الإعلام الأمريكي والضحك على الذقون
صائب خليل
تمر السياسة الأمريكية هذه الفترة بمرحلة انتقالية حادة. فالمراقب للأحداث يرى أن "الشركات المتحدة" كما يسميها "جومسكي", تأخذ بشكل متزايد موقفا اكثر صراحة ووقاحة في عدوانيته, وهجومه على قوانين المجتمع الدولي, ولجوئها إلى إفهام العالم بأن لا مفر من الخضوع لارادة القوة الوحيدة العظمى.
بعد فترة قصيرة من مجيء بوش الابن إلى رئاسة الولايات المتحدة, بدا بما يشبه شن حرب على العالم في العديد من القرارات والإجراءات الوقحة عسكريا وسياسيا واقتصاديا.
ما أريد أن اركز عليه هنا هو كيف يتصرف إعلام الولايات المتحدة لتبرير هذه السياسة الكريهة من العالم كله بما فيه اقرب أصدقائها؟ فرغم أن الولايات المتحدة على ما يبدو تتجاهل رأي العالم أكثر فأكثر, إلا انه يبقى واجب الإعلام أن يبقي على صورة أمريكا الطيبة والمحبة للخير في أذهان اكبر عدد ممكن من الناس, لأطول مدة ممكنة. فهذا أمر مفيد دائما, ويسهل تمرير سياستها ويسهل الأمر على الحكومات التي تعتقل شعوبها لصالح سياسة الولايات المتحدة. والولايات المتحدة لا تنوي تغيير سياستها من اجل إرضاء الرأي العام الدولي, فهي ماضية في سياسة الحماية الاحتكارية للدواء رغم احتجاج العالم على الملايين المتوقع موتهم نتيجة الارتفاع الهائل المتوقع لأسعار الدواء, وهي ماضية في إتلاف الأرض بتدميرها اتفاقية كيوتو بانسحابها منها رغم الاحتجاجات الشديدة من العالم كله. وهي ماضية في بناء الدرع الصاروخي رغم الخطر الشديد الذي يعرضه للعالم بإزالته لما يسمى بتوازن الرعب, والذي كان له الفضل في تجنيب العالم حربا عالمية ثالثة أيام الاتحاد السوفيتي.
أقول رغم كل ذلك, فمن الأسهل تمرير كل هذه الإجراءات بدون ضوضاء وبسرعة اكبر, كلما كان عدد الذين يعارضونها اقل. لذلك فأن للإعلام الأمريكي مهمة واضحة وصعبة, فكيف يتصرف فيها؟
لنأخذ موضوعي انسحاب أمريكا من اتفاقية كيوتو, أولا:
تتركز الحملة الإعلامية الأمريكية عموما على أن الاتفاقية خطا فادح, وأنها لا تستند إلى دراسة علمية موثوق بها. وقد تمكن معارضوا الاتفاقية من جمع عشرات آلاف التواقيع من علماء بيئة يرون أن لا دليل علمي يسند الدعوة إلى أي إجراء لحماية الأرض من ظاهرة البيت الزجاجي (أن الغلاف الجوي, وبسبب زيادة ثاني اوكسيد الكربون يلعب دور الزجاج في البيوت الزجاجية المستخدمة للزراعة, مانعا الحرارة من التسرب إلى الجو, ومتسببا في ارتفاع درجة حرارة الأرض).
ويلعب هذا الإعلام من خلال مقالات تملا الصحف في الأشهر الماضية على بضعة ادعاءات وأدلة لا تخلو من التناقض المفضوح. فهم يدعون من جهة أن ليس هناك أي دليل علمي ثابت على أن درجة حرارة الأرض ترتفع وأن ما يحدث هو مجرد تذبذب طبيعي في حرارة الجو. ومن ناحية أخرى يقولون أن الارتفاع ليس بسبب تأثير الإنسان, باعتبار أن نسبة ثاني اوكسيد الكربون المنتج بشريا لا يزيد على 4 % من الحجم الكلي لذلك الغاز.
والتناقض الآخر الذي وجدته في مقالة نشرت في جريدة () الهولندية هو أن المقالة تؤكد أولا تفاهة كمية ثاني اوكسيد الكربون المنتجة, وان هذه الكمية لا يمكن أن يكون لها أي تأثير محسوس. وبعد قليل في نفس المقالة يورد كاتبها أن الزيادة في ثاني اوكسيد الكربون ستفيد النمو النباتي!
إلا أن اكثر ما سمعت وقرأت إثارة للضحك والبكاء في هذا الموضوع هو ما ورد عن مسؤول في البيت الأبيض قبل أيام. فقبل أيام ذكر مسؤول ياباني كبيران اليابان لا تنوي الاستمرار في اتفاقية كيوتو إن لم تلزم الولايات المتحدة نفسها بها. و على اثر ذلك انطلقت تصريحات أمريكية فرحة بالخبر, و مشيرة إلى أن هذا دليل أخر على أن الاتفاقية غير جيدة, وانهم سعيدون بانظمام اليابان إلى الولايات المتحدة في معارضة الاتفاقية!
الأمر أن اليابان لم تقل بأن الاتفاقية سيئة, إنما قالوا بوضوح أن الاتفاقية لا معنى لها إن لم تلتزم بها الولايات المتحدة. وهم محقون في ذلك, فالولايات المتحدة هي اكبر منتج لثاني اوكسيد الكربون في العالم سواء اخذ ذلك بشكل مطلق (كدولة) أو نسبة إلى عدد النفوس. فهي تقذف إلى الجو 25% من مجموع إنتاج العالم من ذلك الغاز, ولذلك فلا معنى من أن يتحمل الآخرون تكاليف التخفيض الباهظة, ويبقى المصدر الرئيسي له ينفث سمومه في الجو بحرية.
لذلك من الأجدى أن يفهم القرار الياباني كاحتجاج إضافي على القرار الأمريكي, لأنه يحمل ذلك القرار مسؤولية انسحاب ليس الولايات المتحدة من الاتفاقية, وانما اليابان أيضا, وربما وكما هو متوقع, البقية من الدول الموقعة عليه.
لاحظوا هنا الوقاحة الكبيرة للإعلام الأمريكي في محاولته تمرير هذه الخدعة على الناس في أمريكا والعالم, وتصويره البيان الياباني الذي يثبت في حقيقة أمره سوء و أذى القرار الأمريكي, على انه تأييد لذلك القرار.
أن أمل الإعلام الأمريكي بتمرير هذه الرسالة لا يمكن أن يفهم إلا بأنه استخفاف بعقول الناس. فمن يصنع الرسالة الإعلامية يتوقع أن تتمكن من اجتياز القدرة النقدية لعقول متلقيها.
الموضوع الثاني هو نشر الغطاء الصاروخي الدفاعي للولايات المتحدة. أن اتفاقية (سالت) بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق تمنع أي من الدولتين من بناء مثل هذا الغطاء أو الدرع لان الخطورة فيه أن الدولة التي تمتلكه سيمكنها مبدئيا أن تضرب الآخرين (نوويا) دون الخوف من انتقام المعتدى عليه بضربة مضادة.أن اهتمام الولايات المتحدة ببناء الدرع, واستعدادها لتحمل نفقاته الباهظة, وفي هذا الوقت بالذات الذي تعتبر فيه الدولة العظمى الوحيدة, التي ليس لها أن تخشى أي هجوم من أية جهة, لا يمكن إلا أن يفسر بنوايا هجومية على الدول الأخرى أو في احسن الأحوال بابتزازها بالتهديد بذلك الهجوم.
كيف يتصرف الإعلام الأمريكي مع هذه الصورة القبيحة المرفوضة أمريكيا و عالميا؟
لنقرا ما صدر عن الإدارة الأمريكية, عشية التجربة الصاروخية الناجحة الأخيرة في سياق بناء الدرع المذكور. فقد ردت الإدارة الأمريكية على احتجاج روسيا الذي إشارة إلى اتفاقية الحد من الأسلحة الستراتيجية سالت, بأن تلك الاتفاقية قد وقعت في ظروف أخرى, وان البلدين لم يعودا عدوين كما كانا عند توقيع الاتفاقية!
وهنا أيضا يضع الإعلام الأمريكي أمله في صغر عقل المتلقين من الناس لتمرير تناقض واضح, فلم يجهد نفسه بإخفائه. فبعد خمسين سنة من الإنفاق الهائل على التسلح بسبب العداوة بين البلدين, يجد المتحدث الأمريكي أن زوال تلك العداوة سبب مقبول لزيادة ذلك الإنفاق عما كان عليه أثناءها!
إذا اتفقنا على أن الإعلام الأمريكي إعلام علمي يدرس متلقيه بجدية ودقة, ولا يقدم عموما على تقديم رسالة الا إذا توقع إمكانية بيعها على الرأي العام الداخلي و العالمي, ألا تتفقون معي في القلق على تقديرنا للقدرة النقدية لذلك الرأي العام؟