الـــوضـــــــــــــوء
أمرنا الله تعالى في القرآن الكريم إذا نحن قمنا إلى الصلاة أن نغسل وجوهنا وأيدينا إلى المرافق وأن نمسح برؤوسنا ونغسل أرجلنا إلى الكعبين قال تعالى
: {يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُم وَأرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُم جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإن كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْديكُمْ مِنْهُ مَا يُريد اللهُ ليَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(1).
ولبيان طرف من المراد من هذا الأمر الإلهي نقول
:
من الثابت أن هناك علاقة قوية وارتباطاً وثيقاً بين النفس والجسد وإذا كان نشيطاً نشطت النفس واستيقظت وتفتَّحت مسامعها لما يُلقى عليها في الصلاة من أوامر الله المنطوية في آيات الذكر الحكيم
.
وعلى العكس إذا كان الجسد إثر النوم أو التعب الجسدي فاقد النشاط خمدت بالتالي النفس وكان من العسير عليها أن تفقه أسرار الأوامر الإلهية وأن تعي كلام الله بالصلاة، وبما أنَّ هذه الأعضاء الواردة في الآية الكريمة مواطن لنهايات آلاف مؤلَّفة من الأعصاب ولذلك فإن غسلها بالماء يوقظ الجملة العصبية كلها وينبِّه كافة الأعصاب، وحيث أن النفس كما نعلم مركزها الأساسي في الصدر وأشعَّتها سارية عن طريق الأعصاب في سائر أنحاء الجسم لذلك فإن النفس بهذا الغسل تستيقظ وتنشط وتغدو مستعدة لسماع كلام الله وفهم المراد الإلهي، فضلاً عما يعود به هذا الوضوء من نشاط الدورة الدموية في الجسم وإزالة ما تراكم على أطرافه من أدران إن وُجدت، فالغاية من الوضوء
"النشاط" حصراً ليس إلاَّ.
ولعلَّك تقول
: إذا كانت الآية الكريمة لم تفصِّل في باقي الأعمال التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم بها أثناء الوضوء والتي تعارف الناس على تسميتها بسنن الوضوء وآدابه، فهل معنى ذلك أن الرسول أضاف شيئاً من عنده تمَّم به آية الوضوء، أم أن جميع ما أُثر عنه صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال كل ذلك إنما هو موجود في القرآن الكريم ومنطوي تحت آياته؟.
وجواباً على ذلك نقول
: ما يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأمين على كلام الله المبلغ لرسالات ربه أن يضيف شيئاً من عنده ويزيد على كلام الله. وإن نحن قلنا أن السنة النبوية جاءت متمِّمة لكلام الله، وإن نحن ثبتنا ذلك ورضيناه فمعناه أن كتاب الله جاء ناقصاً، وأن السنَّة جاءت لتلافي هذا النقص وهذا مما يخالف المنطق الصحيح ولا يرضى به الفكر السليم، إذ ما يكون لبشر أن يتمِّم كلام الله وحاشا لله وهو صاحب الكمال أن ينزِّل على رسوله شريعة ناقصة تحتاج لإتمام، فضلاً عن أن القول بذلك يخالف كل المخالفة ما جاء به صريح القرآن قال تعالى في محكم كتابه، عن رسل الله الكرام: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}(1).
وقوله الكريم
: {..مَا فَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِنْ شَيءٍ..}(2).
وإذا كانت هذه الآية الكريمة تثبت لنا أن الله تعالى ما فرَّط في الكتاب من شيء وكلامه تعالى إنما جاء منطوياً على كل ما يلزم هذا الإنسان وكل ما يحتاجه في الحياة، فكيف تستطيع أن تقول أم كيف تجرؤ على قول أن السنة النبوية وسائر ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من أحاديث أنها متممة لنقصٍ سهى عنه الله فجاء الرسول وأكمله، وهو تعالى منبع الكمال ولا تأخذه سنة ولا نوم
.
فالحقيقة إذن أنَّ كل ما ورد عن الرسول الكريم إن هو إلاَّ محض توضيح وبيان لما انطوى تحت آيات الله من معاني غفل عنها من غفل وأدركها صلى الله عليه وسلم بما امتاز به من عظيم الإقبال على الله وشديد صلته بالله قال تعالى
: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلاَّ رِجَالاً نُوحي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيِّنَ للنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(3) .
وزيادة في إيضاح هذه النقطة نقول
:
إذا نحن رجعنا إلى آية الوضوء وجدناها منطوية على جميع السنن التي أُثرت عن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الخصوص
.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يغسل أعضاء الوضوء ثلاثاً لتعليم البدو المتأخرين اجتماعياً يدلك بعد المرة الأولى العضو المأمور بغسله لينحلَّ ما تراكم عليه من غبار أو خلافه
.
وفي المرة الثانية يزول عن العضو بالغسل ما انحل
.
وفي المرة الثالثة لا يبقى عليه أثر من درن أو نحوه
.
لقد فَهمَ الرسول صلى الله عليه وسلم سرَّ الأمر الإلهي من كلمة
(اغسلوا) وعَلِمَ أن المراد من الغسل النشاط والنظافة إن لزمت لا مجرَّد تبلل العضو بالماء لأن كلمة (اغسلوا) تستدعي تنظيف العضو بالنسبة لبعض القبائل الموغلة في البوادي العفراء. والتنظيف إنما يكون بالصورة التي أدَّاها صلى الله عليه وسلم.
أما إذا بلَّ الإنسان العضو بالماء وصب عليه الماء مرة واحدة فلا يعدُّ ذلك غسلاً بالنسبة لهؤلاء البدو، وعليه فهذا التنظيف والنشاط المرفق هو لبعض القبائل البدوية والتي كان أفرادها متخلِّفون بالحياة الحضارية وكانت ظروفهم المعاشية الصعبة في أعماق صحراء الجزيرة العربية ولندرة الماء وافتقاده في كثير من الأحيان يعمدون إلى التيمُّم فتتَّسِخ جلودهم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أُرسل رحمةً للعالمين
.. للبدو وللحضَر، ولكن حقيقة الوضوء وحكمة فرضه عموماً ليْستا أبداً وقطعاً للنظافة لأن النظافة لها الاستحمام، لكنه فقط للنشاط لأن تيقُّظ الأعصاب ونشاط النفس يقتضي تكرار الغسل ثلاثاً كما أشرنا قبل قليل «قال الله من ثلاث» حديث شريف.
رجوعاً إلى علم النفس العتيد نجد إثباتاتٍ علميةٍ وتجاربَ عمليةٍ لا مجال أبداً لنقضها تكشِفُ اللثامَ عن أن من قوانين النفس الفطرية أن الحقيقة لا تثبت يقيناً فيها إلاَّ بتكرار الطلب ثلاث مرات فلا تنساها النفس وتثبت فيها، وهذا الأمر يتجلَّى حين توصي الأطفال الأبرياء بأمرٍ أو جلبِ أغراضٍ مرةً أو مرتين فالطفل ينسى المطلوب، ولكن في حال التكرار ثلاثاً فلن ينسى الطفل المطلوب منه
.
هذا ثابت قطعاً بعلم النفس ولكن رجوعاً إلى القرآن كتاب الله المقدَّس نجد هذا القانون مشاراً إليه وساري المفعول كما
«قال الله من ثلاث».
فقد ثبتت حكمة الحقائق الثلاث التي طبَّقها سيدنا الخضر بحضرة سيدنا موسى صلى الله عليه وسلم
.
كذا فالطلاق للفراق الأبدي بالثلاث
"إلاَّ بحال الزواج من زوج ثاني" هذا الطلاق بلا رجعة يتم بالثلاث كما هو معلوم(1).
كذلك تثبت حقيقة الإيمان ويشرق بنفس السالك بالحقِّ للحقِّ بثلاث بمدلول الآية الكريمة
: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى..}(2) .. والتي مجموعها ثلاث.
كذا بمدلول الآية الكريمة
: {..فَارجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى من فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتينِ..}(1).. والتي بمجموعها تكون ثلاثاً.
كذا بإنذار سيدنا صالح
صلى الله عليه وسلم لثمود {..ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ}(2).
وعلامة بشرى سيدنا زكريا صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى
: {..قَالَ آيتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً}(3).
وبآية أخرى
: {..ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً..}(4).
فقانون ثبات أيِّ أمرٍ بالنفس تكراره ثلاثاً فيثبت، فقانون النفس من ثلاث، كذلك كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يكرِّر الجمل الهامة ثلاث مرات لتستقر في نفوس السامعين.
هذا وقد توصَّل أبونا إبراهيم أبو الأنبياء بنفسه إلى اليقين بربِّ اليقين من ثلاث
: "الكوكب والقمر فالشمس".
وقد عزَّز تعالى الرسل بسورة
(يس) برسولٍ ثالث، حتى أن كفارة اليمين ثلاثة أيامٍ صياماً وغيرها من البراهين الصادقة.
فرسول الله من إله العرش مقتبسٌعلماً هداهُ لنا نوراً من الأزللذا سنَّ لنا بما يوحيه الله له بتكرار الاستنشاق وغسل الفم وغسل الأعضاء بالوضوء ثلاثاً بغية تحقيق النشاط للنفس من ثنايا الجسم.. فدين الإسلام دين قوةٍ ونشاط فبتمرير الماء على كلِّ عضو أثناء الوضوء ثلاث مرات كافٍ تماماً ووافٍ ليُوقظ الجملة العصبية كلّها وتنبيه كافة الأعصاب، عندها تنشط النفس لا سيما بأيام الصيف الحارة وبعد التعب وإثر الاستيقاظ من النوم، فبالماء ثلاث مرات يذهب التعب والكسل والميل للنوم إثر الاستيقاظ ويصرفها أصلاً وينهض بالنفس بالصلاة وصلاً.
وهكذا فكلمة
{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ} تقتضي الغسل ثلاثاً وينطوي تحتها الدلك وتخليل أصابع اليدين والرجلين عند غسلهما وتحريك الخاتم، وكذلك الترتيب والموالاة إلى غير ذلك من السنن التي نستطيع أن نعدّها وردت في الآية صريحة بالنسبة لصاحب الذوق السليم والإدراك الصحيح والفطنة العالية لأن الإيجاز بالنسبة لهذا الإنسان هو عين البلاغة ومحض البيان.