الدولي- مرة عاصمة لفلسطين. لكنها اليوم مدينة خربة تحت الاحتلال الإسرائيلي. أسسها الأمير الأموي سليمان بن عبد الملك (والذي أصبح خليفة فيما بعد) في بداية القرن الثامن الميلادي.

والرملة – كما هو واضح من اسمها- مشتقة من كلمة الرمل، وكانت قد بنيت على أرض رملية محاذية لمدينة اللد (ليدا) القديمة، والتي منها أخذت الرملةُ سكانها ومواد بنائها. وقد توسعت مدينة الرملة وازدهرت سريعاً لا لتصبح أكبر مدينة بفلسطين فحسب، وإنما لتصبح عاصمتها حيث بلغ عدد سكانها أكثر من 25 ألف نسمة. ولمدة 300 سنة، لم تكن الرملة أكبر مدينة بفلسطين فحسب وإنما واحدة من المدن الرئيسية في العالم الإسلامي، تضاهي مدن كبغداد، والقاهرة، ودمشق. ويرجع إزدهار الرملة وغناها إلى صناعة صباغة الأنسجة والتجارة العالمية، وهذا راجع جزئياً إلى موقعها المهم بين تقاطع طريقين تجاريين مفضَّلين: شمال-جنوب (ماراً بماريس)، وشرق-غرب من يافا إلى القدس.

لكن قُدِّر لهذه المدينة أن تنعكس أحوالها وذلك في القرن الحادي عشر الميلادي بسبب سلسلة من النوازل الطبيعية والبشرية التي جعلت المدينة مجرد ظلال بالمقارنة مع حالها التي كانت عليها. أول هذه النوازل التي ألمت بالرملة كان زلزال عام 1033م الذي دمر أكثر من ثلثي المدينة وترك آلاف المشردين. ثم تبع ذلك زلزالان في عامي 1068 و1070م على التوالي، وكذلك المناوشات المختلفة بين الفاطميين وأعدائهم كانت لها آثار مزلزلة على المدينة، إلى أن جاء الصليبيون عام 1099م فوجدوا أبواب المدينة مفتوحة فارغة من أهلها، حيث كانوا قد فروا منهم. وعندما استقر الصليبيون في المدينة، بنوا لهم قلعة وكنيسة في أحد جوانبها، ومع الوقت أصبحت هذه المنطقة مركزاً للمدينة حيث صغر حجمها كثيراً. وقد أصاب المدينة بعض التحسن عندما عادت إلى حظيرة الإسلام في عهد المماليك (1260-1516)، حيث بنيت منارة لمسجدها الأبيض، والتي –إلى هذا اليوم- تبدو واضحة ومهيمنة على المباني من حولها. وعلى كل حال، فالمدينة لم تستطع أبداً أن تعود إلى ما كانت عليه من حجمها الأول، وكنتيجة لذلك، فإن المسجد الأبيض فيها الذي كان قائماً في وسطها في القرن الثامن الميلادي، وجد نفسه الآن خارجها.

في أوج ازدهارها، كانت مدينة الرملة تغطي مساحة 2 كليومتر مربع، وهذه حقيقة تؤكدها الحفريات الحديثة التي استطاعت أن تكشف عن المدينة القديمة لمساحة 2 كيلومتر مربع. واستناداً لمؤرخ عربي معاصر، فإن المدينة احتوت على العديد من الأسواق والمساجد والبيوت كلها بنيت بالحجر الكلسي الأبيض والرخام. وقد بينت الحفريات لأحد أسواق المدينة كيف أن محلاته ودكاكينه بنيت على شكل مستطيلات أمام المسجد الأبيض ، وكشفت أيضاً عن خزانة من العملات الذهبية ترجع إلى القرن العاشر الميلادي وتحمل نقش شجرة النخيل، رمز سكة الرملة.

وقد كشف الحفريات أيضاً عن خوابي مستطيلة الشكل كبيرة تحتوي على آثار صبغة حمراء اللون كانت تستعمل لصبغ الأقمشة، والتي كانت مصدر أكثر ثراء المدينة. ودلائل أخرى على النشاطات الصناعية في المدينة وجدت في بقايا أربعة محلات للخزف على الأقل، وتحتوي على قوالب مصابيح، وهروات وصوانٍ تحتوي على طبقة عازلة لامعة وملونة. ويبدو ازدهار المدينة واضح أيضاً من الهندسة المعمارية فيها، حيث تظهر مجموعات من النقوش الهندسية على البيوت.

كل هذا يجعلها نتعجب عن سبب تدهور مدينة الرملة بهذا الشكل السريع والذي يوحي أن المدينة قد هجرت في نهاية القرن الحادي عشر! لعل أحد أسباب هذه التدهور هو التجزئة السياسية لتلك الحقبة التاريخية حيث جعلتها هدفاً بين عدة جيوش متصارعة. وسبب آخر قد يشير إلى العديد من الزلازل التي ذكرناها، لكن كلا هذين العاملين يجب أن يكونا قد أثَّرا على بقية المدن في المنطقة التي استطاعت أن تسترد وضعها الأول. تشير الأبحاث الحديثة أن تدهور المدينة على الأرجح هو نتيجة اعتمادها على نظام مائي اصطناعي هش.

ليس لمدينة الرملة مصدر طبيعي للماء، وكانت تستمد ماءها عن طريق شبكة من القنوات، كان أهمها قناة بنت الكافر، والتي تشبه نهر بردى الذي يجري في وسط مدينة دمشق. وقد اكتشفت آثار لهذه القناة في الحقول الواقعة إلى شرق وجنوب المدينة وهي تمتد لمسافة أكثر من 15 كيلومتراً. وهذه القناة تزود بالماء سلسلة من الأحواض ، حيث أن أشهرها كان حوض أو بركة العنازية، والتي ما زالت موجودة إلى الآن في الناحية الشمالية من المدينة القديمة. وهذه البركة تحوي نقوشاً محفورة في الجص يرجع تاريخها إلى عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد (786-809م). هذه البركة مغطاة بستة أعمدة ذات قناطر معتمدة على أرصفة مصلبة، وهي مهمة كما هو معروف من الاستعمالات السابقة والمستمرة للأقواس القوطية المحدبة.

من الواضح أن مثل هذا النظام المائي المحكم كان مكلفاً، وأنه كان يتطلب جواً سياسياً مستقراً مع استثمار الدولة في متابعة العناية به. ولكن ، وبمجيء القرن الحادي عشر الميلادي، لم تعد هذه هي الحال. لقد وصف الرحالة الفارسي ناصر خسرو (1003-1060م) كيف أن بيوت الرملة كان لها ماؤها الخاص بها، لأنه لم يكن هناك مصدر يعتمد عليه. ومما يؤكد الحالة المتردية لبرك الماء العامة في الرملة هو ما يرويه الرحالة الفرنسي جونفيل في القرن الثالث عشر الميلادي ، عندما وصف المناوشات بين الصليبيين والمسلمين قرب الرملة عندما وقع رجل وخيول ثلاثة في إحدى البرك المهملة.

إن مسألة ازدهار الرملة السريع وترديها ربما يحمل في طياته مضامين لسكان المنطقة الحاليين الذين هم أيضاً معتمدين على نظام مائي غير طبيعي للاستمرار في حياتهم.



مقتبس من مجلة التاريخ اليوم، عدد شهر مايو 2004

بقلم: أندرو بترسون

رد مع اقتباس
  #23  
قديم 17-04-2005, 12:08 AM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

المنطلق الأساسي في التاريخ الإسلامي

للأستاذ محمود شاكر


--------------------------------------------------------------------------------

الخلفاء

إن الخلفية التي لدينا عن كثير من الخلفاء غير صحيحة، وهي مهزوزة جداً وذلك لأننا أخذناها مما درسنا من كتب ليست بذات ثقة، وكُتبت بأيدٍ مغرضة كانت معادية للمسلمين الذين تسلموا الخلافة سواء أكانوا راشدين أم أمويين أم عباسيين. وكثيراً ما وصلت إلينا حياة الخلفاء من جانب واحد وغالباً ما يتعارض مع المنصب الذي يتسلّمه. فالخليفة ليس رجل حكمٍ فقط يجلس في مركز الخلافة يُعطي الأوامر، ويجيب على الرسائل، يتلقّى التهاني، ويستمع إلى الشعراء يكيلون له الثناء، وهذا الجانب الذي دُوِّنَ لنا وشُوِّه أيضاً، وإنما كان الخليفة إمامَ المسلمين في الصلاة، وخطيبهم في الجمع والأعياد، وقائدهم في الجهاد، والمفتي للخاصة، والمسؤول من العامة، يستنبط من الأحكام، ويُناقش الفقهاء، ويتداول الرأي مع العلماء وهذا الجانب لم يرد إلينا من هلال ما كُتِب لنا، ونحن -مع الأسف- لم نفكّر فيه أبداً، واكتفينا بما قرأنا، وقرأنا ذلك مكرّراً في عدد من الكتب وعلى مستوياتٍ مختلفة حتى رسخت هذه الصورة في عقولنا، بل ونُقِشَتْ في أفكارنا وأصبح من الصعب التخلّص منها.

الدولة الأموية

لننظُرْ إلى الجانب الثاني جانب مقتضيات منصب الخلافة من الإمامة، والخطابة، والقيادة، ولْننظُرْ إلى أحد هؤلاء الخلفاء وليكُن يزيد بن معاوية الذي لا تزيد الخَلفية عنه أنه كان من عامة الناس غير مُبالٍ بشؤون الحكم، فلما آل إليه السلطان تسلّمه ولم يحسن التصرّفَ به، فوقعت أحداث أساءت إليه، وإلى أسرته، وكانت سبباً في شنّ الهجوم عليه وعلى آله حتّى مات غير مَأسوف عليه. هذه النظرة العامة إليه دون الحديث عما بالغ في ذلك مبغضوه. ولكن لننظر إلى مركزه الذي تسلّمه في ذلك العصر الذي يضمّ كثيراً من الصحابة، ومعظمه من التابعين، ولنأخذ المرحلة التي سبقت خلافته. لقد أرسله أبوه سنة خمسين للهجرة على رأس حملة كبيرة لدعم المجاهدين الذين يحاصرون القسطنطينية، لقد سار على رأس الحملة وفيها عدد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمثال أبي أيوب الأنصاري، وعبادة بن الصامت، وأوس بن شدّاد، وعبد الله بن عمر ابن الخطاب، وعبد الله بن عبّاس بن عبد المطلب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير، رضي الله عنهم جميعاً. فكان يزيد قائدهم، وخطيبهم، وإمامهم فما طعن أحد منهم في قيادته، ولا تكلّم أحد عن إمامته، ولا انتقده أحدهم في خطبته، واستمرت الحملة على ما يزيد على ثمانية شهور، ولو طعن أحد في ناحية من نواحي حياة يزيد أو إمامته أو قيادته أو خطبه لعجّت الكتب بذلك، ولضجّ الرافضةُ في هذا الموضوع،ولكن لم يحدث شيء.

وجاء عهده بالخلافة واستمرّ ما يزيد على أربع سنوات، وكان يمارس خلالها كل ما يمارسه الخليفة ولم يحدث أي طعن فيه أو انتقاد له، ومع هذا فلا نقول: إنّه كان الخليفة المثالي، لا، وإنما كان أحد ملوك المسلمين، فلا يُحَبّ ولا يُسَبّ -كما قال عنه ابن تيمية رحمه الله- فلم تكن أيامه فجوراً فيُسَبّ، ولا أيام عدل ورخاء فيُحبّ، ولم تنطلق في عهده الفتوحات فيُثْنى عليه. وإنما كان ملكاً عادياً. وقد وقعت في عهده حادثتان كان لهما أكبر الأثر في توجبه اللوم عليه وانتقاده وهما: حداثة كربلاء التي استشهد فيها الحسين بن علي رضي الله عنهما، ووقعة الحرّة ودخول المدينة المنوّرة من قبل جنده. وإذا كان بعضهم يحمّل المسؤولية للقادة لصعوبة الاتصال معهم في تلك الأيام، إلاّ أنّه كخليفة يتحمّل القسط الأكبر من المسؤولية، ولكن لا نُغالي في الكلام عنه كما تفعل الرافضة.

وكما طُعِنَ في يزيد بن معاوية طُعِنَ في بقية خلفاء بني أمية لم يُستَثْنَ منهم خليفة واحد، اللهم إلا إذا كان عمر بن عبد العزيز، وهذا لم يُطعَن، به لصلاحه كما يتصوّر بعضهم، وإنما لِقِصَرِ مدّة خلافته التي لم تزد علي السنتين (99-101 هـ)، ولأنّ الذين يوجّهون الطُّعون أرادوا أن يظهروا بالعدل والإنصاف إذا استثنوا بعض الخلفاء، ومع ذلك كنا نسمع من المدرسين العلمانيين على هذا الخليفة الصالح أنه أراد تطبيق الإسلام وقد نسي أنه قد مضى عليه قرن من الزمن، الأمر الذي يدلّ على غبائه.

وعدمُ تَرْكِ خليفةٍ دون هجوم عليه لأنّ الطعن لم يكن موجّهاً بالحقيقة إلى أشخاصٍ بأعينهم، وإنما كان القصد الهجوم على الإسلام من خلال الطعن بالخلفاء والمسؤولين عن الدولة لذا جاء الهجوم عاماً، وإن كان يختلف من خليفة إلى آخر حسبما يجدون من ثغرات أو بالأصح حيث يجدون منفذاً يَلِجونَ منه وينفثون في داخله من سمومهم. فالخليفة الذي تقع في عهده أحداث يمكن الدسّ من خلالها يأخذون بالافتراء والكذب، فمثلاً: موت الحسن بن علي بن أبي طالب، وموت الأشتر النخعي، ومقتل حجر بن عدي، وبيعة خليفة قبل موت الخليفة القائم خوفاً من الأحداث، كل هذه الوقائع يتّهمون فيها معاوية بن أبي سفيان، ويهاجمونه أعنف الهجوم، وينسون صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والفتوحات في عهده، وحسنَ إدارته، وحكمته.

ويزيد بن معاوية طعنوا فيه من خلال حادثتي كربلاء، ووقعة الحرّة.

وهشام بن عبد الملك من خلال ثورة زيد ين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وابنه يحيى ابن زيد.

ومن لم تقع في عهده أحداثٌ يهاجمونه من خلال وُلاتِهِ، كما هي حال عبد الملك بن مروان الذين يسلّطون الأضواء في عهده على شدّة الحجّاج بن يوسف الثقفي.

وإذا مات خليفةٌ صغيراً اتّهموا به من بعدَه بقتله، حيث اتّهموا يزيد بن عبد الملك بدَسّ السّمّ لعمر ابن عبد العزيز، وإذا كان الخليفة ضعيفاً لم يهاجموه على ضعفه بل اتّهموه بالخَنا والمجون، وتأثير النساء عليه، والجري وراء شهواته، كالوليد بن يزيد.

وإذا مات قائد ولو بلغ من السنّ عِتيَّاً اتّهموا الخليفة به، فسليمان بن عبد الملك رثى لحال موسى بن نصير قائد الفتح في الأندلس الذي يُلقي بنفسه في المعارك، وقد زادت سنّه على الثمانين، فأراد إكرامه والإفادة من خبراته، فاستقدمه إلى دمشق واصطحبه معه لأداء فريضة الحجّ فوافاه أجله في المدينة فاتّهموا الخليفة بالخلاص منه.

حتّى لم ينجُ منهم معاوية الثاني بن يزيد بن معاوية الذي تنازل عن الخلافة وجعلها شورى للمسلمين كما يجب أن يفعله كل مسلم، فوجّهوا إليه سهام الضعف وعدم القدرة. ووجدوا أن مروان ابن محمد قد جاء إلى دمشق وأنهى موضوع الصراع على السلطة، وتسلّم الخلافة، وأخذ الأمر بالحزم، ولكن حطّت به الأيام للضعف الذي كانت قد وصلت إليه دولته وقوة خصمها الجديد اليانع العنيد فهاجموه، ولِقُوَّتِهِ أطلقوا عليه ‘الحمار’. فالضعيفُ جبانٌ، والقويُّ حِمارٌ، ومن مات في عهدهم كانوا هم ملك الموت، والذين يوزّعون بطاقات الموت، و...

وعبد الله بن الزبير الخليفة الشرعي عَدُّوهُ ثائِراً، ولم يَجِدوا ثَغْرَةً في سُلوكهِ فاتَّهَموه بالبُخلِ.

بنى عبد الملك فكان عند الأعداء بِناءً سياسيّاً لتحويل المسلمين من الحجّ إلى مكة إلى الحجّ إلى بيت المقدس، وعدّوا ما جاء من أحاديث صحيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، في شدِّ الرِّحال إلى المسجد الأقصى موضوعةً ونسبوها للزُّهري الذي وضعها تزلُّفاً لبني مروان.

وبنى الوليد بن عبد الملك فعدُّوا ذلك تبذيراً وإسرافاً.

وبهذا لم يسلم أحد من أقلام الحاقدين وألسنة المغرضين، وهذا أمر طبيعي ما داموا أعداءً للإسلام. ولكن الغريب كل الغرابة أن يكون ما تُدَوِّنُه أقلامهم ثقافةً لأجيالنا الذين يريدون أن يُواجهونهم فكريَّاً، وأن تكون مواطن فخر أحفادنا في التاريخ من تدوين أعدائهم، وأن يكون الجيلُ الثاني لتطبيق الإسلام أوّلَ من تخلّى عنه، بل إنّ كثيراً من الجيل الأوّل قد شهد هذا الابتعاد عنه ووافق عليه.

علينا أن ننظر في هذه الوقائع والأحداث، ونرى رُواتَها ومدى الثقة بهم، ونفسّرها بعد ذلك تفسيراً إيمانياً حسب منطلقات الأمة ونرى ما يتّفق مع هذه المنطلقات وما يتباين معها، فالأحداث ليست سوى ترجمة للمنطلقات وتطبيقاً لها.

الدولة العبّاسيّة

إنّ الذي شَنُّوا هجماتهم على الدولة الأموية هم أنفسهم الذين طعنوا في خلفاء بني العبَّاس، ولا شكّ أنّ الهجوم لا يكون على الضعفاء الذين لا يَأْبَهُ بهم أحدٌ، وإنّما على الأقوياء الذين يؤثِّرون في المجتمعات، ويكونوا أنموذجاً لتطبيق منطلقات الأمة، ومن هنا كان الهجوم على خلفاء الدور الأول من العهد العباسي.

لقد خرقوا سِترَ هارون الرشيد ووصلوا إلى المكان الذي لا تصل إليه إلاّ زوجاته، ونظروا في موضع سرّه الذي لا يعلمه إلاّ اللهُ وزوجاتُه، واختلقوا قصصاً واضحةَ الكذب، وربّما كانت هي السبب في اكتشاف أكاذيب الذين عملوا في تدوين التاريخ من أعداء الإسلام لما فيها من وضع مكشوفٍ وخاصة فيما يتعلّق بأبي نوّاس الذي لم يره الرشيد طوال حياته مع أن قصصه معه هي الشائعة وتكاد تكون من المسَلَّمات بها!

وإذا كان هؤلاء قد توصّلوا إلى داخل بيت الرشيد فرأوا ما لم يعلمه إلاّ الله وأذاعوه على الناس لكنهم في الوقت نفسه قد عموا عما يراه الناس جميعاً وأخفوه، لقد أعماهم اللهُ عن جهاده، وعن حجِّه، وعن بكائه من خشية الله عندما يذكِّرُهُ أهلُ التقوى بالله... وسكتوا عن هذا... ليفضحَ اللهُ أمرَهم.

ولم يكن هارون الرشيد ضحيَّتَهم الوحيدة، بل لم تترك ألسنتُهم أحداً من العباسيين كما لم تبتعد عن أحد من أبناء عمومتهم الأمويين السابقين لهم في السلطة، حتى لِيَتَّضِحَ أنّ الهدفَ لم يكن الخلفاء وإنما كان الإسلام الذي يمثّله الخلفاءُ.

الشعراء
كان الشاعر سِجِلَ ذاته، وسجل معاصريه، وسجل عصره، ولو كان كل شاعر قد برع في فن، وبه عُرف واشتهر، وبذلك تباين الشعراء واختلفوا، كما اختلفوا في قول الصدق، وحسن السريرة، فمنهم المسلم الذي نذر حياته للدفاع عن الإسلام والردّ على المشركين، وذلك في أيام الإسلام الأولى كحسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، و... ومنهم من أخذ ينافح في تلك المرحلة عن الجاهلية،وأوثانها، وسدنتها، وسادتها الكفار. وفي عصر بني أمية أخذ بعض الشعراء اتجاهات معينة، وأكثرهم يمدحون من يحبون منهم محبة وصدقاً، ومنهم نوالاً واستجداءً، ويبدو أن هذا الصنف هو الذي يظهر في كل عصر وسيبقى ما دام التزلّف قائماً، وما دام حب المال والمنصب موجوداً. كما أن هناك الحكيم والهجَّاء، ومن انصرف إلى الغزل يرضي بذلك نفسه وهواه لا يبغي وراءهما شيئاً، ومنهم من يسير مع المجاهدين تفيض نفسه حباً بقتال الطغاة ويطلب نيل الشهادة فيدوّن مبتغاه.

غير أن هناك صنفاً آخر من الشعراء، وهو الذي لا يستطيع أن يجاهر بما يؤمن به إن كان يخالف عقيدة المجتمع، فما ينظمه من شعر يبقى سرَّاً حتى ينكشف أمره بعد حين سواء أكان عاجلاً في حياته فينال عقابه، أم آجلاً بعد وفاته فيُعرف ما كان عليه. وقد لا يستطيع الشاعر أيضاً أن يُظهر ما ينظمه من شعر عندما يسبح في خياله بعيداً يتتبع عورات الناس أو يشبّب في نساء المجتمع الفاضلات، فهو يسير وراء شيطان شعره، ويتكلم وينظم من الشعر ما شاء له هواه، ولكن يبقى هذا سرَّاً حتى ينكشف أمره بعد حين، وهذا الصنف من هؤلاء الشعراء هو الذي أعنيه وأقصده لا سواه.

إن وجود شاعر واحد أو أكثر في بيئة معينة من هذا النوع لا يعني فساد هذه البيئة بل ربما الشاعر نفسه لم يكن سيئاً ما دام الكلام لم يخرج إلى حيّز التنفيذ، وإنما يبقى مكتوباً على الورق ومكتوماً في النفس، فما هو إلا ارتسام في الخيال، بل لو كان الشاعر فاسداً، إلا أن الأمر سريّ فلا فاحشة تشيع ولا حرمات تنتهك، وهو في وسط مجتمع واسع لا يعادل شيئاً ولا يدل على طبيعة المجتمع وصلاحه أو فساده فالبيئة لا يُحكم عليها من خلال فرد واحد.

ومن ناحية ثانية لو أن شاعراً لمح ابنة الخليفة أو رآها فهامَ بها، وأخذ ينظم الشعر بها، ويسبح في خياله بلقاءات معها، وهي لا تدري، فهل نحكم من خلال شعره بعد زمن على أخلاقها ونتّهمها بالسوء وأنه كانت لقاءات بينهما وأنها كانت تبادله العواطف نفسها، وتسعى على الاجتماع به، وتحبك الحيل في ذلك؟ وأن الاجتماعات كانت تتمّ ليلاً في غرفة دار الخلافة، أو في الحرم حيث يستحيل ذلك. أقول يستحيل لأن الحرم مكان مقدّس لا يُسمح بأن يحدث فيه مثل هذا في أكثر الأوقات تحرُّراً من القيم الدينية، وربما قُتل من حاول العبث فيه بأيدي من فيه من الحجاج والمعتمرين، وهو لا يخلو في وقت من الأوقات من أعداد كثيرة من المسلمين يؤدُّون فيه بعض المناسك سواء أكان ذلك في الموسم أم في غيره، وإن كان في الموسم أكثر بكثير، فما بالك في عصر الإسلام حيث كانت الحماسة للعقيدة أكثر، والتقيُّد بقيم الإسلام واحترام الآداب أكبر.

وهذا شأن عمر بن أبي ربيعة المخزومي الذي حُكِمَ على المجتمع الإسلامي من خلال شعره الذي لم يتعدَّ أن يكون شعراً خيالياً نسَجَهُ في خياله ونظَمَه شِعراً، ووُجِد بعد وفاته، وربّما اطلع عليه في حياته بعض خلاّنه فشاع الشعر وانتشر، وحكموا على صحّة ما جاء فيه على الرغم من أن أبسط العقول تتنبّه إلى أنه خيال لم يتعدّ ذلك، ولكن المغرضين يريدون غير ذلك، يريدون التهديم والطعن في الحكم القائم يومذاك وتصويره أنه بعيد عن الإسلام كل البعد، وبعدها يريدون الطعن في الإسلام على أنه غير صالح للحكم إذ لم تلبث أن انهارت دعائمه، وابتعد أهله عن المثاليات التي جاء بها، واتجه الناس أول ما اتجهوا إلى اللهو والعبث في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي مكة المكرمة، بل وفي الحرم أكثر الأماكن قدسيَّةً.

ومما يظهر أن الأمر خيالي تماماً:

1- ما جاء في ديوان عمر بن أبي ربيعة نفسه أثناء الكلام عن مناسبة نظم بعض القصائد، فقد ورد أن ابن أبي عتيق قد وصف لعمر بن أبي ربيعة عقلَ ابنة عمه زينب بنت موسى الجمحية وأدبها وجمالها فشُغِفَ بها وفُتِنَ دون أن يراها، ونظم فيها القصائد الطوال.

2- إن اللواتي ذكرهن في شعره هن كل السيّدات المعروفات في مجتمعه، ومن أشهرهن: سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله التي أمها أمّ كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وسعدى بنت عبد الرحمن بن عوف، ولُبابة بنت عبد الله بن العباس، وفاطمة بنت عبد الملك بن مروان زوجة عمر بن عبد العزيز، ورملة بنت مروان بن الحكم، وأم محمد بنت مروان بن الحكم، وفاطمة بنت محمد بن الأشعث، سكينة بنت خالد بن مصعب، كلثُم بنت سعد المخزومية، الثريا بنت عبد الله بن الحارث ابن أمية الأصغر، وهي زوج سهيل بن عبد العزيز بن مروان، ونُعَم الجمحية، ورملة بنت عبد الله بن خلف الخزاعية، وزينب بنت موسى الجمحية. فهل كان على صلة بهن كلهن؟ ويعني إن كان ذلك أن المجتمع كله عابث فاسد، وقد زال كل أثر للإيمان منه، وهذا ما يريد أن يتوصل إليه أعداء الإسلام لذلك يروّجون هذا الشعر ويؤكّدون عليه. وما هو في الواقع إلا شيطان شاعرٍ يسبح في الخيال.

3- كان بعض من ذكرهن بعيدات عنه كلّ البعد، وربما بعضهن من لم يرهنّ في حياته، فقد كانت سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة تعيشان في العراق مع زوجهما مصعب بن الزبير، وكانت فاطمة بنت مروان تعيش في مصر والشام، وكانت أم محمد بنت مروان تعيش في مصر، وربما سمع عن إحداهن فنظم الشعر بها- كما قلنا-.

4- مجيء أخت الخليفة عبد الملك بن مروان إلى الموسم وحدها، وهي رملة، لتلتقي بعمر بن أبي ربيعة. متى كانت الأعراف تسمح أن تسير أخت الخليفة وحدها؟ ومتى كان يحدث هذا؟

متى وجِدت امرأة في تاريخ البشرية تنطلق من دمشق إلى مكة وحدها، تنطلق مسافة ألفي كيلومتر في الفيافي والقفار؟

ومن المعلوم أن المرأة المسلمة لا يصحّ أن تحجّ دون محرِم، ووجود المُحرِم شرط أساسي للحجّ أو العمرة، ويُعدّ عدم وجوده عدم استطاعة الحج، وتعتَبر المرأة غير مكلَّفة بأداء الفريضة حينذاك.

5- البيت الحرام أكثر بقاع الأرض قدسية فهل يمكن للمسلمين أن يتخذوه مكاناً للهو والعبث؟ وهل يمكن للمسلمين أن يروا رجلاً أو امرأة يعبث هناك ويسكتون عنه، وخاصة إن كان ذلك العبث من هذا النوع الرخيص؟ وإنه ليلفت الانتباه كثيراً لأنه مع سيدات معروفات تتجه نحوهن الأنظار.

6- إن آباء هذه السيدات التي يُعبَث بهن ويعبثن هم من ذؤابة القوم، فهل يقبلوا أن تُداس كرامتهم، وهم يسمعون، وتنتهك حرماتهم وهم ينظرون، وبيدهم الأمر، فمنهم الخليفة، ومنهم الوالي، ومنهم السيد المطاع، ومنهم جليل القدر المحترم بين الناس جميعاً.

وهذا كله يدل على أن عمر بن أبي ربيعة كان يتغزّل بهذه النساء بالخيال، وينظم الشعر فيهن من السماع، ولم يُعرف هذا الشعر إلا بعد مدّة ولا ندري لعله أُضيف إليه الكثير من الشعر المنحول؟ ولو كان عُرف هذا الشعر في أيام عمر بن أبي ربيعة لنال جزاءه مباشرة من الخليفة الذي هتك عرضه أو من السادة الذين هتك سترهم و....

وجاء المغرضون من الرافضة ووجدوا فيه ضالّتهم إذ وجَّهوا سهامهم على حكم بني أمية، واتهموهم بالإساءة والإفساد حتى قالوا إن الغزل والغناء قد دخل في أيامهم مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تجاوز ذلك فوصل العبث داخل بيت الله الحرام من عمر بن أبي ربيعة وبعض نساء قريش، وادَّعوا أن بني أمية قد سكتوا على ذلك، وغضُّوا الطرف عنه في ذلك، وقبل المجتمع هذا الانفتاح لتشجيع الحكام له، والحكم بالدرجة الأولى، ثم من وراء ذلك كله الإسلام.

والغريب أن المسلمين لم يردّوا على ذلك بل يبدو أنهم قبلوه، وغدوا يتناقلونه، ثم أصبحوا يدرسونه، ويعدّون أن المجتمع الإسلامي قد أخذ يبتعد عن القيم التي يُمْليها عليه دينه، ويطعنون في بني أمية ولم يدروا أنهم يهاجمون الإسلام، ولا تزال المدارس والجامعات في العالم الإسلامي تدرس هذا، ولم يحاول النقّاد التعرّض لهذا لأنهم لم ينتبهوا إلى المنطلقات الإسلامية بل هذا لا يهمّهم، وإن الذين يهمُّهم الأمر إنما هم الدعاة من أساتذة الأدب ولكنهم لم يصلوا إلى هذا الجانب حيث لا يزالون يردِّدون ما تعلَّموه.

وقد آن الأوان لتُجلَى فيه الحقيقة ويجب على كل مسلم أن يسدّ الثغرة التي يقف عليها، لتأخذ الصحوة الفعلية مكانها وتتخطّى الصحوة الكلامية.

القادة
ولعل طارق بن زياد من القادة الذين تحدث عنهم المؤرخون من جانب الأدب فقط أو من جانب القيادة فقط فوقعوا في أخطاء كبيرة لأنهم لم يبحثوا عن المنطلقات العقيدية.

خطبة طارق

قالوا لا يمكن أن يقولها رجل بربري، لم يمضِ على إسلامه إلا قليلاً، ولم يخالط العرب إلا يسيراً، إذ كان مولىً لموسى بن نصير. ولنذكر الخطبة من أكثر المصادر إطناباً فيها، وأكثرها إظهاراً لبيانها، وأوسعها تبياناً لقوة معانيها، وهي مما رواه أحمد المقري التلمساني في كتابه (نفح الطيب).

(أيها الناس: أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدوّ أمامكم، وليس لكم -والله- إلا الصدق والصبر. واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام. وقد استقبلكم عدوّكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوّكم. وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم -ولم تُنجزوا لكم أمراً- ذهبت ريحكم، وتعوَّضت قلوبكم من رُعبها منكم الجرأة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وإني لم أحذركم بأمر أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم دوني على خطة أرخص متاعٍ فيها النفوس. أبدأ بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلاً استمتعتم بالأرفه الألذّ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظكم فيه بأوفر من حظي. وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الخيرات العميمة. وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عرباناً، ورضيكم لملوك هذه الأرض أصهاراً وأختاناً، ثقةً منه بارتياحكم للطعان، وسماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها خالصة لكم من دونه ودون المؤمنين سواكم، والله تعالى ولي إنجازكم على ما يكون لكم ذكر في الدارين.

واعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه، وإني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم (لذريق) فقاتِلُه -إن شاء الله تعالى- فاحملوا معي،فإن هلكت بعده فقد كُفيتُم أمره، ولم يعوزكم بطل عاقل تسندون أموركم إليه، و إن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهمّ من فتح هذه الجزيرة بقتله).

قالوا إن طارقاً بربري حديث الاستعراب لا يمكنه أن يقول مثل هذه الخطبة ارتجالاً، تذكروا هذا ونسوا أن أباه هو الذي استعرب، وهو مسلم أصلاً، ونشأ طارق في وسط عربي عند موسى بن نصير. قالوا هذا، ونسوا أهم نقطة، وهي كلمة الفصل، وهي أن طارقاً قائد الجيش، وإمامهم في الصلاة، وخطيبهم في الجمعة والأعياد، وفي كل ميدانٍ يقتضي فيه الحديث والكلام، وهذا واجب على قائد الجيش، ولا تصح إمرة مَن لا تتوفر فيه هذه الصفات إذ فيها مخالفة للمنطلقات الإسلامية. ولا يمكن لموسى بن نصير أن يختاره للقيادة إذا كانت لا تتوفر فيه هذه المؤهلات، وهو أدرى الناس به.

وأغرب من هذا أن يقول أحدهم: كيف تكون هذه خطبة لقائد أكثر جيشه من البربر، وأن يرتجلها ارتجالاً. وهل خطيب الجمعة يتكلم بالعامية إن كان أكثر الحضور من العامة؟ وهل يصعب عليه أن يرتجل خطبة كهذه وهو خطيب الجمعة والأعياد وقد تمرّس على الكلام والارتجال؟

تكلم الأدباء عن بيان الخطبة وأسلوبها، والعصر الذي وُضِعت فيه، وعدم إمكانية طارق بن زياد البربري الحديث بالعربية أن يقول مثلها، وكتب المؤرخون عن شبهها بأساطير كثيرة عندما يكون النصر كبيراً، إذ لم يكن جيش المسلمين ليزيد على اثنتي عشر ألفاً، على حين كان جيش (القوط) يزيد على المائة ألف، وقالوا: إن الفرس عندما دخلوا اليمن بقيادة (وهرز) مع سيف بن ذي يزن قد نسبوا لقائدهم مثل هذه الخطبة، كما نسبوا له إحراق السفن، وأن الإسبان عندما دخلوا المكسيك مستعمرين نسبوا لقائدهم قولاً مثل كلام طارق، كما قالوا: إنه أحرق السفن. كما تكلموا عن تأخّر المؤرخين الذين نقلوها، وعدم ذكرها عند المؤرخين الأقدم زمناً، قالوا كل هذا، وناقشوا كل ذلك ولكن لم يتحدَّثوا عن أهم نقطة وهي أن طارقاً كان إمام الجند وخطيبهم، فليس غريباً أن تكون هذه الخطبة من كلام طارق بن زياد الذي مارس الإمامة والخطابة.

إحراق السفن

انطلق المسلمون إلى البلدان فاتحين. انطلقوا بروح إسلامية مجاهدين، وعلى هذا فإن ما يُنسب إلى قادتهم إنما يُنظَر إليه ويُحلل من وجهة نظر إسلامية، فإن انسجمت تصرفاتهم مع منطلقاتهم فهذا الأمر السليم، وإن اختلفت دُرِسَت حسب المنطلقات لتعرف أكان صحيحاً ما نُسب إليهم أم كذباً وافتراءً. لا شكّ قد تقع أخطاء فما من إنسان بعد الرسل بمعصوم، ولكن تُعرف مثل هذه الأخطاء وتشتهر لأن القادة يسألونهم عنها، والخلفاء يحاسبونهم عليها حتى ولو كانت تهمة أو شائعة فيبرّرون هم بأنفسهم تصرفاتهم، أو يلقون العقاب. فقد سئل خالد بن الوليد رضي الله عنه، وكان تصرّفه في كلا الحالتين اجتهاداً، وهو اجتهاد في محله، وكان تصرُّف من تكلم عنه اجتهاداً، وهو في محله أيضاً، وقد سُكت عنه كذلك، وهذا شأن المسلمين.

ولنرجع إلى قضية سفن طارق، فإنه لم يقم بإحراقها أبداً، لا يمكن ذلك، ولو فعل لسُئل وحوسب وعوقب، فإن عملها يكلف الكثير من المال، ويستغرق الكثير من الوقت، ولم يُعرف عن المسلمين الأوائل إهدار المال وإضاعة ما قد أنشؤوه. وهذا الأساس بالموضوع والعلمية، ومع ذلك فلنناقش الموضوعَ منطقياً.

أ) لم يقل طارق أني أحرقت السفن أو أمرت بذلك، وإنما فهم بعض المتأخرين ذلك من خطبته (أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو من أمامكم...) فهموا من هذا الكلام أن البحر وراءهم وليس فيه وسيلة نقل تنقلهم إلى العدوة المغربية، وهو فهم فيه شيء من السقم.

ب) لم يقل أحد من جنده أو معاصريه عن هذا شيئاً، وإنما قيلت بعده بعدة قرون.

ج) السفن ليست ملكاً له ليتصرف بها كيف يشاء، فهي إما لـ (يولْيان) الذي قدم للمسلمين عدداً منها لنقلهم إلى العدوة الأندلسية لفتحها انتقاماً لنفسه من ملك القوط، وإما للمسلمين يحاسبه على تصرف قادتهم. فقد سئل خالد بن الوليد رضي الله عنه، عن إعطائه المال للأشعب الكندي لما أبداه من مهارة وتضحية في حرب الروم، وكان العطاء من ماله الخاص، ويقصد السائل -وهو أمير المؤمنين- أن في ذلك العطاء تبذيراً.

د) لم يحاسب طارقاً أحدٌ من قادته سواء أكان القائد العام موسى بن نصير أم الخليفة الوليد بن عبد الملك، مع العلم أن طارقاً كان مولىً لموسى بن نصير فليس له حق التصرّف الذي قد يفعله أبناء السادة المغرورين عند غير المسلمين.

هـ) ألا يمكنه أن يأمر بالسفن فتعود إلى العدوة المغربية فيصل إلى النتيجة نفسها؟ وهذا ما تم، وذلك أفضل من أن يقوم بإحراقها ويخسرها المسلمون.

و) لا يمكن لقائد واسع النظر أمثال طارق أن لا ينظر إلى المستقبل فيترك جيشه الصغير في بلاد الأندلس الواسعة، والتي من ورائها أوربا تدعمها، وبين مخالب دولة القوط الحاقدة المتربصة بالمسلمين التي تنتظر الفرصة لتعمل مخالبها فيهم.

ز) ألا يتوقَّع طارق مدداً؟ وهذا ما حدث، فعلى أي شيء يُنقل المدد، لقد انتقل المدد على السفن نفسها.

ح) من أين جاء موسى بن نصير بالسفن التي انتقل عليها إلى الأندلس مع بقية الجيش عندما خاف على المسلمين الذين توغّلوا بعيداً داخل الأندلس؟ لقد انتقل على السفن نفسها.

ط) لم تكن عملية إحراق السفن بالطريقة التي تُلقي الحماسة في نفوس المسلمين، لقد عُرف الموضوع عندهم بالتذكير بإحدى الحسينين، فلا شيء يدفعهم مثل ذلك، فهم من أجل هذا خرجوا، ولعلنا نذكر الآن ما قاله عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في مؤتة عندما رأى المسلمون كثرة الروم حيث كان يزيد جمعهم على مائتي ألف ولم يكن عدد المسلمين ليصل إلى أكثر من ثلاثة آلاف، فتخوَّف الناس على الجيش، وأخذوا يدرسون الموقف، وكأن شيئاً قد وقع في نفوسهم، فقال لهم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: "إنّ الذي تخافون للذي خرجتم تطلبون، والله ما انتصرنا بكثرة ولا بقوة سلاح وإنما بما نحمل بين أظهرنا.." فتشجع الناس وأقبلوا.

ك) إحراق السفن لا يفيد عندما يقع الهلع في النفوس. وقد كانت العرب في الجاهلية وربما بعض الأمم الأخرى إذا خرجوا للقتال أخذوا معهم نساءهم وأبناءهم كي لا يفرّوا خوفاً على النساء والذراري من أن تقع في السبي، ولكن إذا حمي الوطيس، واحمرت الحدق، ووقع الرعب في القلوب، فرّوا لا يلوون على شيء، وما غزوة حنين بخافية على أحد، إذ وقعت نساء وذراري هوازن في السبي حتى أخلى سبيلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن جاء أهلوهم أذلاء راجين العفو. فإذا كانت الذراري لا يلتفت إليها أهلها فهل يهم الخائف وجود سفن أو لا؟ إذ لا يفكر الخائف إلا بالنجاة من المأزق الذي هو فيه، وبعدها يبحث في طريق الوصول إلى المأمن.

إذن، لم يحرق طارق السفن، وبقيت لدى المسلمين، وانتقل المدد إلى الأندلس عليها، وانتقل قائدهم مع بقية الجيش إلى الأندلس عليها، وقضية إحراق السفن فرية وضعها بعضهم لإبراز فكرة التضحية والإقدام عند طارق، وروّجها أو أسهم في وضعها الذين لهم أهداف بعيدة في تشجيع المسلمين على مخالفة الإسلام، والقيام بمثل هذه الأعمال الانتحارية، وحرمان المسلمين من بعض وسائل الحرب لديهم بالتفريط فيها وإضاعتها.

طبخ لحوم القتلى

روى بعض المؤرخين قصة غريبة، ومنهم ابنُ القوطية في كتابه (افتتاح الأندلس)، وابنُ الكردبوس في كتابه (تاريخ الأندلس) مع أن الأول متَّهَم بالشعوبية وإعطاء صفات للقوط تفوق صفات غيرهم من الشعوب، فإن الثاني مولع بإيراد الغرائب والقصص المنسوجة من الخيال. ولْننقل ما قاله ابن الكردبوس: “ورحل لذريق قاصداً قرطبة يريد طارقاً، فلما تدانَيا، تخَيَّر لذريقُ رجلاً شجاعاً عارفاً بالحروب ومكائدها، وأمرَه أن يدخل في عسكر طارق فيرى صفاتهم وهيئاتهم، فمضى حتى دخل في محلة المسلمين، فأحس به طارق فأمر ببعض القتلى أن تقطع لحومهم وتُطبخ، فأخذ الناس القتلى فقطعوا لحومهم وطبخوها، ولم يشك رسولُ لذريق في أنهم يأكلونها. فلما جَنَّ الليلُ أمر طارق بهرق تلك اللحوم ودفنها، وذبْحِ بقرٍ وغنمٍ وجعل لحومها في تلك القدور. وأصبح الناس فنُودي فيهم بالاجتماع إلى الطعام فأكلوا عنده، ورسول لذريق يأكل معهم. فلما فرغوا انصرف الرسول إلى لذريق، وقال له: أتتك أمة تأكل لحوم الموتى من بني آدم، صفاتهم الصفات التي وجدناها في البيت المقفل، قد أحرقوا مراكبهم ووطَّنوا أنفسهم على الموت والفتح. فداخَلَ لذريق وجيشه من الجزع ما لم يظنّوا".

ومن الأمور الغريبة أن يخترع الإنسان قصة لغرض ما ولا يحبكها بشكل جيد حيث يتركها مخالفة للمنطلقات الأساسية التي قام عليها القائد إيماناً بها وإيمان أمته بها، وربما كان ذلك حكمة كي يفضح الله أمره. ومن الغريب أيضاً أن ينقل بعض الذين يدوّنون الأحداث التاريخية أمثال هذه القصص دون النظر فيها ومن غير البحث في صحتها، وإنما يكتفون بسرد الأحداث والقصة على أنها أمور مسلّم بصحتها، وأغرب من هذا وذاك أن ترد أمثال هذه القصص مباشرة دون مناقشة، ومن غير تعليق عليها، وأعتقد أنه من الأفضل ألا نورد أمثال هذه القصة ولا نناقشها إلا إذا كانت الكتب لمستويات معينة.

إن هذه القصة قد وردت إلينا عن طريق غير ثقة إذ ذكرها ابن القوطية وعنه نقلها بعض المؤرخين، وإن هذه القصة وأمثالها سواء اتُّخِذَت وسيلة للحيلة وإلقاء الرعب في نفوس الأعداء أم لغيره فإنها لا تصح، لأن تقطيع لحوم الموتى والعبث فيها إنما هو نوع من المُثْلة وهو لا يصح في ديننا إذ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه.

إن أول عمل يقوم به المسلمون بعد انتهاء المعركة وقبل غسل السيوف ومسحها إنما هو دفن الموتى، سواء أكانوا شهداءهم أم قتلى أعدائهم، ولكن القصة تروي أن الجاسوس قد جاء والجثث لا تزال ملقاة على الأرض، فهل جاء أثناء المعركة؟ هل جاء والمسلمون جالسون بين القتلى تنطلق منهم الروائح؟ أم..

ولم تحدّد القصة هوية الجاسوس زيادة في الغموض، ولكن يستبعد أن يكون من القوط لأنه لا يمكن أن يدخل إنسان عسكراً لا يعرف لغتهم، ولا يطَّلع على أوضاعهم، ويجلس ليأكل معهم في الصباح، ولم ينتبه أحد إليه، إذ لم ينتبه إلا القائد، فهل جاء يعرض نفسه على القائد، ويعرّف بنفسه؟ غير أن سرْد الرواية يدل على أنه من القوط إذ تقول: "تخير لذريق رجلاً شجاعاً عارفاً بالحروب ومكائدها" حيث يعني هذا أنه يعرفه حق المعرفة وهو من جنده وهذا يستحيل، وهذا ما يوضح كذب القصة من أساسها. والمفروض في حالة كهذه إن كانت صحيحة أن يكون رجلاً من البربر مقرّباً إلى لذريق، وهذا مالا تورده القصة لأنها غير صحيحة. فلو ذكرت ذلك لكانت أقرب إلى التصديق، ومع ذلك فهناك اعتراض قوي إذ لا يمكن لبربري غريب أن يدخل في مجموعة من البربر انتقلوا مجاهدين وكل منهم يعرف الآخر لقلة عددهم، وكل مجموعة يعرف أفرادها بعضهم بعضاً، ويمكن أن يُكشف أمره مباشرة.

كانت أخبار المسلمين تسبق جيوشهم الفاتحة، وكانت أخبار أخلاقهم وسلوكياتهم تملأ المنطقة قبل أن تطرقها أقدام الفاتحين، ويبقى المسلمون في المغرب أكثر من أربعين سنة وهم في صراع مع الروم، ومع المتعصبين من البربر، وحاكم الأندلس على مقربة منهم ولا يعرف عنهم شيئاً، ولو كانوا يأكلون لحوم الموتى ويقتاتون بجثث قتلى حروبهم لذاع هذا الخبر وانتشر ولعمّ العالم يومذاك، ولساعد هذا على الوقوف في وجههم، ولو أن القتلى لا يؤلمها تقطيع لحومها، ولكن يقفون أمامهم لهذه لوحشية. فالقصة عارية عن الصحة تماماً.

لو كانت القصة صحيحةً لكانت مخالفة واضحة من القائد طارق، ولضجّ بها الجند، ووصلت إلى القيادة بل وإلى أمير المؤمنين، ولسُئِل طارق وحوسب، ونال ما يستحق من عقوبة عل هذه المخالفة لتعاليم الإسلام -إذ ليس غريباً أن تقع مخالفة أو يرتكب قائد خطأ فهو ليس بمعصوم-، غير أنه لم تكلم أحد في هذا القصة ممن كان في جنده، أو من الثقة في ذلك العصر،ولم يُسأل طارق، ولم يحدث ما يُشير من قريب أو من بعيد عن وقوع القصة. وقد دوَّنها فقط ووصلت إلينا عن طريق غير الثقاة. فالحادثة مختَلَقَة لا صحة لها أبداً.

لقد وُضِعت هذه القصة من أناس يمتُّون إلى القوط بصلة، وقد هالهم ذلك النصر العظيم، نصر اثني عشر ألفاً على مائة ألف، فأرادوا أن يخفِّفوا من أثر ذلك النصر، ويجدوا المبررات للقوط في تلك الهزيمة المخزية بأنه قد وقع من الرعب في نفوسهم الشيء الكثير بالحيلة والخديعة التي لجأ إليها طارق، وما كانوا ليُهزَموا لولا تلك الحيلة. فنصر المسلمين كان نصر خديعة، لا نصر قوة وشجاعة وتضحية وفداء، وهزيمة القوط لم تكن هزيمة ضعف وخوار وإنما كانت هزيمة حيلة ومكر، ولم تكن تعوزهم الشجاعة ولا الدفاع المستميت عن أوطانهم.

وقد ساير بعض المسلمين رواة هذه القصة في قبولها، ونظروا إليها نظرة ثانية مخالفة لنظرة القوط ومَن دافع عنهم وشايعهم، حيث نظروا إليها من جانب ذكاء القائد المسلم ومعرفته بنفسية القوط، واللقاء بهم بعد أن زعزع الروح المعنوية عندهم بإلقاء الرعب في نفوسهم، والصدام معهم بهذه القلة التي معه مع كثرتهم إنما هي نوع من أنواع التضحية والفداء، واعتماداً على الروح المعنوية العالية عند جنده في حب الجهاد والنيل بإحدى الحسنيين، وضعف الروح المعنوية عند خصمه استطاع إحراز النصر. وهذا التحليل أو التعليل غير صحيح لأنه مخالف للمنطلقات التي لا تقبل التمثيل بالأعداء ولا بجثث الشهداء من الأصدقاء، لذا فهي مرفوضة، والقصة غير مقبولة، وهي من وضع الذين أحبّوا الدفاع عن القوط بمحاولة إيجاد مبررات لهزيمتهم النكراء.

ولقد كان انتصار المسلمين بإذن الله بما وضع في نفوسهم من روح معنوية عالية في حب الجهاد والاندفاع نحو الأعداء لتحقيق النصر أو لنيل الشهادة، فكتب لهم النصر، وأعطى رتبة الشهادة من استحقّها.

لقد كان قادة المسلمين الأوائل أئمة جندهم وخطباءهم، والمفتين لهم، والمرجع لهم في أمور الدين، لذل فقد كانوا على معرفة بكتاب الله وسنة نبيه وسلوك صحابته، وعلى علم باللغة العربية لإمكانية الاستنباط، لذا فإن القادة الأوائل كانوا جميعاً من العرب ولا يمكن أن يكونوا إلا كذلك، وما فعله الأمويون من تولية الولاة، وإعطاء القيادات للعرب لم يكن إلا بحكم الضرورة للمحافظة على المنطلقات الإسلامية، ولم يكن تعصباً للجنس العربي أبداً. ولقد كان طارق بن زياد من أوائل الذين استطاعوا تحصيل هذه المعرفة من غير العرب، فأهَّله ذلك لتسلّم القيادة وكان أهلاً لها، وقد حافظ على المستوى العام للقائد المسلم، ولم يرتكب مخالفة أبداً، لا حيلة ولا جهلاً، فلم يحرّق سفن المسلمين ويجعلهم يتكبدون خسائر كبيرة، ولم يمثِّل بالأعداء، وكان خطيباً، ووصلت إلينا خطبته، وهو أهل لقولها ولأمثالها.

رد مع اقتباس
  #24  
قديم 17-04-2005, 12:09 AM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

منهج التوثيق وإثبات الحقائق

في دراسة التاريخ الإسلامي

د. محمد أمحزون


--------------------------------------------------------------------------------

أ- دراسة الإسناد

الإسناد لغةً هو المعتمد، وسمي كذلك لأن المتن يشتد إليه ويعتمد عليه[1]. أما في الاصطلاح فهو سلسلة الرواة الذين نقلوا الخبر واحداً بعد واحد إلى أن يصلوا بالرواية إلى مصدرها الأصلي[2].

ويعتبر الإسناد في المنهج الإسلامي العمود الفقري للخبر، فهو الوسيلة لنقد الأخبار، إذ بمعرفة النقلة يعرف قيمة الخبر. والإسناد المتصل الصحيح من خصائص الأمة الإسلامية، وميزته أنه يعطي طمأنينة وثقة بما يتم نقله عن هذا الطريق، إذ يمثل شهادة مجموعة من الرجال العدول الثقات الضابطين، مما يؤكد صحة الخبر المنقول وضبطه.

وميزة السند أيضاً أن الروايات المسندة أفضل بكثير من الروايات والأخبار غير المسندة، لأن فيها ما يدلُّ على أصلها، ويمكن التحكُّم في نقدها وفحصها بصورة أفضل من الأخبار الخالية من السند[3]. وهكذا يبقى الهدف من السند هو تصحيح النصوص والأخبار، ومحاربة الوضع والكذب فيها. ولأهمية الإسناد فإن استعماله لم يعد قاصراً على الحديث النبوي، وإنما شاع استعماله في علوم أخرى كالتفسير والتاريخ والأدب حتى صار يمثل الصفة الغالبة على منهج تدوين العلوم الإسلامية المختلفة.

وفي مجال التاريخ لما كان ذكره يساعد على التحقيق من صحة الرواية ونقد الأخبار، فلذلك حافظ عليه العلماء الأعلام الذين قاموا بالجمع والتدوين سواء في السيرة النبوية أم في الأخبار التاريخية: كما فعل أبان بن عثمان [4] عروة بن الزبير[5] والزُّهري وخليفة بن الخياط [6] ويعقوب بن سفيان الفسوي[7] وأبو زرعة الدمشقي [8] والطبري وغيرهم.

وقد بدأ الاهتمام بالإسناد والسؤال عنه في فترة مبكرة، وذلك في أعقاب الفتنة التي شهدها صدر الإسلام في عهد عثمان -رضي الله عنه- وترتّب عليها ظهور الفرق ذات الآراء السياسية المتعارضة والأهواء المذهبية المتعصّبة، ففشا الكذب وظهر الوضع، ولجأ أتباع هذه الفرق إلى الوضع في الحديث وفي الأخبار. وهذا ما جعل العلماء يؤكّدون على ضرورة التثبُّت في مصادر الرواية، ويسألون عن الرجال الذين اشتركوا في نقلها، خصوصاً وأن القرآن الكريم والسنّة النبوية يأمران بالتبيّن والتثبّت في خبر الفاسق دون العدل الثقة حتى لا يُصاب أحد بجهالة أو ظلم أو قالَة سوء. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالةٍ فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) [الحجرات: 6]. وجاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظنَّ، فإن الظن أكذب الحديث".[9] وقوله: "كفى بالمرء كذباً أن يحدِّث بكل ما سمع"[10].

وفي شأن الإسناد قال ابن سيرين: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سمُّوا لنا رجالكم، فلينظر إلى أهل السنة فيأخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدعة فلا يأخذ حديثهم".

وهكذا فإن ابن سيرين جعل قيام الفتنة بداية التفتيش عن الإسناد لتوثيق الأحاديث والأخبار، وقبل ذلك لم يكن يتشدد في السؤال عن الأسانيد، بل كانت الرواية تقبل، وإن كانت مرسلة ثقة بالرواة.

ومما يدل على هذا قول ابن عباس رضي الله عنه: "إنا كنا نحدِّث عن رسول الله e إذ لم يكن يُكذَب عليه، فلما ركب الناس الصعبَ والذلول تركنا الحديث عنه"[11] فعبّر ابن عباس هنا عن الفتنة بقوله ركوب الناس الصعب والذلول، ولذا كان لا يقبل إلا ما يعرف.

وقال ابن المبارك: "الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء"[12]. وقال الحاكم متعقّباً: "فلولا الإسناد وطلب هذه الطائفة له وكثرة مواظبتهم على حفظه لَدُرِسَ منارُ الإسلام ولتمكَّن أهل الإلحاد والبدع بوضع الأحاديث وقلب الأسانيد، فإن الأخبار إذا تعرَّتْ عن وجود الأسانيد كانت بتراء" [13].

وقد اتخذت جهود العلماء المسلمين لمقاومة الكذب في الخبر جانبين: جانباً نظرياً، وهو وضعهم للقواعد الدالّة على الكذب؛ وجانباً عملياً، وذلك ببيانهم الأشخاص المتهمين بالكذب وتعريف الناس بهم ليُحتاط منهم. ففي الجانب النظري بلغ المنهج النقدي عند العلماء المسلمين في وضع قواعد علم الرواية من الدقة والإحكام أرقى ما يمكن أن تصل إليه الطاقة البشرية والمقدرة الإنسانية. ويكفي لمعرفة دقة المنهج العلمي الذيث اتبعه العلماء المسلمون أصحاب هذا الفن الإطلاع على ما كتبوه في قواعد الجرح والتعديل، ومعنى ألفاظهما، ومراتب هذه الألفاظ من أعلى مراتب التعديل إلى أدنى مراتب الجرح، وشروط قبول الرواية، حيث اشترطوا في من تُقبَل روايته شرطين أساسيين وهما:

العدالة: ويعنون بها أن يكون الراوي: مسلماً، بالغاً، عاقلاً، صادقاً، بريئاً من أسباب الفسق، سليماً من خوارم المروءة.

الضبط: وهو إتقان ما يرويه الراوي، حافظاً لروايته إن روى من حفظه، ضابطاً لكتابه إن روي من الكتاب عالماً بمعنى ما يرويه، متيقِّظاً غير مُغفل.

فمن قواعد الرواية كراهة النقل من الضعفاء واختيار السماع من الأمناء، واشتراط الصدق، وأن السفه والكذب يوجبان إسقاط العدالة، وترك السماع ممن اختلط وتغيَّر، ومن غلب على حديثه وروايته الشواذ والمناكير والغرائب لايُحتَج بروايته، وترك الاحتجاج بمن كثر غلطه وكان الوهم غالباً على روايته، وردّ حديث أهل الغفلة ومن عُرِف بالتساهل في روايته، وكراهية الرواية عن أهل المجون والخلاعة.

أما الجانب العملي المتمثِّل في بيان الرواة والتعريف بهم، فقد ألَّف العلماء المتخصصون عدداً كبيراً من المؤلفات منها ما أُفرِد لذكر الثقات،ومنها ما أُفرِد لذكر الضعفاء، ومنها ما جمع بين الثقات والضعفاء، مع ذكر ألفاظ الجرح والتعديل المنطبقة على كل راوٍ. وفيما يأتي بعض الأمثلة على أصناف هذه الكتب.

-كتب الثقات:

1. كتاب الثقات لأبي الحسن أحمد بن عبد الله العِجلي.

2. كتاب الثقات لعمر بن أحمد بن شاهين.

-كتب الضعفاء:

1. كتاب الضعفاء الصغير والضعفاء الكبير لمحمد بن إسماعيل البخاري.

2. كتاب الضعفاء والمتروكين لأبي زرعة الرازي.

-الكتب الجامعة بين الثقات والضعفاء:

1. الجرح والتعديل لعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي.

2. تواريخ الإمام البخاري الثلاثة: الكبير والأوسط والصغير.

ومما لا شك فيه أن المصنَّفات في قواعد الرواية وفي الرجال قدَّمت خدمة جليلة للسنّة المظهرة، ويمكن الاستفادة منها في حقل التاريخ الإسلامي إلى حد ما، إذ تكشف النقاب عن قواعد التحديث وأحوال الرواة، لتمييز القوي نم الضعيف والصادق من الكاذب، وبذلك يمكن للباحث أو المؤرخ أن يعرف لكل خبر قيمته، فيستبعد الأخبار الضعيفة والموضوعة ويُنَبِّه عليها ليتجنَّبها الناس، ويستخرج الروايات الصحيحة ويبيِّنها، خصوصاً وأن الهدف من الدراسات التاريخية هو إبراز الحقائق التي تُعتَبر هدفاً منشوداً يتوخَّاه كل باحث نزيه.

ب- دراسة المتن
المتن لغةً ما صلب وارتفع من الأرض، واصطلاحاً ما ينتهي إليه السند من الكلام بمعنى نصّ الخبر.

ويراد بدراسة المتن دراسة النص من جوانب متعددة، منها ما يهدف إلى التأكد من صحة النص بأن لا يخالف الأصول الشرعية والقواعد المقررة، أو يخالف طبيعة العصر المتحدَّث عنه وأعراف الناس وعاداتهم وقيمهم، أو يخالف طبائع الأشياء والمعلومات التاريخية المستفيضة، أو يشمل على أمر منكر أو مستحيل، إلى غير ذلك من الأمور. ومنها ما يهدف إلى فهم النص وفقهه، سواء فهم أحكامه ودلالتها أو فهم لغته وألفاظه.

وجدير بالذكر أن جهود العلماء المسلمين لم تكن منصبّة فقط على نقد السند، وإنما كانت منصبة أيضاً على المتن، لأن العلة كما تكون في السند قد تكون في المتن، على أنه لا يلزم من ضعف السند ضعف المتن، وكذلك لا يلزم من صحة السند صحة المتن؛ فقد يكون السند ضعيفاً والمتن صحيحاً لوروده من طرق أخرى تشهد بصحته، كما أنه قد يصح السند ولا يصح المتن لشذوذ أو علة قادحة فيه.

ولذلك أصَّلوا في هذا الشأن منهجاً علمياً دقيقاً، فهم لا يحكمون بالضعف على كل أخبار راوٍ ضعيف، فقد يكون مصيباً أو صادقاً في رواية ما بعينها، وفي هذا ردٌّ للحق، إذ قد يصيب الضعيف، وقد يَهِمُ الصادق. ولهذا يستشهد علماء الحديث في بعض الأحيان بأحاديث في أسانيدها ضعفاء- لكنهم غير متهمين بالكذب والوضع- عند ثبوت متن الحديث أو أصل الخبر من غير تلك الطريق.

وهذا يعني أنهم نظروا إلى متن الحديث كما نظروا إلى سنده، إذ قبول ذلك المتن بذلك الإسناد على ما فيه من ضعف يدل دلالة واضحة على عمق نظرهم في نقد النصوص، وأن الإسناد الضعيف لا يمنعهم من قبول المتن الصحيح أو المعروف من طريق آخر.

وقد كان منهج الصحابة -رضوان الله عليهم- التثبّت في الرواية والتأكد من صحة النص مع أنهم لا يتهمون رواتها بالكذب.

فهذا أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- حين سئل عن الجَدَّة هل ترث؟ فأجابه المغيرة ابن شعبة -رضي الله عنه- أنها ترث السدس، فطلب منه أن يأتيه بشاهد، فشهد محمد بن مسلمة -رضي الله عنه-.

وكذلك اعتذر عمر بن الخطاب من أبي ابن كعب عندما حدثه بحديث، فطلب منه أن يأتيه ببينة على ما يقوله، فلما أتاه بذلك قال له: أما إني لم أتهمك، ولكني أحببت أن أتثبت.

وفيما استدركته عائشة -رضي الله عنها- على الصحابة أنها سمعت حديث عمر بن الخطاب وابنه عبد الله -رضي الله عنهما- أن رسول الله e قال: “إن الميت ليعذَّب ببكاء أهله عليه.” فقالت: رحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله e أن الله يعذب المؤمنين ببكاء أحد، ولكن قال: “إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه”؛ وقالت: حسبكم القرآن: (ولا تزر وازرة وزر أخرى). وفي رواية مسلم أنها قالت: إنكم لتحدثوني غير كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع يخطئ.

وبالنظر إلى نقد المنون عند الصحابة والفقهاء والمحدثين يلاحظ في هذا الباب تأصيلهم لبعض المقاييس لنقد النص كعرضهم المتن على القرآن، فإذا خالفه مخالفة لا يمكن معها الجمع حكموا بردّه إذا تعذر تأويله أو توجيهه، ثم عرض السنة بعضها على بعض، حيث كان المحدثون يعرضون الروايات الواردة في موضوع واحد بعضها على بعض. ويظهر لهم من هذه المقابلة عدة نتائج تلعب دوراً في تصحيح النص مما يمكن أن يعلق به من زيادات أو إدراجات الرواة وأوهامهم. كما كان من مقاييسهم ردّ المتن إذا تعارض مع الأصول الشرعية المقررة، وما عرف من أحكام الدين، وكذا استعمال النظر العقلي والمعلومات التاريخية الثابتة في نقد بعض المتون.

ومثال ذلك ما حدث في عام 447 هـ أن أظهر بعض اليهود كتاباً، وزعموا أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادة بعض الصحابة -رضي الله عنه- فلما رفع الكتاب إلى وزير الخليفة القائم العباسي أحاله على المؤرخ الحافظ الحجة أبي بكر الخطيب البغدادي، فتأمله ثم قال: هذا مزوّر. فقيل له: من أين لك هذا؟ قال: فيه شهادة معاوية، وهو إنما أسلم عام الفتح (سنة 8 هـ)، وفتح خيبر كان سنة (7 هـ)، وفيه شهادة سعد بن معاذ، وهو قد مات يوم بني قريظة (سنة 5 هـ) قبل فتح خيبر بسنتين.

وهكذا تمكن الخطيب البغدادي بفضل استعانته بالمعلومات التاريخية الثابتة من اكتشاف تزوير نص هذه الوثيقة، واعتمد الوزير ما قاله المؤرخ، ولم يجز اليهود على ما في كتابهم. وينطبق على هذا الحادث وأشباهه ما سبق أن قاله سفيان الثوري: لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ.

ومما يلاحظ أن القواعد التي وضعها العلماء المسلمون للتوصل إلى معرفة النص الصحيح - وإن كانت في الأصل خاصة بالحديث النبوي- صالحة للتطبيق في مختلف العلوم الإسلامية، وخاصة التاريخ الإسلامي، لأن المؤرخين الأوائل نسجوا على منوال المحدثين في طريقة العرض وسرد الروايات بالأسانيد، كما أن التاريخ عبارة عن أخبار ووثائق ونصوص لا طريق للتثبت من صحتها إلا بتطبيق هذه القواعد المنهجية.

وقد أدرك عدد من المؤرخين المعاصرين إيجابيات هذا المنهج ودقة قواعده النقدية، فدعوا في مؤلفاتهم إلى الإقتداء به، واقتبسوا فصولاً من مؤلفات علماء المصطلح مثل الخطيب البغدادي وابن عبد البر باسم المصطلح الذي يستعمله علماء الحديث.

ج- شروط الرواية المقبولة
من العسير تطبيق منهج النقد عند المحدثين بكل خطواته على جميع الأخبار التاريخية، وإن اشترط العلماء في المؤرخ ما اشترطوه في راوي الحديث من أربعة أمور: العقل والضبط والإسلام والعدالة، لأن الأخبار التاريخية لا تصل في ثبوتها وعدالة رواتها واتصال أسانيدها إلى درجة الأحاديث النبوية إلا فيما يتعلق ببعض المرويات في السيرة والخلافة الراشدة مما تأكدت صحته عن طريق مصنفات السنة. أما أكثرها فمحمول عن الإخباريين بأسانيد منقطعة يكثر فيها المجاهيل والضعفاء والمتروكون.

ولهذا فرق العلماء بين ما يتشدد فيه من الأخبار وبين ما يتساهل فيه تبعاً لطبيعة ما يُروى، على أن تطبيق قواعد نقد الحديث في التاريخ أمر نسبي تحدده طبيعة الروايات.

فإذا كان المروي متعلقاً بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بأحد من الصحابة رضي الله عنهم، فإنه يجب التدقيق في رواته والاعتناء بنقدهم.

ويلحق بهذا ما إذا كان الأمر يتعلق بقضية في العقيدة أو موضوع شرعي كتحليل وتحريم، فإنه لا بد من التثبت من رواته ومعرفة نقلته، ولا يؤخذ في هذا الباب إلا من الثقات الضابطين. يقول الدكتور أكرم ضياء العمري في هذا الشأن : كما أن استعمال قواعد المصطلح في نقد الروايات التاريخية ينبغي أن يشتد على قدر تعلق المادة بالأحداث الخطيرة التي تؤثر فيها الأهواء ويشتط عندها الرواة، كأن تكون الروايات لها مساس بالعقائد كالفتن التي حدثت في جيل الصحابة، أو ذات صلة بالأحكام الشرعية كالسوابق الفقهية، فإن التشدد في قبولها يجعل استعمال قواعد الحديث بدقة أمراً مقبولاً. اهـ

أما إذا كان الخبر المروي لا يتعلق بشيء من الأحكام الشرعية - وإن كان الواجب التثبت في الكل- فإنه يتساهل فيه قياساً على ما اصطلح عليه علماء الحديث في باب التشدد في أحاديث الأحكام والتساهل في فضائل الأعمال.

روي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال: إذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشددنا في الأسانيد، وإذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل الأعمال وما لا يضع حكماً أو يرفعه تساهلنا في الأسانيد. اهـ

ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا التساهل لا يعني الرواية عن المعروفين بالكذب وساقطي العدالة، لأن ساقط العدالة لا يحمل عنه أصلاً، وإنما قصد العلماء بالتساهل إمرار أو قبول رواية من ضعف ضبطه بسبب الغفلة أو كثرة الغلط أو التغير والاختلاط ونحو ذلك، أو عدم اتصال السند كالرواية المرسلة أو المنقطعة. ووفق هذه القاعدة جوّز بعض الفقهاء العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال والترغيب والترهيب.

وبناءً على ذلك إذا كانت الرواية التاريخية لا تتعلق بإثبات أمر شرعي أو نفيه سواء كان لذلك صلة بالأشخاص - كالصحابة رضوان الله عليهم- أو الأحكام -الحلال والحرام- فإن الأمر عندئذ يختلف، فيقبل في هذا الباب من الروايات الضعيفة ما لا يقبل في سابقه، فيستشهد بها، لأنها قد تشترك مع الروايات الصحيحة في أصل الحادثة، وربما يستدل بها على بعض التفصيلات ويُحاول الجمع بينها وبين الروايات الأخرى التي هي أوثق سنداً.

يقول الكافيجي في هذا الصدد: يجوز للمؤرخ أن يروي في تاريخه قولاً ضعيفاً في باب الترغيب والترهيب والاعتبار مع التنبيه على ضعفه، ولكن لا يجوز له ذلك في ذات البارئ عز وجل وفي صفاته ولا في الأحكام، وهكذا جواز رواية الحديث الضعيف على ما ذكر من التفصيل المذكور. اهـ

ويقول أكرم ضياء العمري أيضاً: أما اشتراط الصحة الحديثية في قبول الأخبار التاريخية التي لا تمس العقيدة والشريعة ففيه تعسف كثير، والخطر الناجم عنه كبير، لأن الروايات التاريخية التي دوَّنها أسلافنا المؤرخون لم تُعامَل معاملة الأحاديث بل تمّ التساهل فيها، وإذا رفضنا منهجهم فإن الحلقات الفارغة في تاريخنا ستمثل هوة سحيقة بيننا وبين ماضينا مما يولد الحيرة والضياع والتمزق والانقطاع… لكن ذلك لا يعني التخلي عن منهج المحدِّثين في نقد أسانيد الروايات التاريخية، فهي وسيلتنا إلى الترجيح بين الروايات المتعارضة، كما أنها خير معين في قبول أو رفض بعض المتون المضطربة أو الشاذة عن الإطار العام لتاريخ أمتنا. ولكن الإفادة ينبغي أن تتم بمرونة آخذين بعين الاعتبار أن الأحاديث غير الروايات التاريخية، وأن الأولى نالت من العناية ما يمكنها من الصمود أمام قواعد النقد الصارمة. اهـ

وهذا التفريق بين ما يتشدد فيه من الأخبار ويتساهل فيه نلحظه بوضوح في تصرف الحافظ ابن حجر العسقلاني في جمعه بين الروايات في كتابه "الفتح".

ففي الوقت الذي يقرر فيه رفض رواية محمد بن إسحاق إذا عنعن ولم يصرح بالتحديث، ورفض رواية الواقدي، لأنه متروك عند علماء الجرح والتعديل فضلاً عن غيرهما من الإخباريين الذين ليس لهم رواية في كتب السنة من أمثال عوانة والمدائني فإنه يستشهد برواياتهم، ويستدل بها على بعض التفصيلات، ويحاول الجمع بينها وبين الروايات الأخرى التي هي أوثق إسناداً.

وهذا يدل على قبوله لأخبارهم فيما تخصصوا فيه من العناية بالسير والأخبار، وهو منهج معتبر عند العلماء المحققين وإن لم يقبلوا رواياتهم في الأحكام الشرعية. فنجد ابن حجر يقول في محمد بن إسحاق: "إمام في المغازي صدوق يدلِّس"؛ ويقول في الواقدي: "متروك مع سعة علمه"؛ ويقول في سيف بن عمر: "ضعيف في الحديث. عمدة في التاريخ".

وفيما يلي بعض النماذج من تصرف ابن حجر واعتباره لروايات الإخباريين:

في (كتاب المغازي، باب غزوة العشيرة):

ذكر عدد غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وعدد بعوثه وسراياه، وعدد الغزوات التي وقع فيها القتال، فاستشهد بأقوال أهل السير مثل ابن إسحاق والواقدي وابن سعد، وذكر خلافهم وجمع بين أقوالهم وأقوال من هم أوثق منهم من رواة الصحيح.

في (كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل):

جعل رواية ابن إسحاق جامعة بين الروايات رغم مخالفتها لما في الصحيح، وذلك في قصة مقتل أبي جهل يوم بدر في قوله: "فهذا الذي رواه ابن إسحاق يجمع بين الأحاديث، لكنه يخالف ما في الصحيح من حديث عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- أنه رأى معاذاً ومعوذاً- رضي الله عنهما- شدَّا عليه حتى طرحاه- يعني أبا جهل".

في (كتاب المغازي، باب حديث بني النضير):

في قصة بني النضير ومتى كان حصارهم، ذكر ابن إسحاق أنها كانت بعد أُحُد، وبعد استشهاد القرّاء في بئر معونة. والذي في البخاري عن عروة أنها كانت على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، أي قبل أُحُد. وقد مال ابن حجر إلى ترجيح رواية ابن إسحاق رغم إيراده سبباً للغزوة غير الذي ذكره ابن إسحاق وصححه بقوله: "فهذا أقوى مما ذكر ابن إسحاق من أن سبب غزوة بني النضير طلبُه e أن يعينوه في دية الرجلين، لكن وافق ابن إسحاق أهل المغازي".

من كتاب (تحقيق مواقف الصحابة في الفتن من روايات الطبري والمحدثين) للدكتور محمد أمحزون.


--------------------------------------------------------------------------------

[1] محمود الطحان: (أصول التخريج ودراسة الأسانيد) ص157

[2] فاروق حمادة: (المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل) ص 231

[3] أكرم ضياء العمري: (دراسات تاريخية) ص26

[4] ابن عفان الفقيه الأمير، توفي سنة 105هـ، كان من رواة الحديث وفقهاء المدينة.[5] ابن العوام، كان أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، وكان محدِّثاً عالماً بالسيرة والمغازي. توفي عام 93هـ.

[6] كان من الثقات ومن متيقظي رواة الحديث. وكان حافظاً عارفاً بالتواريخ وأيام الناس. توفي عام 240هـ.

[7] الإمام الحافظ الحجة. له كتب في التاريخ؛ توفي عام 277هـ.

[8] هو عبد الرحمن بن عمرو النصري، من العارفين بالحديث ورجاله وعلله. توفي عام 280هـ.

[9] متفق عليه.

[10] رواه مسلم وغيره.

[11] رواه مسلم في الصحيح.

[12] المصدر نفسه.

[13] الحاكم، كتاب (معرفة علوم الحديث) ص6

رد مع اقتباس
  #25  
قديم 17-04-2005, 12:34 AM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

المراجع الأولى في تاريخنا

تاريخ الأُمَم والمُلوك

لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري 224-310 هـ

محبّ الدين الخطيب


--------------------------------------------------------------------------------

مفارقات
من عجيب المفارقات في تاريخنا وتواريخ الأمم الأخرى، وفي موقفنا من تاريخنا ومواقف الأمم الأخرى من تاريخها، أن نكون أغناهن جميعاً في كل ما يبنى به تاريخ الأمة من أنباء ونصوص ومراجع وقرائن وإشارات وتحقيقات، ثم نبقى أفقرهن وأقلهن انتفاعاً بهذه الثروة في إقامة معالم تاريخنا على أساسها، بينما الآخرون قد أحدثوا - حتى من الأوهام - مكتبات جديدة لأجيالهم وجماهير قرائهم، حافلة بالطلي الشهي من صفحات ماضيهم، فوثّقوا أواصر خلفهم بسلفهم، ويسروا لهم القدوة الحسنة بعظمة العظماء من نوابغهم، وبعثوا لهم من ذلك الماضي صوراً حية ترتفع الرءوس بأمجادها، وتمتلئ القلوب بإجلالها واحترامها، وتطمئن العقول إلى تعليل تصرفاتهم والاعتبار بها ومواصلة السير نحو أهدافها.

مواطن ضعف

ومواطن الضعف -التي أدَّت ببعض معاصرينا من حملة أمانة التاريخ العربي والإسلامي إلى أن يكون انتفاعهم بهذه التركة ضئيلاً- لا يكاد يأتي على حصر، ومما يتبادر إلى الذهن منها الآن أمران:

أولهما- أن الذين تثقفوا منا بثقافة أجنبية عنا قد غلب عليهم الوهم بأنهم ِ غرباءُ عن هذا الماضي، وأن موقفهم من رجاله كموقف وكلاء النيابة من المتهمين. بل لقد أوغل بعضهم في الحرص على الظهور أمام الأغيار بمظهر المتجرد عن كل آصرة له بماضي العروبة والإسلام، لئلا يتّهم في زعمه بالعصبية لهما، فوضع نفسه موضع التهمة بالتحامل عليهما، جرياً وراء بعض المستشرقين في ارتيابهم حيث تحسن الطمأنينة، وفي ميلهم مع الهوى عندما يدعوهم الحق إلى التثبّت، وفي إنشائهم الحكم وارتياحهم إليه قبل أن تكون في أيديهم أشباه الدلائل عليه. ولو أنَّ إخواننا هؤلاء نشأوا على الإيمان بأنهم هم أصحاب هذه ِ التَّرِكَةُ وأن هذا الماضي ماضيهم، وأن جيلنا حلقة في سلسلة هذا الماضي، وأن أحداثه ثروة لنا في القدوة والاعتبار، لنظروا إليه بعين الأم إلى ابنها، إن لم ينظروا إليه بعين الابن إلى أمه، ولا يكون ذلك إلا بتبنِّي هذا التاريخ، والحرمة له، وبثّ الحياة في أمجاده، والحرص على استجلاء جماله، وإبراز فضائله، وتحرّي مواطن العظة والاعتبار في أخطائه، وحُسْن التعليل لذلك بالرفق والإنصاف وكمال التقدير. على أنه إذا كان هذا حال أهل الصبر منا على البحث والدرس، فما بالك بالآخرين الذين قد تقع أنظار الواحد منهم على بحث لمستشرق ناشئ أو منسى، فينتحل ذلك البحث من غير تعب، ويزعم لقرائنا مبتكراً من عنده، وينقله محرّف الأعلام، متضارب الأحكام، مزدوج العي، ملتهب الحماسة في التحامل حتى على الفضائل عندما ينظر إليها -بعينه أو بعين من ترجم عنه- من وراء منظار أسود.

ذلك أحد مواطن الضعف في دراستنا لتاريخ العروبة والإسلام. أما الموطن الآخر فهو ما لاحظتُه على بعض المعاصرين لنا مِن اشتباه الأدلة التاريخية عليهم، وحيرتهم بين جيّدها وأجودها، بل فيهم من لا يميّز بين الجيد منها والردئ، مع أن ذلك كان في متناول يده لو سبق له معرفة موازين رواتنا في النقد، أو وقَفَ على مناهجهم في التأليف ومصطلحاتهم في الرواية، ومراميهم في الاستشهاد.

وقد اخترت اليوم من هذه المراجع كتاب (تاريخ الأمم والملوك) للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري (224-310 هـ) لأتحدّث عنه إلى إخواني المشتغلين بالتاريخ، ممن يحاولون الانتفاع به في الاستدلال والنقل، لأني رأيت منهم من يظنّ أن إيراد الطبري لخبر من الأخبار كاف لتحميل هذا الإمام مسئولية الخبر الذي أورده، واعتباره هو المصدر لهذا الخبر، وأن الأخبار التي يوردها سواء كلها في ميزان الصحة عنده، وأن عزوهم الخبر إلى الطبري ودلالتهم على موضعه من تاريخه تتم بهما مهمتهم من الاستدلال، وتبرأ بذلك ذمتهم من عهدة هذا الخبر، ويبقى الطبري هو المتحمّل لمسئولية ما يترتب على ذلك في الحكم على أحداث التاريخ وعلى أقدار رجاله وتصرفاتهم.

إن ظنهم هذا لا يغني من الحق شيئاً، وإن الطبري ليس هو صاحب الأخبار التي يوردها بل لها أصحاب آخرون أبرأَ هو ذمتَه بتسميتهم، وهؤلاء متفاوتون في الأقدار، وأخبارهم ليست سواء في قيمتها العلمية، ولا يتم اعتبار الطبري مرجعاً في التاريخ إلا بإكمال المهمة التي بدأ بها، وهي تقدير أخباره بأقدار أصحابها، وفيها ما يعد من سلسلة الذهب، وفيها ما لا تزيد قيمته على قيمة الخزف، ولكل ذلك نقّاده وصيارفته وتجّاره، وهم يعرفون أقدار هذه الأخبار عند التعريف بأقدار أهلها، وقديماً قيل: ِ وما آفة الأخبار إلا رواتُهاُ .

أنَّى لك هذا؟
إن كل خبر في تاريخ الطبري، بل كل نص يتناقله أهل العلم في أجيال الإسلام، له عند أهله قيمة رفيعة أو وضيعة، على قدر شرفه أو خسَّته بالرواة الذين ينسب إليهم ذلك الخبر أو ذلك النص. فشرف الخبر في التراث الإسلامي تبع لصدق راويه ومنزلته من الأمانة والعدالة والتثبّت. لذلك امتازت كتب سلفنا الأول بتسمية الرجل المسئول عن أي حديث نبوي يوردونه فيها، وبيان المصدر الذي جاءوا منه بأي خبر تحدّثوا به إلى الناس. ولو لم يسمُّوا الرجل المسئول عن الحديث النبوي عن إيراده، ولو لم يبينوا المصدر الذي حصلوا منه على أي خبر يودّون ذيوعه بين الناس، لطالبَهم بذلك علماء الثقافة الإسلامية بأشد من مطالبة المحاكم من يدّعي ملكية العقار أو الحقل بما يثبت ملكيته له ومن أين صار ذلك إليه.

وإذا كان مبدأ (أنَّى لكَ هذا؟) مما سنَّه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في مشروعية امتلاك الأموال، فإن أبناء الجيل الذي منه عمر بن الخطاب هم الذين سنّوا للناس بعدهم وجوب بيان مصادر العلم، كما سنّوا لهم وجوب بيان مصادر المال، والعلم أثمن عندهم من المال وأشرف، وأنفع منه وأبقى.

نحن نعتبر تاريخ الطبري الآن من أقدم مصادرنا، وكان تاريخ الطبري في النصف الثاني من القرن الثالث (أي قبل أحد عشر قرناً) يعدّ من مصادر التاريخ الإسلامي الحديثة بالنسبة إلى المصنفات التي دُوِّنَتْ قبله بثلاثة بطون، بل بأربعة. ولعلّ أقدمها ِ مغازيُ مؤرخ المدينة موسى بن عقبة الأسدي المتوفي سنة 140 هـ، وهو الذي يقول فيه الإمام مالك: “عليكم بمغازي ابن عقبة فإنه ثقة، وهي أصح المغازي”. وابن عقبة من تلاميذ عروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص الليثي. ومن طبقة تلاميذه العراقيين سيف بن عمر التميمي الكوفي المتوفى بعد سنة 170 هـ، وله في سنن الترمذي حديث واحد، والطبري يروي عنه بواسطتين، أي عن طريق شيوخه وهم عن شيوخهم الذين كانوا تلاميذ لسيف. ومن طبقة تلاميذ موسى بن عقبة مؤرخ الشام أبو إسحاق الفزاري الحافظ المتوفى سنة 186 هـ، وهو حفيد أسماء بن خارجة الفزاري وكان له كتاب في التاريخ أثني عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في (مقدمة أصول التفسير) بعد أن قال: ”إن أعلم الناس بالمغازي أهل المدينة، ثم أهل الشام، ثم أهل العراق. وأهل المدينة أعلم بها لأنها كانت عندهم، وأهل الشام كانوا أهل غزو وجهاد فكان لهم من العلم بالجهاد والسير ما ليس لغيرهم. ولهذا أعظم الناسُ كتابَ أبي إسحاق الفزاري الذي صنّفه في ذلك. وجعلوا الأوزاعي أعلم بهذا الباب من غيره من علماء الأمصار". ويأتي بعد تلاميذ موسى بن عقبة طبقة يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد ابن العاص الأموي المتوفى سنة 194هـ، ومن مؤرخي الشام الوليد بن مسلم أبو العباس الدمشقي مولى الأمويين المتوفى سنة 195 هـ، ومحمد بن عمر الواقدي المدني قاضي العراق المتوفى سنة 207 هـ، ثم كاتبه المؤرخ الحافظ الثقة محمد بن سعد بن منيع البصري (168-230 هـ)، ومن هذا الجو العلمي استمدّ أبو جعفر الطبري هديته الكبرى إلى الأمم الإسلامية بما سجله وخلَّده من جهود شيوخه وشيوخ شيوخه ومن سبقهم إلى زمن التابعين والصحابة، فلم يترك مهماً من أخبار سلف الأمة مما أُثِر عن الأئمة الذين سمَّيْنا بعضهم إلا وقد دوّن طرفاً منه، ناسِباً كل خبر إلى صاحبه وإلى من يرويه عنهم صاحب ذلك الخبر من شيوخه وأسلافهم.

الأخبار الضعيفة عند الطبري
لم يقتصر الطبري على المصادر التي أشرت إلى بعضها، بل أراد أن يقف قارئه على مختلف وجهات النظر، فأخذ عن مصادر أخرى قد لا يثق بها هو بأكثرها، إلا أنها تفيد عند معارضتها بالأخبار القوية، وقد تكمل بعض ما فيها من نقص. كما صنع بنقله كثيراً من أخبار مخنف لوط بن يحيى الأزدي الذي قال فيه الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال: "أخباريٌّ تالف لا يوثَق به، تركه أبو حاتم وغيره. وقال ابن معين: ليس بثقة. وقال مرة: ليس بشيء. وقال ابن عدي: شيعي محترق صاحب أخبارهم. مات قبل السبعين ومائة". فقد نقل الطبري من أخباره في مئات المواضع، ولو أن الذين ينقلون عن الطبري ويقفون عنده، استقوا أخبارهم من لوط بن يحيى هذا واكتفوا بعزوها إلى الطبري لظلموا الطبري بذلك، وهو لا ذنب له بعد أن بيَّن لقارئه مصادر أخباره، وعليهم أن يعرفوا نزعات أصحاب هذه المصادر ويزِنُوها بالموازين العادلة اللائقة بهم وبها.

إن مثل الطبري ومن في طبقته من العلماء الثقات المتثبّتين - في إيرادهم الأخبار الضعيفة - كمثل رجال النيابة الآن إذا أرادوا أن يبحثوا في قضية فإنهم يجمعون كل ما تصل إليه أيديهم من الأدلة والشواهد المتصلة بها، مع علمهم بتفاهة بعضها أو ضعفه، اعتماداً منهم على أن كل شيء سيقدَّر بقدره. وهكذا الطبري وكبار حملة الأخبار من سلفنا كانوا لا يفرّطون في خبر مهما علموا من ضعفِ ناقله خشية أن يفوتهم بإهماله شيء من العلم ولو من بعض النواحي، إلا أنهم يردُّون كل خبر معْزواً إلى راويه ليعرف القارئ قوة الخبر من كون رواته ثقات أو ضعفَه من كون رواته لا يوثَق بهم، وبذلك يرَوْنَ أنهم أدُّوا الأمانة، ووضعوا بين أيدي القرّاء كل ما وصلت إليه أيديهم. قال الحافظ ابن حجر في ترجمة الطبراني من لسان الميزان: "إن الحفّاظ الأقدمين يعتمدون في روايتهم الأحاديث الموضوعة مع سكوتهم عنها على ذكرهم الأسانيد، لاعتقادهم أنهم متى أوردوا الحديث بإسناده فقد بَرِئوا من عهدته، وأسندوا أمره إلى النظر في إسناده".

ومن فوائد إيراد الحادث الواحد بأخبار من طرق شتى وإن كانت ضعيفة قول شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمة تفسير القرآن (ص 30-31): "إن تعدُّد الطرق مع عدم التشاعر أو الاتفاق في العادة يوجب العلم بمضمون القول (أي بالقدر المشترك في أصل الخبر) لكن هذا يُنتَفع به كثيراً في علم أحوال الناقلين (أي نزعاتهم والجهة التي يحتمل أن يتعصب لها بعضهم)، وفي مثل هذا يُنتَفع برواية المجهول، والسيئ الحفظ، وبالحديث المرسل ونحو ذلك، ولهذا كان أهل العلم يكتبون مثل هذه الأحاديث ويقولون: إنه لا يصلح للشواهد والاعتبار ما لا يصلح لغيره. قال أحمد: قد أكتب حديث الرجل لأعتبره".

ومن الإنصاف أن نشير إلى أن اتساع صدور أئمة السنة - من أمثال أبي جعفر الطبري - لإيراد أخبار المخالفين من الشيعة وغيرهم، دليل على حريتهم، وأمانتهم، ورغبتهم في تمكين قرّائهم من أن يطّلعوا على كل ما في الباب، واثقين من أن القارئ الحصيف لا يفوته أن يعلم أن مثل أبي مخنف موضع تهمة - هو ورواته- فيما يتصل بكل ما هم متعصبون له، لأن التعصب يبعد صاحبه عن الحق. أما سعة الصدر في إيراد أخبار المخالفين فهي دليل على عكس ذلك. وعلى القارئ الحصيف أن يأخذ ما صفا ويدع ما ... أن يستخلص الحق عندما يكون موزعاً أو معقداً.

الانتفاع بأخبار الطبري
إنما ينتفع بأخبار الطبري من يرجع إلى تراجم رواته في كتب الجرح والتعديل. فتراجم شيوخه مباشرة وشيوخهم توجد في الأكثر في مثل تذكرة الحفاظ للذهبي. وتراجم الرواة الذين كانوا إلى أواخر المائة الثانية توجد في خلاصة تذهيب الكمال للصفي الخزرجي وتقريب التهذيب، وتهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر. والذين تناولهم الجرح من الضعفاء يترجم لهم الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال والحافظ ابن حجر في لسان الميزان. وفي طبقات ابن سعد وتاريخ بغداد وتاريخ دمشق لابن عساكر وتاريخ الإسلام للذهبي والبداية والنهاية لابن كثير. وإن كتب مصطلح الحديث تبين الصفات اللازمة للراوي ومتى يجوز الأخذ برواية المخالف. ولا نعرف أمة عنى مؤرخوها بتمحيص الأخبار وبيان درجاتها وشروط الانتفاع بها كما عنى بذلك علماء المسلمين. وإن العلم بذلك من لوازم الاشتغال بالتاريخ الإسلامي، أما الذين يحتطبون الأخبار بأهوائهم، ولا يتعرفون إلى رواتها، ويكتفون بأن يشيروا في ذيل الخبر إلى أن الطبري رواه في صفحة كذا من جزئه الفلاني ويظنون أن مهمتهم انتهت بذلك، فهؤلاء من أبعد الناس عن الانتفاع بما حفلت به كتب التاريخ الإسلامي من ألوف الأخبار. ولو أنهم تمكنوا من علم مصطلح الحديث، وأَنِسوا بكتب الجرح والتعديل، واهتموا برواة كل خبر كاهتمامهم بذلك الخبر لاستطاعوا أن يعيشوا في جو التاريخ الإسلامي، ولتمكنوا من التمييز بين غثّ الأخبار وسمينها، ولعرفوا للأخبار أقدارها بوقوفهم على أقدار أصحابها.

وبعد فإن تَرِكَة سلف هذه الأمة - في كل ضرب من ضروب المعرفة - من أنفس ما وَرِثت عن أسلافها. وقد كانت لعلمائنا الأقدمين مشاركة في علوم كثيرة، فجاءت مؤلفاتهم مرتبطاً بعضها ببعض ومكمّلاً بعضها لبعض. والذي ألّفوه في التاريخ واعتمدوا فيه على الرواية، مبالغةً منهم في أداء الأمانة كاملة وافية، لا يجوز لمن ينقله عنهم أن يقصر في عرض تلك الأخبار على قواعد علم الرواية وعلى المعاجم المؤلفة في الرُّواة، وإن لم يفعل أخطأ الطريق، وكان عمله خارجاً عن مناهج العلماء.

رد مع اقتباس
  #26  
قديم 17-04-2005, 12:38 AM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

العقيدة العسكرية الإسلامية
بقلم اللواء الركن

محمد جمال الدين محفوظ


--------------------------------------------------------------------------------

ماهية العقيدة العسكرية
يعبر اصلاح »العقيدة العسكرية« [1]عن السياسة العسكرية المرسومة التي تعبر عن وجهات النظر الرسمية للدولة في أمور الصراع المسلح، ويشمل كل ما يتعلق بطبيعة الحرب وغايتها (من وجهة نظرها) وطرق إدارتها، والأسس الجوهرية لإعداد البلاد والقوات المسلحة للحرب. وعلى هذا الأساس فإن العقيدة العسكرية لأية دولة تقوم بصياغتها القيادة السياسية والعسكرية العليا، ذلك لأننا في عصر لا تقتصر فيه الحروب على القتال بين الجيوش في ميدان القتال، بل إن الدولة برمتها »تدخل الحرب« بكل قدرتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والنفسية بالإضافة إلى قوتها المسلحة.
وتتحول عناصر العقيدة العسكرية للدولة إلى قوانين ومبادئ ونظريات تدرس لقادة ورجال الجيش في الكليات والمعاهد والمدارس العسكرية المختلفة، كما يتم التدريب عليها في وقت السلم سواء في خلال التدريب اليومي أو المناورات السنوية، وأخيراً تطبق هذه القوانين والمبادئ والنظريات عملياً في الحرب إذا نشبت بين دولة وأعدائها، وتعد الحرب في هذه الحالة بوتقة اختبار لسلامة العقيدة العسكرية ونظرياتها، وهذا مبدأ معروف في العلم العسكري، حتى إذا انتهت الحرب شرع كل طرف في استخلاص الدروس المستفادة وإدخال ما يلزم من تحسين وتطوير لنظرياته ومبادئه الحربية.
وبديهي أن يكون لكل دولة عقيدتها العسكرية الخاصة بها وذلك بالنظر لظروفها الاقتصادية والجغرافية وأهدافها السياسية إلى غير ذلك من العوامل الاستراتيجية.
الإسلام وتنظيم شؤون الحرب
والواقع أن الإسلام باعتباره حضارة كاملة، وأنه نظم كافة أمور الحياة ديناً ودنيا، قد عالج أمور الحرب باعتبارها ظاهرة اجتماعية، ووضع خير المناهج والمبادئ بكل ما يتصل بها من حيث أهدافها وقوانينها وآدابها. والباحث المحقق لا يجد في الإسلام كل ما تحتويه النظريات العسكرية المعمول بها في الشرق أو الغرب فحسب، بل إنه ليكتشف بالتحليل والمقارنة أن نظريات الإسلام الحربية تتجاوز تلك النظريات وتتفوق عليها سواء من الناحية الفنية البحتة أو من حيث نبل المقاصد والأهداف.
وقد نشأت في المدينة بعد الهجرة أول مدرسة عسكرية في تاريخ العرب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قائدها ومعلمها الأول، وعلى أساس مبادئ القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة القولية والعملية والتقريرية قامت نظريات العسكرية الإسلامية في مختلف شؤون الحرب والقتال[2]، مثل: أسباب الحرب وأهدافها –آداب الحرب- بناء الجيش القوي – بناء المقاتل – إعداد القادة – التدريب على القتال – الحرب النفسية – المخابرات والأمن ومقاومة الجاسوسية – الانضباط والجندية وتقاليدها – بناء الروح المعنوية وإرادة القتال – إعداد الأمة للحرب – الصناعة الحربية واقتصاديات الحرب... الخ
وهكذا تكوّن أول جيش في تاريخ الإسلام والمسلمين، وتعلم رجاله في المدرسة العسكرية الإسلامية على يد قائدها ومعلمها الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أذِنَ اللهُ لهم بالقتال طبّقوا ما تعلموه في المعركة فكانوا مضرب الأمثال في الكفاية القتالية والشجاعة والعبقرية الحربية، وكانوا دائماً منصورين على أعدائهم بإذن الله.
وجملة القول أن تنظيم الإسلام لأمور الحرب قامت عليه وعلى نظرياته المدرسةُ العسكرية الإسلامية كما قام أيضاً جيش الإسلام بقادته ورجاله، ودخل الجيش الإسلامي »بوتقة الحرب« فماذا كانت النتيجة؟
انجازات العسكرية الإسلامية في التاريخ
إن أعظم الأدلة التي تبرز النتائجَ التي حققتها العسكرية الإسلامية شهادةُ التاريخ.. فلقد حققت الجيوش الإسلامية من المهام والانجازات ما أصبح من الحقائق التاريخية التي لا تنازع والتي نذكر منها على سبيل المثال:

أولاً – تأمين الدعوة وقيام الدولة الإسلامية:

وهذا ما حققه جيش الإسلام في عصر النبوة، الذي حارب فيه المسلمون أكثر من عدو، فقد حاربوا المشركين واليهود والروم، وكانوا في كل معاركهم يواجهون عدواً متفوقاً عليهم في العدد والعدة، لكن نصر الله كان حليفهم.

ثانياً – الفتوحات الإسلامية:

وفي أقل من مائة عام امتدت الفتوحات الإسلامية من حدود الصين شرقاً إلى شاطئ الأطلسي غرباً، وقد بلغ عدد القادة الفاتحين في أيام الفتح الإسلامي ستة وخمسين ومائتي قائد (256) منهم ستة عشر ومائتا (216) من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم مؤسس المدرسة العسكرية الإسلامية ومعلمها الأول، وأربعون من التابعين بإحسان رضي الله عنهم.

ولو أردنا أن نلخص ما ينطوي عليه هذا الانجاز العظيم في تاريخ المسلمين في كلمة واحدة فإننا نقول إن معناه الواضح هو أن »العسكرية الإسلامية« قد هزمت كلا من العسكرية الفارسية والعسكرية البيزنطية.

ثالثاً – إتقان الحرب البحرية:

ولقد أتقن العرب – أبناء البادية – بناء الأساطيل وفنون الحرب البحرية، وبلغوا درجة من الكفاية استطاعوا بها هزيمة أسطول بيزنطة وهو أعظم قوة بحرية في زمانهم. يقول ابن خلدون: »إن المسلمين تغلبوا على لجة بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط) وإن أساطيلهم سارت فيها جائية وذاهبة من صقلية إلى تونس، والرومان والصقالبة والفرنجة تهرب أساطليهم أمام البحرية العربية، ولا تحاول الدنو من أساطيل المسلمين التي ضريت[3] عليه كضراء الأسد على فريسته«.

رابعاً – القدرة على الحرب في جبهتين:

ومن أعظم إنجازات العسكرية الإسلامية أن الأمة الإسلامية الناشئة استطاعت أن تفتح جبهتين وأن تدير دفة الحرب في كل منهما بكل كفاية واقتدار، وكان ذلك في مواجهة أعظم قوتين عالميتين في ذلك الوقت هما فارس وبيزنطة.. وذلك مثل فريد في التاريخ الحربي لم تبلغه أقوى الأمم وأعظمها خبرة في الحروب..

فالمعروف من وجهة نظر فن الحرب أن الحرب في جبتهين من أصعب المواقف التي تواجه القيادة، فهي تنطوي على مشكلات بالغة الصعوبة والتعقيد وتتطلب كفاية إلى أقصى حد في الإدراة والتخطيط والقتال، ويكفي أن نعلم أن العسكرية الألمانية لم تهزم في الحرب العالمية الثانية (1939-1945) إلا حين فتح الحلفاء أمامها جبهة ثانية للقتال.

خامساً – اتقان كل أشكال العمليات الحربية:

ولقد أثبت المسلمون عملياً أنهم – طبقاً للمعايير المقررة في العلم العسكري – قادرون على القيام بجميع العمليات الحربية على اختلاف أشكالها ومستوياتها بكفاية عالية مثل الدفاع والهجوم والمطاردة والانسحاب والقتال في المدن والقرى ومهاجمة المواقع الحصينة والحصار واقتحام الأسوار وعبور الأنهار ومسير الاقتراب الطويل وأعمال الوقاية والحراسة وأعمال المخابرات والحرب النفسية ومفازر (دوريات) الاستطلاع والقتال والإغارة.. الخ.

ويقول كلاوزفير: »يمكن للقوات العسكرية المدربة جيداً أن تقوم بجميع الأعمال الحربية..«

سادساً – الحرب فوق مختلف أنواع الأراضي:

والمعروف أن أساليب القتال تختلف طبقاً لطبيعة الأرض التي يجري فوقها القتال، فهناك مثلاً فرق كبير بين القتال في الأراضي الصحراوية والقتال في الأراضي الزراعية وهكذا.. ويحتاج كل نوع من هذه الأراضي إلى إعداد خاص للقوات التي تقاتل عليه من حيث التدريب والتسليح وتشكيلات القتال..

ولقد أثبت المسلمون قدرتهم الفائقة على القتال فوق مختلف أنواع الأراضي، فلقد حاربوا فوق الأراضي الصحراوية والجبلية والزراعية، وحاربوا داخل المدن والقرى وواجهوا الموانع المائية كالأنهار فعبروها، هذا فضلاً على الحرب البحرية.

سابعاً – مواجهة كل أشكال التنظيم الحربي:

حارب المسلمون أشكالاً مختلفة من أشكال التنظيم الحربي، فقد واجهوا الجيوش المنظمة وغير المنظمة، وحتى الجيوش المنظمة لم تكن على نمط واحد من التنظيم، فبدهي أن تنظيم جيوش فارس كان مختلفاً عن تنظيم جيوش بيزنطة، فضلاً عن اختلاف نظريات كل جيش في إدارة المعارك. وعلى الرغم مما ينطوي عليه ذلك من مشاكل معقدة فإن المسلمين استطاعوا أن يقهروا أعداءهم على اختلاف تنظيماتهم.. كذلك أثبت المسلمون قدرتهم وكفايتهم في إدارة البلاد المفتوحة وهو أمر ينطوي على الكفاية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية بالإضافة إلى الكفاية العسكرية..

دراسة العسكرية الإسلامية واجب حضاري
أرأيت عظمة الإنجازات العسكرية الإسلامية؟

أليس في كل ذلك ما يستحق الدراسة على النحو الذي يتكافأ وقدر هذه الأمة وبطولاتها الخالدة؟

أليس من الأمور الغريبة التي تلفت النظر أن رجال العسكرية في كثير من الدول العربية والإسلامية لا يدرسون إلا ما يُنقل إليهم من الغرب أو الشرق من نظريات حربية وأعمال قادة وتاريخ حربي؟

إن أخطر ما يترتب على ذلك من آثار هو أن يرسخ في الأذهان الاعتقاد الخاطئ بأنه ليس للإسلام نظريات حربية، ولا أعمال قادة، ولا تاريخ حربي يستحق الدراسة، وهو أمر لا تخفى بواعثه على الفطن »والمؤمن كيّس فطن«، فإن ترسيخ هذا الاعتقاد هو جانب من الحرب الحضارية التي تستهدف طمس معالم الحضارة الإسلامية، ومنع قيامها من جديد، كما تستهدف طمس معالم العسكرية الإسلامية التي هي بحق أحد الجوانب الرائدة من حضارة الإسلام.

من أجل ذلك فإن واجب الأمة الإسلامية وهي تسعى نحو بناء نهضتها الحضارية الشاملة أن تتصدى لكل محاولة تستهدف تحويل أبنائها عن مقوماتهم الأساسية وقطعهم عن كل ما هو أصيل من حياتهم، وتحويل اتجاهاتهم بعيداً عن كل ما يتصل بالقيم والدين والأخلاق والكيان النفسي الذاتي.. يقول إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: »كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا ويقول: يا بني إنها شرف آبائكم فلا تضيّعوا ذكرها«.


--------------------------------------------------------------------------------

مجلة الأمة، العدد الرابع، ربيع الآخر 1401 هـ

--------------------------------------------------------------------------------

[1] لفظ »العقيدة العسكرية« تعريب كلمة (Doctrine) وهي لاتينية الأصل وتعني: »النظرية العملية والفسلفية«. وقد ورد في المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية أن »العقيدة« هي الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده.

[2] انظر كتابنا »المدخل إلى العقيدة والاستراتجية العسكرية الإسلامية« للتعرف على نظريات العسكرية الإسلامية.

[3] ضَرِيَ عليه: يعني لزمه أو أولع به. والمراد أن أساطيل المسلمين كانت دائماً تلاحق وتطارد أساطيل الأعداء.

رد مع اقتباس
  #27  
قديم 17-04-2005, 12:43 AM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

أمانة إعداد القوة بين السلف والخلف

بقلم اللواء الركن

محمد جمال الدين محفوظ


--------------------------------------------------------------------------------

في حجة الوداع قال الرسول القائد صلى الله عليه وسلم: »تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي: كتاب الله وسنتي.«

والعسكرية الإسلامية قامت على تعاليم كتاب الله وسنة رسوله القولية والعملية والتقريرية، فهي بذلك مما ينطوي عليه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم..

والحق أنه لم يترك نبي من الأنبياء أمته على مثل ما ترك محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من القوة والمنعة، مما يعد أمانة عظمى في أعناق المسلمين، عليهم أن يحملوها في كل عصر إلى أن تقوم الساعة.

فلقد شاءت إرادة الله عز وجل أن يلحق الرسول القائد صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى وقد أعد أمته لمواجهة أقوى تحديات عصرها وقهرها، ولعل أبرز تلك التحديات مواجهة أكبر قوتين عالميتين في ذلك العصر هما: فارس وبيزنطة، تلك المواجهة التي حدثت على الفور وفي عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

ولا بد لنا – أمام هذه الحقيقة البارزة من حقائق التاريخ- أن نحلل القدرة الدفاعية الإسلامية التي بناها الرسول القائد صلى الله عليه وسلم، وتركها أمانة في أعناق المسلمين من بعده إلى عناصرها الأساسية، ثم نتأمل فيما فعل المسلمون بها، لكي نستخلص الدرس والعبرة لحاضرنا ومستقبلنا، فالله تعالى يقول: »فاعتبروا يا أولي الأبصار« (الحشر: 2).

فمن عناصر تلك القدرة الدفاعية ما يلي على سبيل المثال:

1- جيش قادر على الردع وتحقيق الأهداف الاستراتيجية..

ليس من شك أن في الجيش الإسلامي في عصر النبوة قد حقق الهدف الاستراتيجي وهو تأمين الدعوة وقيام الدولة الإسلامية وتوفير الأمن والاستقرار لها لكي تؤدي رسالتها السامية لخير البشرية.

ولقد حدد الرسول القائد صلوات الله وسلامه عليه هذا الهدف منذ اللحظة الأولى من الصراع مع المشركين حين رفع يديه بالدعاء إلى ربه بعد أن نظم صفوف الجيش في بدر وقال: »اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلن تعبد في الأرض..« بهذا الوضوح والتحديد ربط عليه الصلاة والسلام برباط وثيق بين الدعوة وبين القدرة على الدفاع عنها وتأمينها، فكان من ذلك الهدف الاستراتيجي واضحاً ومحدداً.

وفي سبيل تحقيق هذا الهدف حارب المسلمون أكثر من ستين عملية من عمليات القتال قاد منها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه ثماني وعشرين غزوة، وقد واجه المسلمون –وهم قلة في العدد والعدة- في تلك العمليات أكثر من عدو، فقد حاربوا المشركين واليهود والروم.

وكان الردع هو جوهر الاستراتيجية الحربية للجيش كما يلي:

§ بإيقاع الرهبة في قلب العدو وإخافته من عاقبة عدوانه على المسلمين تطبيقاً للتوجيه القرآني: »وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم..« (الأنفال: 60) وللحديث: »نُصِرت بالرعب مسيرة شهر.« (من حديث البخاري). ودليل ذلك أن القتال لم ينشب إلا في تسع عشرة غزوة خوفاً من مواجهة قوة المسلمين.

§ وبقدرة الجيش علىالتعرف على نوايا العدو، وعلى الحركة السريعة لمواجهة الخطر وإجهاض تدابير العدو للعدوان، وقد قام الجيش بعدة عمليات من هذا النوع كان أبلغ دليل على نجاحها أن الأعداء كانوا يفاجأون بها، فيتركون أموالهم وديارهم للمسلمين (مثل غزوة بني سليم – ذي أمر – بحران – ذات الرقاع – دومة الجندل – بني المصطلق – بني لحيان).

2- جيش على مستوى عصره..

في فترة وجيزة لا تتجاوز سبع سنوات لحق جيش الإسلام الأول بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم بمقتضيات عصره من حيث تكوين القوة الضاربة والتنظيم والتسليح:

§ فلقد كانت الاستراتيجية العسكرية العالمية المعاصرة لعصر النبوة (فارس وبيزنطة) تقوم على أساس أن تشكل القوة الضاربة للجيش من الفرسان بنسبة الثلث تقريباً من مجموع قوته.

وكان جيش الإسلام في بادئ الأمر يفتقر إلى الفرسان، ففي أولى الغزوات مثلاً –وهي بدر – كانت لدى الجيش فرَسان فقط، فعُني الرسول صلى الله عليه وسلم بتدريب المسلمين على الفروسية وحثهم على اقتناء الخيول حتى قفزت قوة الفرسان إلى المعدل العالمي وهو الثلث، ففي آخر غزوة -وهي تبوك- كان عدد الفرسان عشرة آلاف في جيش قوامه ثلاثون ألف مقاتل.

§ وتطور تسليح الجيش بأن أضاف إلى أسلحته المنجنيق والعرادات والدبابات، وهي أسلحة خاصة بالحصار ودك الحصون والأسوار. فقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بعثة من اثنين من المسلمين إلى جرش في الشام فتعلما صنعة هذه الأسلحة، ثم استخدمها الرسول صلوات الله وسلامه عليه في حصار الطائف وخيبر.

§ وبهذا كان الجيش معداً لمواجهة جيوش فارس والروم فوراً ومن عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه كما ذكرنا.

3- مدرسة عسكرية كاملة..

وترك الرسول القائد صلى الله عليه وسلم مدرسة عسكرية كاملة لها مبادئها ونظرياتها في أسباب الحرب ودوافعها وآدابها، ونظرياتها في إعداد الأمة للحرب، وفي إعداد المقاتلين وإعداد القادة، وفي الاستطلاع والأمن ومقاومة الجاسوسية، ونظرياتها في الحرب النفسية والتدريب على القتال واقتصاديات الحرب [1]، وترك لنا أيضاً شهادة من التاريخ بأن الجيوش التي تطبق هذه المبادئ تصبح قوة لا تقهر.

4- جيل من القادة الخبراء بفن الحرب..

بلغ عدد قادة الفتوحات الإسلامية ستة وخمسين ومائتي قائد، كان منهم ستة عشر ومائتا قائد من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين تعلموا على يديه وفي مدرسته، وليس هذا فحسب، بل باشروا القيادة تحت إشرافه وتوجيهه بصور شتى، فعملوا تحت قيادته العليا قادة للوحدات الفرعية التي يتألف منها الجيش، وقادوا السرايا الحربية قيادة مستقلة، وشاركوا في التخطيط الحربي فأصبحوا خبراء في التخطيط والقيادة معاً [2]. والمعروف أن القادة الذين اكتسبوا خبرة عملية في الحرب يعدون من أثمن الثروات الاستراتيجية لأمتهم.

5- شخصية إسلامية قوية راسخة العقيدة..

ومن أهم ما ترك الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك البناء الشامخ للشخصية الإسلامية التي أسلمت وجهها لله وملآت قلبها بعقيدة الإيمان بوحدانية الله، وتخلقت بالأخلاق التي أمر بها سبحانه وتحررت من رق العبودية لغير الله..

ولقد نشأت هذه الشخصية في مجتمع إسلامي، قام أفراده بواجبهم نحو ربهم، وجمعتهم رحمة الأخوة وسماحة التآلف وكرم الإيثار، وباعوا أنفسهم وأموالهم صادقين مطمئنين لقاء ما أعطاهم ربهم من جنته ومغفرته ورضوانه، وملك حب الله قلوبهم فأحبوا من أحبه وعادوا من عاداه ولو كان أقرب الناس إليهم.. وهكذا تهيأ المناخ الصالح للشخصية الإسلامية لإظهار كل طاقاتها المدخرة فيها.

كيف حافظ أجدادنا على هذه الأمانة؟
ومن أهم ما ينفع المسلمين اليوم من دروس التاريخ أن يتأملوا فيما فعل أجدادنا الأوائل في تلك الأمانة التي تركها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والحق أن أجدادنا قد فعلوا ما هو أكثر من المحافظة عليها، فعملوا بسنة التطور التي نبهها إليها دينهم، لكي تبقى لجيش الإسلام قوة الردع في عصرهم وفي كل عصر، مدركين تمام الإدراك أن تخلف القوة الإسلامية عن مقتضيات عصرها، يفقدها القدرة على الردع وعلى إرهاب الأعداء.. ولنتخذ على ذلك مثلاً مما تم في عصر الخلفاء الراشدين:

1- تدريب الأجيال الجديدة على مبادئ المدرسة العسكرية الإسلامية:

ويكفي أن نذكر في هذا المقام ما روي عن زين العابدين بن الحسين بن علي رضي الله عنهم قال: »كنا نعلم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسم كما نعلم السور من القرآن«، وعن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم: »كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا ويقول: يا بني، إنها شرف آبائكم فلا تضيعوا ذكرها«.

2- تطوير الجيش:

فقد أخذ المسلمون بأسباب التقدم والتطور في الكفاءة القتالية للجيش، فأدخلوا على أسلحة الحصار مثلاً كثيراً من التحسين والتهذيب، وكثر حصارهم بها للمدن المحصنة ذات الأسوار العالية في حروب العراق والشام وفتح مصر، كما تطور الجيش أيضاً في التركيب التنظيمي وتشكيلات القتال وإدارة المعارك، ومن أمثلة ذلك نظام الكراديس [3] الذي ظهر في معركة اليرموك، ومن ذلك أيضاً وضع الديوان في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو نظام لتسجيل أسماء المسلمين وتحديد أرزاقهم وتدوين البيانات الخاصة بكل منهم مثل النسب والقبيلة والملامح واللون لكي يسهل استدعاؤه، وهو ما يعرف اليوم بنظام السجلات العسكرية ونظام التعبئة.. إلخ.

ولقد شهدد الإمبراطور البيزنظي ليو لجيش الإسلام بتطوره وملاحقته لعصره فنقل عنه فون كريمر في كتابه الشرق تحت حكم الخلفاء أنه قال: »إن الجندي العربي ما كان يفترق عن الجندي البيزنطي في المؤن والسلاح..« إلخ.

3- إضافة نظريات حربية جديدة..

وذلك نتيجة لخوض المسلمين أشكالاً جديدة من العمليات الحربية لم يألفوها في عصر النبوة، مثل عمليات عبور الأنهار والموانع المائية، وعمليات الحصار الطويلة، والمسير الطويل، وتأمين خطوط المواصلات والإمداد الطويلة، وإقامة المعسكرات والثغور والقواعد الحربية والإدارية، وإدارة شؤون البلاد المفتوحة في جميع المجالات.

4- اكتساب القدرة على إدارة الحرب في جبهتين في وقت واحد..

فلقد أثبتت القيادة الإسلامية كفاءة لا نظير لها في إدارة دقة الحرب في جبهتين استراجيتين في وقت واحد وفي مواجهة أكبر قوتين عالميتين في عصرهما هما فارس وبيزنطة، وذلك مثل فريد في التاريخ لم تبلغه أقوى الأمم وأوسعها خبرة بفنون الحرب، فالمعروف أن الحرب في جبهتين من أصعب المواقف التي تواجه القيادة، فهو تنطوي على مشكلات بالغة الصعوبة والتعقيد، وتتطلب كفاءة عالية جداً في التخطيط والسيطرة وإدارة العمليات، ويكفي أن نعلم أن الحلفاء في الحرب العالمية الثانية (1939-1945) لم يستطيعوا أن يهزموا العسكرية الألمانية إلا عن طريق فتح جبهة ثانية..

5- إنشاء الأسطول الحربي الإسلامي لأول مرة في التاريخ..

فقد اقتحم المسلمون بكل اقتدار مجالاً جديداً تماماً من مجالات الصراع هو الحرب البحرية فدخل السلاح البحري في الاستراتيجية العسكرية الإسلامية لأول مرة في التاريخ، ومن أجل ذلك أقام المسلمون دور الصناعة لبناء السفن الحربية، وأتقنوا فنون الحرب في البحار وعمليات الإبرار الحربي، وبلغت كفاءتهم في هذا المجال حداً أنهم انتصروا في المعركة البحرية على أساطيل بيزنطة التي كانت أعظم قوة بحرية في زمانها، فكانت هذه الأساطيل كما يقول ابن خلدون: »تهرب أما البحرية الإسلامية التي ضريت عليهم (أي لزمتهم وطاردتهم) كضراء الأسد على فريسته«.

6- إنزال فارس وبيزنطة عن عرش الفن الحربي..

فالمحصلة النهائية لإنجازات أجدادنا الحربية في عصر الفتوح هو انتصار العسكرية الإسلامية على كل من العسكرية الفارسية والعسكرية البيزنطية بكل ما وراءهما من تاريخ حربي طويل، وخبرة واسعة بفنون الحرب والقتال.

7- فتح الطريق لتأسيس الحضارة الإسلامية..

وهو فضل سجله التاريخ لأجدادنا الأوائل الذين جاهدوا في الله حق جهاده، واسترخصوا المال والنفس والولد في سبيل الله، فشقوا الطريق لتلك الحضارة التي أنارت الطريق للبشرية في ميادين العلوم الطبيعية والاجتماعية، ولولا ذلك لتخلفت مواكب الحضارة الحديثة عن الظهور.

المسلمون قوم لا يُقهَرون..

تحت هذا العنوان قال مونتجمري في كتابه الحرب عبر التاريخ:

»في غضون مائة سنة امتدت الدولة الإسلامية من بحر الأورال إلى أعالي النيل، ومن تخوم الصين إلى خليج بسكاي، ولم تكن هناك سوى قوة واحدة لديها القدرة على مقاومة المسلمين في ذلك الوقت وهي الإمبراطورية البيزنطية [4] بالرغم من فقدها الجزء الجنوبي الشرقي من إمبراطوريتها، وفي عام 636م حشد الإمبراطور البيزنطي جيشاً مكوناً من خمسين ألفاً ليقاتل به العرب، وكان جيشهم نصف عدد الجيش البيزنطي وبقيادة خالد بن الوليد، والتقى الجيشان عند اليرموك، وقد أسفرت المعركة عن هزيمة الجيش البيزنطي، وتشتت صفوفه ولاقوا حتفهم على أيدي أهل الصحراء، وأدى هذا إلى تقلص جبهة البيزنطيين حتى وصلت جبال طوروس، كما سقت الإسكندرية في قبضة عمرو بن العاص..«

وفي موضع آخر يقول مونتجمري: »كان العرب يندفعون نحو القتال، تحركهم أقوى دوافع الحرب ألا وهو الإيمان والعقيدة.. كانوا يؤمنون إيماناً راسخاً بالدعوة الإسلامية ويتحمسون لها ويغارون عليها، ويعتنقون مبدأ صلباً هو الجهاد في سبيل الله، وقد تغلغل في قلوبهم..«.

واجب المسلمين اليوم..

والمتأمل في حال المسلمين اليوم لا يمكنه أن يقول: إنهم حافظوا على أمانة إعداد القوة مثلما حافظ عليها أجدادهم عليها، ويكفي أن نتساءل على سبيل المثال:

§ هل لدى المسلمين اليوم القوة الذاتية القادرة على الردع وتحقيق الأهداف الاستراتيجية؟

§ وهل جيوش الأمة الإسلامية اليوم على مستوى عصرها من التطور والتقدم تنظيماً وتسليحاً وكفاءة للقتال؟

§ هل يدرس أبناء المسلمين اليوم في الكليات العسكرية مبادئ ونظريات العسكرية الإسلامية؟ أم أنهم يدرسون العلم العسكري نقلاً عن الغرب أو الشرق حتى أصبحوا مقطوعين عن مقوماتهم الأساسية الأصيلة؟

§ هل تملأ الروح الجهادية وحب الجندية قوب شبابنا اليوم؟ وهل يقبلون على العلم والعمل والانتاج باذلين أقصى ما لديهم من طاقات معنوية ومادية لبناء أمتهم وبناء قدراتها الدفاعية؟

هذه الأسئلة وعشارت غيرها لابد أن تدور في عقولنا وقلوبنا اليوم، لأن الإجابة عليها ترشدنا بسرعة وبصورة محددة إلى ما ينبغي عمله لحاضرنا ومستقبلنا.

ولا ينبغي في هذا المقام أن تغيب عنا الرؤية التاريخية، ففي التاريخ – وقد ذكرنا جانباً منه آنفاً – العبرة التي يسترشد بها، والتجارب التي ينتفع بها، ثم إن لنا من تعاليم ديننا ما يغنينا عن البحث عن نظرية تحقق لنا في عصرنا – وفي كل عصر – الأمن والسلامة، وبناء القوة التي تحمينا وتدفع العدوان عنا، وتعيد إلى أمتنا الإسلامية مكانتها اللائقة بها، وسابق عهدها: أمة مرهوبة الجانب، وخير أمة أخرجت للناس.


--------------------------------------------------------------------------------

مجلة الأمة، العدد 30، جمادى الآخرة، 1403 هـ


--------------------------------------------------------------------------------

[1] انظر كتابنا (المدخل إلى العقيدة العسكرية الإسلامية) للتعرف على نظريات المدرسة العسكرية تفصيلاً.

[2] راجع فصل »إعداد القادة« في المرجع السابق.

نظام الكراديس هو تركيب تنظيمي يقوم علىبناء وحدات متساوية في القوة من الفرسان والرماة، دون النظر إلى أصل أو نسب، وهو الأسلوب المعمول به في الجيوش النظامية.[3]

[4] إن إغفال مونتجمري لقوة فارس لا يخفى على الفطن، كما أن ذلك – من الناحية العلمية- تقصير من مؤرخ في تناول التاريخ بطريقة موضوعية، ثم إنه لا يمحو من صفحات التاريخ معارك القادسية والمدائن ونهاوند وغيرها من معارك فتوح العراق وإيران.






اشترك معنا

ضع بريدك هنا

رد مع اقتباس
  #28  
قديم 17-04-2005, 12:46 AM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

الهجرة النبوية

معناها وأهدافها

بقلم الأستاذ: نبيه عبد ربه


--------------------------------------------------------------------------------

يعتبر حادث الهجرة فيصلاً بين مرحلتين من مراحل الدعوة الإسلامية، هما المرحلة المكية والمرحلة المدنية، ولقد كان لهذه الحادث آثار جليلة على المسلمين، ليس فقط في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن آثاره الخيرة قد امتدت لتشمل حياة المسلمين في كل عصر ومصر، كما أن آثاره شملت الإنسانية أيضاً، لأن الحضارة الإسلامية التي قامت على أساس الحق والعدل والحرية والمساواة هي حضارة إنسانية، قدمت، ولا زالت تقدم للبشرية أسمى القواعد الروحية والتشريعية الشاملة، التي تنظم حياة الفرد والأسرة والمجتمع، والتي تصلح لتنظيم حياة الإنسان كإنسان بغض النظر عن مكانه أو زمانه أو معتقداته.

فسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم لا تحد آثارها بحدود الزمان والمكان، وخاصة أنها سيرة القدوة الحسنة والقيادة الراشدة قيادة محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وما نتج عن هذه الهجرة من أحكام ليست منسوخة ولكنها تصلح للتطبيق في كل زمان ومكان ما دام حال المسلمين مشابهاً للحال التي كانت عليها حالهم أيام الهجرة إلى يثرب.

وعلى هذا فإن من معاني الهجرة يمكن أن يأخذ بها المسلمون في زماننا هذا، بل إن الأخذ بها ضرورة حياتية، لأن الهجرة لم تكن انتقالاً مادياً من بلد إلى آخر فحسب، ولكنها كانت انتقالاً معنوياً من حال إلى حال، إذ نقلت الدعوة الإسلامية من حالة الضعف إلى القوة ومن حالة القلة إلى الكثرة، ومن حالة التفرقة إلى الوحدة، ومن حالة الجمود إلى الحركة.

فالهجرة تعني لغة ترك شي إلى آخر، أو الانتقال من حال إلى حال، أو من بلد إلى بلد، يقول تعالى: »والرجزَ فاهجرْ« (المزمل 5)، وقال أيضاً: »واهجرهم هجراً جميلاً« (المزمل 10)، وتعني بمعناها الاصطلاحي الانتقال من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وهذه هي الهجرة المادية، أما الهجرة الشعورية فتعني الانتقال بالنفسية الإسلامية من مرحلة إلى مرحلة أخرى بحيث تعتبر المرحلة الثانية أفضل من الأولى كالانتقال من حالة التفرقة إلى حالة الوحدة، أو تعتبر مكملة لها كالانتقال بالدعوة الإسلامية من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة.

فالهجرة المادية من بلد لا يحكم بالإسلام إلى بلد تحكمه شريعة القرآن ليست منسوخة، بل هي واجبة على جميع المسلمين إذا خشوا أن يفتنهم الذين كفروا في دينهم وعقيدتهم، لأن هدف المسلم في الحياة أن يعيش في مجتمع يساعده على طاعة الله والالتزام بأوامره وأحكامه، أو على الأقل لا يحارب بعقيدته، لأن الفتنة في الدين هي الفتنة الكبرى، فالله تبارك وتعالى يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب، ولكن لا يعطي الدين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، أو كمال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وتتم هجرة المسلم من بلد إلى آخر لعدة أهداف:

- فقد يهاجر المسلم فراراً بدينه وعقيدته، حتى لا يرده الحكام الكافرون إلى الكفر، كما فعل بعض مسلمي الجمهوريات الإسلامية حينما هاجروا من بلادهم فراراً من الشيوعية الملحدة. يقول تعالى: »يا عبادي إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون« (العنكبوت 56)، ويقول صلى الله عليه وسلم: »من فر بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبراً منها وجبت له الجنة وكان رفيقاً لأبيه إبراهيم.«

- وقد يهاجر المسلم فراراً من ظلم اجتماعي أو اقتصادي لحق به وخشي إن لم يهاجر أن يمتد ذلك الظلم إلى دينه، يقول تعالى: »والذين هاجر في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون« (النحل 41) وقال تعالى: »ومن يهاجر في سبيل الله يجدْ في الأرض مراغماً كثيراً وسعة، ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموتُ فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً« (النساء 100).

وروى الإمام أحمد عن أبي يحيى مولى الزبير بن العوام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »البلاد بلادُ الله والعباد عباد الله، فحيثما أصبت خيراً فأقم.« وقد توعد القرآن الكريم المسلمين الذين لم يهاجروا إلى المدينة بعد أن هاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما توعد الأعراب الذين آمنوا ولم يهاجروا إلى المدينة حرصاً على أموالهم وديارهم، فقال تعالى: »إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً« (النساء 98). وكانت نتيجة ذلك أن بعض هؤلاء فتن في دينه واضطر إلى إظهار التقية، ولكن هذه التقية كانت جائزة يوم أن لم تكن للإسلام دولة، أما بعد أن هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأقام فيها دولة الإسلام، فلم يعد لهؤلاء عذر، بل وجبت عليهم الهجرة، ولهذا نجد القرآن الكريم لا يفرض علىالمسلمين ولاية هؤلاء، لأنهم ليسوا أعضاء في المجتمع الإسلامي، وإذا كانت تربطهم بالمسلمين رابطة العقيدة، فإن نصرتهم تكون بناء على طلب منهم، يقول تعالى: »والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق« (الأنفال 72).

ويتحتم على المسلم أن يهاجر من أرض الشرك إلى أرض الإسلام حينما تقوم الدولة الإسلامية ويتكون المجتمع الإسلامي، والهجرة هنا حسب مقتضيات الحال، إذ أن الهدف هنا تدعيم الدولة الإسلامية الجديدة بقوى بشرية وتقنية وعلمية، ولكن تقدير هذا كله متروك لقادة هذه الدولة، لأن الهجرة العشوائية قد تترك آثاراً سلبية على هذه الدولة فتصبح عقبة في طريق قوتها وانطلاقها.

أما الهجرة الشعورية، فتعني اصطلاحاً انكار ومعاداة كل ما لا يرضي الله أو يخالف شريعة الله، ويظهر المسلم هذا العداء بكل الوسائل الممكنة، بالجوارح أو باللسان أو بالقلب، ويعمل على تغييرها بكل الامكانات المتاحة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: »من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان.« وأساس هذه الهجرة النية، ولهذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: »إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه«. ومن هذا نرى الشارع الحكيم قد حدد نوعين من الهجرة لا ثالث لهما: هجرة إلى الله، وهجرة لغير الله، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: »الهجرة خصلتان، إحداهما أن تهجر السيئات، والأخرة أن تهاجر إلى الله ورسوله، ولا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة.«

إذا كانت الهجرة المادية تجب في بعض الأحوال، فإن الهجرة الشعورية واجبة على كل حال وفي كل حين، لأنها تتعلق بهجر ما لا يرضي الله تعالى، وهي قائمة إلى أن تقوم الساعة. ورد في صحيح مسلم أن مجاشع بن مسعود السلمي قال: جئتُ بأخي أبي معبد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح، فقلت: يا رسول الله بايعه على الهجرة. فقال صلى الله عليه وسلم: »قد مضت الهجرةُ بأهلها« قال مجاشع: فبأي شيء تبايعه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »على الإسلام والجهاد والخير«. ويقول صلى الله عليه وسلم: »لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها«. أما قوله صلى الله عليه وسلم: »لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية« فالمراد بها هنا أن لا هجرة واجبة بعد الفتح، وقد زاد مسلم »وإذا استنفرتم فانفروا«.

والمسلم مكلف بأن يهجر كل ما حرم الله، وأن يهاجر إلى ما أحل اله، لأن هذا هو الهدف من استخلافه في الأرض لقوله تعالى: »وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون« (الذاريات 56)، وهل العبادة إلا طاعة الله فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر؟ ولهذا فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم باب الهجرة على مصراعيه أمام كل راغب فيه، فقال عليه الصلاة والسلام: »المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه«. (رواه البخاري) وفي رواية (ابن حبان): »المهاجر من هجر السيئات، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده«.

والمعنى الذي حدده المصطفى صلى الله عليه وسلم للهجرة معنى عام، تمتد جذوره إلى أعماق الحياة البشرية، فتقيمها على أسس قويمة، أسس تقوم على أساس الإصلاح والصلاح للحياة الإنسانية، والأمن والاستقرار للنفس البشرية، ولهذا كانت كلمات الحديث الشريف متكاملة في تحديد معنى الهجرة على أساس أنها عبادة ترتبط بعقيدة الإنسان وإيمانه، وعلى أساس أنها عملية بناء وإصلاح تأخذ بيد الإنسانية المعذبة إلى شاطئ الأمان والاطمئنان. فهجر ما نهى الله عنه يعني هجر السيئات والمعاصي والمفاسد القولية منها والفعلية، والتي هي الأساس في فساد البلاد والعباد، ولهذا أكد الحديث على (كف اللسان واليد) إذ أنهما الأعضاء التي تصدر عنها المفاسد القولية والفعلية، وإذا كانت هذه الأعضاء سلاحاً ذا حديثن يمكن أن يصدر عنها الخير كما يمكن أن يصدر عنها الشر، فإن إمكانية صدور الشر عنها أرجح من صدور الخير، ولهذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: »من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت« (متفق عليه).

واللسان اسم العضو الذي يصدر عنه الكلام، وعبر الحديث باللسان عن الكلام ليندرج تحته كل أنواع الكلام، وقدم الحديث اللسان على اليد لأن الإيذاء باللسان أسهل وأشد تأثيراً على النفس من الإيذاء باليد. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لحسان بن ثابت: »اهجُ المشركين فإنه أشق عليهم من رشق النبال«. ورحم الله من قال:

جراحاتُ السنانِ لها التئام ولا يلتام ما جرح اللسانُ

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: »إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب اللهُ تعالى بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه« (رواه مالك والترمذي).

واليد اسم العضو الذي تصدر عنه الأفعال، حسية كانت أم معنوية، فالحسية: كالضرب والسرقة والكتابة والاشارة. والمعنوية: كأكل مال الناس بالباطل، والاستيلاء على حقوق الآخرين بغير حق، واليد مظهر السلطة الفعلية، ففيها يحدث الأخذ والمنع، والبطش والقهر، فإذا أضفنا إلى هذين العضوين عضواً ثالثاً هو (الفرج) نجد أن الإسلام أقام الحياة الإنسانية على دعائم قوية من تقوى الله والخلق الحسن والأمان والاطمئنان. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: »تقوى الله وحسن الخلق«. وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال: »الفم والفرج« (رواه الترمذي وابن حبان والبيهقي).

وكان الهدف من الهجرة هدفاً عظيماً، وهو الانتقال بالرسالة الإسلامية من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة، والمؤرخون يقسمون سيرة الدعوة الإسلامية إلى مرحلتين متميزتين: العهد المكي الذي يمثل مرحلة الدعوة، والعهد المدني الذي مثل مرحلة الدولة. ولكنني أرى أن بين هاتين المرحلتين مرحلة انتقالية تمثل مرحلة الثورة، لأنها نقلت الدعوة الإسلامية نقلة هائلة سريعة من مؤحلة كان هدفها تربية الفرد المسلم إلى مرحلة أصبح هدفها تكوين المجتمع المسلم. ومن دعوة كانت مجرد عقيدة وفكرة إلى دعوة أصبحت شريعة ودولة، ومن حركة محدودة الآثار إلى حركة عالمية الأهداف، ومن دعوةأتباعها قلة مستضعفون إلى دعوة أتباعها سادة فاتحون. ولهذا كانت الهجرة ثورة عقائدية، بكل ما تحمله هذه العبارة من معان إيجابية، لأنها غيرت أحوال المسلمين تغييراً جذرياً، فنقلتهم من الضعف إلى القوة، ومن القلة إلى الكثرة، ومن الانحصار إلى الانتشار، ومن الاندحار إلى الانتصار، ولم تقف آثارها عند هذا الحد بل كانت ثورة على كل ما يخالف شريعة السماء وفطرة الإنسان السليمة، فشملت آثارها النواحي العقائدية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

لقد كان هدف المصطفى صلى الله عليه وسلم من هجرته إلى المدينة إيجاد موطئ قدم للدعوة لكي تنعم بالأمن والاستقرار حتى تستطيع أن تبني نفسها من الداخل وتنطلق لتحقيق أهدافها في الخارج، ولقد كانت هذا الهدف أملاً يراود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال مرة لأصحابه: »رأيتُ في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب ظني إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي يثرب«.

كما كان هدف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهجرة تكثير الأنصار وإيجاد رأي عام مؤيد للدعوة، لأن وجود ذلك يوفر عليها الكثير من الجهود ويذلل في طريقها الكثير من الصعاب، والمجال الخصب الذي تتحقق فيه الأهداف، والمنطلق الذي تنطلق من الطاقات، ولهذا حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث (مصعب بن عمير) إلى المدينة ليعلم الأنصار الإسلام وينشر دعوة الله فيها. ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وجود رأي عام مؤيد للدعوة في المدينة حثّ أصحابه إلى الهجرة إليها وقال لهم: »هاجروا إلى يثرب فقد جعل الله لكم فيها إخواناً وداراً تأمنون بها«.

كما كان هدف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهجرة استكمال الهيكل التنظيمي للدعوة، فقد كان وضعاً أن يكون الرسول القائد في مكة، والأنصار والمهاجرون في المدينة، ولهذا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون بين ظهراني أتباعه، لأن الجماعة بدون قائد كالجسد بلا رأس، ولأن تحقيق أهداف الإسلام الكبرى لا يتم إلا بوجود جماعة مؤمنة منظمة، تغذ السير إلى أهدافها بخطى وئيدة.

فما أحوج المسلمين اليوم إلى هجرة إلى الله ورسوله: هجرة إلى الله بالتمسك بحبله المتين وتحكيم شرعه القويم، وهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، باتباع سنته، والاقتداء بسيرته، فإن فعلوا ذلك فقد بدأوا السسير في الطريق الصحيح، وبدأوا يأخذون بأسباب النصر، وما النصر إلى من عند الله.

ويسألونك متى هو؟ قل عسى أن يكون قريباً.


--------------------------------------------------------------------------------

مجلة الأمة، العدد الأول، محرم 1401 هـ

رد مع اقتباس
  #29  
قديم 17-04-2005, 12:47 AM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

طرد المسلمين من إسبانيا
بقلم: روجر بواس[1]

Roger Boase

يلقي روجر بوس في مقاله هذا نظرة على النموذج الإسباني للتطهير العرقي والديني.


--------------------------------------------------------------------------------

لكل شيء إذا ما تم نقصان * فلا يغر بطيب العيش إنسان

وهذه الدار لا تبقي على أحد * ولا يدوم على حال لها شانُ

تبكي الحنيفيةَ البيضاءَ من أسفٍ * كما بكى لفراق الإلف هيمانُ

حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ * حتى المنابرُ ترثي وهي عيدانُ

حتى المساجدُ قد اضحتْ كنائسَ ما * فيهنَّ إلا نواقيسٌ وصلبانُ

يا من لذلةِ قومٍ بعدَ عزِّهُمُ * أحال حالهمْ جورُ وطغيانُ

بالأمس كانوا ملوكًا في منازلهم *واليومَ هم في بلاد الضدِّ عبدانُ

ولو رأيتَ بكاهُم عندَ بيعهمُ * لهالكَ الأمرُ واستهوتكَ أحزانُ

يا ربَّ أمٍّ وطفلٍ حيلَ بينهما * كما تفرقَ أرواحٌ وأبدانُ

وطفلةٍ مثل حسنِ الشمسِ * إذ طلعت كأنما ياقوتٌ ومرجانُ

يقودُها العلجُ للمكروه مكرهةً * والعينُ باكيةُ والقلبُ حيرانُ

لمثل هذا يذوبُ القلبُ من كمدٍ * إن كان في القلب إسلامٌ وإيمانُ


--------------------------------------------------------------------------------

هذه كانت الكلمات التي كتبها الشاعر " أبو البقاء الرندي" بعد وقوع إشبيلية في يد ملك كاستيل "فردناند الثالث"، وذلك في ديسمبر عام 1248.

فقد تم في ذلك الوقت الاستيلاء على العديد من المدن الأخرى ومن ضمنها بلنسية، مرسية،جيان، وقرطبة.وقد بدا أن نهاية إسبانيا المسلمة على وشك الحدوث.

ومع ذلك، فلم تقع مملكة غرناطة التي كان يحكمها المغاربة في يد "فردناند" و "إيزابيلا" إلا في عام 1492، ولم يتم طرد المسلمين الأخير إلا في القرن التالي ما بين عامي 1609 و 1610 .وهذا يعني أنه كان هناك عدد كبير من المغاربة المسلمين يقطنون في إسبانيا بعد بلوغ الثقافة الأندلسية أوجها والتي استمرت خمسمائة عام وذلك في القرن الحادي عشر.

وقد يكون الشاعر أبو البقاء قد تأثر كثيراً لمعاناة إخوانه في الدين، وذلك بعد سقوط غرناطة ، أو خلال فترة طرد المسلمين حيث ارتكب بحقهم كثير من الأعمال الوحشية: دمرت المنازل وهُجرت، وتحولت المساجد إلى كنائس، وأبعدت الأمهات عن أطفالهن، وسلبت ثروات الناس وتم إذلالهم، وتحول الثائرون المسلحون إلى عبيد.

وبحلول القرن السادس عشر أصبح المغاربة مواطنين إسبانيين، وكان بعضهم مسيحيين بالأصل، وكان العديد منهم مثل شخصية "ريكوت" وهو جار "سانشو بازا" في رواية "الدونكيشوت" (1605-1615) وطنيون لدرجة كبيرة، وكانوا يعتبرون أنفسهم مثل ذلك المغربي في تلك الرواية. إلا أنهم كانوا جميعاً ضحايا سياسة الدولة التي كانت مبنية على النزاعات العنصرية الدينية، والتي كانت يدعمها المجلس الملكي، والكنيسة، حيث كان طرد اليهود عام 1492 يمثل حادثة مماثلة شرعية في ذلك الوقت.

وحسب بنود المعاهدة التي أبرمت عام 1492، والتي نصت على السماح لرعايا الملك على الاحتفاظ بمساجدهم ومعاهدهم الدينية، ولهم حق استخدام لغتهم والاستمرار بالالتزام بقوانينهم وعاداتهم، إلا أن بنود تلك المعاهدة قد نقضت خلال السنوات السبع التالية. وقد حدث ذلك عندما جرى استبدال النهج التبشيري المعتدل لرئيس أساقفة غرناطة "هيرناندو دو تالفيرا" (1428-1507)، بالنهج التعصبي للكاردينال "سيزيزوس" (1518-1436) الذي قام بتنظيم اعتناقات جماعية للدين المسيحي، وقام بحرق جميع الكتب الدينية باللغة العربية، وجرى ذلك أثناء التمرد الأول للبوجراسيين[2] (1500-1499) وعقب اغتيال أحد نواب الكاردينال.

وهذا بالتالي منح العذر للملوك الكاثوليك لأن ينكثوا بوعودهم. وفي عام 1499 أجبر قادة الدين الإسلاميين في غرناطة على تسليم أكثر من 5000 كتاب تتميز بتجليدات زخرفية لا تقدر بثمن، فقد تمّ حرقها وبقي منها بعض الكتب الطبية فقط.

وبعد عام 1502 تم تخيير المغاربة في جنوب الأندلس، وبلنسية، وكاتالونيا، وأراغون بعد عام 1526 بين التعميد أو النفي. فكان التعميد بالنسبة للأغلبية هو الخيار الشكلي. وأصبح المسلمون الإسبان فيما بعد المسيحيين الجدد (نظريا) وهم بذلك أضحوا خاضعين للسلطة القضائية للمحكمة الكاثوليكية التي يترأسها البابا "سكستوس" السادس في عام 1478.

إلا أن معظم هذا الاعتناق الديني كان بالاسم فقط: إذ كان المسلمون يمارسون الطقوس الدينية المسيحية التي لا وزن لها، إلا أنهم استمروا في تطبيق الدين الإسلامي سراً. فمثلاً، بعد أن يتم تعميد الطفل، كان يؤخذ إلى البيت ويتم تغسيله بالماء الحار لإبطال قدسية التعميد.

كان المسلمون الأوائل قادرين على أن يحيوا حياة مزدوجة بضمير حي، نظرا لوجود بعض الأحكام الدينية الإسلامية التي تجيز للمسلمين الرازخين تحت وطأة الإكراه أو من كانت حياتهم في خطر، التظاهر بالتقية حفاظاً على حياتهم.

واستجابة لطلب من المسلمين الإسبان، أصدر المفتي الأكبر لمدينة وهران[3] أحمد بن أبو جمعة حكما بجواز احتساء المسلمين الخمر، وتناول لحم الخنزير، أو القيام بأي فعل محرم إذا أجبروا على القيام بذلك ولم يكن في نيتهم فعل هذا العمل الآثم. كما أفتى أيضا بجواز إنكار الرسول محمد بألسنتهم شريطة أن يكنوا له في الوقت نفسه المحبة في قلوبهم، إلا أنه لم يوافق جميع العلماء المسلمين على هذا الإفتاء.

وبذلك، فإن سقوط غرناطة كان بمثابة المرحلة الجديدة في العلاقات بين المسلمين والمسيحيين .

لقد كان حال المسلمين تحت الحكم المسيحي وخلال فترة القرون الوسطى، يشابه حال المسيحيين الذين كانوا تحت حكم المسلمين[4]: حيث كانوا ينتمون إلى أغلبية محمية تحافظ على قوانينها، وعاداتها مقابل دفع الجزية. وبالنسبة للوضع القانوني لليهود والمسلمين تحت الحكم المسيحي، فلم يكن على أساس كتبهم المقدسة بل كانوا يخضعون إلى نزوات الحكام، وإلى تحيزات عامة الناس ومعارضة الرهبان.

وقبل اكتمال فترة إعادة الاستيلاء، كان من مصلحة ملكي "أراغون" و "كاستيل" احترام تلك القوانين والاتفاقيات.

ومع ذلك ، نرى الآن أن إسبانيا لم تصبح نظريا على الأقل أمة مسيحية بصورة كاملة، وإنما هناك تماثل أيضا من حيث نقاء الإيمان مع صفاء الدماء ، بحيث صنف جميع المسيحيين الجدد أو المتحولين عن دينهم ، سواء أكانوا من أصل إسلامي أم يهودي، صنف هؤلاء بالمارقين المتسترين.

وبما أن المغربي عضو في الأقلية المقهورة ذات البيئة الثقافية الأجنبية، فقد أصبح هذا المغربي "مغربيا ضعيفا"، وأضحى كل مظهر من مظاهر حياته : لغته، ملبسه، وعاداته الاجتماعية يحكم عليها بأنها غير حضارية و وثنية. فالفرد الذي يرفض احتساء الخمر ، أو تناول لحم الخنزير قد تتهمه المحكمة الكاثوليكية بأنه مسلم، وتعتبر المحكمة الكاثوليكية والرأي العام أن تصرفات مثل تناول "الكوسكس"، واستخدام الحناء ، و رمي الحلوى خلال حفلات الزفاف، والرقص على إبقاع الموسيقى البربرية، كل ذلك يعتبر حسب نظرهم عادات غير مسيحية، وعلى الفرد أن يعاقب نفسه تكفيراً عن خطيئته.

وبالنسبة للمغاربة الذين كانوا مسيحيين أصليين، فقد كانوا يعتبرون كمواطنين من الدرجة الثانية، وكانوا يتعرضون للنقد من قبل المسلمين والمسيحيين على حد سواء. وعلى الرغم من أن إطلاق اسم Morisco على المغربي يعتبر لفظا ينتقص من قدره، إلا أن المؤرخين يرون أن هذا الاسم مناسباً لتمييز العرب أو المغاربة الذين بقوا في إسبانيا بعد سقوط غرناطة.

قام "فيليب الثاني" في عام 1567 بتجديد مرسوم لم يتم تنفيذه بإحكام من قبل. وهو ينص على عدم شرعية استخدام اللغة العربية، وحظر الدين الإسلامي واللباس والعادات الإسلامية. وقد صدر هذا المرسوم في فترة التمرد الثانية للبوجراسيين (1568-1570) والذي بدا أنه قام بمؤامرة سرية مع الأتراك. وتم القضاء على الانتفاضة بوحشية من قبل نبيل النمسا "الدون جوان".

وكان من أكثر الأعمال الوحشية التي ارتكبها هو تدمير مدينة "غاليرا" وحتى شرق غرناطة ومحوها تماماً، حيث قام بمذبحة راح ضحيتها 2500 امرأة وطفل، وإلى تشتيت شمل حوالي 80000 مغربي متواجدين في غرناطة والذين ذهبوا فيما بعد إلى المناطق الأخرى من إسبانيا، واستقر المسيحيون القدامى، وهم من شمال إسبانيا، في مدنهم.

وبحلول عام 1582، اقترح مجلس دولة الملك فيليب الثاني فكرة طرد المسلمين، ورأى المجلس أن ذلك هو الحل الوحيد للصراع القائم بين الجاليات، على الرغم من وجود بعض المخاوف من حدوث حالة تردي اقتصادي مؤذ حيث سيفتقَد إلى المهارة الحرفية، وسيكون هناك نقص في الخبرة والقوة البشرية العاملة في الزراعة.

وبما أن هناك معارضة من قبل بعض النبلاء، ونظرا لأن الملك كان مشغولاً بالأحداث العالمية، فإنه لم يتم اتخاذ قرار بهذا الشأن حتى عام (1609-1610) حيث أصدر فيليب الثالث (1626-1598) مرسوم الطرد.

وقد قامت الكنيسة بسنّ القوانين الملكية الخاصة بالمسلمين بكل مراحلها. فقد أصبح "جوان دوربيرا" (1611-1542) وهو كبير رئيس الأساقفة والذي كان في البداية يؤمن إيماناً راسخاً في فعالية العمل التبشيري، أصبح في أيامه الأخيرة المؤيد الرئيسي للطرد. وقد قال في خطبة دينية في 27 سبتمبر عام 1609 أن "الأرض لن تزدهر ثانية مالم يتم طرد هؤلاء الزنادقة".

وتغير أيضا موقف دوق "ليرما"، وهو الوزير الأول للملك فيليب الثالث (1618-1598)، عندما تمت الموافقة بمنح لوردات بلنسية أراضي المسلمين المطرودين، وذلك تعويضاً عن خسارتهم لسفنهم.

وتم بالإجماع المباشرة بتطبيق قرار الطرد من قبل مجلس الدولة، وذلك في 30 يناير عام 1608، على الرغم من أنه لم يتم التوقيع الفعلي على المرسوم من قبل الملك إلا في الرابع من إبريل عام 1609. وتم إعداد أسطول السفن الشراعية الإسبانية سراً، وانضم إليه فيما بعد العديد من السفن التجارية الأجنبية وقد جاء البعض منها من إنجلترا.

وفي الحادي عشر من سبتمبر، أعلِن في بلدة بلنسية عن قرار الطرد، و غادرت أول قافلة من دانية عند حلول الظلام ، وذلك في الثاني من أكتوبر ووصلت إلى وهران في أقل من 3 أيام.

وتسلم مسلموا أراغون وقشتالة وجنوب الأندلس، و "اكستير مادورا" أوامر الطرد خلال فترة السنة التالية. واستقرت أغلبية المهاجرين المطرودين في المغرب، أو على الساحل البربري وخاصة في وهران، تونس، تلمسان، تطوان، الرباط، وسَلا.

وقد سافر العديد منهم براً إلى فرنسا، إلا أنهم أجبروا على الهجرة إلى إيطاليا، وصقلية، أو اسطنبول إثر اغتيال "هنري" ملك "نافار" على يد "رافيلاك" وذلك في مايو عام 1610.

هناك تضارب شديد حول عدد سكان المغاربة. فقد قدر عالم الديموغرافيا الفرنسي "هنري لابيري"، وذلك من خلال تقارير الإحصاء الرسمية للسكان، ومن خلال قوائم المسافرين على متن السفن، أن هناك حوالي 275000 مسلم إسباني قد هاجروا خلال السنوات 1614-1609 من مجموع 300000 مسلم إسباني.

ولا يتساوى هذا التقدير المعتدل مع الروايات المعاصرة العديدة التي تقدر عدد المسلمين بحوالي 600000 مسلم، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن العدد الكامل لسكان إسبانيا في ذلك الوقت كان بحدود سبعة ملايين ونصف المليون نسمة فقط، فهذا يشكل بحد ذاته نقصاً حاداً في القوة البشرية المنتجة، وفي ريع الضرائب.

وفي مملكة بلنسية التي فقدت حوالي الثلث من سكانها ، فقد هُجرت نصف قراها في عام 1638.

وهناك تضارب مماثل حول عدد المسلمين الذين قتلوا خلال التمرد المسلح، أو أثناء رحلتهم إلى المنفى. وأفاد السيد "بيدرو أزنار كاردونا" الذي برّر في بحثه مسألة الطرد والذي نشر في عام 1612، أنه توفي أكثر من 50000 مسلم، وذلك بين شهري تشرين الأول/أكتوبر 1609 وتموز/يوليو 1611 أثناء محاولتهم مقاومة طردهم، في حين أنه توفي أكثر من 60000 مسلم أثناء رحيلهم خارج البلاد سواء براً، أم بحراً ، أو على أيدي إخوانهم في الدين بعد أن تم إنزالهم على الساحل الشمالي الإفريقي

وإذا ما كانت هذه الأرقام صحيحة، نجد أن أكثر من سدس المسلمين قد أبيدوا خلال فترة السنتين. وقد أشار "هنري تشارلز لي" بعد دراسة المصادر المعاصرة أن نسبة وفاة المسلمين تقع ما بين ثلثي و ثلاثة أرباع مجموع عددهم.

استغل "جوان دو ريبيرا" العامل الديموغرافي كأحد الحجج المؤكدة في تأييد مسألة الطرد. و حذر "فيليب الثالث" أنه مالم يتخِذ إجراءً سريعاً، فقد يجد المسيحيون الإسبان أنفسهم عاجلاً أنهم أقل عدداً من المسلمين، حيث أن المغاربة يتزوجون ولديهم أسر كبيرة، في حين أن ثلث أو ربع المسيحيين غير متزوجين، وذلك بعد دخولهم في خدمة الكنيسة الكاثوليكية، أو بسبب انخراطهم في الخدمة العسكرية.

وأفاد "ريبيرا" أن كل ما يفكر به المسلمون هو الزيادة والحفاظ على نسلهم، في حين أن اعتدالهم في المأكل والمشرب يطيل من أعمارهم. ومما زاد من مخاوف "ريبيرا" هو الإحصاء السكاني الذي أجري لسكان بلنسية والذي أشرف عليه هو شخصياً في العام نفسه، والذي أظهر أن عدد المغاربة قد ازداد بنسبة الثلث.

وخلال اجتماع عقد لمجلس الدولة في كانون الأول/يناير 1608، عزا الكوماندور "دوليون" انخفاض عدد السكان المسيحيين الأصليين إلى كرههم لتحمل الأعباء الاقتصادية للزواج في وقت ترتفع فيه تكاليف الحياة. كما حذر أيضا من أن المسلمين سيتمكنون عاجلاً من تحقيق أهدافهم بكل سهولة بسبب ازدياد عددهم وذلك دون اللجوء إلى استخدام السلاح أو تلقي مساعدة من الخارج.

وحانت اللحظة المناسبة لاتخاذ عمل صارم إزاء هذا الموضوع، بسبب انشغال تركيا بالحرب، وضعف كل من فارس ( إيران أو شمال إفريقيا) من جراء تفشي مرض الطاعون والجفاف والحرب الأهلية.

ففي ذلك الحين أفاد كونت "ألبا دوليستَ"، من خلال مزيد من التحريف لمسألة الديموغرافية، لو يرسل الملك، برحمته، المسملين إلى شمال إفريقيا فإن ذلك يكون بمثابة ضرب من أنواع الحكم عليهم بالموت، لأنهم إنْ لم يموتوا بسبب الجفاف أو الجوع فإنهم سيصبحون عقماء.

نجد في مخيلة العديد من الناس أن مسألة خصوبة المسلمين لها علاقة بالتعاليم الدينية الإسلامية بالنسبة للانغماس في الشهوات واستباحة المحرمات. و يعزى فشل الكنيسة في جهودها التبشيرية – كما يقولون- إلى موقف الإسلام من المتعة الدنيوية، والحساب في دار الآخرة. وجسّد المسلمون إثم الطبيعة البشرية فيما بعد بطريقة رومانسية في تخيلاتهم للمرأة الشرقية. إلا أنهم كانوا عرضة لخطيئة "الأنا العليا" مثل الغرور، النفاق، المكر، الجشع، و اغتنام الفرص، وتعزى كل هذه الصفات إلى اليهود.

إن المتعصبين لن يترددوا في استخدام الأنماط المماثلة لتبرير كرههم للمسلمين، وهذا أمر لا ريب فيه بالنسبة للعديد من الكتّاب الإسبان في القرن السابع عشر الذين يصفون المغاربة بأنهم كسولين، إلا أنهم كادحون، وغير مسرفين ولكنهم فاسقون ، وبخلاء وفي الوقت نفسه مبذرون، وخونة ، إلا أنهم محاربون أشداء، وجاهلون وحريصون على التعلم كي يتفوقوا.

وكما رأينا أن هناك أسبابا حقيقية للخوف والغيرة من المغاربة: فعدد سكانهم يتزايد بسرعة، فأصبح البعض منهم تجاراً وأصحاب محال ناجحين، على الرغم من محاولات إقصائهم عن هذه المهن، وهم يضربون مثلاً رائعاً في سلوكهم في التجارة والاقتصاد في الإنفاق والعمل المضنين، وتعمل الأغلبية منهم ظاهرياً وفقاً للمتطلبات الدينية المفروضة عليهم، إلا أنهم استمروا –عن طرق الحيلة- بالاحتفال بأعيادهم وبتطبيق الشعائر الدينية الأساسية الإسلام.

وقد أدى رفضهم للتعاليم الداعية للتخلي عن طابعهم الديني والثقافي إلى أن يكرههم العديد من المسيحيين القدامى. فلم تكن هناك محاولة جادة لفهم ثقافة و دين المسلمين.

إن أية روايات يشوبها تشويه سمعة الإسلام، وأي تلميحات بإهانته، و أي تحريف لإحدى حقائقه، كان يعتبر مقبولاً، إذ كان يخدم ما يعتبره هؤلاء المسيحيون هدفاً جديراً بالثناء عليه لتشويه صورة الإسلام. كان مفهوم التنوع الثقافي يعتبر غريباً، واستيعاب هذا التنوع غير مقبول على نحو متساو.

تتباين معاناة المغاربة بشكل كبير من منطقة إلى أخرى. فقد سادت في بعض أرجاء إسبانيا علاقات مميزة بين المسيحيين القدامى والجدد. وقد أظهرت دراسة مفصلة أجراها "فيلاروبيا" في "لامانشا" –والتي يشكل فيها المسلمون نسبة 20% من السكان، ويمتلكون أفضل المزارع وقد اندمجوا ضمن المجتمع هناك- أظهرت أن جيران المسلمين من المسيحيين القدامى كانوا يقومون بحمايتهم من الزيارات غير المرغوب بها من قبل مفتشي الحكومة. و قد استطاع العديد من أؤلئك الذين تم طردهم من العودة ثانية إلى إسبانيا وقطع مئات الأميال للوصول إلى وطنهم.

ولم يتم سرد القصة الكاملة للمعاناة التي تحمّلها المغاربة: كيف وصل أولئك الذين نجوا بحياتهم إلى بلادهم، وهم يعانون من الجوع والحرمان لأن اللصوص والمحتالين سلبوا منهم المال وضرورات الحياة التي سمح لهم بأخذها معهم، وكيف أن الذين سافروا براً إلى فرنسا قد أرغموا من قبل المزارعين أن يدفعوا مالاً إذا شربوا من نهر، أو جلسوا تحت ظل شجرة، وكيف حاول الآلاف منهم المقاومة، وأن الذين نجوا بحياتهم كانت خاتمتهم أنهم أصبحوا عبيداً في السفن، وكيف كان أؤلئك الذين ينتظرون الصعود إلى السفينة جوعى بحيث أنهم وافقوا على بيع أطفالهم مقابل الحصول على الخبز، وكيف كانت السياسة الرسمية للكنيسة هي فصل الأطفال المسلمين عن والديهم.

وكان هدف "جوان دو ريبيرا" منذ البداية والذي صادق عليه مجلس الدولة في الأول من كانون الثاني/ديسمبر عام 1609، أن يبقى الأطفال الذين كانت أعمارهم بين العاشرة أو أقل في إسبانيا ليقوم الرهبان أو أي أشخاص آخرين موثوق بهم بتعليمهم، حيث يقومون بالإشراف عليهم حتى بلوغهم سن الخامسة والعشرين، أو الثلاثين مقابل تأمين المسكن والطعام والملبس لهم، وأن يسلم الأطفال الرضع إلى المرضعات المسيحيات القدامى حسب الشروط السابقة الذكر.

وفي الشهر التالي تم تخفيض سن الأطفال من عشر سنوات إلى خمس سنوات أو أقل من ذلك. وجرى تنفيذ هذه السياسة بشكل جزئي، إلا أنه ثبت أنه من المستحيل تنفيذها بشكل كامل. وبدا أنه فقِد حوالي 14000 طفل مسلم - إذا افترض أنه كان لكل أسرة طفلان – من مجموع المسلمين الذين ركبوا سفينة "اليكانت" في الأندلس وذلك في فترة ما بين السادس من تشرين الأول/أكتوبر ، والسابع من تشرين الثاني/نوفمبر عام 1609.

وحسبما جاء في الويثقة المؤرخة في 17 إبريل عام 1610، فقد أرسل من مملكة بلنسية حوالي 1832 من الصبية والفتيات المسلمين وأعمارهم ما بين السابعة أو أدنى- وكان ذلك ضد رغبة أوصيائهم- إلى قشتالة لخدمة الأساقفة و كبار قوم المملكة.

وفي تموز/يوليو عام 1610، أوصت الكنيسة بأن يتم بيع جميع الأطفال المسلمين من هم فوق سن السابعة الموجودين في مملكة بلنسية إلى المسيحيين القدامى بشكل دائم، وهم: أيتام المتمردين، والأطفال الذين استحوذ عليهم الجنود وآخرين لم يفصح عن هويتهم، كانوا يظنون أنهم بذلك يفعلون الخير.

وأقر العلماء اللاهوتيون الذين وقعّوا على هذه الوثيقة بأن الرق لم يبرر أخلاقياً فحسب، بل هو مجدٍ من الناحية الروحية، أي أن هؤلاء الأطفال من غير المحتمل أن يصبحوا مرتدين عن دينهم، بما أن أسيادهم ضمنوا بقاءهم كرومان كاثوليك، وأن العبيد نادراً ما يتزوجون، فهذا منهج آخر للتخلص من "العرق الشرير" في إسبانيا.

فما هي أهمية تحديد مسألة السن؟ كان يعتقد أن الطفل إذا تجاوز سن السادسة أو السابعة فإنه يبدأ في فَقْد براءته، ويصبح من الصعوبة تلقينه تعاليم مذهب ما، في حين أن الطفل الأصغر سناً لا يدري شيئاً عن أصوله. و جرى تبرير هذه السياسة بأن الأطفال الأبرياء الذين تم تعميدهم كمسيحيين ينبغي عدم معاقبتهم بسبب آثام آبائهم، مع أنه ذلك يعتبر تناقضاً، لأن مبدأ توارث الخطيئة مقبول كمبرر لطرد جميع البالغين سواء أكانوا مسيحيين أم لا.

بالإضافة إلى ذلك، قيل أن طرد الأطفال مع والديهم غير النصرانيين هو بمثابة التأكيد على أنهم مسلمون، وكان لزاماً على الأطفال المسلمين ألا يتلقوا تعليماً يفوق طبقتهم الاعتيادية، وبذلك يتم عزلهم عن الطلاب الذين يتهيئون لمنصب الكهانة، ونجد أن هؤلاء الأطفال المسلمين تتم تربيتهم من قبل الحرفيين، وعمال المزارع، وبالتأكيد كان لا يسمح لهم بدراسة الأدب. وبهذه الطريقة كان يؤمل أن تمحى ذكريات الإسلام في إسبانيا للأبد. وقد أعجب "فيليب الثالث" إعجابا شديداً بهذه النقطة.

لقد كتِب الكثير عن هجرة اليهود الإسبان الجماعية في عام 1492، أو عن المعاناة التي لاقاها العديد من اليهود المتحولين الذين لاقوا معاناة من قبل المحكمة الكاثوليكية، إلا أنه لم يلق المسلمون الإسبان المعاملة نفسها.

ترتبط في أذهان معظم الناس أن المحكمة الكاثوليكية الإسبانية تقوم باضطهاد اليهود، فلم يعرف كثير عن تعذيب المسلمين من قبل المحكمة، وأنهم كانوا ضحية للمفهوم المعادي للسامية.

واتهمت المحكمة الكاثوليكية حوالي 12000 مسلم بتهمة الارتداد عن المسيحية أي بنسبة قدرها 50%، قبل أن يتم طردهم بحوالي 30 سنة.

ولم يتجل التعصب الديني والعنصري في أي مكان كما تجلى في تقارير اجتماعات مجلس دولة الملك "فيليب"، وكذلك في الكتب التي ألفت وذلك من أجل تبرير الحاجة إلى سياسة الطرد. و يلمس المرء في تلك المؤلفات التي كتب معظمها رهبان محبطون تبشيريون من الدومنيك، تعصباً لاهوتياً غير أصلي مدعوماً بحوادث سابقة من الإنجيل وهي محاولة "تهويد" الإسلام، ووصف المسيحيين الإسبان القدامى أنهم "العرق المختار" المنشغلون في حرب صليبية لاستعادة "الأرض الموعودة" من محمد.

فقد ادعى أحد المؤلفين بأن النبي ما هو إلا ثمرة علاقة زنى بين والدته وعمه، وكلاهما –كما ادعى- يهوديان، وذلك تحقيقاً للنبوءة القائلة بأن المسيح الدجال سوف يولد لأم غير طاهرة.[5]

من السخرية أنه لم يستشهد فقط المدافعون عن سياسة الطرد الجماعي للمغاربة بنصوص العهد القديم التي استخدمت لدعم نظرية أن فلسطين هي الأرض اليهودية الموعودة، وإنما أيضا استشهد بتلك النصوص اللاهوتيون المعادون لليهودية وذلك تأييداً للحاجة إلى قوانين لتنقية الدماء.

وقد اعتبر هؤلاء المؤلفون الإسبان المسيحيين القدامى كوريث روحي لأطفال إسرائيل، وشبهوا الملك فيليب الثالث بإبراهيم، و موسى و الملك داود، وأطلقوا عليه اسم "إبراهيم الثاني" وأفادوا أنه [يعني النبي إبراهيم][6] كان ملزماً بطرد ابنه غير الشرعي، أي العرب المسلمين، أحفاد "هاجر" الأمَة المصرية.

وكانت أفضل النصوص الواردة من الإنجيل التي يفضلونها هي رسالة الله إلى موسى التي سلمها للإسرائيليين، عندما كانوا على وشك الدخول إلى الأرض الموعودة والتي كانت كما يلي: "إنكم لن تدعوا أحداً على قيد الحياة في مدن تلك الأمم التي منحها الله هذه الأرض، إنكم سوف تبيدون الحثيين، والعموريين، والكنعانيين، وأهالي بير زيت، وحيفا و... كما أمركم الله ، بحيث لا يعلمونكم أن تقلدوا الأفعال البغيضة التي قاموا بها إزاء آلهتكم وبذلك يجعلونكم ترتكبون الآثام ضد إلهكم .."

وقد استشهد اليهود بهذا النص الذين كانوا يقودون حملة لتوسع إسرائيل الكبرى الممتدة من الفرات وحتى البحر الأحمر، وقد استخدم هذا النص أيضا من قبل المتطهرون The Puritans في شمال أمريكا في القرن السابع عشر، وذلك لتبرير المجزرة التي جرت ضد سكان أمريكا الأصليين.

وعقب هذا التشابه اليهودي-المغربي، أوضح أحد الشعراء المعاصرين حول مسألة الطرد الجماعي للمغاربة فأفاد بما يلي: سوف يغادر المغاربة أرض إسبانيا المقدسة مغادرة لا عودة بعدها، وسيعودون إلى مصر أرض جهنم.

وقد اقترح الراهب البرتغالي الدومنيكي "داميان فونسيكا" بأن الله كان يتوقع من جلالة الملك الكاثوليكي أن يبذل سعيا حثيثاً في تهدئة العقاب الإلهي. وقد استخدمت هذه الجملة في عام 1611 وهي ( المحرقة المقبولة).

ويعتبر هؤلاء المعاديون للسامية أن اليهود ينحدرون من يهوذا الذي خان المسيح وليس من يهوذا ابن يعقوب. ولم يعترفوا بأن عيسى يهودي أرسله الله ليعظ نعاج بيت إسرائيل التائهة. ونتيجة للقدر الذي كتبه الله لهم، لم يعد اليهود شعب الله المختار، وورثوا خطيئة قتل الإله فحكم عليهم أن يتيهوا في الأرض.

إن أبسط طريقة للحط من قدر ما تبقى من أثر للعرب الإسبان هو تصوير الإسلام على شكل بدعة يهودية مزيفة. فاقترح القسيس الملكي" جيم بليدا" ، وهو من المجادلين المعاديين للمسلمين ـ اقترح أن الغزو الإسلامي لإسبانيا ما كان إلا بمثابة العقاب الإلهي لسياسة الملك" ويتزا" (698-710) المؤيدة لليهود، حيث أنه أبطل المراسيم التي أصدرها والده عن طريق إعتاق اليهود من الرق، و رد أراضيهم وامتيازا تهم إليهم.

وقد استشهد بذلك كحادثة سابقة شرعية جرى تطبيقها على المسلمين، وذلك في الاجتماع الذي عقده مجلس الدولة في 30 كانون الأول/يناير 1608. وعلى أية حال، كان الحدث التاريخي المباشر هو طرد اليهود في عام 1492.

وفي شهر إبريل من عام 1605، حث "بليدا" فيليب الثالث إلى أن يحذو حذو سلفه الملك "فرديناند"، والملكة " إيزابيلا" الذين أقنعهما "فيراي دو تركومات" بطرد اليهود من مملكتهما، وأن يقوما بالفعل نفسه إزاء المغاربة إذا رفضوا عملية التعميد، وأضاف بأن الله قد كافأ أسلافهم الكاثوليك نظراً لحماسهم للدين المسيحي فمنحهم العالم الجديد.

إن الكثير من التوبيخات القاسية التي وجهها "بيلدا" و مجادلون آخرون إلى المسلمين قد وجهت سابقاً إلى اليهود. وقيل عن المسلمين واليهود أنهم يتوارثون ارتكاب الآثام، وأنهم دخلاء على المجتمع، ولا يمكن إصلاح إلحادهم المتأصل، وأن فسقهم الراديكالي هو بمثابة العدوى السريعة الانتشار، والتي يجب القضاء عليها.

لقد وُصِفَ "فيليب" الثالث بأنه "جالينوس"[7] كاثوليكي، وعهد إليه مهمة تطهير إسبانيا من الداخل من السموم والفساد.

وقد دفعت إسبانيا الثمن غاليا لحرمان المسلمين واليهود ولفترة طويلة من هويتهم الثقافية، إلا أنه منذ وفاة "فرانكو" عام 1975 تم إرساء حرية العبادة بالتدريج.

وهناك اليوم حاجة لكتابة نسخة جديدة من التاريخ الأوروبي، حيث هناك تعدد عرقي و ديني في أوروبا (هناك حوالي 30 مليون مسلم، ومليون و نصف مليون يهودي في أوروبا) كما أن هناك حاجة لبيان إنجازات ومحن المسلمين واليهود الأوروبيين.

وبإمكان الفاتيكان أن يفعل الكثير وهو الاعتراف بالوحشية المرتكبة باسم الكنيسة. ومن الصعب أن نصدق أنه تقرر في نهاية عام 1960 وجوب إضافة اسم "جوان دو ريبيرا" إلى قائمة القديسيين. فقد تم على الأقل مؤخراً إسقاط تقديس الملكة "إيزابيلا". فالقديسيون الحقيقيون هم أؤلئك الذين عرّضوا حياتهم للخطر من أجل حماية أناس اضطهدوا من أجل معتقداتهم، أو بسبب معتقدات أسلافهم، أو ماتوا لأنهم رفضوا خيانة آخرين من أجل المحكمة الكاثوليكية، والذين لم يرتدوا عن إيمانهم وماتوا أثناء المقاومة المسلحة.

فقد كان هؤلاء القديسيون منشغلين بما يطلق عليه المسلمون "الجهاد"، والذي يعني النضال الداخلي، والواجب في مقاومة الشر، والمضي قدماً في النضال في الطريق الديني، كما يقصد به النضال الخارجي أي أن هناك واجب نصرة المظلومين والذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، لأنهم رفضوا الارتداد عن دينهم، والدفاع سواء عن النفس أو عن الآخرين.

ويمكن التعبير عن ذلك من القرآن بقوله تعالى: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ..". [الحج:40][8]



إحراق الكتب العربية العلمية: من هواة الدومينيكان النصارى في الأندلس



دخول إيزابيلا وفرديناند إلى غرناطة عشية سقوطها



المرسوم الذي أصدره فرديناند وإيزابيلا عام 1497 والذي يقضي بطرد المسلمين من البرتغال ونقلهم إلى إسبانيا



تعميد نساء المسلمين جبراً بعد سقوط غرناطة


--------------------------------------------------------------------------------

Baose, Roger, “The Muslim Expulsion from Spain,” History Today, Vol.52, no.4

خدمة الفسطاط للترجمة


--------------------------------------------------------------------------------

[1] روجر بوس حاصل على الزمالة الفخرية في البحوث في كلية الملكة "ماري" في جامعة لندن، وهو مؤلف كتاب" معنى وأصل الهوى في البلاط الملكي" (مانشستر 1977).



[2] البوجراسيون alpujrras هم المقاتلون المسلمون الذي حاربوا الإسبان وكانت جبال البوجراس في جنوب الأندلس معقلهم فنسبوا إليها، وتدعى بجبال البشرات بالعربية.

[3] وهي في الجزائر.

[4] لا يوافَق الكاتب على رأيه هذا، فليس هناك وجه للمقارنة بين وضع أهل الكتاب تحت حكم المسلمين، وبين وضع المسلمين تحت حكم الكاثوليك الذين تفننوا في تعذيب المسلمين وإجبارهم إما على اعتناق النصرانية أو الهجرة أو القتل. فأي تشابه هناك بين الوضعين؟ [ف]

[5] خسئوا والله، فهو النبي محمد الذي حفظ الله نسبه، فكان من أشرف بيوت قريش، وأفضلهم نسباً، صلى الله عليه وسلم. رفع الله ذكره في الأرض، وجعل أمته خير الأمم، وجعله خاتم النبيين، لا يقبل الله من أحد أتى بعده ديناً إلا دينه الذي ارتضاه للناس، فكل يهودي ونصراني سمع به ولم يؤمن به إلا أدخله الله النار، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم. [ف]

[6] هكذا يحترم أهل الكتاب أنبياء الله عز وجل. قاتلهم الله أنى يؤفكون! [ف]

[7] جالينوس: حكيم وطبيب ومشرح يوناني قديم، بقيت كتبه أساساً للطب الأوروبي حتى عصور التنوير. [ف]

[8] والآية بتمامها: )الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز(.

رد مع اقتباس
  #30  
قديم 17-04-2005, 12:49 AM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

الرسالة القبرصية

شيخ الإ سلام أحمد بن تيمية


--------------------------------------------------------------------------------

بسم الله الرحمن الرحيم

من أحمد بن تيمية إلى سرجواس عظيم أهل ملّته، ومن تحوط به عنايته من رؤساء الدين، وعظماء القسيسين والرهبان والأمراء والكتاب وأتباعهم: سلام على من اتبع الهدى..

أما بعد: فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، إله إبراهيم وآل عمران، ونسأله أن يصلي على عباده المصطفيْن وأبنيائه المرسَلين، ويخصّ بصلاته وسلامه أولي العزم الذين هم سادة الخلق وقادة الأمم، الذين خُصُّوا بأخْذِ الميثاق، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، كما سمّاهم الله تعالى في كتابه، فقال عز وجل: (شرعَ لكم من الدين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليكَ وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه كَبُرَ على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) [الشورى: 13]، وقال تعالى: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً. ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذاباً أليماً) [الأحزاب: 7].

ونسأله أن يخصّ بشرائف صلاته وسلامه خاتَم المرسلين، وخطيبهم إذا وفدوا على ربّهم، وإمامهم إذا اجتمعوا، شفيعَ الخلائق يوم القيامة، نبي الرحمة ونبي الملحمة، الجامع محاسن الأنبياء، الذي بشّر به عبد الله وروحه، وكلمتُه التي ألقاها إلى الصّدّيقة الطاهرة البتول، التي لم يمسّها بشرٌ قطّ، مريم ابنة عمران. ذلك مسيح الهدى عيسى ابن مريم، الوجيه في الدنيا والآخرة، المقرّب عند الله، المنعوت بنعت الجمال والرحمة، لمّا اتّجرَ بنو إسرائيل فيما بُعِثَ موسى من نعت الجلالة والشّدّة، وبُعِثّ الخاتَم الجامع بنعت الكمال، المشتمل على الشدة على الكفار والرحمة بالمؤمنين، والمحتوي على محاسن الشرائع والمناهج التي كانت قبله، صلى الله عليهم وسلم أجمعين، وعلى من تبعهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله خلق الخلائق بقدرته، وأظهر فيهم آثار مشيئته وحكمته ورحمته، وجعل المقصور الذي خُلِقوا له فيما أمرهم به، هو عبادته، وأصل ذلك هو معرفته ومحبته، فمن هداه الله صراطه المستقيم، آتاه رحمة وعلماً ومعرفة بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، ورزقه الإنابة إليه والوجل لذكره، والخشوع له والتأله له، فحنّ إليه حنين النسور إلى أوكارها، وكلف بحبه كلَف الصبي بأمه، لا يعبد إلا إياه، رغبة ورهبة ومحبة، وأخلص دينه لمن الدنيا والآخرة له، رب الأولين والآخرين، مالك يوم الدين، خالق ما تبصرون وما لا تبصرون، عالم الغيب والشهادة، الذي أمرُه إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون. لم يتخذ من دونه أنداداً كالذين اتخذوا من دون الله أنداداً يحبونهم كحبّ الله، والذين آمنوا أشد حباً لله، ولم يشرك بربه أحداً، ولم يتخذ من دونه ولياً ولا شفيعاً، لا ملَكاً ولا نبيّاً ولا صدّيقاً، فإن كل من في السموات والأرض إلا آتي الحرمن عبداً، لقد أحصاهم وعدّهم عدّاً، وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً. فهنالك اجتباه مولاه واصطفاه وآتاه رشده، وهذاه لمنا اختُلِف فيه من الحق بإذنه، فإنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

وذلك أن الناس كانوا بعد آدم عليه السلام، وقبل نوح عليه السلام، على التوحيد والإخلاص، كما كان عليه أبوهم آدم أبو البشر عليه السلام. حتى ابتدعوا الشرك وعبادة الأوثان، بدعة من تلقاء نفوسهم، لم ينزل الله بها كتاباً، ولا أرسل بها رسولاً، بشبهات زيّنها الشيطان من جهة المقاييس الفاسدة، والفلسفة الحائدة: قوم منهم زعموا أن التماثيل طلاسم الكواكب السماوية، والدرجات الفلكية، والأرواح العلوية، وقوم اتخذوها على صورة من كان فيهم من الأنبياء والصالحين، وقوم جعلوها لأجل الأرواح السفلية من الجن والشياطين، وقوم على مذاهب أخر.

وأكثرهم لرؤساهم مقلدون، وعن سبيل الهدى ناكبون، فابتعث الله نبيه نوحاً عليه السلام، يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وينهاهم عن عبادة ما سواه، وإن زعموا أنهم يعبدونهم ليتقرّبوا إلى الله زلفى ويتخذوهم شفعاء. فمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فلما أعلمه الله أن لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، دعا عليهم، فأغرق الله تعالى أهل الأرض بدعوته، وجاءت الرسل بعده تترى إلىأن عمّ دين الصابئة والمشركين، لما كان النماردة والفراعنة ملوك الأرض شرقاً وغرباً، فبعث الله تعالى إمام الحنفاء وأساس الملة الخالصة والكلمة الباقية، إبراهيم خليل الرحمن، فدعا الخلق من الشرك إلى الإخلاص ونهاهم عن عبادة الكواكب والأصنام، وقال: (إني وجهتُ وجهيَ للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين) وقال لقومه: (أفرأيتم ما كنتم تعبدون. أنتم وآباؤكم الأولون. فإنهم عدو لي إلا ربّ العالمين. الذي خلقني فهو يهدين. والذي يطعمني ويسقين. وإذا مرضتُ فهو يشفين. والذي يميتني ثم يحيين. والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) [الشعراء: 75-82].

وقال إبراهيم عليه السلام ومن معه من قومه: (إنا برآءُ منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده) [الممتحنة: 4] فجعل الله الأنبياء والمرسلين من أهل بيته، وجعل لكل منهم خصائص، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، وآتى كلاً منهم من الآيات ما آمن على مثله البشر.

فجعل لموسى العصا حية حتى ابتلعت ما صنعت السحرة الفلاسفة من الحبال والعصي، وكانت شيئاً كثيراً، وفلق له البحر حتى صار يابساً، والماء واقفاً حاجزاً بين اثني عشر طريقاً على عدد الأسباط، وأرسل معه القُمَّل والضفادع والدم، وظلل عليه وعلى قومه الغمام الأبيض يسير معهم، وأنزل عليهم صبيحة كل يوم المنّ والسلوى، وإذا عطشوا ضرب موسى بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، قد علم كل أناس مشربهم. وبعث بعده أنبياء من بني إسرائيل، منهم من أحيا الله على يديه الموتى، ومنهم من شفى الله على يده المرضى، ومنهم من أطلعه على ما شاء من غيبه، ومنه من سخّر له المخلوقات، ومنهم من بعثه بأنواع المعجزات.

وهذا مما اتفق عليه جميع أهل الملل، وفي الكتب التي بأيدي اليهود والنصارى، والنبوات التي عندهم، وأخبار الأنبياء عليهم السلام، مثل أشعياء وأرمياء ودانيال وحبقوق وداود وسليمان وغيرهم، وكتاب سِفر الملوك وغيره من الكتب ما فيه معتَبر.

وكانت بنو إسرائيل أمة قاسية عاصية، تارة يعبدون الأصنام والأوثان، وتارة يعبدون الله، وتارة يقتلون النبيين بغير الحق، وتارة يستحلون محارم الله بأدنى الحيل، فلُعِنوا أولاً على لسان داود، وكان من خراب بيت المقدس ما هو معروف عند أهل الملل كلهم.

ثم بعث الله المسيح ابن مريم، رسولاً قد خلت من قبله الرسل، وجعله وأمه آية للناس، حيث خلقه من غير أب إظهاراً لكمال قدرته، وشمول كلمته، حيث قسم النوع الإنساني الأقسام الأربعة: فجعل آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق زوجه حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق المسيح ابن مريم من أنثى بلا ذكر، وخلق سائرهم من الزوجين الذكر والأنثى، وآتى عبده المسيح من الآيات البينات ما جرت به سننه فأحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، وأنبأ الناس بما يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم، ودعا إلى الله وإلى عبادته متّبعاً سنّة إخوانه المرسَلين، مصدّقاً لمن قبله ومبشراً بمن يأتي بعده.

وكان بنو إسرائيل قد عتوا وتمرّدوا، وكان غالب أمره اللين والرحمة والعفو والصفح، وجُعل في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة، وجُعل منهم قسيسين ورهباناً، فتفرق الناس في المسيح عليه السلام ومن اتّبعه من الحواريين ثلاثة أحزاب: قوم كذبوه وكفروا به وزعموا أنه ابن بغيّ، ورموا أمّه بالفرية ونسبوه إلى يوسف النجّار، وزعموا أن شريعة التوراة لم يُنسَخ منها شيء، وأن الله لم ينسخ ما شرَعه بعدما فعلوه بالأنبياء، وما كان عليهم من الآصار في النجاسات والمطاعم. وقوم غلوْا فيه، وزعموا أنه الله وابن الله، وأن اللاهوت تدّرع الناسوت، وأن رب العالمين نزل وأنزل ابنه ليُصلَب ويُقتَل فداة لخطيئة آدم عليه السلام، وجعلوا الإله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، قد وُلِد، وأنه إله حي عليم قدير جوهر واحد، ثلاثة أقانيم، وأن الواحد منها أقنوم الكلمة وهي العلم، وهي تدرعت الناسوت البشري، مع العلم بأن أحدهما لا يمكن انفصاله عن الآخرين إلا إذا جعلوه ثلاثة إلهات متباينة، وذلك مالا يقولونه.

وتفرقوا في التثليث والاتحاد تفرقاً، وتشتتوا تشتتاً لا يُقرّ به عاقل، ولم يجيء به نقلٌ، إلا كلمات متشابهة في الإنجيل وما قبله من الكتب، قد بيّنتها كلماتٌ محكمات في الإنجيل وما قبله، كلها تنطق بعبودية المسيح وعبادته لله وحده ودعائه وتضرّعه.

ولما كان أصل الدين هو الإيمان بالله ورسله، كما قال خاتم النبيين والمرسلين: (أمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله) [البخاري ومسلم] وقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله)، كان أمر الدين توحيد الله والإقرار برسله. ولهذا كان الصابئون والمشركون، كالبراهمة ونحوهم من منكري النبوات، مشركين بالله في إقرارهم وعبادتهم وفاسدي الاعتقاد في رسله.

فأرباب التثليث في الوحدانية، والاتحاد في الرسالة، قد دخل في أصل دينهم من الفساد ما هو بيّن بفطرة الله التي فطر الناس عليها، وبكتب الله التي أنزلها.

ولهذا كان عامة رؤساهم، من القسيسين والرهبان، وما يدخل فيهم من البطارقة والمطارنة، والأساقفة، إذا صار الرجل منهم فاضلاً مميّزاً، فإنه يَنْحَلُ عن دينه، ويصير منافقاً لملوك أهل دينه وعامّتهم، رضىً بالرياسة عليهم، وبما يناله من الحظوظ. كالذي كان لبيت المقدس، الذي يقال له ابن البوري والذي كان بدمشق، الذي كان يقال له ابن القف، والذي بقسطنطينية وهو البابا عندهم، وخلق كثير من كبار البابوات والمطارنة والأساقفة، لما خاطبهم قوم من الفضلاء، أقرّوا لهم بأهم ليسوا على عقيدة النصارى، وإنما بقاؤهم على ما هم عليه لأجل العادة والرياسة، كبقاء الملوك والأغنياء على ملكهم وغناهم، ولهذا تجد غالب فضلائهم، إنما همة أحدهم نوع من العلم الرياضي، كالمنطق والهئية والحساب والنجوم، أو الطبيعي كالطب ومعرفة الأركان، أو التكلم في الإلهي على طريقة الصابئة الفلاسفة الذي بُعِثَ إليهم إبراهيم الخيل عليه السلام، قد نبذوا دين المسيح والرسل الذي قبله وبعده وراء ظهورهم، وحفظوا رسوم الدين لأجل الملوك والعامة.

وأما الرهبان، فأحدثوا من أنواع المكر والحيل بالعامة ما يظهر لكل عاقل، حتى صنّف الفضلاء في حيل الرهبان كتباً، مثل النار التي كان تصنع بقمامة، يدهنون خيطاً دقيقاً بسندروس، ويلقون النار عليه بشرعة، فتنزل فيعتقد الجهال أنها نزلت من السماء، ويأخذونها إلى البحر وهي صنعة ذلك الراهب، يراه الناس عُياناً وقد اعترف هو وغيره أنهم يصنعونها.[1]

وقد اتفق أهل الحق من جميع الطوائف، على أنه لا تجوز عبادة الله تعالى بشيء ليس له حقيقة. وقد يظن المنافقون، أن ما ينقل عن المسيح وغيره من المعجزات، من جنس النار المصنوعة، وكذلك حيلهم في تعليق الصليب، وفي بكاء التماثيل، التي يصوّرونها على صورة المسيح وأمّه وغيرهما، ونحو ذلك. كل ذلك، يعلم كل عاقل أنه إفك مفترى، وأن جميع أنبياء الله وصالحي عباده برآء من كل زور باطل وإفك كبرائهم من سحر سحرة فرعون.

ثم إن هؤلاء عمدوا إلى الشريعة التي يعبدونها الله بها، فناقضوا الأولين من اليهود فيها، مع أنهم يأمرون بالتمسك بالتوراة إلا ما نسخه المسيح. قصّر هؤلاء في الأنبياء حتى قتلوهم؛ وغلا هؤلاء فيهم حتى عبدوهم وعبدوا تماثيلهم، وقال أولئك: إن الله لا يصلح له أن يغير ما أمر به فينسخه، لا في وقت آخر، ولا على لسان نبي آخر، وقال هؤلاء: بل الأحبار والقسيسون يغيّرون ما شاؤوا ويحرّمون ما رأوا، ومن أذنب ذنباً، وظّفوا عليه ما رأوا من العبادات، وغفروا له. ومنهم من يزعم أن ينفخ في المرأة من روح القدس، فيجعل البخور قرباناً. وقال أولئك: حُرِّم علينا أشياء كثير. وقال هؤلاء ما بين البقّة والفيل حلال، كُلْ ما شئتَ ودعْ ما شئت. وقال أولئك: النجاسات مغلظة، حتى أن الحائض لا يُقعد معها، ولا يؤكل معها. وهؤلاء يقولون ما عليك شيء نجس، ولا يأمرون بختان، ولا غسل من جنابة، ولا إزالة نجاسة، مع أن المسيح والحواريين كانوا على شريعة التوراة.

ثم إن الصلاة إلى المشرق لم يأمر بها المسيح ولا الحواريون، وإنما ابتدعها قسطنطين أو غيره. وكذلك الصليب، إنما ابتدعه قسطنطين برأيه وبمنام زعم أنه رآه. وأما المسيح والحواريون فلم يأمروا بشيء من ذلك.

والدين الذي يتقرب العباد به إلى الله، لا بدّ أن يكون الله أمر به، وشرَعه على ألسنة رسله وأنبيائه، وإلا فالبدع كلها ضلالة، وما عُبدت الأوثان إلا بالبدع. وكذلك إدخال الألحان في الصلوات، لم يأمر بها المسيح ولا الحواريون. وبالجملة:

فعامة أنواع العبادات والأعياد التي هم عليها، لم ينزل بها الله كتاباً، ولا بعث لها رسولاً، لكن فيهم رأفة ورحمة، وهذا من دين الله. بخلاف الأولين، فإن فيهم قسوة ومقتاً، وهذا مما حرّمه الله تعالى. لكن الأولون لهم تمييز وعقل مع العناد والكبر، والآخرون فيهم ضلال عن الحق وجهل بطريق الله.

ثم إن هاتين الأمتين تفرّقتا أحزاباً كثيراً في أصل دينهم واعتقادهم، في معبودهم ورسولهم: هذايقول إن جوهر اللاهوت والناسوت صاراً جوهراً واحداً، وطبيعة واحدة، وأقنوماً واحداً، وهم اليعقوبية؛ وهذا يقول بل هما جوهران وطبيعتان وأقنومان، وهم النسطورية؛ وهذا يقول بالاتحاد من وجه دون وجه، وهم الملكانية.

وقد آمن جماعات من علماء أهل الكتاب قديماً وحديثاً، وهاجروا إلى الله ورسوله وصنفوا في كتب الله من دلالات نبوة النبي خاتم المرسلين، وما في التوراة والزبور والإنجيل من مواضع لم يدبِّروها، وكذلك الحواريون. فلما اختلف الأحزاب من بينهم، هدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فبعث النبيَّ الذي بشّر به المسيحُ ومن قبله من الأنبياء، داعياً إلى ملة إبراهيم، ودين المرسلين قبله وبعده، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وإخلاص الدين كله لله، وطهَّر الأرض من عبادة الأوثان، ونزَّه الدين عن الشرك دقِّه وجلِّه، بعدما كانت الأصنام تُعبَد في أرض الشام وغيرها، في دولة بني إسرائيل، ودولة الذين قالوا (إنَّا نصارى)، وأمَرَ بالإيمان بجميع كتب الله المنزلة، كالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وبجميع أنبياء الله من آدم إلى محمد.

قال الله تعالى: (وقالوا: كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا، قل: بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين. قولوا: آمنَّا بالله وما أنزِل إلينا وما أنزِل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتيَ موسى وعيسى وما أوتِيَ النبيونَ من ربِّهم لا نفرِّق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون. فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولَّوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم. صبغةَ الله ومن أحسنُ من الله صبغة ونحن له عابدون) [البقرة:135-138].

وأمر الله ذلك الرسولَ بدعوة الخلق إلى توحيده بالعدل، فقال تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواءٍ بيننا وبينكم ألا نعبدَ إلا الله ولا نشركَ به شيئاً ولا يتخذ بعضُنا بعضاً أرباباً من دون الله فإنْ تولّوا فقولوا اشهدوا بأنَّا مسلمون) [آل عمران: 64]. وقال تعالى: (وما كان لبشرٍ أن يكلمه الله إلاَّ وحياً أو من وارء حجابٍ) [الشورى: 51]. وقال تعالى: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتابَ والحكمَ والنبوّة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون اللهِ ولكن كونوا ربّانيين بما كنتم تعلِّمون الكتابَ وبما كنتم تدرسون. ولا يأمرَكم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً أيأمركم بالكفر بعدَ إذ أنتم مسلمون) [آل عمران: 79-80].

وأمرَه أن تكون صلاتُه وحجُّه إلى بيت الله الحرام الذي بناه خليله إبراهيم أبو الأنبياء، وإمام الحنفاء، وجعل أمته وسطاً، فلم يغلوا في الأنبياء كغلوّ من عدلَهم بالله، وجعل فيهم شيئاً من الإلهية، وعبدهم، وجعلهم شفعاء. ولم يجْفوا جفاء من آذاهم، واستخفّ بحرماتهم، وأعرض عن طاعتهم. بل عزّروا الأنبياء، أي عظّموهم ونصروهم، وآمنوا بما جاءوا به، وأطاعوهم واتَّبعوهم،وائتموا بهم وأحبوهم وأجَلُّوهم، ولم يعبدوا إلا الله، فلم يتّكلوا إلا عليه، ولم يستعينوا إلا به، مخلصين له الدين حنفاء.

وكذلك في الشرائع، قالوا: ما أمرَنا الله به أطعناه، وما نهانا عنه انتهينا، وإذا نهانا عما كان أحلّه، كما نهى بني إسرائيل عما كان أباحه ليعقوب، أو أباح لنا ما كان حراماً كما أباح المسيح بعضَ الذي حُرِّم على بني إسرائيل، سمعنا وأطعنا.

وأما غير رسل الله وأنبيائه، فليس له أن يبدلوا دين الله، ولا يبتدعوا في الدين ما لم يأذن به الله. والرسل إنما قالوا تبليغاً عن الله، فإنه سبحانه له الخلق والأمر، فكما لا يخلق غيرُه لا يأمر غيرُه: (إنِ الحكمُ إلاَّ للهِ أمرَ ألاَّ تعبدوا إلاَّ إيَّاه ذلك الدينُ القيّمُ ولكنّ أكثر الناسِ لا يعلمونَ) [يوسف: 40].

وتوسطت هذه الأمة في الطهارة والنجاسة، وفي الحلال والحرام، وفي الأخلاق، ولم يجرِّدوا الشدة كما فعله الأولون، ولم يجردوا الرأفة كما فعله الآخِرون. بل عاملوا أعداء الله بالشدة، وعاملوا أولياء الله بالرأفة والرحمة؛ وقالوا في المسيح ما قاله سبحانه وتعالى، وما قاله المسيح والحواريون، لا ما ابتدعه الغافلون والجافون.

وقد أخبر الحواريون عن خاتَم المرسلين أن يُبعَث من أرض اليمن، وأنه يُبعَث بقضيب الأدب وهو السيف. وأخبر المسيح أنه يجيء بالبينات والتأويل، وأن المسيح جاء بالأمثال.

وهذا باب يطول شرحُه. وإنما نَبَهَ الداعي لعظيم ملَّته وأهله [يقصد هنا ملك قبرص]، لما بلغني ما عنده من الديانة والفضل، ومحبة العلم وطلب المذاكرة، ورأيت الشيخ أبا العباس المقدسي شاكراً من الملك من رفقِه ولطفه وإقباله عليه، وشاكراً من القسيسين ونحوهم.

ونحن قوم نحب الخير لكل أحد، ونحب أن يجمع الله لكم خير الدنيا والآخرة، فإن أعظم ما عُبِدَ الله به نصيحة خلقه، وبذلك بعث اللهُ الأنبياء والمرسلين، ولا نصيحة أعظم من النصيحة فيما بين العبد وبين ربه، فإنه لا بد للعبد من لقاء الله، ولا بد أن الله يحاسب عبده كما قال تعالى: (فلنسألنّ الذين أُرسِلَ إليهم ولنسألنّ المرسَلين) [الأعراف: 6].

وأما الدنيا فأمرها حقير، وكبيرها صغير، وغاية أمرها يعود إلى الرياسة والمال، وغاية ذي رياسة أن يكون كفرعون الذي أغرقه الله في اليم انتقاماً منه، وغاية ذي المال أن يكون كقارون الذي خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، لما آذى نبي الله موسى.

وهذه وصايا المسيح ومن قبله ومن بعده من المرسلين، كلها تأمر بعبادة الله والتجرّد للدار الآخرة، والإعراض عن زهرة الحياة الدنيا. ولما كان أمر الدينا خسيساً، رأيت أنّ أعظم ما يُهدى لعظيم قومه، المفاتحةُ في العلم والدين، بالمذاكرة فيما يقرِّب إلى الله، والكلام في الفروع مبنيٌّ على الأصول، وأنتم تعلمون أن دين الله لا يكون بهوى النفس، ولا بعادات الآباء وأهل المدنيّة،وإنما ينظر العاقل فيما جاءت به الرسلُ، وفيما اتفق الناس عليه وما اختلفوا فيه، ويعامل الله تعالى بينه وبين الله تعالى بالاعتقاد الصحيح والعمل الصالح، وإن كان لا يمكن الإنسان أن يظهر كل ما في نفسه لكل أحد، فينتفع هو بذلك القدر.

وإنْ رأيتُ من الملك رغبة من العلم والخير، كاتبتُه وجاوبتُه عن مسائل يسألها، وقد كان خطر لي أن أجيء إلى قبرص لمصالح في الدين والدنيا، لكن، إذا رأيتُ من الملك ما فيه رضى الله ورسوله، عاملتُه بما يقتضيه عملُه، فإن الملك وقومه يعلمون أن الله قد أظهر من معجزات رسله عامة، ومحمد خاصة، ما أيّد به دينه، وأذلّ الكفار والمنافقين.

ولمّا قدم مقدم مقدّم المغول غازان وأتباعه إلى دمشق، وكان قد انتسب إلى الإسلام، لكن لم يرض الله ورسوله والمؤمنين بما فعلوه، حيث لم يلتزموا دين الله، وقد اجتمعتُ به وبأمرائه، وجرى له معهم فصول يطول شرحها، لا بدّ أن تكون قد بلغت الملك، فأذلّه اللهُ وجنودَه لنا، حتى بقينا نضربهم بأيدينا ونصرخ فيهم بأصواتنا، وكان معهم صاحب سيس[2] مثل أصغر غلام يكون، حتى كان بعض المؤذنين الذين معنا يصرخ عليه ويشتمه، وهو لا يجترئ أن يجاوبه، حتى أن وزراء غازان ذكروا ما ينمّ عليه من فساد النية له، وكنتُ حاضراً لما جاءت رسلكم إلى ناحية الساحل، وأخبرني التتار بالأمر الذي أراد صاحب سيس أن يدخل بينكم وبينه فيه، حيث منّاكم بالغرور، وكان التتار في أعظم الناس شتيمةً لصاحب سيس، وإهانةً له، ومع هذا فإنا كنا نعامل أهل ملّتكم بالإحسان إليهم والذبّ عنهم.

وقد عرف النصارى كلهم أني لما خاطبتُ التتار في إطلاق الأسرى، وأطلقهم غازان وقطلوشاه، وخاطبتُ مولاي فيهم، فسمح بإطلاق المسلمين، قال لي: لكن معنا نصارى أخذناهم من القدس، فهؤلاء لا يطلقون، فقلتُ له: بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذي هم أهل ذمّتنا، فإنا نفكّهم، ولا ندع أسيراً لا من أهل الملة ولا من أهل الذمة. وأطلقنا من النصارى ما شاء الله، فهذا عملنا وإحساننا والجزاء على الله.

وكذلك السبي الذي بأيدينا من النصارى، يعلم كل أحد إحساننا ورحمتنا ورأفتنا بهم، كما أوصانا خاتم المرسلين حيث قال في آخر حياته: »الصلاة.. وما ملكتُ أيمانُكم«. قال الله تعالى: (ويطعمون الطعامَ على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً) [الإنسان: 8].

ومع خضوع التتار لهذه الأمة، وانتسابهم إلى هذه الملة، فلم نخادعهم ولم ننافقهم، بل بيّنّا لهم ما هم عليه من الفساد ، والخروج عن الإسلام الموجب لجهادهم، وأن جنود الله المؤيدة، وعساكره المنصورة، المستقرة بالديار الشامية والمصرية، ما زالت منصورة على من ناوأها، مظفّرة على من عاداها. وفي هذه المدّة، لما شاع عند العام أن التتار مسلمون، أمسك العسكر عن قتالهم، فقُتِل منهم بضعة عشر ألفاً، ولم يقتَل من المسلمين مائتان، فلما انصرف العسكر إلى مصر، وبلغه ما عليه هذه الطائفة الملعونة من الفساد وعدم الدين، خرجتْ جنودُ الله وللأرض منها وئيد، قد ملأت السهل والجبل، في كثرة وقوة وعدة وإيمان وصدق، قد بهرت العقول والألباب، محفوفةً بملائكة الله التي ما زال يمدّ بها الأمة الحنيفية المخلصة لبارئها، فانهزم العدو بين أيديها، ولم يقف لمقابلتها، ثم أقبل العدو ثانياً، فأرسِل عليه من العذاب ما أهلك النفوس والخيل، وانصرف خاسئاً وهو حسير، وصدق الله وعده ونصر عبده. وهو الآن في البلاء الشديد والتعكيس العظيم، والبلاء الذي أحاط به. والإسلام في عزّ متزايد، وخير مترافد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: »إن الله يبعث لهذه الأمة في رأس كل مائة سنة من يجدّد لها أمر دينها«.

وهذا الدين في إقبال وتجديد، وأنا ناصح للملك وأصحابه، والله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة والإنجيل والفرقان. ويعلم الملك أن وفد نجران كانوا نصارى كلهم، فيهم الأسقف وغيره، لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الله ورسوله وإلى الإسلام، خاطبوه في أمر المسيح وناظروه، فلما قامت عليهم الحجة، جعلوا يراوغون، فأمر الله نبيه أن يدعوهم إلى المباهلة، كما قال: (فمن حاجّك فيه من بعدِ ما جاءك من العلم فقلْ تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) [آل عمران: 61].

فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك استشوروا بينهم، فقالوا: تعلمون أنه نبيّ وأنه ما باهلَ أحد نبياً فأفلح، فأدّوا إليه الجزية ودخلوا في الذمّة، واستعفوا من المباهلة.

كذلك بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى قيصر، الذي كان ملك النصارى بالشام والبحر إلى القسطنطينية وغيرها، وكان ملكاً فاضلاً، فلما قرأ كتابه وسأل عن علامته، عرف أنه النبي الذي بشّر به المسيح، وهو الذي كان وعَد اللهُ به إبراهيم في ابنه إسماعيل، وجعل يدعو قومه النصارى إلى متابعته، وأكرمَ كتابَه وقبّله ووضعه على عينيه، وقال: »وددتُ أني أخلُص إليه حتى أغسل عن قدميه، ولولا ما أنا فيه من الملك لذهبتُ إليه«.

وأما النجاشي ملك الحبشة النصراني، فإنه لما بلغه خبرُ النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه الذي هاجروا إليه، آمن به وصدّقه وبعث إليه ابنه وأصحابه مهاجرين، وصلى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليه لمّا مات. ولمّا سمع سورة (كهيعص) بكى، ولما أخبروه عما يقولون في المسيح قال: »والله ما يزيد عيسى على هذا مثل هذا العود«، وقال: »إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة«.

وكانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أنّ من آمن بالله وكتبه ورسله من النصارى صار من أمته، له ما لهم وعليه ما عليهم، وكان له أجران: أجر على إيمانه بالمسيح، وأجر على إيمانه بمحمد. ومن لم يؤمن له من الأمم، فإن الله أمر بقتاله كما قال في كتابه: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم اللهُ ورسولُه ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتابَ حتى يعطوا الجزيةَ عن يدٍ وهم صاغرون) [التوبة:29].

فمن كان لا يؤمن بالله، بل يسبّ اللهَ ويقول إنه ثالث ثلاثة وأنه صُلِبَ، ولا يؤمن برسله، بل يزعم أن الله حُمِلَ ووُلِد، وكان يأكل ويشرب ويتغوّط وينام، هو الله وابن الله، وأن الله أو ابنه حلّ فيه وتدرّعه، ويجحد ما جاء به محمد خاتم المرسلين، ويحرّف نصوص التوراة والإنجيل، فإن في الأناجيل الأربعة من التناقض والاختلاف، بينما أمر بما أمر اللهُ به وأوجبه من عبادته وطاعته، ولا يحرّم ما حرّم الله ورسوله من الدم والميتة ولحم الخنزير، الذي ما زال حراماً من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ما أباحه نبيٌّ قط، بل علماء النصارى يعلمون أنه محرّم، وما يمنع بعضهم من إظهار ذلك إلا الرغبة والرهبة، وبعضهم يمنعه العناد والعادة عن ذلك، ولا يؤمنون باليوم الآخر لأن عامتهم، وإنْ كانوا يقرّون بقيامة الأبدان، لكنهم لا يقرّون بما أخبره الله به من الأكل والشرب واللباس والنكاح والنعيم والعذاب في الجنة والنار، بل غاية ما يقرّون به من النعيم: السماع والشمّ. ومنهم متفلسفة ينكرون معاد الأجساد، وأكثر علمائهم زنادقة، وهم يضمرون ذلك ويسخرون بعوامّهم لا سيما بالنساء والمترهّبين منهم لضعف عقولهم. فمن هذا حاله، فقد أمر اللهُ رسولَه بجهاده حتى يدخل في دين الله، أو يؤدّي الجزية، وهذا دين محمد صلى الله عليه وسلم.

ثم المسيح صلوات الله عليه لم يأمر بالجهاد، ولا سيما بجهاد الأمة الحنيفية ولا الحواريون بعده. فيا أيها الملك: كيف تستحلّ سفك الدماء وسبي الحريم وأخذ الأموال بغير حجة من الله ورسله؟

ثم، أمَا يعلم الملك أن بديارنا من النصارى، أهل الذمة والأمان، ما لا يحصي عددهم إلا الله، ومعاملتُنا فيهم معروفة؟ فكيف يعامِلون أسرى المسلمين بهذه المعاملات التي لا يرضى بها ذو مروءة ولا ذو دين؟ لست أقول عن الملك وأهل بيته ولا إخوانه، فإن أبا العباس شاكر لملك ولأهل بيته كثيراً، معترف بما فعلوه معه من الخير، وإنما أقول عن عموم الرعية، أليس الأسرى في رعية الملك؟ أليست عهود المسيح وسائر الأنبياء توصي بالبرّ والإحسان.. فأين ذلك؟

ثم إن كثيراً منهم إنما أُخِذوا غدراً، والغدر حرام في جميع الملل والشرائع والسياسات، فكيف تستحلون أن تستولوا على من أخِذ غدراً؟ أفتأمنون مع هذا أن يقابلكم المسلمون ببعض هذا وتكونوا مغدورين، والله ناصرهم ومعينهم، لاسيما في هذه الأوقات، والأمة قد امتدت للجهاد، واستعدت للجِلادِ، ورغب الصالحون وأولياء الرحمن في طاعته. وقد تولى الثغور الساحلية أمراءٌ ذو بأس شديد، وقد ظهر بعضُ أثرهم، وهم في ازدياد.

ثم عند المسلمين من الرجال الفداوية، الذين يغتالون الملوك في فرشها وعلى أفراسها من قد بلغ الملك خبرُهم قديماً وحديثاً، وفيهم الصالحون الذين لا يردّ اللهُ دعواتهم، ولا يخيّب طلباتهم، الذين يغضب الربّ لغضبهم ويرضى لرضاهم. وهؤلاء التتار، مع كثرتهم وانتسابهم إلى المسلمين، لمّا غضب المسلمون عليهم أحاط بهم من البلاء ما يعظم عن الوصف، فكيف يحسن أيها الملك بقوم يجاورون المسلمين من أكثر الجهات أن يعاملوهم هذه المعاملة التي لا يرضاها عاقل لا مسلم ولا معاهد؟

هذا، وأنت تعلم أن المسلمين لا ذنب لهم أصلاً، بل هم المحمودون على ما فعلوه، فإن الذي أطبقت العقلاء على الإقرار بفضله هو دينهم، حتى الفلاسفة أجمعوا على أنه لم يطرق العالم دين أفضل من هذا الدين، فقد قامت البراهين على وجوب متابعته.

ثم هذه البلاد ما زالت بأيديهم: الساحل، بل وقبرص أيضاً، ما أخِذت منهم إلا من أقل من ثلائمائة سنة[3]، وقد وعدهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنهم لا يزالون ظاهرين إلى يوم القيامة، فما يؤمن الملك أن هؤلاء الأسرى المظلومين ببلدته، ينتقم لهم ربُّ العباد والبلاد كما ينتقم لغيرهم؟ وما يؤمنه أن تأخذ المسلمين حميةُ إسلامهم فينالوا فيها ما نالوا من غيرها؟[4] ونحن إذا رأينا من الملك وأصحابه ما يُصلحُ، عاملناهم بالحسنى، وإلا فمن بُغِيَ عليه لينصرنّه اللهُ.

وأنت تعلم أن ذلك من أيسر الأمور على المسلمين، وأنا ما غرضي الساعةَ إلا مخاطبتكم بالتي هي أحسن، والمعاونة على النظر في العلم واتباع الحق وفعل ما يجب، فإن كان عند الملك من يثق بعقله ودينه فلْيبحث معه عن أصول العلم وحقائق الأديان، ولا يرضى أن يكون من هؤلاء النصارى المقلّدين الذين لا يسمعون ولا يعقلون، إنْ هم إلا كالأنعام بل هم أضلّ سبيلاً.

وأصل ذلك أن تستعين بالله وتسأله الهداية وتقول: اللهم أرني الحق حقاً وأعنّي على اتباعه، وأرني الباطلَ باطلاً وأعنّي على اجتنابه، ولا يجعله مستبهَماً علي فأتّبع الهوى. وقل: اللهم ربّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السموات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنتَ تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لَما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

والكتاب لا يحتمل البسط أكثر من هذا، لكن أنا ما أريد للملك إلا ما ينفعه في الدنيا والآخرة، وهما شيئان: أحدهما له خاصة، وهو معرفته بالعلم والدين، وانكشاف الحق وزوال الشبهة وعبادة الله كما أمر، فهذا خير له من مُلك الدنيا بحذافيرها، وهو الذي بعث به المسيح، وعلّمه الحواريين. الثاني له وللمسلمين، وهو مساعدته للأسرى الذين في بلاده، وإحسانه إليهم،وأمر رعيته بالإحسان إليهم والمعاونة لنا على خلاصهم، فإن في الإساءة إليهم دركاً على الملك في دينه ودين الله تعالى وعند المسلمين، وكان المسيح أعظم الناس توصيةً بذلك.

ومن العجب كل العجب أن يأسر النصارى قوماً غدراً أو غير غدر ولم يقاتلوهم، والمسيح يقول: »من لطمك على خدّك الأيمن فأدرْ له خدّك الأيسر، ومن أخذ رداءك أعطِهِ قميصك«. وكلما كثرت الأسرى عندكم كان أعظم لغضب الله وغضب عباده المسلمين. فكيف يمكن السكوت على أسرى المسلمين في قبرص، سيّما وعامة هؤلاء الأسرى قوم فقراء وضعفاء ليس لهم من يسعى فيهم. وهذا أبو العباس، مع أنه من عبّاد المسلمين، وله عبادة وفقر، وفيه مشيخة، ومع هذا فما كاد يحصل فداؤه إلا بالشدة. ودين الإسلام يأمرنا أن نعين الفقير والضعيف. فالملك أحق أن يساعد على ذلك من وجوه كثيرة، لا سيّما والمسيحُ يوصي بذلك في الإنجيل، ويأمر بالرحمة العامة والخير الشامل كالشمس والمطر. والملك وأصحابه إذا عاونوننا على تخليص الأسرى والإحسان إليهم، كان الحظ الأوفر لهم في ذلك في الدنيا والآخرة. أما في الآخرة، فإن الله يثيب على ذلك ويأجر عليه، وهذا مما لا ريب فيه عند العلماء المسيحيين الذي لا يتبعون الهوى. بل كل من اتقى الله وأنصف عليم أنهم أُسِروا بغير حق، ولا سيما من أخِذ غدراً. والله تعالى لم يأمر ولا المسيحُ أمرَ ولا أحد من الحواريين ولا من اتبع المسيح على دينه، لا بأسر أهل ملة إبراهيم ولا بقتلهم، كيف وعامة النصارى يقرّون بأن محمداً رسول الأميين، فكيف يجوز أن يقاتَل أهل دين اتبعوا رسولهم؟

فإن قال قائل: هم[5] قاتلونا أول مرة! قيل: هذا باطل فيمن غدرتم به ومَن بدأتموه بالقتال. وأما من بدأكم منهم فهو معذور، لأن الله تعالى أمره بذلك ورسولَه، بل المسيح والحواريون أخذ عليهم المواثيق بذلك. ولا يستوي من عمل بطاعة الله ورسله ودعا إلى عبادته ودينه وأقرّ بجميع الكتب والرسل، وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا وليكون الدين كله لله، ومَن قاتئل في هوى نفسه وطاعة شيطانه، على خلاف الله ورسله.

وما زال في النصارى من الملوك والقسيسين والرهبان والعامة من له مزية على غيره في المعرفة والدين، فيعرف بعض الحق، وينقاد لكثير منه، ويعرف مِن قدر الإسلام وأهله ما يجهله غيره، فيعاملهم معاملة تكون نافعة في الدنيا والآخرة. ثم في فكاك الأسير وثواب العتق من كلام الأنبياء والصدّيقين ما هو معروف لمن طلبه، فمهما عمل الملك معهم وجد ثمرته.

وأما في الدنيا، فإن المسلمين أقدر على المكافأة في الخير والشر من كل أحد، ومن حاربوه فالويل كل الويل له. والملك لا بد أن يكون سمع السِّيَر، وبلغه أن ما زال في المسلين النفر القليل منهم من يغلب أضعافاً مضاعفة من النصارى وغيرهم، فكيف إذا كانوا أضعافهم، وقد بلغه الملاحم المشهورة في قديم الدهر وحديثه، مثل أربعين ألفاً يغلبون من النصارى أكثر من أربعمائة ألف أكثرهم فارس[6]. وما زال المرابطون بالثغور ، مع قلتهم واشتغال ملوك الإسلام عنهم، يدخلون بلاد النصارى، فكيف وقد منّ الله تعالى على المسلمين باجتماع كلمتهم وكثرة جيوشهم، وبأس مقدّميهم وعلوّ هممهم، ورغبتهم فيما يقرّب إلى الله تعالى، واعتقادهم أن الجهاد أفضل الأعمال المطوعة، وتصديقهم بما وعدهم نبيُّهم حيث قال: »يُعطى الشهيد ست خصال: يُغفر له بأول قطرة من دمه، ويُرى معقده في الجنة، ويُكسى حلة الإيمان، ويزوّج باثنتين وسبعين من الحور العين، ويُوقى فتنة القبر، ويؤمَن من الفزع الأكبر يوم القيامة«.

ثم إن في بلادهم من النصارى أضعاف ما عندكم من المسلمين، فإن فيهم من رؤوس النصارى من ليس في البحر مثلهم إلا قليل. وأما أسراء المسلمين، فليس فيهم من يحتاج إليه المسلمون ولا من ينتفعون به، وإنما نسعى في تخليصهم لأجل الله تعالى، رحمة ً لهم وتقرباً إليه يوم يجزي الله المصّدّقين ولا يضيع أجر المحسنين.

وأبو العباس، حامل هذا الكتاب، قد بثّ محاسن الملك وإخوته عندنا، واستعطف قلوبنا إليه، فلذلك كاتبتُ الملك، لما بلغتني رغبته في الخير وميله إلى العلم والدين، وأنا من نوّاب المسيح وسائر الأنبياء من مناصحة الملك وأصحابه، وطلب الخير لهم، فإنّ أمة محمد خير أمة أخرِجت للناس، يريدون للخلق خير الدنيا والآخرة، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويدعونهم إلى الله، ويعينونهم على مصالح دينهم ودنياهم. وإن كان الملك قد بلغه بعض الأخبار التي فيها طعن على بعضهم أو طعن على دينهم، فإما أن يكون الخبر كاذباً، أو ما فَهِمَ التأويل وكيّف صورة الحال. وإن كان صادقاً عن بعضهم بنوع من المعاصي والفواحش والظلم، فهذا لا بدّ منه في كل أمّة، بل الذي يوجد في المسلمين من الشرّ أقل مما في غيرهم بكثير، والذي فيهم من الخير لا يوجد مثله في غيرهم.

والملك، وكل عاقل، يعرف أنّ أكثر النصارى خارجون عن وصايا المسيح والحواريين ورسائل بولص وغيره من القديسين، وإنْ كان أكثر ما معهم من النصرانية، شرْب الخمر وأكل الخنزير وتعظيم الصليب، ونواميس مبتدعة ما أنزل اللهُ بها من سلطان، وأنّ بعضهم يستحل بعض ما حرّمتْه الشريعة النصرانية. هذا فيما يقرّون به،وأما مخالفتهم لما لا يقرّون به فكلهم داخل في ذلك، بل قد ثبت عندنا من الصادق المصدوق رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ المسيح عيسى بن مريم ينزل عندنا بالمنارة البيضاء في دمشق، واضعاً يده على منكبي ملكيْن، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ولا يقبل من أحدٍ إلا الإسلام، ويقتل مسيحَ الضلالة، الأعور الدجال، الذي يتبعه اليهود، ويسلَط المسلمون على اليهود حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله، وينتقم الله للمسيح بن مريم مسيحِ الهدى من اليهود ما آذوه وكذّبوه لما بُعِثَ إليهم.[7]

أما ما عندنا في أمر النصارى، وما يفعل الله بهم من إدالة المسلمين عليهم، وتسليطه عليهم، فهذا مما لا أخبر به الملك لئلا يضيق صدره، ولكن الذي أنصحه به، أن كل من أسلف إلى المسلمين خيراً ومال إليهم كانت عاقبته معهم حسنة بحسب ما فعله من الخير، فإن الله يقول: (فمن كان يعمل مثقال ذرة خيرا يره . ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره).

والذي أختم به الكتاب الوصية بالشيخ أبي العباس وبغيره من الأسرى والمساعدة لهم والرفق بمن عندهم من أهل القرآن، والامتناع من تغيير دين واحد منهم، وسوف يرى الملك عاقبة ذلك كله، ونحن نجزي الملك على ذلك بأضعاف ما في نفسه.

والله يعلم أني قاصد للملك الخير، لأن الله تعالى أمرنا بذلك، وشرع لنا أن نريد الخير لكل أحد، ونعطف على خلْق الله، وندعوهم إلى الله وإلى دينه، وندفع عنهم شياطين الإنس والجن.

والله المسؤول أن يعين الملك على مصلحته التي هي عند الله المصلحة، وأن يخيّر له من الأقوال ما هو خير له عند الله، ويختم له بخاتمة خير.

والحمد لله رب العالمين، وصلواته علىأنبيائه المرسلين، ولا سيما محمد خاتم النبيين والمرسَلين، والسلام عليهم أجمعين.


--------------------------------------------------------------------------------

[1] انظر حيل الرهبان في مؤلف الشيخ الإسلام الموسوعة: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/337-338

[2] حاكم أرمينيا.

[3] بقيت قبرص تحت حكم المسلمين من وقت فتحها في عهد عثمان رضي الله عنه سنة 28 هجرية إلى سنة 355 هـ.

[4] اعتدى القبارصة الصليبيون –تحت حكم اللاتين- على مصر سنة 767 هـ واستولوا على الإسكندرية. وكانت بينهم وبين المماليك وقائع عدة، فقد جهز المسلمون جيشاً وغزوا الجزيرة سنة 827 هـ وسنة 828 هـ و 829 هـ وافتتحوها وأسروا ملكها (جانوس) وأنهوا وجود الصليبيين فيها، حيث انتقل الآخرون إلى جزيرة رودس لتصبح قاعدة الاسبتارية بعد ذلك. [راجع التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر: ج7].

[5] أي المسلمين.

[6] إن كان ابن تيمية –رحمه الله- يقصد بذلك معركة اليرموك فإن تعداد المسلمين كان أربعين ألفاً وتعداد النصارى –على اختلاف أجناسهم وشعوبهم- كانوا حوالي 240 ألفاً. انظر "ميدان معركة اليرموك" لمحمود شاكر.

[7] انظر كتاب: »فقد جاء أشراطها« فصل: »عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم« في الفسطاط.

رد مع اقتباس
رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع إلى

 


الوقت في المنتدى حسب توقيت جرينتش +3 الساعة الآن 03:35 AM .


مجالس العجمان الرسمي

تصميم شركة سبيس زوون للأستضافة و التصميم و حلول الويب و دعم المواقع