مجالس العجمان الرسمي

العودة   مجالس العجمان الرسمي > ~*¤ô ws ô¤*~المجالس العامة~*¤ô ws ô¤*~ > مجلس الدراسات والبحوث العلمية

مجلس الدراسات والبحوث العلمية يعنى بالدراسات والبحوث العلمية وفي جميع التخصصات النظرية والتطبيقية.

رد
 
أدوات الموضوع طرق مشاهدة الموضوع
  #21  
قديم 03-04-2005, 03:40 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

الدلالة المحكمة لآية الزينة على وجوب غطاء الوجه
لطف الله خوجة







هذا هو المبحث الثالث في سلسلة مباحث الحجاب.. وقد كان عنوان المبحث الأول والثاني كما يلي:

- الدلالة المحكمة لآية الحجاب على وجوب غطاء الوجه.

- الدلالة المحكمة لآية الجلباب على وجوب غطاء الوجه.


وفي هذا نسير وفق الطريقة نفسها، التي سرنا بها في عرض المبحثين السابقين.

* * *

- قال الله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}.

في هذه الآية دلالة واضحة على وجوب الحجاب الكامل، وبيان ذلك من وجوه:

- الوجه الأول: العفو عما ظهر بغير قصد.

إذا حصل الفعل باختيار: أسند إلى الفاعل، وإلا لم يسند.. مثل على ذلك: فعل "ظهر"..

- إذا كان عن اختيار، قيل: "أظهر"؛ أي فعل ذلك بإرادة وقصد.

- وإذا كان عن غير اختيار، قيل: "ظهر"؛ أي بغير بإرادة من الفاعل.

وفي الآية جاء الفعل "ظهر"، وليس "أظهر"، فالاستثناء إذن في قوله: {إلا ما ظهر منها}، يعود إلى ما يظهر من المرأة، من زينتها، بدون قصد.

ولننظر الآن: ما الزينة التي تظهر منها بغير قصد؟.

يقال هنا: قوله: {ما ظهر منها}، ضابط يندرج تحته كل زينة المرأة: الظاهرة، والباطنة. الوجه والكف، وما دونهما، وما فوقهما، فكل ما ظهر منها بغير قصد، فمعفو عنه؛ لأن الشارع لا يؤاخذ على العجز والخطأ.

وبيان هذا: أن ما يظهر من المرأة بغير قصد على نوعين:

- الأول: ما لا يمكن إخفاؤه في أصل الأمر: عجزا. وذلك مثل: الجلباب، أو العباءة، أو الرداء. [بمعنى واحد]، ويليه في الظهور: أسفل الثوب تحت الجلباب، وما يبدو منه بسبب ريح، أو إصلاح شأن، وكل هذه الأحوال واقعة على المرأة لا محالة.

- الثاني: ما يمكن إخفاؤه في أصل الأمر، لكنه يظهر في بعض الأحيان: عفوا دون قصد. مثلما إذا سقط الخمار، أو العباءة، أو سقطت المرأة نفسها، فقد يظهر شيء منها: وجهها، أو يدها، أو بدنها.

ففي كلا الحالتين: حالة العجز، وحالة العفو. يصح أن يقال: "ظهر منها"[1]. وحينئذ فالآية بينت أنها غير مؤاخذة؛ لأنها عاجزة، ولأنها لم تتعمد، وبمثل هذا فسر ابن مسعود الآية، وجمع من التابعين، فذكروا الثياب مثلا على ما يظهر بغير اختيار، قال ابن كثير في تفسيره [6/47]: "{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}، أي ولا يظهرن شيئا زينة للأجانب، إلا ما لا يمكن إخفاؤه. وقال ابن مسعود: كالرداء والثوب. يعني ما كان يتعاناه نساء العرب، من المقعنة التي تجلل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثوب، فلا حرج عليها فيه؛ لأن هذا لا يمكن إخفاؤه. ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها، وما لا يمكن إخفاؤه".

وهذا التفسير يطابق معنى الآية، ولا يعارضه بوجه، أما قول من فسر الآية: {ما ظهر منها}، بالوجه واليد، فإن فيه إشكالا: فأصحاب هذا القول، يصرحون بجواز إظهارهما مطلقا، دون قيد، ولو أنهم جعلوا مناط الجواز: حال العفو. لكان موافقا لمعنى الآية، لكنهم قصدوا حال الاختيار والتعمد، وهذا ينافي معنى وتفسير الآية, كما تقرر آنفا.

إذن في الآية قرينة تبين أن المراد: ما ظهر منها بعفو؛ من دون قصد، وتعمد، واختيار. وغير هذا القول يتعارض كليا مع لغة العرب، الذي نزل به القرآن، ومن شروط التفسير ألا يعارض كلام العرب.

- استطراد في بيان موقف الشيخ الألباني رحمه الله من هذا الوجه:

هذا الإحكام في الدلالة: حمل الشيخ الألباني، رحمه الله وأعلى درجته، على ترجيح أن الآية دلت على صراحة على وجوب ستر الزينة كلها، وعدم إظهار شيء منها أمام الأجانب، إلا ما ظهر بغير قصد، واستدل بقول ابن مسعود رضي الله عنه في تفسيره: {إلا ما ظهر منها} بالثياب. وقد كان ذلك رأيه، رحمه الله، في أول الأمر.. ثم إنه تراجع عنه، ومال إلى قول من رجع بالاستثناء على الوجه والكف، قال:

" ففي الآية الأولى [آية الزينة] التصريح بوجوب ستر الزينة كلها، وعدم إظهار شيء منها أمام الأجانب، إلا ما ظهر بغير قصد منهن، فلا يؤاخذن عليه إذا بادرن إلى ستره، قال الحافظ ابن كثير في تفسيره..".

فذكر المنقول من كلامه آنفا، ثم قال: "وهذا المعنى الذي ذكرنا في تفسير: {إلا ما ظهر منها}، هو المتبادر من سياق الآية، وقد اختلفت أقوال السلف في تفسيرها: فمن قائل: إنها الثياب. ومن قائل: إنها الكحل، والخاتم، والسوار، والوجه. وغيرها من الأقوال التي رواها ابن جرير في تفسيره عن بعض الصحابة والتابعين، ثم اختار هو أن المراد بهذا الاستثناء: الوجه والكفان. قال:...".

ومضمون ما ذكره ابن جرير: أن ما ظهر منها هو الوجه واليد. باعتبارهما ليسا بعورة في الصلاة؛ أي أنه قاس عورة النظر على عورة الصلاة. لكن الشيخ تعقبه فقال:

"وهذا الترجيح غير قوي عندي؛ لأنه غير متبادر من الآية على الأسلوب القرآني، وإنما هو ترجيح بالإلزام الفقهي، وهو غير لازم هنا، لأن للمخالف أن يقول: جواز كشف المرأة عن وجهها في الصلاة، أمر خاص بالصلاة، فلا يجوز أن يقاس عليه الكشف خارج الصلاة، لوضوح الفرق بين الحالتين.

أقول هذا مع عدم مخالفتنا له في جواز كشفها وجهها وكفيها في الصلاة وخارجها، لدليل، بل لأدلة أخرى غير هذه، كما يأتي بيانه، وإنما المناقشة هنا في صحة هذا الدليل بخصوصه، لا في صحة الدعوى، فالحق في معنى هذا الاستثناء، ما أسلفناه أول البحث، وأيدناه بكلام ابن كثير، ويؤيده أيضا ما في تفسير القرطبي: قال ابن عطية: ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية، أن المرأة مأمورة بأن لا تبدي، وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه، أو إصلاح شأن، ونحو ذلك فـ{ما ظهر} على هذا الوجه، مما تؤدي إليه الضرورة في النساء، فهو معفو عنه.

قال القرطبي: قلت: هذا قول حسن، إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين، ظهورهما عادة عبادة، وذلك في الحج والصلاة، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعا إليهما..".

وبعد أن نقل كلامه بتمامه قال الشيخ: "قلت: وفي هذا التعقيب نظر أيضا، لأنه وإن كان الغالب على الوجه والكفين ظهورهما بحكم العادة، فإنما ذلك بقصد من المكلف، والآية حسب فهمنا، إنما أفادت استثناء ما ظهر منها دون قصد، فكيف يسوغ حينئذ جعله دليلا شاملا، لما ظهر بالقصد؟! فتأمل".

وكما قلت آنفا، فقد كان هذا رأيه في دلالة هذه الآية، في أول الأمر، فلم ير فيها ما يدل على كشف الوجه واليد، وإن كان يرى جواز كشفهما، لكن لأدلة أخرى. وبغض النظر عن إمكان الجمع بين قوليه:

- القول بأن الآية دلت على ستر الزينة كلها، وعدم إظهار شيء منها للأجانب، إلا ما ظهر بغير قصد.

- والقول بجواز كشف الوجه واليد، لكن بأدلة أخرى.

فإن الشيخ مال بعد إلى القول الذي كان رده أولاً، فقال:

"ثم تأملت؛ فبدا لي أن قول هؤلاء العلماء [من فسر الآية بالوجه والكف] هو الصواب، وأن ذلك من دقة نظرهم رحمهم الله، وبيانه: أن السلف اتفقوا على أن قوله تعالى: {إلا ما ظهر منها}، يعود إلى فعل يصدر من المرأة المكلفة، غاية ما في الأمر أنهم اختلفوا، فيما تظهره بقصد منها، فابن مسعود يقول: ثيابها؛ أي جلبابها. وابن عباس ومن معه من الصحابة وغيرهم يقول: هو الوجه والكفان منها.

فمعنى الآية حينئذ: إلا ما ظهر منها عادة بإذن الشارع وأمره".

ثم استدل لهذا الرأي، بأن كشف الوجه والكف هو عادة النساء في عهد النبوة وبعده، فقال:

"فإذا ثبت أن الشرع سمح للمرأة بإظهار شيء من زينتها، سواء كان كفا أو وجها أو غيرهما، فلا يعترض عليه بما كنا ذكرناه من القصد؛ لأنه مأذون فيه، كإظهار الجلباب تماما، كما بينت آنفا.

فهذا هو توجيه تفسير الصحابة الذين قالوا: إن المراد بالاستثناء في الآية: الوجه والكفان. وجريان عمل كثير من النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده".

قال: "قلت: فابن عباس, ومن معه من الأصحاب، والتابعين، والمفسرين: إنما يشيرون بتفسيرهم لآية: {إلا ما ظهر منها}، إلى هذه العادة، التي كانت معروفة عند نزولها، وأقروا عليها، فلا يجوز إذن معارضة تفسيرهم بتفسير ابن مسعود". [جلباب المرأة المسلمة 39-53].

فهذا كلامه بالتفصيل، ويلاحظ ما يلي:

1- صريح الآية استثناء ما ظهر بغير قصد، فلا يدخل فيه الوجه والكف؛ لأنهما يظهران بقصد، وهذا ما أقر به الشيخ في أول كلامه، ودعا للتأمل فيه.

2- لا يصح صرف هذا المعنى الصريح [استثناء ما ظهر بغير قصد] إلى غيره [استثناء ما ظهر بقصد] إلا بقرينة صحيحة، والقرينة التي استدل بها الشيخ هنا هي: عادة النساء في عهد النبوة. وهذه قرينة غير مسلمة، فللمنازع أن يرد ذلك، بأن عادة النساء لم تكن في الكشف، بل في الستر، ويسوق على ذلك آثارا صريحة، لا ينكرها الخصم، بل يثبت أن الكشف كان عادتهن في أول الأمر، حتى أمرن بالتغطية، كيلا يتشبهن بالإماء، كما في آية الإدناء، وحينئذ فقوله هو الراجح، أو لا أقل من أن يكونا متساويين، وحينئذ، في الحالين، لا تصح القرينة هنا، فإن القرينة لا بد أن تسلم من المعارضة. ثم كيف يكون عادتهن، في عهد النبوة: الكشف. والتغطية مستحبة في أدنى أقوال العلماء..؟!!.. أفكان ذلك الرعيل الأول من المؤمنات مفرطات في هذا الثواب الجزيل، مع ما نقل عنهن من تسابق للخير، يوازي مسابقة الصحابة رضوان الله عليهم؟!

3- إذا بطلت القرينة، بقيت الآية على حالها، صريحة في استثناء ما ظهر بغير قصد، ومن ثم تبطل دلالتها على جواز كشف الوجه الكف.

4- تشبيه الوجه والكف بالجلباب باطل، لأن الوجه والكف يمكن إخفاؤه، والجلباب لا يمكن.

5- ثمة نزاع في فهم كلام الصحابة، كابن عباس رضي الله عنهما: ما أراد بالوجه والكف؟. فالآثار عنه تبين أنه أراد جواز إظهارهما للمحارم غير الزوج، وليس الأجانب، وسيأتي تفصيله بعد قليل.

6- يبطل بذلك قول الشيخ أن معنى الآية: "إلا ما ظهر منها بإذن الشارع وأمره"؛ الوجه والكف، إلا في حالة واحدة، هي: إذا ظهرا بغير قصد.

* * *

- الوجه الثاني: الزينة ليست المتزين.

الزينة في كلام العرب هي: ما تتزين به المرأة، مما هو خارج عن أصل خلقتها، كالحلي. وكذلك استعملت الزينة في القرآن للشيء الخارج عن أصل خلقة المتزين، من ذلك قوله تعالى:

- {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد}، أي الثياب.

- {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها}، فالزينة على الأرض، وليس بعض الأرض.

- {إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب}، فالكواكب زينة للسماء، وليست منها.

وهكذا، فلفظ الزينة يراد بها ما يزين به الشيء، وليس من أصل خلقته.

وعلى ذلك فتفسير الزينة ببدن المرأة خلاف الظاهر، ولا يحمل عليه إلا بدليل، فقول من قال: إن الزينة التي يجوز للمرأة إظهارها هو: الوجه والكف. خلاف المعنى الظاهر، فإذا فسرت بالثياب استقام في كلام العرب ولغة القرآن. [انظر: أضواء البيان 6/198-199].

ويؤيد هذا ما رواه ابن جرير [التفسير 17/257] بسنده:

- عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال: {إلا ما ظهر منها}، قال: الثياب. قال أبو إسحاق: "ألا ترى أنه قال: {خذوا زينتكم عند كل مسجد}".

فاستدل أبو إسحاق على صحة تفسير الزينة بالثياب بالقرآن، ففسر القرآن بالقرآن، وهذا أعلى درجات التفسير؛ لأن الله تعالى أعلم بمراده.

فإن قال قائل: قد علمتم أن من الأقوال التي قيلت تفسيرا للزينة في الآية أنها: الكحل والخضاب. وهما من الزينة، لا شك في ذلك، وليسا من أصل الخلقة، فلم لا يكون الاستثناء عائدا إليهما، فيجوز للمرأة حينئذ إظهار الكحل في العين، والخضاب في اليد، وإذا حصل ذلك، لزم منه كشف الوجه واليد؟

فالجواب أن يقال: لا يلزم من جواز إظهار الكحل في العين: إظهار الوجه.

ثم لا نسلم لكم أن ابن عباس رضي الله عنهما قصد بذكر الوجه والكف، أو الكحل، والخاتم، والخضاب: إظهارهما للأجانب. فإن هذا هو محل النزاع: ماذا عنى ابن عباس؟، وسيأتي بيان هذه المسألة.

* * *

- الوجه الثالث: هو قول طائفة من السلف.

القول بأن الذي يتسامح في ظهوره للأجانب هو الثياب، هو قول طائفة من السلف:

- روى ابن جرير بسنده عن ابن مسعود، قال: "{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}، قال: الثياب".

- وروى أيضا بسنده إبراهيم النخعي قال: "{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}، قال: الثياب".

- وروى بسنده عن الحسن في قوله: {إلا ما ظهر منها}، قال: الثياب.

- ومثله عن أبي إسحاق السبيعي. [التفسير 17/256-257]

- وقال ابن كثير في تفسيره [6/47]: "{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}، أي ولا يظهرن شيئا زينة للأجانب، إلا ما لا يمكن إخفاؤه. وقال ابن مسعود: كالرداء والثوب. يعني ما كان يتعاناه نساء العرب، من المقعنة التي تجلل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثوب، فلا حرج عليها فيه، لأن هذا لا يمكن إخفاؤه. ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها، وما لا يمكن إخفاؤه. وقال بقول ابن مسعود: الحسن، وابن سيرين، وأبو الجوزاء، وإبراهيم النخعي وغيرهم".

فهذه أقوال جمع من السلف، كلها دلالتها صريحة على وجوب تغطية الوجه، فعلى الرغم من أن الآية عمدة عند القائلين بجواز الكشف، إلا أن هؤلاء الأئمة لم يفهموا هذا الفهم بوجه ما.

وبهذه الأوجه يثبت من غير شك: أن دلالة الآية قاطعة، على وجه الحجاب الكامل على المرأة.


* * *

استطراد: اعتراض، وجواب.

فإن قال قائل: فما تصنعون بالآثار الواردة عن الصحابة، ومن بعدهم من الأئمة في تفسير: {ما ظهر منها}، بالوجه والكف. وهي آثار منها الثابت، ومنها ما دون ذلك، والحجة في الثابت منها.

فالجواب ما يلي:

- (جواز كشف الوجه واليد للمحارم، لا الأجانب).

ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية بالوجه والكف: مفسر بما جاء عنه في الرواية الأخرى، التي رواها ابن جرير فقال:

- "حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنى معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}، قال: والزينة الظاهرة: الوجه، وكحل العين، وخضاب الكف، والخاتم. فهذه تظهر في بيتها، لمن دخل من الناس عليها". [التفسير 17/259][2].

من هم الناس في كلام ابن عباس؟ أهم الأجانب؟..

كلا، فإن تحريم دخول الأجانب على النساء، لا يخفى على أحد، فضلا عنه، وقد قال رسول الله صلى الله وسلم: (إياكم والدخول على النساء)، والآية: {وإذا سألتموهن متاعا فسألوهن من وراء حجاب}. إذن فقصده إذن: من دخل عليها من محارمها غير الزوج. فهذه تبدي لهم ما ظهر منها، مما يشق عليها إخفاؤه في بيتها، فعلى هذا يحمل قول ابن عباس، لا على نظر الأجانب إليها.

وهذا يوافق ما جاء عنه في تفسير قوله تعالى: {يدنين عليهن من جلابيبهن}، فقد روى ابن جرير بسنده إلى ابن عباس في الآية قال: "أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة، أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة" [التفسير 19/181]، فهذا صريح في تغطية الوجه، وقد تقدم.

ومن المعلوم المقرر عقلا: أنه إذا وردت عن الصحابي رواية صريحة في المعنى، وأخرى محتملة للمعنيين، كان حملها على المعنى الصريح هو المتوجب، فكيف إذا كانت هذه الأخرى أقرب إلى معنى الرواية الأولى؟

* * *

مع يقيننا أن هذا الوجه قاطع للنزاع في معنى كلام ابن عباس رضي الله عنهما، فهو أحرى من فسر لنا كلامه، وقد بين أنه أراد إظهار الوجه والكف للمحارم، لمن دخل منهم البيت، وهو الموافق لقوله في آية الجلباب، إلا أنه تنزلا وجدلا نقول: هب أن ابن عباس لم يرد عنه ما يفسر كلامه، فهل تفسيره الآية بالوجه والكف ليس له إلا احتمال واحد هو: جواز إظهارهما للأجانب؟

والجواب: كلا، بل ثمة احتمالات أخر، هي:

أولا: استثناء أم نهي؟

في الآية نهي واستثناء، فقوله: {ولا يبدين زينتهن} = نهي. وقوله: {إلا ما ظهر منها} = استثناء.

فقول ابن عباس وغيره، إما أن يحمل على: النهي، أو الاستثناء.

فأكثرهم نظر إلى الاستثناء، ولم ينظر إلى النهي، مع أنه محتمل، ففي الاستثناء: المعنى أنهن نهين عن إبداء زينتهن، ومنها الكف الوجه، وربما يكون سبب تخصيصهما حينئذ بالذكر: لأنهما أكثر ظهورا. بالنظر إلى كشفها في الصلاة والإحرام، وحينئذ يكون تفسير ابن عباس لقوله: {ولا يبدين زينتهن}، لا قوله: {إلا ما ظهر منها}، وهو محتمل. وقد أورد ابن كثير هذا الاحتمال فقال:

- "وهذا يحتمل أن يكون تفسيرا للزينة التي نهين عن إبدائها"، إلى أن قال: "ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه: أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفين، وهذا هو المشهور عند الجمهور"[التفسير6/47].

فإن احتج المخالف بأن هذا الوجه غير مشهور عند العلماء، قلنا: هو كذلك، لكن ليس هذا موضع الاحتجاج من إيراد هذا الوجه، إنما في وجود احتمال آخر غير المشهور، له ذكر عند العلماء، يوافق المشروع وغير باطل عقلا، ومعلوم أنه إذا تطرق الاحتمال بطل الاستدلال، ومن ثم لا تكون هذه التفسيرات من الصحابة رضوان الله عليهم حجة قاطعة على الكشف، بل محتملة غير ملزمة.

وإذا كان هذا هو حال هذا التفسيرات، فكيف يعارض بها الدلالة المحكمة لآيات: الحجاب، والجلباب، والزينة؟!

- ثانيا: العفو عما ظهر بغير قصد.

تقدم في الوجه الأول: أن الآية تسامحت فيما ظهر من المرأة بغير قصد. ومعلوم أن المرأة قد يظهر منها الوجه والكف بغير اختيارها، وهذا يحصل كثيرا، بخلاف غيرهما، وعلى هذا يمكن حمل كلام ابن عباس وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم على ما ظهر من المرأة بغير قصد، مما هو من زينتها، أو بدنها، كالوجه والكف، والخضاب، ونحو ذلك.

ثالثا: التدرج في الحجاب.

ثمة جواب هنا ورد عن ابن تيمية هو: أن الحجاب هكذا شرع في بداية الأمر، ستر البدن كله، إلا الوجه والكفين، ثم لما نزلت آية الجلباب أمرن بستر الوجه والكف أيضا. قال:

"(فصل في اللباس في الصلاة) وهو أخذ الزينة عند كل مسجد، الذي يسميه الفقهاء: (باب ستر العورة في الصلاة)، فإن طائفة من الفقهاء ظنوا أن الذي يستر في الصلاة، هو الذي يستر عن أعين الناظرين، وهو العورة، وأخذ ما يستر في الصلاة من قوله: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن}، ثم قال: {ولا يبدين زينتهن}؛ يعنى الباطنة: {إلا لبعولتهن}الآية. فقال يجوز لها، في الصلاة، أن تبدى الزينة الظاهرة دون الباطنة، والسلف قد تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين:

- فقال ابن مسعود ومن وافقه هي: الثياب.

- وقال ابن عباس ومن وافقه هي: فى الوجه واليدين؛ مثل الكحل والخاتم.

وعلى هذين القولين تنازع الفقهاء في النظر إلى المرأة الأجنبية، فقيل: يجوز النظر لغير شهوة إلى وجهها ويديها. وهو مذهب أبى حنيفة والشافعي وقول في مذهب أحمد.

وقيل: لا يجوز. وهو ظاهر مذهب أحمد، فإن كل شيء منها عورة، حتى ظفرها، وهو قول مالك. وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين: زينة ظاهرة، وزينة غير ظاهرة. وجوز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج، وذوى المحارم، وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب، كان النساء يخرجن بلا جلباب، يرى الرجل وجهها ويديها، وكان إذا ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها، لأنه يجوز لها إظهاره.

ثم لما أنزل الله عز وجل آية الحجاب بقوله: {يا أيها النبى قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن}، حجب النساء عن الرجال، وكان ذلك لما تزوج زينب بنت جحش، فأرخى الستر ومنع النساء أن ينظرن، ولما اصطفى صفية بنت حيي بعد ذلك، عام خيبر، قالوا: (إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين، وإلا فهي مما ملكت يمينه)، فحجبها.

فلما أمر الله أن لا يسألن إلا من وراء حجاب، وأمر: أزواجه، وبناته، ونساء المؤمنين. أن يدنين عليها من جلابيبهن، والجلباب هو: الملاءة. وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره: الرداء. وتسميه العامة: الإزار. وهو الإزار الكبير الذي يغطى رأسها وسائر بدنها، وقد حكى أبو عبيد[3] وغيره: أنها تدنيه من فوق رأسها فلا تظهر إلا عينها. ومن جنسه النقاب، فكن النساء ينتقبن، وفى الصحيح: (أن المحرمة لا تنتقب، ولا تلبس القفازين)، فإذا كن مأمورات بالجلباب، لئلا يعرفن، وهو ستر الوجه، أو ستر الوجه بالنقاب، كان الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهرها للأجانب، فما بقى يحل للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة.

فابن مسعود ذكر آخر الأمرين، وابن عباس ذكر أول الأمرين". [الفتاوى 22/109-111]

رابعا: عورة النظر غير عورة الصلاة.

هذه الآية ليست في عورة النظر، بل عورة الصلاة. وذلك أن العورة عورتان:

- عورة في النظر، وهذه تعم جميع البدن.

- وعورة في الصلاة، وهذه تعم البدن إلا الوجه والكف.

وطائفة من العلماء يقولون بأن للمرأة أن تكشف وجهها وكفها. ومقصودهم أن ذلك في الصلاة؛ لأنها مأمورة به الصلاة، ويدل على هذا أن كلامهم في جواز كشف الوجه يأتي عند الكلام على ستر العورة في الصلاة، وقد نص طائفة من أهل العلم على التفريق بين عورة النظر وعورة الصلاة:

- قال البيضاوي في تفسيره قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن..}: "والمستثنى هو الوجه والكفان، لأنهما ليستا من العورة، والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر، فإن بدن الحرة كلها عورة، لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها، إلا لضرورة، كالمعالجة وتحمل الشهادة".

- قال الشهاب في شرحه تفسير البيضاوي [عناية القاضي وكفاية الراضي 6/373، انظر: عودة الحجاب 3/228،231]: "ومذهب الشافعي رحمه الله، كما في الروضة وغيرها، أن جميع بدن المرأة عورة، حتى الوجه والكف مطلقا، وقيل: يحل النظر إلى الوجه والكف، إن لم يخف فتنة، وعلى الأول: هما عورة إلا في الصلاة، فلا تبطل صلاتهما بكشفهما"، قال: "وما ذكره [البيضاوي] من الفرق بين العورة في الصلاة وغيرها، مذهب الشافعي رحمه الله".

- وقال ابن تيمية: "التحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة، وهو عورة في باب النظر، إذ لم يجز النظر إليه". وقال: "فليست العورة في الصلاة مرتبطة بعورة النظر لا طردا ولا عكسا" [الفتاوى الكبرى 4/409].

- وقال ابن القيم: "العورة عورتان: عورة في الصلاة، وعورة في النظر، فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك" [إعلام الموقعين 2/80].

- وقال الأمير الصنعاني في سبل السلام (1/176): "ويباح كشف وجهها، حيث لم يأت دليل بتغطيته، والمراد كشفه عند صلاتها، بحيث لا يراها أجنبي، فهذه عورتها في الصلاة، وأما عورتها بالنظر إلى نظر الأجنبي إليها فكلها عورة".

- وقال عبد القادر الشيباني الحنبلي في نيل المآرب بشرح دليل الطالب 1/39 [عودة الحجاب 3/230]: " والوجه والكفان من الحرة البالغة عورة خارج الصلاة، باعتبار النظر، كبقية بدنها".

- يقول الشيخ أبو الأعلى المودودي: "الفرق كبير جدا بين الحجاب وسترة العورة، فالعورة ما لا يجوز كشفه حتى للمحارم من الرجال، وأما الحجاب فهو شيء فوق ستر العورة، وهو ما حيل به بين النساء والأجانب من الرجال" [تفسير سورة النور ص158، انظر: عودة الحجاب 3/232].

وليس المقصود استقصاء هذه الأقوال، لكن المقصود بيان أنه لا يصح أن يفهم من مجرد قولهم: والمرأة الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها. أو بقولهم في الآية: {إلا ما ظهر منها}، هو الوجه والكف. أن مذهبهم جواز الكشف أمام الأجانب. إذ قد يكون مقصودهم أن هذا في الصلاة، فلا بد إذن من دليل آخر يدل صراحة على أن مذهبهم جواز كشف الوجه أمام الأجانب.

إذن كل الأدلة تفضي إلى وجوب تغطية الوجه والكف وسائر البدن، وعلى هذا كلام جماهير أهل العلم.

* * *

- لا يعارض القطعي بالظني.

لو فرضنا جدلا أن هذه الآثار تخالف الدلالة القطعية للآية، فالحجة فيما أثبتته الآية، فقول الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مقدم على قول كل أحد، وكم من النصوص فسرت بما يعارضها، وكان الواجب طرحها والإعراض عنها.. فلو قدرنا أن هذه الآثار المفسرة للآية بكشف الوجه ثابتة السند والمعنى، فلا ريب أن الحجة فيما قطع بدلالته، وآية الزينة بينة الدلالة على وجوب التغطية، كما أثبتنا، وقد أثبتنا قبل ذلك قطعية دلالة آية الحجاب، وكذا آية الجلباب، على وجوب الحجاب الكامل، فكيف تطرح هذه القطعيات لبعض الأقوال، وبعضها لا تثبت، وبعضها ليست قطعية الدلالة، لها تأويل؟! كما قد تبين بالبيان السابق.

فإن قيل: هل أنتم أعلم أم ابن عباس ومن وافقه، وقد فسروا: {ما ظهر منها}، بأنه الوجه والكف؟.

فيقال: بل هم أعلم، إنما النزاع في معنى ما ورد عنهم، فقد تبين بالأوجه السابقة: أن توجيه كلامهم نحو جواز كشف الوجه واليد مطلقا، فيه نظر !! ولا يسلم للمخالف به، والذي حملنا على هذا الرأي:

1- ما ورد عنهم من قول خلاف ذلك، حيث تقدم قول ابن عباس أنها في الذي يدخل على المرأة بيتها، والمقطوع به أن ابن عباس رضي الله عنهما لم يكن ليجيز لغير محرم دخوله على امرأة أجنبية، فضلا أن يجيز لها كشف وجهها ويديها أمامه، في بيتها، كيف وهو الذي فسر الإدناء، بأن تغطي المرأة وجهها، فلا تبدي إلا عينا واحدة، أفكان يأمرها بالتغطية خارج البيت، ويأذن لها بالكشف داخل البيت؟!

2- أن أصل الحجاب مشروع، ونصوصه الدالة عليه عديدة، فهي شعيرة، ومن المحكمات، فليس من السهولة تجاوز هذا الحكم الواضح لأجل آثار، بعضها لا تثبت، وبعضها لها تأويل سائغ، فتكون من المتشابهات التي يجب ردها إلى المحكمات.

3- أن من الصحابة رضوان الله عليهم، وهو ابن مسعود رضي الله عنه، من صرح في الآية بغير هذا المعنى، فقال هو: الثياب. وتبعه على ذلك جمع من التابعين.

* * *

- القول في قوله تعالى: وليضربن بخمرهن على جيوبهن{.

قال الإمام البخاري: "باب {وليضربن بخمرهن على جيوبهن}"، ثم ذكر سنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: (يرحم الله نساء المهاجرت الأول، لما أنزل الله: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن}، شققن مروطهن، فاختمرن بها). [فتح الباري 8/489]

يرى الشيخ الألباني، رحمه الله وأعلى درجته، أن الخمار عند الإطلاق هو غطاء الرأس فقط، دون الوجه، وقد يستعمل أحيانا في غطاء الوجه، يقول:

- "الخمار غطاء الرأس فقط، دون الوجه" [الرد المفحم ص13].

- "كما أن العمامة عند إطلاقها، لا تعني تغطية وجه الرجل؛ فكذلك الخمار عند إطلاقه، لا يعني تغطية وجه المرأة"[الرد المفحم ص18].

- "وجملة القول: إن الخمار والاعتجار عند الإطلاق؛ إنما يعني: تغطية الرأس، فمن ضم إلى ذلك تغطية الوجه، فهو مكابر معاند، لما تقدم من الأدلة".[الرد المفحم ص25].

- "لا ينافي كون الخمار غطاء الرأس، أن يستعمل أحيانا لتغطية الوجه" [الرد المفحم ص23].

وقد بنى رأيه هذا على أمور ثلاثة هي:

- الأول: نصوص من الكتاب والسنة دلت على أن الخمار: غطاء الرأس.

قال: " وأما مخالفته للسنة فهي كثير؛ منها قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) وهو حديث صحيح، مخرج في الأرواء (196) برواية جمع؛ منهم ابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما.

فهل يقول الشيخ التويجري، بأنه يجب على المرأة البالغة أن تستر وجهها في الصلاة ؟!.

ومثله قوله صلى الله عليه وسلم في المرأة التي نذرت أن تحج حاسرة: (مروها فلتركب، ولتختمر، ولتحج)، وفي رواية: (وتغطي شعرها)، وهو صحيح أيضا، خرجته في الأحاديث الصحيحة (2930).

فهل يجيز للمحرمة أن تضرب بخمارها على وجهها، وهو يعلم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المرأة المحرمة..)؟!

ومثل ذلك أحاديث المسح على الخمار في الوضوء" [الرد المفحم 16-17].

- الثاني: أقوال المفسرين والفقهاء في معنى الخمار.

قال رحمه الله : "فمن المفسرين: إمامهم ابن جرير الطبري، والبغوي، والزمخشري، وابن العربي، وابن تيمية، وابن حيان الأندلسي، وغيرهم كثير، وكثير ممن ذكرنا هناك".

ومن المحدثين: ابن حزم، والباجي الأندلسي..".

قال: "ومن الفقهاء: أبو حنيفة، وتلميذه محمد بن الحسن، في الموطأ، وستأتي عبارته في ص (34)، والشافعي القرشي، والعيني" [الرد المفحم 18،21].

- الثالث: كلام أهل اللغة في معنى الخمار.

قال: "ومن ذلك قول العلامة الزبيدي في (شرح القاموس) 3/189، في قول أم سلمة رضي الله عنها: إنها كانت تمسح على الخمار. أخرجه ابن أبي شيبة في (المصنف) 1/22: أرادت بـ(الخمار): العمامة؛ لأن الرجل يغطي بها رأسه؛ كما أن المرأة تغطيه بخمارها".

وكذا في (لسان العرب). وفي المعجم (الوسيط)، تأليف لجنة من العلماء، تحت إشراف (مجمع اللغة العربية)، ما نصه: (الخمار): كل ما ستر. ومنه خمار المرأة، وهو ثوب تغطي به رأسها. ومنه العمامة؛ لأن الرجل يغطي بها رأسه، ويديرها تحت الحنك" [الرد المفحم 17-18].

* * *

كان ذلك رده رحمه الله على من فسر الخمار بغطاء الوجه، في قوله تعالى: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن}، حيث يرى رحمه الله: أن الآية لا تدل على غطاء الوجه، بل الرأس؛ لأن معنى الخمار كذلك.

وقد استنكر كل قول يفسر الخمار بغطاء الوجه، ووصف كل ما ورد عن الأئمة بهذا المعنى أنه: إما زلة، أو سبق قلم، أو تفسير مراد. فقال [الرد المفحم ص13]:

"وتشبث في ذلك ببعض الأقوال، التي لا تعدو أن تكون من باب: زلة عالم، أو سبق قلم، أو في أحسن الأحوال: تفسير مراد، وليس تفسير لفظ؛ مما لا ينبغي الاعتماد عليه في محل النزاع والخلاف".

* * *

وتعليقا على ما أورده الشيخ يقال هنا:

- أولا: ليست الآية هي الحجة في وجوب غطاء الوجه.

هذه مسألة مهمة، وهي: أن آية الخمار ليست العمدة في وجوب غطاء الوجه، فدليل الوجوب قد تقدم في الآيات الثلاثة: آية الحجاب، وآية الجلباب، وآية الزينة. ودلالتها محكمة على الوجوب.

وعلى ذلك: فعدم قطعية دلالة هذه الآية على وجوب غطاء الوجه، لا يسقط الحكم أو يلغيه.

ومعلوم أن الآية وردت نهيا عن تشبه النساء المؤمنات بالجاهلية، حيث كانت المرأة تلبس الخمار على رأسها، ثم تسدل من الخلف، فينكشف الصدر والعنق، كما يفعل نساء النبط، فأمرن بالسدل من الأمام، حتى يغطين كل ذلك، وهذا يحتمل:

- أن يغطى معه الوجه، وهو الأقرب، والموافق للأمر في نصوص: الحجاب، والجلباب، والزينة.

- أن يدور حول الوجه، مغطيا الأذن، ثم العنق، ثم الصدر. والمعنى يحتمل هذا الوجه.

ولأجله فإن الآية ليست قاطعة الدلالة في الجهتين. فإذا كان لا يحق لمن يقول بالتغطية الاحتكام إليها، فكذلك من يقول بالكشف، لا يحق التحكم بمعناها، والقول بأنها تدل على الكشف بالقطع.

بل إذا فسرت بتغطية الوجه، فهو تفسير معتبر؛ لأنه تفسير في ضوء نصوص الحجاب الأخرى، فتتلاءم، وفي كلام العلماء وأهل اللغة تفسير الخمار بغطاء الوجه.

ولو فسرت بتغطية العنق والصدر وما جاور الوجه، فهذا لا يمنع من وجوب غطاء الوجه، لكن بالنصوص الأخرى، فتكون هذه الآية نصت على تغطية العنق والصدر، وخصت بالذكر لشيوع كشفها في الجاهلية.

- ثانيا: العلماء الذين فسروا الخمار في النصوص الشرعية بغطاء الوجه.

نص بعض العلماء على أن الخمار في المصطلح الشرعي هو: غطاء الوجه. منهم ابن تيمية، والعيني صاحب عمدة القاري، وابن حجر.

- فأما ابن تيمية فقال: "الخمر التي تغطي: الرأس، والوجه، والعنق. والجلابيب التي تسدل من فوق الرؤوس، حتى لا يظهر من لابسها إلا العينان". [الفتاوى 22/147].

- وأما العيني فقال: " قوله: (نساء المهاجرات)؛ أي النساء المهاجرات، قوله: (مروطهن)، جمع مرط، بكسر الميم، وهو الإزار. قوله: (فاختمرن بها)، أي غطين وجوههن بالمروط التي شققنها". [عمدة القاري 10/92، انظر: عودة الحجاب3/287].

- وأما ابن حجر فقال:"قوله: (فاختمرن)؛ أي غطين وجوههن؛ وصفة ذلك أن تضع الخمار على رأسها، وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر، وهو التقنع. قال الفراء: كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها، وتكشف ما قدامها، فأمرن بالاستتار، والخمار للمرأة كالعمامة للرجل". [الفتح8/498].. فكلامه هنا صريح في أن الخمار غطاء الرأس والوجه، وله نص آخر صريح، قال فيه: "ومنه خمار المرأة؛ لأنه يستر وجهها" [الفتح 10/48، الأشربة، باب: ما جاء أن الخمر ما خامر العقل] يؤكده قوله في التخمير: "وهو التقنع"، فالخمار هو القناع عنده، وقد عرف القناع فقال:

- "قوله: (باب التقنع) بقاف ونون ثقيلة، وهو: تغطية الرأس، وأكثر الوجه، برداء أو غيره" [في الفتح، باب اللباس، باب: التقنع. 10/274].

- وقال: "قوله: (مقنع) بفتح القاف والنون المشددة: وهو كناية عن تغطية وجهه بآلة الحرب" [الفتح 6/25].

إذن الخمار: غطاء الرأس والوجه، وهو القناع، والقناع ما يغطي الرأس والوجه، هكذا يقول ابن حجر.

فهل يسوغ بعد هذا أن يقال: إنما ذلك سبق قلم منه، أو خطأ من الناسخ، أو أنه أراد معنى مجازيا..؟!

هذا ما ذهب إليه الشيخ الألباني، أعلى الله درجته، فقال [الرد المفحم ص19-21]:

"وهنا لا بد لي من الوقفة - وإن طال الكلام أكثر مما رغبت - لبيان موقف للشيخ التويجري، غير مشرف له، في استغلاله لخطأ وقع في شرح الحافظ لحديث عائشة الآتي في الكتاب (78) في نزول آية (الخُمُر) المتقدمة، وبتره من شرح الحافظ نص كلامه المذكور لمخالفته لدعواه! فقال الحافظ في شرح قول عائشة في آخر حديثها فاختمرن بها) (8/490): ( أي: غطين وجوههن، وصفة ذلك أن تضع الخمار على رأسها، وترميه من الجانب الأيسر، وهو التقنع. قال الفراء: كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها، وتكشف ما قدامها، فأمرن بالاستتار، و (الخمار) …) إلى آخر النص.

فأقول: لقد ردّ الشيخ في كتابه (ص 221) قولي الموافق لأهل العلم ـ كما علمت- بتفسير الحافظ المذكور: (غطين وجوههن)، وأضرب عن تمام كلامه الصريح في أنه لا يعني ما فهمه الشيخ، لأنه يناقض قوله: (وصفة ذلك …) فإن هذا لو طبَّقه الشيخ في خماره، لوجد وجهه مكشوفاً غير مغطى!. ويؤكد ذلك النص الذي بتره الشيخ عمداً أو تقليداً، وفيه تشبيه الحافظ خمار المرأة بعمامة الرجل، فهل يرى الشيخ أن العمامة أيضاً- كالخمار عنده- تغطي الرأس والوجه جميعاً؟!. وكذلك قوله: (وهو التقنع)، ففي كتب اللغة: (تقنّعت المرأة؛ أي: لبست القناع وهو ما تغطي به المرأة رأسها)، كما في (المعجم الوسيط) وغيره، مثل الحافظ نفسه فقد قال في (الفتح 7/235 و 10/274) التقنع: تغطية الرأس).

وإنما قلت: أو تقليداً. لأني أربأ بالشيخ أن يتعمد مثل هذا البتر، الذي يغيّر مقصود الكلام، فقد وجدت من سبقه إليه من الفضلاء المعاصرين، ولكنه انتقل إلى رحمة الله وعفوه، فلا أريد مناقشته. عفا الله عنا وعنه. وبناءً على ما سبق فقوله: (وجوههن)، يحتما أن يكون خطأ من الناسخ، أو سبق قلم من المؤلف، أراد أن يقول: (صدورهن) فسبقه القلم! ويحتمل أن يكون أراد معنىً مجازياً؛ أي: ما يحيط بالوجه. من باب المجاورة، فقد وجدت في (الفتح) نحوه، في موضع آخر منه، تحت حديث البراء رضي الله عنه: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ بالحديد …) الحديث. رواه البخاري وغيره، وهو مخرج في (الصحيحة) (2932) فقال الحافظ (6/ 25): (قوله: مقَنَّع. بفتح القاف والنون المشددة: وهو كناية عن تغطية وجهه بآلة الحرب).

فإنه يعني ما جاور الوجه، وإلا لم يستطع المشي فضلاً عن القتال كما هو ظاهر".

هنا ثمة ملاحظات:

الملاحظة الأولى: جزم الشيخ بأن وصف ابن حجر لطريقة وضع الخمار: يلزم منه كشف الوجه. وهذا لا يسلم له به، فالمرأة إذا وضعت خمارها على رأسها، ثم لفت طرفه الأيمن على وجهها، ثم ألقت الذيل على العاتق الأيسر، كان ذلك غطاء للوجه، وهذا ما عناه ابن حجر، ولذا جعل التخمير تغطية الوجه.

الملاحظة الثانية: استدل الشيخ لرأيه بقول ابن حجر: "وهو التقنع"، وجزم أنه يعني بالتقنع غطاء الرأس فحسب، وساق تعريفا له قال فيه: "التقنع: تغطية الرأس"، لكن فات الشيخ رحمه الله أن ينقل التعريف بتمامه، وفيه ذكر الوجه، وهو كما تقدم، قال ابن حجر: "قوله: (باب التقنع) بقاف ونون ثقيلة، وهو: تغطية الرأس، وأكثر الوجه، برداء أو غيره" [في الفتح، باب اللباس، باب: التقنع. 10/274].

الملاحظة الثالثة: أبى الشيخ إلا أن يوجه قول ابن حجر في المقنّع: "وهو كناية عن تغطية الوجه بآلة الحرب". بأنه: "يعني ما جاور الوجه، وإلا لم يستطع المشي".!!.. هكذا قال، لكن كل من عرف قناع الحرب، أدرك أن منه ما يغطي الوجه كاملا، وله فتحات عند العين للرؤية، فلا يدخل إذن هذا التعريف من ابن حجر دائرة المحال، حتى يصح اللجوء إلى المجاز.!!.

إذن، ابن حجر، يرى الخمار هو القناع، ومعناهما: تغطية الوجه والرأس. فإنه يقول:

- "قوله: (فاختمرن بها)؛ أي غطين وجوههن".

- "ومنه خمار المرأة؛ لأنه يستر وجهها".

ويفسر الخمار بأنه القناع، ويقول عن القناع:

- "تغطية الرأس، وأكثر الوجه، برداء أو غيره".

- وعن الرجل المقنع: "هو كناية عن تغطية الوجه بآلة الحرب".

وبعد: فهل كل هذا سبق قلم، أو خطأ من الناسخ، أو معنى مجازي ؟!!

ولنا أن نسأل: هل يستحيل عقلا أن يقول ابن حجر: الخمار غطاء الوجه والرأس؟!.

إن صنيع الشيخ هذا، من الحكم بالخطأ والتأويل بالمجاز، لو كان مع نص شرعي، يرى دينا تأويله، بقصد الجمع بين النصوص ومنع تعارضها، كما هو مذهب أهل السنة في النصوص المتشابهة، لكان سائغا.

لكن الذي لا يسوغ أن يصنع كذلك بنص بشري غير معصوم، فإلزام ابن حجر أنه لا يقصد بالخمار غطاء الوجه، ولا بالقناع، يحمل على التساؤل: ولم لا يكون ابن حجر أراد ما قاله ظاهرا؟

هل ما قاله يستحيل أن يقول به إنسان أو عالم؟

لا نظن أنه من المحال أن يقول أحد من الناس: إن الخمار غطاء الوجه. حتى ولو فرض أنه خطأ، فإذا ثبت عدم الاستحالة، فلم لا يترك قوله على ظاهر، ويعقب بالقول بأنه أخطأ، دون اللجوء إلى المجاز ونحوه؟!

الملاحظة الرابعة: استنكر الشيخ أن تغطي العمامة الوجه مع الرأس. وأن يكون معنى الاعتجار: تغطية الوجه. ولا وجه لاعتراضه رحمه الله وأعلى درجته، فإن العمائم قد تستخدم لتغطية الوجه، والأدلة ما يلي:

1- قال محمد بن الحسن: "لا يكون الاعتجار إلا مع تنقب، وهو أن يلف بعض العمامة على رأسه، وطرفا

منه يجعله شبه المعجر للنساء، وهو أن يلفه حول وجهه".[ المبسوط 1/31. انظر: عودة الحجاب 3/288]

2- قال ابن الأثير: "وفي حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار: (جاء وهو معتجر بعمامته، ما يرى وحشي منه إلا عينيه ورجليه)، الاعتجار بالعمامة: هو أن يلفها على رأسه، ويرد طرفها على وجهه، ولا يعمل منها شيئا تحت ذقنه". [النهاية في غريب الحديث والأثر 3/185]، فالعمامة إذن تستعمل في تغطية الرأس وحده، وقد يكون معه الوجه. كالخمار، فلا وجه إذن للمنع من دلالة على غطاء الوجه. ومع هذا فإن الشيخ قال: "هو صفة كاشفة للاعتجار، وليست لازمة له". [الرد المفحم ص25] فالشيخ لايرى غطاء الوجه لازما للاعتجار، خلافا لابن الأثير.

3- ما قاله ابن الأثير مؤيد بأشعار العرب، حيث قال الشاعر النميري [المصون في سر الهوى المكنون 40]:

يخبئن أطراف البنان من التقى

ويخرجن جنح الليل معتجرات

فإذا كن يغطين أطراف أصابعهن تقى، فهذا دليل على أن اعتجارهن كان بتغطية الوجه مع الرأس، فلم يكنّ ليخبئن الأطراف، ويظهرن الوجه.

4- ثمة قبيلة معروفة، شعارها تغطية الرجال وجوههم بالعمائم، وهم قبيلة الطوارق، الساكنون في موريتانيا على الحدود، فإنهم يعتجرون العمائم، فيغطون بها وجوههم، فلا يرى منه إلا العين.

فإذا قيل: اعتجرت المرأة. دل ذلك على غطاء رأسها ووجهها، ولا يمُنع من ذلك إلا بقرينة صحيحة، ولاوجه للقول إنها زلة عالم، فتفسير هذه الكلمات بهذا المعنى ليس غريبا، ولا شاذا، ولم يقل أحد إنها كذلك، والشواهد السابقة دليل على صحة هذا المعنى، ولم نر أحدا من علماء اللغة، أو التفسير، أو الحديث، أو الفقه حط على من قال بذلك، ووصف قوله بأنها زلة، لم نر ذلك إلا من كلام الشيخ رحمه الله تعالى.!!.

* * *

- ثالثا: الخمار غطاء الرأس والوجه.

من ينظر في كتب اللغة يجد عامة أهل العربية قد اصطلحوا على تفسير الخمار بالغطاء، وخمار المرأة بغطاء رأسها، ثم إن الشيخ رحمه الله أخذ هذا المعنى اللغوي، وحكمه على نصوص شرعية، وفيه نظر من جهتين:

- الأولى: من جهة الفرق بين المصطلح الشرعي واللغوي.

- والثانية: من جهة حقيقة قول من فسر الخمار بغطاء الرأس.

- الجهة الأولى: الخمار بين المصطلح الشرعي واللغوي.

من المعلوم أن ثمة فرقا بين المصطلح الشرعي واللغوي للكلمة الواحدة، وأضرب مثلا:

الإيمان في كلام أهل اللغة هو التصديق. لكنه في اصطلاح الشارع أعم من ذلك، حيث يشمل: التصديق بالقلب، والقول باللسان، والعمل بالجوارح. فإن ورد لفظ الإيمان في نص شرعي، كان هذا معناه، وخطأ المرجئة أنهم قصروا المعنى على الاصطلاح اللغوي، ولم ينظروا في الاصطلاح الشرعي.

ثم إن الإيمان نفسه قد يرد في نص شرعي، ويراد به المعنى اللغوي، أو قريبا منه، وذلك إذا اقترن بالإسلام، فيكون دالا على الباطن، والإسلام على الظاهر.

وبالنظر والتأمل نجد أن للخمار الحكم نفسه، ففي اللغة هو خمار الرأس. لكن جاء الاصطلاح الشرعي فزاد فيه الوجه، والدليل مركب من مقدمات ثلاثة ونتيجة:

- أن غطاء الوجه مشروع، لا يجادل في هذا عالم، إما وجوبا أو استحبابا.

- أن المؤمنات أمرن بالتخمير: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن}.

- يصح في الخمار أن يكون غطاء الوجه والرأس معا، وهذا أمر أقر به الشيخ رحمه، حيث قال عنه: "لا يلزم من تغطية الوجه به أحيانا، أن ذلك من لوازمه عادة، كلا" [جلباب المرأة المسلمة ص73].

- والنتيجة: أن الخمار الشرعي: هو غطاء الوجه والرأس، سواء كان وجوبا أو استحبابا.

لكن قد يأتي الخمار في مصطلح شرعي، ويراد به الرأس فحسب، إذا وجدت القرينة، كما في حديث صلاة المرأة بخمار، وغيره من النصوص التي استدل بها الشيخ الألباني، فالقرينة حاكمة، فإنه من المقطوع به أن المرأة إذا صلت أمرت بتغطية رأسها، دون وجهها وكفيها، فهذا قرينة تدل على أن المقصود بالخمار في الأثر هو غطاء الرأس، لكن إذا خلت من القرينة، فالمصطلح الشرعي للخمار هو غطاء الوجه والرأس.

إذن الأمر عكس ما ذهب إليه الشيخ الألباني: فالخمار إذا أطلق في النصوص الشرعية: دل على غطاء الرأس والوجه معا، سواء على جهة الوجوب، أو الاستحباب [على قول من يقول به]، ليس غطاء الرأس فحسب.

- الجهة الثانية: حقيقة قول من فسر الخمار بغطاء الرأس.

يلاحظ في كلام العلماء في تفسير الخمار أنهم قالوا: غطاء الرأس. ولم يذكروا الوجه، ولم ينفوه.

أفلا ينم هذا على عدم ممانعتهم: أن يكون الخمار شاملا الاثنين، وإن اكتفوا بذكر الرأس؟.

قد يقال وما الداعي لهذا الاحتمال؟.

الجواب: أن الوجه من الرأس، ودخوله في المعنى وارد، وإذا أضيف إلى ذلك أمر الشارع بغطاء الوجه، سواء على جهة الوجوب، أو الاستحباب [لمن قال به]، فهذان وجهان يؤيدان دخول الوجه في المعنى، ويكون العلماء ذكروا الرأس، واستغنوا عن الوجه، لأنه يدخل ضمنا فيه، ونضرب ابن حجر مثلا:

تقدم رأيه رحمه الله في الخمار أنه: غطاء الوجه والرأس. بنصوص صريحة، ومع ذلك وجدناه يقول:

- "والخمر، بضم الخاء والميم، جمع خمار، بكسر أوله والتخفيف: ما تغطي به المرأة رأسها" [الفتح 10/296، اللباس، باب: الحرير للنساء].

فنحن إزاء هذا بين أمور:

- فأما أن نحكم عليه بالتناقض، ونعرض عن قوله كليا.

- وإما أن نرجح أنه أراد غطاء الرأس، ونبطل قوله الآخر، كما فعل الشيخ رحمه الله تعالى.

- وإما نرجح أنه أراد غطاء الوجه والرأس، ونحمل قوله الآخر على الأول.

فأما التناقض فلا وجه له، وذلك لأن التناقض يكون عند تعذر الجمع، وهنا غير متعذر، فالوجه من الرأس، فالاكتفاء بذكر أحدهما عن الآخر وارد، ولو أنه قال في الأول الرأس، وفي الآخر القدم، لصح التناقض.

وأما ترجيح غطاء الرأس دون الوجه فلا وجه له أيضا: وذلك لأننا أمام نصوص عديدة له، كلها يفسر فيها الخمار بغطاء الوجه والرأس، فلا يمكن تجاهل هذه النصوص، وترجيح أن الخمار غطاء الرأس فحسب.

إذن ليس أمامنا إلا ترجيح أنه أراد بالخمار غطاء الوجه والرأس جميعا، ونحمل قوله الآخر على هذا الأول، ولا نعارضه به؛ لأمور:

1- لأنه صريح كلامه، في أكثر من موضع.

2- لأن الوجه من الرأس، فيصح أن يكون مع تغطية الرأس تغطية الوجه، ولا يمتنع ذلك شرعا ولا عقلا، كما يقر الشيخ نفسه بهذا، لما ذكر أن الخمار قد يكون يغطى به الوجه.

3- لأنه لو أخذنا بقوله أن الخمار غطاء الوجه والرأس، لم نبطل قوله الآخر، لكن لو أخذنا بظاهر قوله أنه غطاء الرأس، ورجحنا أنه أراد الرأس فحسب. نكون أبطلنا قوله الأول. وإذا أمكن إعمال القولين، من غير مانع عقلي أو شرعي، فهو أولى من إبطال أحدهما، ولا مانع عقلي أو شرعي.

ومما يدل على أن العلماء لا يمانعون من دخول الوجه في معنى الخمار، ولو اقتصروا على ذكر الرأس: أنهم عرفوا النصيف، فقالوا: "والنصيف: الخمار" [لسان العرب14/166]، ومعروف أن النصيف غطاء الوجه، يدل على هذا:

- ما جاء في لسان العرب [14/166]: "قال أبو سعيد: النصيف ثوب تجلل به المرأة فوق ثيابها كلها، سمي نصيفا، لأنه نصف بين الناس وبينها، فحجز أبصارهم عنها". والأبصار لن تحجز إلا بغطاء كامل يدخل فيه الوجه.

- وما جاء في قصة المتجردة زوجة النعمان، فقد ذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتابه (الأغاني 11/11) "أن النابغة الذبياني كان كبيرا عند النعمان، خاصا به، وكان من ندمائه وأهل أنسه؛ فرأى زوجته المتجردة يوما، وغشيها بالفجاءة، فسقط نصيفها، واستترت بيدها وذراعها، فكادت ذراعها أن تستر وجهها لعبالتها وغلظها".. قال [11/14]: "وقال في قصيدته هذه، يذكر ما نظر إليه من المتجردة، وسترها وجهها بذراعها:

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد".

إذن ذكر العلماء غطاء الرأس معنى للخمار، لا ينفي دخول الوجه تبعا، كما أن ذكرهم التصديق معنى للإيمان، لا يلزم منه نفيهم دخول العمل فيه.! إذ قد يقصدون المعنى اللغوي فحسب، وقد يقصدون التصديق الشامل للقلب، واللسان، والجوارح[4]، فمن أراد نسبة أحد إلى الإرجاء، فعليه أن يأتي بكلام صريح عنه، يخرج العمل من الإيمان، أو يفسر الإيمان شرعا بأنه: التصديق، أو المعرفة، أو يضيف النطق باللسان. وكذلك في معنى الخمار، لا بد من كلام صريح، فيه نفي دخول الوجه، وإلا فلا.

هذا مع أنه قد جاء في أشعار العرب ما يدل على اندراج الوجه في الخمار، حيث قال القاضي التنوخي:

قل للمليحة في الخمار المذهب

أفسد نسك أخي التقي المذهب

نور الخمار ونور خدك تحته

عجبا لوجهك كيف لم يتلهب

وقد نقله الشيخ الألباني، وعقب عليه بقول:

"لا يلزم من تغطية الوجه به أحيانا، أن ذلك من لوازمه عادة، كلا". [جلباب المرأة المسلمة ص73].

إذن موضع الخلاف مع الشيخ أعلى الله درجته: أنه يرى أن الخمار إذا أطلق دل على غطاء الرأس فحسب.

وبينما الرأي الآخر يقول: بل إذا أطلق الخمار دل على الرأس أصالة؛ لأن الخمار يوضع عليه أولاً، وعلى الوجه تبعا، لأن الوجه من الرأس.. وفي الاصطلاح الشرعي: الوجه يدخل أصالة.

- لأن التغطية مشروعة، سواء على جهة الوجوب أو الاستحباب، لمن قال به.

- ولأن الخمار يصح إطلاقه على غطاء الوجه والرأس معا.

* * *

ومما يجدر لفت النظر إليه: أن الشيخ ذكر:

- عن جمع من المفسرين، كابن جرير، والبغوي، والزمخشري، وابن العربي، وابن تيمية، وابن حيان.

- وعن جمع من الفقهاء، كأبي حنيفة، ومحمد بن الحسن، والشافعي، والعيني.

أنهم يقولون: الخمار هو غطاء الرأس.

وهنا ملاحظة: فبالإضافة إلى ما تقدم من تفصيل في معنى الخمار، ودلالته على الرأس والوجه جميعا، يقال:

- من هؤلاء العلماء من مذهبه تغطية الوجه، كابن العربي وابن تيمية.

- ومنهم من صرح بوجوبها في بعض الآيات، دون بعضها، كابن جرير والبغوي في آية الحجاب. والزمخشري وابن حيان في آية الجلباب.

- من هؤلاء من نص صراحة على أن الخمار: غطاء الرأس والوجه. كما تقدم عن ابن تيمية، والعيني.

هذا ولم أتتبع قول كل من ذكر من العلماء، بل كان هذا مما مر بي من أقوالهم عرضا.

* * *

وفي كل حال لنا أن نسأل سؤال نراه مهما:

- إذا كان الخمار ليس غطاء الوجه.

- وإذا كان القناع ليس غطاء الوجه.

- وإذا كان الاعتجار ليس غطاء الوجه.

- وإذا كان الجلباب ليس غطاء الوجه.

فهذا الذي تغطي المرأة به وجهها: ماذا يكون، وبماذا يسمى؟

* * *

وبعد: فالنتيجة المهمة التي نخرج بها من هذا المبحث هي:

- أنه إذا كانت الآية قطعية الثبوت، وهذا بإجماع المسلمين، لأنها من القرآن، والله تعالى حفظه.

- وإذا ثبتت قطعية دلالتها على وجوب حجاب الوجه، بما سبق من الوجوه والأدلة.

فنخرج من ذلك: أن الآية محكمة الدلالة، فتكون من المحكمات، التي يصار إليها حين الخلاف، فما عارضها، وكان ثابتا بسند صحيح، بدلالة صريحة على الكشف، فهو متشابه، كأن يكون قبل الأمر بالحجاب، أو لعذر خاص، وحالة خاصة،، فيرد هذا المتشابه إلى هذا المحكم، ويفهم في ضوئه، وبذلك ينتفي التعارض، فهذا سبيل التعامل مع المحكمات، لا يصح ولا يجوز تعطيلها لأجل متشابه.

هذا لو كان هذا المتشابه بهذا الوصف من الثبوت والدلالة، فكيف إذا كان باطل السند، كحديث أسماء؟ أو محتمل الدلالة غير قطعي في الكشف، كحديث الخثعمية؟

وهذا حال الآثار التي استدل بها الذين أجازوا الكشف، فحينئذ فلا ريب أن الواجب طرحه، وعدم الالتفات، ولا يجوز بحال تقديمه على نص محكم.



--------------------------------------------------------------------------------

[1] - ظاهر سياق الآية ورد في حالة العجز عن إخفاء الزينة، ولا يمنع أن يتضمن المعنى حالة العفو، فكلها يجمع بينها عدم القصد لإظهار الزينة.

[2] - سند هذه الرواية صحيح، كما تقدم من كلام الإمام أحمد وابن حجر في مبحث آية الجلباب.

[3] - هذا القول مشهور عن عبيدة السلماني، وليس أبا عبيد، فيبدو ثمة تصحيف هنا.

[4] - قراءة متفحصة لأقوال العلماء في لسان العرب [مادة: أمن] تعرف القارئ وتوقفه على هذه الحقيقة.


*عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى.



 

التوقيع

 



من كتاباتي
صرخاااات قلم (( عندما تنزف ريشة القلم دما ))
قلم معطل وقلم مكسوووور
عندما ’تطرد من قلوب الناس !!!!!!(وتدفن في مقبرة ذاتك)
دعاة محترفون لا دعاة هواه ( 1)
الداعية المحترف واللاعب المحترف لا سواء(2)
نعم دعاة محترفين لا دعاة هواة!!!! (( 3 ))
خواطر وجها لوجه
همسة صاااااااااااارخه
خواطر غير مألوفه
اليوم يوم الملحمه ...
على جماجم الرجال ننال السؤدد والعزه
عالم ذره يعبد بقره !!!
معذرة يا رسول الله فقد تأخر قلمي
دمعة مجاهد ودم شهيد !!!!!!
انااااااااا سارق !!!!
انفلونزا العقووووووووول
مكيجة الذات
الجماهير الغبيه
شمووووخ إمرأه

 
 
رد مع اقتباس
  #22  
قديم 03-04-2005, 03:41 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

إلى أي مدى تطبق الآداب الشرعية في المجالس النسائية
سميحة بنت علي مراد






د. سميحة بنت علي مراد

تواصل الباحثة في هذه الحلقة الأخيرة ما شمله بحثها من الآداب الشرعية في المجالس العامة والخاصة، حيث تكمل الجزء الرئيس من البحث - الجزء العلمي - بذكر المتعين على المرأة اعتباره في المجالس النسائية، ثم تختم بحثها بعرض نتيجة الجزء العملي من البحث، الاستبانة التي وزعت على جمع من النساء لمعرفة مدى تطبيق هذه الآداب.

آداب المجالس (1)، (2)


آداب المجالس النسائية:

1- استئذان الزوج: قال ابن الجوزي رحمه الله: ينبغي للمرأة أن تحذر من الخروج مهما أمكنها إن سَلِمَت في نفسها لم يسلم الناس منها. فإذا اضطرت إلى الخروج خرجت بإذن زوجها في هيئة رثة. وجعلت طرقها في المواضع الخالية دون الشوارع والأسواق، واحترزت من سماع صوتها، ومشت في جانب الطريق لا في وسطه. وإذا خرجت من بيت زوجها بغير إذنه كانت ناشزة عاصية لله ورسوله ومستحقة للعقوبة ولو كان لزيارة والديها المريضين.

2- صفات اللباس الشرعي:

أ- أن لا يصف الجسم ولا يشف عنه. قال - صلى الله عليه وسلم - : "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، على رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها. وإن ريحها توجد من مسيرة كذا وكذا".

ب-أن لا يكون ثوب شهرة: قال- صلى الله عليه وسلم - : "من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة"

ج-أن لا يكون به طيب: لقوله- صلى الله عليه وسلم - :" إذا حضرت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا ".

د-أن لا يشبه لباس الكافرات: قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - :"من تشبه بقوم فهو منهم".

هـ- أن لا يشبه لباس الرجل: قال - صلى الله عليه وسلم - "لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال "

و- أن لا يكون به صور ما فيه روح أو صلبان: قال- صلى الله عليه وسلم - :"لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة "

3 - مرافقة المحرم: إن كان ذهابها إلى المجلس لا يتم إلا بالسفر فلابد من مرافقة المحرم لها؛ لحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم"، وإذا كان هذا الخروج يعرضها للخلوة مع الرجال فلابد من المحرم لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم".

4-تحريم مصافحة المرأة للرجل - إذا لم يكن زوجاً أو ذا محرم.

5- المصافحة والتقبيل والانحناء: السنة التعبير الترحاب بالمصافحة. أما المعانقة والتقبيل فهي عند القدوم من السفر فحسب. وعند تباعد اللقاء أو الأولاد رحمة بهم. وليس من السنة ما جرى عليه العرف بين النساء من التقبيل عند اللقاء والوداع بغير سبب ذي بال. بل يعتبر التقبيل عند البعض آكد من السلام، فيسارعن إليه ويكتفين به مستهينات بتحية الإسلام؟!

6- حسن الاستقبال والبشاشة وإظهار المودة: فالكلمة الطيبة والوجه الباش واللقاء الحسن تعدل أضعاف أضعاف لقاء جاف جلف، ولو تبعته ضيافة مكلفة. ويستحب أن يرحب بالضيوف بقول: مرحباً. [فالمسلمة فيها اللطف والبشاشة ابتسامتها المشرقة تزين وجهها، وتطوي هموم صاحبتها وتشيع التفاؤل في نفسها].

7- الضيافة: إكرام الضيف من مستلزمات الإيمان الحق والتي بينها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه). يستحب الترحيب بالضيف وحمد الله تعالى على حصوله ضيفاً عنده وسروره به وثناؤه عليه لجعله أهلاً لتضييفه.

8- الاعتدال في الضيافة: هذا الإيثار والكرم لا يعني أن نتكلف فوق طاقتنا "لايكلف الله نفساً إلا وسعها". فلا تحتقر المسلمة ما في بيتها أن تقدمه لأخواتها.

9-الهدية بلا تكلف: من المشاركات الطيبة، أن تصل صاحبتها بالهدية المناسبة. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة" ومن صفات الهدية المناسبة: أن لا تكون غالية الثمن، فهي هدية رمزية تعبر عن المحبة والوداد، وأن تكون فيها فائدة للمهدي إليها.

10- الحذر من دخول المخنثين عند النساء: عن عبد الله بن عميرة قال: عن أم سلمة أن مخنثا كان عندها ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البيت فقال لأخي أم سلمة: يا عبد الله بن أبي أمية إن فتح الله عليكم الطائف غدا فإني أدلك على بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان. قال: فسمعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم فقال: "لا يدخل هؤلاء عليكم".

11 - إشاعة الأنس بالنكتة الطريفة والمزاح الوقور: لابد من الاستجمام بعد الجد وإلا كان الملل. ولا بأس بالحكاية النادرة، والطرفة الممتعة، والفكاهة النظيفة. قال - صلى الله عليه وسلم - :"لا تحقرن منالمعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق". رواه مسلم.

12- دعاء كفارة المجلس: وردت أحاديث كثيرة تحث على دعاء كفارة المجلس منها: عن عبد الله بن عمرو قال: ((كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلس لغو أو مجلس باطل، عند قيامه، ثلاث مرات، إلا كفرتهن عنه، ولا يقولهن في مجلس خير ومجلس ذكر، إلا ختم له بهن عليه كما يختم بالخاتم على الصحيفة: سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)). عن رافع بن خديج قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اجتمع إليه أصحابه فأراد أن ينهض قال: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. فقلنا: يا رسول الله هذه كلمات أحدثتهن قال: أجل جاءني جبرئيل فقال لي: يا محمد هن كفارة المجالس. وعن الزبير قال: قلنا: يا رسول الله إنا إذا خرجنا من عندك أخذنا في أحاديث الجاهلية، فقال: "إذا جلستم تلك المجالس التي تخافون فيها على أنفسكم فقولوا عند مقامكم: سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، يكفر عنكم ما أصبتم فيها". عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من جلس في مجلس كثرة فيه لغطه، ثم قال قبل أنيقوم: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك)).

13- المجالس بالأمانة: عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن لكل شيء شرفاً وإن أشرف المجالس ما استقبل به القبلة وإنكم تجالسون بينكم بالأمانة". ومن الأمانات: صفة المرأة فلا يجوز للمرأة أن تنعت صديقتها للرجل إلا لضرورة -كالخطبة مثلا- سواء كان نعتها مدحاً فلا تمدحها خشية الفتنة بها. أو قبحاً فيكون ذلك غيبة لها. وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك بقوله: "لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها". ومن أعظم الأمانات: العلاقات الزوجية فيجب سترها وعدم البوح بشيء منها، وكبر مقتاً ما تفعله بعض التافهات من تسلية الأخريات بنشر دقائق الحياة الزوجية. وحذار حذار من الاستهانة بأمانة المجلس كشأن ذوي النفوس المريضة الذين يذيعون أسرار الآخرين.

تطبيق الآداب الشرعية في مجتمع الأخوات هذه الأيام

قمن بعمل استبيان لنتعرف على مدى تطبيق الأخوات الصالحات اللاتي يرجى منهن الخير لبعض هذه الآداب الشرعية التي ذكرتها في البحث فكانت النتائج التالية:

في الإجابة عن سؤال عن استئذان الصديقات قبل زيارتهن أجابت 100% من الأخوات أنهن يخبرن الأخت المضيفة قبل الذهاب إليها.

وفي الإجابة عن سؤال: هل تخبري صديقتك أنك تحبينها في الله؟

أجابت 70%من الأخوات أنها تخبرها.

وفي آداب الاستماع للمتحدثة في المجلس أجابت 78% أنهن ينصتن ويدونّ النقاط المهمة، وأجابت20% أنها تشرد بذهنها بعيداً أثناء الحديث في بعض الأحيان، وأجابت 2% أنها تمل من التطويل في الحديث.

وفي سؤال عن الحديث في الهاتف وما يستغرقه من الوقت، أجابت 40% أنه يأخذ أكثر من 20% من أوقاتهن. وقالت 30 % أن الهاتف لا يستغرق إلا وقتا قليلا. وقالت 1% أنه يأخذ نصف أوقاتهن. والباقيات ليس عندهن هاتف أصلاً.

وعن سؤال عن الاستعداد لحضور الأفراح أجابت 87% أنها تلبس أحسن ما عندها من ملابس لحضور الأفراح.

و أجابت 3% أنهن يشترين ملابس جديدة مع كل زواج.

وأجابت 23% أنهن لا يهتممن بالتكلف في الملبس.

وعن معانقة الصديقات عند اللقاء أجابت 20% من الأخوات أنها تعانق صديقاتها عند اللقاء والوداع بصفة مستمرة، وأجابت 10% أنها تعانقهن أحياناً، وقالت 70% لا.

وعن القيام بإعداد الطعام للضيوف أجابت 81% أنها تعد الطعام بنفسها.

و19% يشترينه من السوق.

وعن سؤال عن التكلف في إعداد الطعام في الولائم أجابت 50% بنعم و50% بلا.

وفي سؤال عن إكرام الضيفة التي لا تكرمك إذا ذهبتِ إليها قالت 99% أضيفها.

و1% امتنعن عن الإجابة.

وسؤال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرات في المجالس أجابت 97%أنهن يأمرن بالمعروف في المجالس.

و أجابت 1% أنها لا تفعل، و2% امتنعن عن الإجابة. وأجابت 95% أنهن يخبرن صاحباتهن عن مواعيد مجالس العلم إذا عرفنها، و5% قالت إذا رغبن هن في ذلك.

ولإجابة سؤال عن الحديث مع واحدة دون الأخرى في حالة كونكن ثلاثة: أجابت 98% لا أفعل وقالت 2% أحياناً إذا كان الموضوع شخصيا.

وفي سؤال عن أخذ هدية للصديقات عند الزيارة أجابت52% بلا. . لا آخذ، وقالت 28%أحضر هدية معي، وقالت 20 %أحيانا.

* * ***** * *

ختاماً:

الله سبحانه وتعالى قد وعدنا وعداً حقاً ونحن على الطريق نتلمس الحق لنسير عليه ونكون أهلا لوعد الله:"إن للمتقين مفازاً * حدائق وأعنابا * وكواعب أترابا* وكأساً دهاقا"، "وكان حقاً علينا نصر المؤمنين".

وقبل أن نختم الحديث عن المجالس، نستعرض ذكر المجالس التي نحلم بها جميعاً، ونتمنى أن نلقى فيها أحبابنا جميعاً: ألا وهي مجالس أهل الجنة:

فعن أنس رضي الله عنه:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا دخل أهل الجنة الجنة فيشتاق الإخوان بعضهم إلى بعض قال فيسير هذا إلى سرير هذا وسرير هذا إلى سرير هذا حتى يجتمعا جميعاً فيقول أحدهما لصاحبه: تعلم متى غفر الله لنا؟ فيقول صاحبه يوم كنا في موضع كذا وكذا فدعونا الله فغفر لنا".

و عن الحسن بن علي عن علي قال: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:إن في الجنة لشجرة يخرج من أعلاها حلل ومن أسفلها خيل من ذهبمسرجة ملجمة من در وياقوت لا تروث ولا تبول لها أجنحة خطوها مد بصرها فيركبها أهل الجنة فتطير بهم حيث شاؤوا فيقول الذين أسفل منهم درجة: يارب بما بلغ عبادك هذه الكرامة؟ قال: فيقال لهم كانوا يصلون في الليل وكنتم تنامون، وكانوا يصومون وكنتم تأكلون، وكانوا ينفقون وكنتم تبخلون، وكانوا يقاتلون وكنتم تجبنون".

وبعد.. فمن وفقه الله إلى اتباع دينه وسنة نبيه يعيش في سعادة وطمأنينة لو علمها الملوك لقاتلوه عليها. ومما لا شك فيه أن أفضل المجالس على الإطلاق تلك التي تقربنا إلى الله وتدعونا إلى معرفة الحقيقة، وتزيل أدران الجهل من عقولنا، ولا تحسن اليوم المجالسة إلا لكتاب يحدثك عن أسرار السلف، أو إلى معلم يعلمك ما لا تُعذر في جهله من العلوم الشرعية الأساسية، أو إلى أخ لك في الله يعينك على أمور دينك، وتذكرك رؤيته بالله سبحانه وتعالى.

ولعل ما تم استعراضه في هذا البحث المختصر قد ألقى الضوء على موضوع حيوي في حياة الناس جميعاً، إذ لا يوجد أحد على وجه البسيطة يستغني عن مجالسة الآخرين فكان لابد من معرفة الآداب التي يجب مراعاتها في هذه المجالس المختلفة حتى يعمل بها الناس فلا يضايق بعضهم بعضاً، ولا يعتدي أحدهم على حق مشروع للآخر عليه، ولا يقصر أحدهم في ترك واجب، ولا سنة مؤكدة.

وقد حرصت في بحثي على الاختصار غير المخل بالمعنى المراد توضيحه، وعلى الاستشهاد بالأدلة من القرآن والسنة وفعل الصحابة والتابعين، واعتمدت في بحثي على الكتب الموثقة.

وأدعو الله أن يكون ما كتبت حجة لي لا حجةعلي، وأن ينفع به كاتبته وقارئيه.

وإن المتأمل في حال كثير من الناس في هذه الأزمان وما هم فيه من تضييع الأوقات في المجالس التي تكون عليهم بلا فائدة، بل ويحصل فيها من المنكرات والموبقات الشيء الكثير، من تأمل في هذا كله وفي مجالس النساء على وجه الخصوص علم يقيناً مدى حاجة المجتمع المسلم لبث الوعي فيه بكل وسيلة إعلامية كانت أو مكتوبة حتى يعرف الناس ما هم فيه من التقصير والتفريط؛ وليعلموا عظم مجالس الخير فيحرصوا عليها، وخطر مجالس السوء فيحذروا منها.

والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواهاوتمنى على الله الأماني.



رد مع اقتباس
  #23  
قديم 03-04-2005, 03:44 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

حقوق المرأة في ظل المتغيرات المعاصرة
مسفر بن علي القحطاني






تعد الأسرة أقدم وأهم المؤسسات الاجتماعية التي عرفها الإنسان، وليست الأسرة أساس وجود المجتمع فحسب؛ بل هي مصدر الأخلاق والدعامة الأولى لتربية النشء والمحافظة على قيم المجتمع ومبادئه الثابتة.

والأسرة المسلمة تستمد حياتها من قيم الشريعة الإسلامية وأحكامها الراسخة ولذلك بقيت حجر الأساس في كل تطور اجتماعي يشهده المسلمون ومصدر القوة لهم والوحدة بينهم، والظاهرة التي تميزهم عن بقية شعوب الأرض المختلفة.

وأعداء الإسلام لما بدؤوا هجمتهم ضد بلاد المسلمين سلطوا معاولهم وسهامهم نحو بناء الأسرة، وقد علموا أنه بانهدامه ينهدم المجتمع وتتفكك أواصره، ويدبّ الضعف والخور بين أفراده، والمسلمون قد ردّوا كثيراً من تلك الهجمات في أزمان مضت، إلا أن أعداء الإسلام قد نالوا من المسلمين في القرنين الأخيرين منالاً عظيماً من خلال حملات التشويه، ونشر الأفكار الهابطة، وإشاعة الفاحشة، وزرع الشبهات المضللة.

وقد ازدادت شراسة هجومهم على الأسرة المسلمة بقدوم العولمة المعاصرة التي بدأت تغزو كل فرد بعينه، وتحقق غرض المستعمر من الهيمنة على مجتمعاتنا بتغيير الحقائق، وهدم الثوابت، وربط الشعوب والأفراد بالأنموذج الغربي بكل سلبياته وأمراضه من خلال البث الفضائي، وشبكات الاتصال العالمية، والأسواق المفتوحة، والاقتصاد الحر ّ.

وأمام هذه التحديات الكبيرة انهار بناء الأسرة في كثير من البلاد الإسلامية، وسقطت المرأة وهي العماد الأهم لذلك البناء؛ لمّا استجابت لنداءات التغريب والتحرير، وانساقت نحو السفور والاختلاط والتقليد الأعمى لنساء الغرب الكافر.

ومازالت هناك فئات من نساء المسلمين يقفن صامدات أمام هذا المدّ التحرري، ملتزمات بكتاب الله عز وجل وهدي سيد المرسلين الذي لن يضلوا أبداً ما داموا به مستمسكين، يقول الله تعالى:

) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِين(َ الأعراف 170.

ولكن مع تنوع أساليب أعداء الإسلام وتغيرها وتطورها في إغراء المرأة بالخروج والسفور والاختلاط، كانت الحاجة لكتابة هذه الرسالة من أجل تحصين المرأة من سيل الشبهات التي تثار حول حقوقها المهددة في الإسلام، وبيان الحيل والمكائد التي يحوكها أعداؤها المدعون تحريرها بغية استرقاقها والتمتع بها.

وقد جعلتها في ثلاثة مباحث على النحو التالي:

المبحث الأول : حقوق المرأة في الإسلام.

المبحث الثاني: تاريخ الحركة النسائية لتحرير المرأة في البلاد الإسلامية.

المبحث الثالث: الرد على شبهات دعاة تحرير المرأة.

والله تعالى أسأل أن يجعلها إسهامة مباركة في حفظ مجتمعنا وتوطيد أمنه بالمحافظة على الأسرة من الهدم أو الذوبان وصيانة المرأة من الضياع والانحراف في ركب التغريب المدمر.

هذا ما أسعفني به الخاطر، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، فما أصبت فيه فمن الله وحده، وما أخطأت فيه فمن نفسي والشيطان، والله تعالى أعلم.

جاء الإسلام وبعض الناس والأمم ينكرون إنسانية المرأة، وآخرون يرتابون بها، وغيرهم يعترف بإنسانيتها، ولكنه يعتبرها مخلوقاً خلق لخدمة الرجل.

وإذا استعرضنا تاريخ المرأة في الأمم والمجتمعات الأخرى تبين لنا من خلالها علو شأن المرأة في الإسلام ورفعة قدرها وأنها نالت في ظله حقوقاً لم تنلها في مجتمعات أخرى.

كانت فاقدة الحرية، مسلوبة الإرادة، ليس لها حقوق ولا أهلية. فقد كانت تباع وتُشترى في الأسواق، فشاعت الفواحش وعم الزنا وسقطت مكانتها، وكان هذا إيذاناً بانهيار دولة اليونان.

لا حق لها في شيء، وللرجل كل شيء، حتى إنه يستطيع أن يحكم على زوجته بالإعدام في بعض التهم، وليس ملزماً بضم أبنائه إلى أسرته، وقد يضم غير بنيه من الأجانب إلى الأسرة، وللأب سلطة نافذة حتى ليمكن أن يبيع أولاده، أو يقتلهم، والزوجة وما ملكت ملك لزوجها يتصرف في كل أمورها بما شاء.

لقد عبر أحد الكتاب الاجتماعيين عن ذلك بأن عقد الزواج عند الرومان كان عقد رق بالنسبة للمرأة، وقبل ذلك كانت في رق أبيها.

كانت ظلاً للرجل تحيا بحياته، وتُحرق بعد مماته، وهي حسب الشرائع المستمدة من أساطير (مانو) لا تعرف السلوك السوي ولا الشرف ولا الفضيلة، وإنما تحب الشهوات الدنسة والزينة والتمرد والغضب.

كانت خادمة ليس لها حقوق أو أهلية، وكانوا لا يورثون البنت أصلاً حفظاً لقوام العائلات على التعاقب، ويرون المرأة إذا حاضت تكون نجسة تنجس البيت وكل ما تلمسه من طعام أو إنسان أو حيوان يكون نجساً، لذا فإنهم يعتزلونها عند الحيض اعتزالاً تاماً، وبعضهم يفرض عليها الإقامة خارج البيت حتى تطهر، وكان بعضهم ينصب لها خيمة ويضع أمامها خبزاً وماءً ويجعلها في هذه الخيمة حتى تطهر.

هي باب الشيطان وسلاح الإغراء والفتنة، يقول تونوليان ـ وهو من كبار القساوسة ـ عن المرأة: إنها مدخل الشيطان إلى نفس الإنسان، وإنها دافعة إلى الشجرة الممنوعة، ناقضة لقانون الله.

وقد أصدر البرلمان الإنجليزي قراراً في عصر هنري الثامن ملك إنجلترا يحظر على المرأة أن تقرأ كتاب العهد الجديد لأنها تعتبر نجسة. وفي عام 1586م عقد بعض القساوسة مجمعاً لبحث قضية المرأة، وبعد محاولاته الطويلة والعريضة قرر المجتمعون أن المرأة إنسان ولكنها خلقت لخدمة الرجل.

كانت خاضعة للتيارات الدينية الثلاثة، فمن الزرادشتية إلى المانوية إلى المزدكية، وقد تركت كل ديانة من هذه الديانات بصماتها الواضحة على كيان الأسرة والمجتمع.

ولقد ذهب مزدك وأصحابه إلى أن الله تعالى إنما جعل الأرض ليقسمها العباد بينهم بالتساوي، ولكن الناس تظالموا فيها، لذا فمن كان عنده فضل من الأموال والنساء والأمتعة فليس هو بأولى من غيره، فشاعت الفوضى وعم الدمار حتى كان الرجل يدخل على الرجل في داره فيغلبه على منزله ونسائه وأمواله، فلم يلبثوا إلا قليلاً حتى صار لا يعرف الرجل منهم ولده ولا المولود يعرف أباه. وكان ذلك من أسباب انهيار دولة فارس وترديها.

فكان ينظر إليها في العصور الجاهلية نظرة ازدراء، وكان الرجال يتشاءمون من المرأة، ويعتبرونها سلعة تباع وتشترى لا قيمة لها ولا مقام، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((والله إنا كنا في جاهلية ما نعير للنساء أمراً حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم)).

وكان هناك في الجاهلية ما يعرف بنكاح الاستبضاع، فكان الرجل يقول لامرأته ـ إذا طهرت من طمثها، أي حيضها ـ: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، أي اطلبي منه الجماع لتحملي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي استبضعت منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، وكانوا يطلبون ذلك من أكابرهم ورؤسائهم في الشجاعة والكرم.

كما كان هناك نوع آخر من النكاح يسمى بنكاح المقت، والمقت لغة البغض والكراهة، واصطلاحاً أن يتزوج الولد امرأة أبيه، وكان من عادات العرب في الجاهلية إذا مات الرجل قام أكبر أولاده فألقى ثوبه على امرأة أبيه فورث نكاحها، فإن لم يكن فيها حاجة يزوجها بعض إخوته بمهر جديد، فكانوا يتوارثون النكاح كما يتوارثون المال، وإن شاءوا زوجوها لمن أرادوا وأخذوا صداقها، وإن شاؤوا لم يزوجوها بل يحبسونها حتى تموت فيرثوها أو تفتدي نفسها. ([1]) هذه بعض الصور الجزئية لحال المرأة في تلك المجتمعات الكافرة ([2]).

أما المرأة في الإسلام فكان من فضل الإسلام عليها أنه كرَّمها، وأكَّد إنسانيتها، وأهليتها للتكليف والمسؤولية والجزاء ودخول الجنة، واعتبرها إنساناً كريماً، له كل ما للرجل من حقوق إنسانية، لأنهما فرعان من شجرة واحدة،وأخوان ولدهما أب واحد هو آدم، وأم واحدة هي حواء. فهما متساويان في أصل النشأة، ومتساويان في الخصائص الإنسانية العامة، ومتساويان في التكاليف والمسؤولية،متساويان في الجزاء والمصير،ولا قوام للإنسانية إلا بهما.

ويشهد على ذلك آيات عدة منها قوله تعالى:] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعـَلْنَاكُمْ شُـعُوبًا وَقَبَائِلَ لِـتَعَارَفُوا إِنَّ أَكـْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتـْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[ الحجرات 13

ـ و قوله تعالى: ] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً [ النساء1.

ـ وقوله تعالى:] هُوَ الَّذِي خَلـَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا[ الأعراف 188.

ـ وقوله تعالى ]: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسـِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً[ النحل 72.

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إنما النساء شقائق الرجال)) ([3]).

إن عبودية المرأة لله كعبودية الرجل له سواء بسواء، وهما مطالبان بالإيمان وإقامة الواجبات وهذا أمر مجمع عليه. يقول تعالى:]مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ النحل 97.

ولهذا جمع الله تعالى بينهما في الوصف المترتب على أعمالهما ووعد الجميع بالجزاء الواحد في الآخرة يقول تعالى: ] إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا[ الأحزاب35 .

إن المساواة التي جعلها الشرع بين المرأة والرجل، ليست على وجه العموم والإطلاق، بل اقتضت حكمة الشارع سبحانه وتعالى بأن يُفَضَّلَ الرجلُ عليها في بعض المواقف والأحوال، ويُمَيَّز في بعض الأمور والأحكام.

وهذا التمييز بين الرجل والمرأة اقتضته طبيعة الخلقة والفطرة لكلٍ منهما كما في الشهادة، والميراث، والدية، وقوامة المنزل، ورياسة الدولة، وحتى في بعض الأحكام المتعلقة بالصلاة والصيام والجهاد وغيرها ([4]).

أما التفضيل الحقيقي فإنه يرجع إلى حقيقة التقوى والالتزام بها:]إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[ الحجرات 13.

يقول تعالى: ]وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى ولا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا [ البقرة 282.

فشهادة الرجل تساوي شهادة امرأتين كما هو في الأمور المالية والمعاملات المدنية. أما في الحدود والقصاص فذهب الجمهور إلى أن شهادتها لا تقبل، وطبيعة النساء بعيدة جداً عن تلك المواطن، ويصعب عليها الوصف والتدقيق في مثل الجرائم والحدود.

ـ ونجد كذلك أن الفقهاء يعتبرون شهادتها فيما هو من شأنها واختصاصها، كشهادتها في الرضاع والبكارة والثيوبة والحيض والولادة وغيرها.

علماً بأن شهادة المرأة كالرجل سواء بسواء في شهادات اللعان ([5]).

يقول تعالى: ] يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثَيَيْنِ[ النساء 11. لقد تفاوت الميراث في الشرع الإسلامي بين الذكر والأنثى، وهذا راجع إلى طبيعة التفاوت في التكاليف الملقاة على كاهل كل منهما، فالرجل يلزم بدفع المهر، وينفق لتأثيث بيت الزوجية، ويستمر في الإنفاق على الزوجة والأولاد لإطعامهم وكسوتهم وتأمين الاستقرار لهم. أما المرأة فتأخذ المهر وليست مطالبة بالإسهام بشيء من نفقات البيت على نفسها ولا على أولادها ولو كانت غنية، ومن هنا كانت العدالة أن يكون نصيبها من الميراث أقل من نصيب الرجل.

إلا أن هناك حالات يستوي فيها الميراث للذكر والأنثى، كمثل مَن مات وله أبوان وأولاد فإن نصيب الأبوين سيكون متساوياً قال تعالى:]وَلأبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ[ وهذا فيه مساواة بين الأب والأم في الميراث.

وكذلك إذا ماتت امرأة عن (زوج وأم وأخوين شقيقين وأخت لأم) فإن نصيب الزوج يكون النصف وتأخذ الأم السدس وكذلك الأخوان الشقيقان يأخذان السدس وتستقل الأخت لأم بالسدس أيضاً. وفي هذه المسالة تأخذ الأخت لأم نصيباً مساوياً لنصيب اثنين من الأخوة الأشقاء.

يقول المفكر الغربي غوستاف لوبون عن ميراث المرأة في الإسلام: ((ومبادئ الميراث التي ينص عليها القرآن على جانب عظيم من العدل والإنصاف. ويقول: ويظهر لي من مقابلتي بينها وبين الحقوق الفرنسية والإنجليزية أن الشريعة منحت الزوجات حقوقاً في الميراث لا تجد مثيلاً لها في قوانينا)) ([6]).

ذهب جمهور أهل العلم إلى أنّ دية المرأة هي نصف دية الرجل ([7]).

والأحاديث الواردة في دية المرأة لم يصح لها سند متصل، ولكن قضى بها كثير من الصحابة.

بينما ذهب الأصم وابن عُلية على أن ديتها مثل دية الرجل استدلالاً بالنصوص العامة مثل(في النفس مائة من الإبل)) ([8]).

يقول الله تعالى: ]الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [ النساء34.

وقد كانت القوامة للرجل من أجل أمرين:

فطري: بما فضل الله به الرجل على المرأة من التبصر في العواقب والنظر في الأمور بعقلانية أكثر من المرأة التي جهزها بجهاز عاطفي دفاق من أجل الأمومة.

كسبي: حيث إن الرجل هو الذي ينفق الكثير على تأسيس الأسرة، ولذلك سيكون أكثر خسارة إذا ما تهدمت، فلا يتخذ قراراً بتفكيكها إلا وقد فكر في الأمر ألف مرة ([9]).

* الأصل أن كل ما هو للرجل فهو للمرأة من أحكام وتشريعات وحقوق إلا ما جاء النص على خلافه فالنساء يدخلن في خطاب الرجال عند جمع من الأصوليين ([10]).

لقد كفل الإسلام للزوجة كافة حقوقها المادية والمعنوية بما يحقق لها السعادة إن التزم كل فرد بما فرض عليه. وقد نصت آيات كثيرة وأحاديث على ذلك منها:

ـ يقول الله تعالى: ]وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ[ النساء 19.

ـ ويقول تعالى: ]وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوف [ البقرة 228.

ـ ويقول r: ((استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوان)) ([11]).

ـ وقال r: ((خياركم خياركم لنسائهم)) ([12]).

ـ وذهب الجمهور إلى أن العشرة بالمعروف مندوبة مستحبة، بينما اختار المالكية وجوب العشرة بالمعروف ديانة. ([13])

يقول الجصاص ـ رحمه الله ـ في معنى العشرة بالمعروف: ((أن يوفيها حقها من المهر والنفقة والقسم، وترك أذاها بالكلام الغليظ، والإعراض عنها، والميل إلى غيرها، وترك العبوس والقطوب في وجهها بغير ذنب)) ([14])

1- اعتبار إذنها في الزواج وعدم إكراهها على الزوج للحديث الصحيح: ((لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن))([15]).

وحديث عبد الله بن بريدة عن أبيه أن فتاة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي أبيها أنه زوجها من غير إذنها فجعل الأمر إليها ([16]).

ومن حقوقها أيضاً:

وذلك لقوله تعالى: ]وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً[ النساء4. والنِّحلة هنا (الفريضة). ولا يحل له أن يأخذ من مهرها إلا بطيب نفس منها لقوله تعالى: ]وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا[ البقرة 229.

هناك الكثير من شعوب العالم غير المسلمة من تفرض على المرأة دفع المهر للزوج مما يجعلها تخرج للعمل والكدح تحصيلاً للمال المطلوب في المهر فلربما تأخرت عن الزواج حتى يفوتها أو تذهب أنوثتها.

وفي شريعة اليهود لا تملك المرأة المهر إلا إذا مات زوجها أو طلقها ([17])

لقوله تعالى: ] لـِيُنفِقْ ذُو سـَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قـُـدِرَ عَلَـيْهِ رِزْقـُهُ فَلْيُنفِقْ مـِمَّا آتـَاهُ اللَّهُ[ الطلاق 7. وقال النبي r: ((فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف))([18]) يقول المستشرق اندريه سرفيه في كتابه (الإسلام ونفسية المسلمين): ((من أراد أن يتحقق من عناية محمد بالمرأة فليقرأ خطبته في مكة التي أوصى فيها بالنساء))([19]). والنفقة على الزوجة تشمل كل ما يحقق لها الحياة الكريمة، وقد جعلت هذه النفقة من قبل الزوج على زوجته وأهله من أفضل النفقة لقوله r: ((دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك))([20])

وفي ذلك ذهب الجمهور غير الشافعية على وجوب أن يطأ الزوج زوجته ([21])فيعفها ويحقق الوئام والمحبة في العشرة معها، ومن حقوقها البيات عندها و القسم لها إذا كان عنده أكثر من زوجة.

لقد عالج الإسلام موضوع نشوز المرأة علاجاً تدريجياً.

يقول الله تعالى: ]وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا[ النساء 34

فجعل تقويم المرأة وتأديبها عند النشوز على مراتب تدرجاً معها، ورفقاً بها فيبتدأ معها بالوعظ الحسن ثم يهجر فراشها، فإن لم يجدِ معها الوعظ والهجر فإنه يضربها ضرباً غير مبرح فسّره ابن عباس بأنه الضرب بالسواك ونحوه بحيث لا يكسر عظماً ولا يشين جارحة وإنما للتأديب، أما أن يقصد الانتقام أو تفريغ غضبه فهذا لا يجوز،وقد قال r(أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العـبد ثم يضـاجعها في آخر اليوم))([22]) وقال للذين يضربون أزواجهم: ((ليس أولئك بخياركم))([23]) فنجد أن الشرع لم يبح الضرب إلا عند عدم الفائدة من الوعظ والهجر حينها جوّز له الضرب غير المبرح عند تحقق المصلحة الراجحة منه، ومع ذلك فإن النبيr نفى الخيرية عن من يضرب زوجته. وفي عصرنا الحاضر كثر الحديث حول انتهاك الإسلام لحقوق المرأة لما شرع جواز ضربها من قِبل بعض المستشرقين الكائدين والمستغربين الجاهلين متغافلين الحقوق الكثيرة التي كفلها الإسلام لها والظلم الكبير الذي ترزح تحته المرأة الغربية من غير ضابط ولا رادع.

فهناك (79% من الأمريكيين يضربون زوجاتهم) هذه الإحصائية عام 1987 ([24]).

بينما نجد 100 ألف ألمانية يضربهن الرجال سنوياً ([25]).

وفي فرنسا تتعرض حوالي مليوني امرأة للضرب ([26]).

ـ يروى أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله. فقال اجتمعن في يوم كذا وكذا في مكان كذا وكذا، فاجتمعن فأتاهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمهنّ مما علَمه الله ([27]).

ـ وقد ثبت من عدة طرق أن الشفاء بنت عبد الله المهاجرة القرشية علَّمت حفصة الكتابة ([28]).

ـ وجاء في السنة المطهرة ما يحث على التعليم والتأديب كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((أيما رجل كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران))([29]).

ـ وهناك الكثير من الفقيهات والمحدثات والأديبات المسلمات على مر التاريخ الإسلامي. كأمهات المؤمنين، وأم عمار، وأم سليم، وأسماء بنت عميس وغيرهن كثير([30]).

أما النساء قبل الإسلام أو في بعض الشعوب الأخرى فلم يكن لهن حظ من التعليم أو اهتمام رسمي بذلك. و يدل على ذلك ما أصدره البرلمان الإنجليزي في عصر هنري الثامن ملك إنجلترا من قرار يحظر على المرأة أن تقرأ كتاب العهد الجديد. فأين هذا من وضع الصحابة للمصحف الأول الذي كتب في عهد أبي بكر عند امرأة هي حفصة([31]).

يقول الله تعالى: ]وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا[ النساء 32.

لقد أثبت الإسلام للمرأة حق الملك بأنواعه والتصرف بأنواعه المشروعة من البيع والإجارة والوصية وغيرها.

و فرض لهن المهر والنفقة وإن كانت غنية.

وجعل لها حق الدفاع عن مالها كالدفاع عن نفسها بالتقاضي وغيره.

بينما نجد المرأة الفرنسية لا تزال مقيدة بإرادة زوجها في جميع التصرفات المالية والعقود القضائية ([32]).

في حين أننا لا نجد في كتب الفقه تفريقاً بين أجر المرأة والرجل في العمل الواحد. أما المرأة الغربية فإنها تعاني في ظل الدعوة إلى حقوقها من تفاوت كبير في الأجور والمرتبات المالية التي تتقاضاها من خلال عملها المساوي للرجل يصل هذا التفاوت من 59% إلى 78% كما أشارت إلى ذلك إحدى الدراسات الغربية.

بل كانت بعض النساء رائدات في بعض المهن. كالمرأة التي صنعت المنبر من خلال غلامها النجار، والرُّبيع بنت معوذ كانت تبيع العطر وتتجر به([33]).

وكذلك أم شريك الصحابية كان لها دار ضيافة ([34]).

يقول الله تعالى ]وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُـونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعـُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[ التوبة 71.

فللنساء في الإسلام حق المشاركة في العبادات الاجتماعية كصلاة الجماعة والجمعة والعيدين وقد أُذِنَ للحيَّض منهن بحضور اجتماع العيد في المصلى دون الصلاة.

كذلك لهن المشاركة فيما يتعلق بإصلاح المجتمع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرها من الأعمال الاجتماعية الأخرى، يدل على ذلك فعل نساء النبي r فقد كُنّ يخرجن معه يسقين الماء ويجهزن الطعام ويضمدن الجراح، فهذه أم عطية تقول إنها غزت مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات تخلف الرجال في رحالهم،وتصنع لهم الطعام ([35]).

وذكر الحافظ ابن حجر أن امرأةً اسمها رفيدة الأسلمية كانت خبيرة بمداواة الجرحى، وكان لها يوم الخندق خيمه عرفت باسمها حمل إليها سعد ابن معاذ لما أصيب ([36]).

ومن الحقوق كذلك أنها إذا أجارت أو أمَّنَت أحد الأعداء المحاربين نفذ ذلك. فقد قالت أم هانئ للنبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ((إنني أجرت رجلين من أحمائي)) فقال صلى الله عليه وسلم: ((قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ))([37]).

يقول ابن المنذر: إن المسلمين أجمعوا على صحة إجارة المرأة و أمانها ([38]).

بدأت الدعوات التي تتبنى قضايا المرأة ومشكلاتها منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي.

وبدأت بعد الاحتكاك الذي حصل بين الشرق والغرب واستعمار الغرب العلماني لدول الإسلام، وساعد على ظهور هذه الدعوات التحريرية حركة التنصير والاستشراق التي غزت الدول الإسلامية مبكراً من خلال التعليم والتوجيه الفكري؛ لأن تعلم المرأة المسلمة التعليم الغربي يؤثر في نفسها وينطبع في تربيتها لأولادها ولهذا يقول المنصر (جب):

((إن مدرسة البنات في بيروت هي بؤبؤ عيني، لقد شعرت دائماً أن مستقبل سوريا إنما هو بتعليم بناتها ونسائها)) فكانت أول مدرسة للبنات فتحها المنصرون في لبنان عام 1830م وتلتها مدارس أخرى في مصر والسودان والعراق والهند والأفغان ([39])

ونتيجة عمل متواصل للمنصرين والمستشرقين لعدّة سنوات في البلاد الإسلامية ظهر الكثير من المثقفين الإسلاميين المتأثرين بالغرب وثقافته، ودعا بعضهم إلى إنصاف المرأة ودعم حقوقها في التعليم والعمل والمشاركة الاجتماعية. فكان رفاعة الطهطاوي سنة 1873م. ووضع كتابه (المرشد الأمين لتربية البنات والبنين).

و يعتبر رفاعة الطهطاوي أول رائد لحركة تحرير المرأة وإن كان ينطلق من مرجعية إسلامية نادى من خلالها بحقوق المرأة الشرعية إلا أنه كان متأثراً للغاية بطبيعة الحياة الفرنسية التي بدأ يدعو إليها بكل ما فيها من اختلاط وسفور.

وبعد احتلال إنجلترا لمصر عام 1882م بدأ الترويج للأفكار التحريرية النسائية بالمفهوم الغربي، وكان أفضل مكان لترويج هذه الأفكار صالون الأميرة (نازلي) الذي كان يجمع طبقة المثقفين والنخبة الحاكمة، وفيه كانت تعقد مؤامرات خفية لغزو المرأة المصرية وهدم قيمها الإسلامية. ولا نستغرب أن تبدأ تلك الحركات التحريرية من مصر؛ إذ تشكل في حينها مركز الثقل الثقافي للعالم العربي والإسلامي.

ولقد سخر الاستعمار في ذلك الوقت عدداً من المثقفين النصارى مثل جورجي زيدان وماري عبده وسلامه موسى وغيرهم للدعوة الصريحة إلى تحرير المرأة، ومنهم صدر أول كتاب في قضية تحرير المرأة من تأليف رجل قبطي اسمه مرقص فهمي وكتابه هو (المرأة في الشرق) صدر عام 1894 م. ونادى برفض الحجاب و الاختلاط ومنع التعدد، وتقييد الطلاق.

وبعد خمسة أعوام من صدور هذا الكتاب صدر كتاب قاسم أمين (تحرير المرأة)، ثم

(المرأة الجديدة) والذي كان نقلة نوعية في مطالبات الحركة النسائية ومن مطالباته: رفع الحجاب، و منع التعدد، وتقييد الطلاق، وتعليم المرأة، والعمل المطلق للمرأة، فكان كتابه (المرأة الجديدة) دعوة صريحة لمحاكاة المرأة الأوربية في جميع أشكال حياتها زاعماً أن ذلك يحقق التقدم والتحضر للمرأة الشرقية.

وقد تدخل محمد عبده في دعم كتابات قاسـم أمين وتدخل سعد زغلول في تنفيذها عملياً.

وكان أول نزع للحجاب عندما قدم سعد زغلول من منفاه سنة 1921م ونزع حجاب زوجته صفية زغلول، ثم تبعتها هدى شعراوي، وشيزا نبراوي، ونبوية موسى، فخلعن الحجاب ووطئته بالأقدام بعد ما عادوا من روما في مؤتمر دولي لتحرير المرأة سنة 1923م.

في نفس الفترة كانت أهم بؤر الإسلام وتمركزه في العالم وثقله موزعة في مصر وتركيا وإيران ففي سنة 1925 م صدر قانون حظر الحجاب في تركيا.

وفي نفس العام تقريباً أصدر الشاه رضا خان قانون منع المحجبات من دخول المدارس والمؤسسات.

وفي النصف الأول من القرن العشرين كانت المرحلة الذهبية للحركات النسائية التحريرية التي انتشرت دعواتها في طول بلاد المسلمين وعرضها وذلك بمساعدة الاحتلال الأجنبي الذي أيدهم ودعمهم مالياً وسياسياً في جميع الدول الإسلامية التي احتلها عسكرياً، أو لم يحتلها ولكنه دخلها بالغزو الفكري والثقافي.

فمثلاً أفغانستان واليمن يعتبران بلدان مغلقان محافظان كثيراً على تعاليم الإسلام وتقاليده، ولم يتوطن الاستعمار في بلديهما طويلاً، ومع ذلك ففي أفغانستان سمح قانون في عام 1959 م للنساء بالخروج سافرات، وأحرق النساء العباءة والغطاء في تنانير بيوتهن، وأصبح الاختلاط سمَة واضحة، والسفور شيء ملاحظ في المدن والجامعات ودوائر الحكومة. مع العلم أنه قبل 32 سنة من هذا التاريخ خلع العلماء والناس الملك أمان الله خان؛ لأنه سمح لعقيلته أن تخرج من شرفة القصر سافرة ([40]) !!.

وقريباً من ذلك كان الحال في اليمن يقترب نحو إخراج المرأة ومشاركتها للرجال في جميع الميادين.

وانتشرت بعد ذلك الحركات النسائية وبدأت تدعو للسفور والعمل والاختلاط دون قيد أو شرط على النمط الغربي. وفي نفس الفترة تأسست الكثير من الجمعيات النسائية في البلاد الإسلامية.

فنجد في مصر أن هدى شعراوي وحدها أسست أكثر من 25 جمعية نسائية.

وفي النصف الثاني من القرن العشرين خفت الحركة النسائية في البداية ثم عادت للظهور في نهاية الستينات والسبعينات الميلادية لتشمل أكثر المناطق الإسلامية، وتغزو جميع المدن والأرياف العربية إلا القليل منها، فانتشرت بذلك مئات الجمعيات النسائية الداعية لتحرير المرأة في جميع تلك المدن والقرى لتمارس نشاطها المدعوم من هيئات دولية و إقليمية.

واليوم تواجه الأسرة والمرأة جميعاً محاولات إفساد دولية ومنظمة، لا يعنيها كثيراً الحجاب، أو خروج المرأة للعمل، أو دخولها المجال السياسي والقضائي، وإنما أصبح هدفها تغريب المرأة، ونشر الإباحية والشذوذ، والخروج عن كل تقليد مقبول ومبدأ مشروع وعُرف سليم نحو الجنس والمتع الشهوانية، وتعميم هذا الفكر المنحط لجميع شعوب العالم بل وفي كل طبقاته الاجتماعية والعمرية؛ لإفساد الجذور الداخلية فضلاً عن القشور الظاهرية في الحياة الاجتماعية.

وبدأ ذلك الغزو المفسد للشعوب والأفراد من خلال عولمة الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، و دعم منظمة الأمم المتحدة التي قامت بخطة مدروسة ومدعومة مالياً وسياسياً لتنفيذها بقوة النظام العالمي الجديد، فكانت المؤتمرات التالية للمرأة:

ابتداء من نيروبي عام 1985

ومروراً بقمة الأرض في ريودي جانيرو في البرازيل عام 1992م

ثم المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان في فينا في النمسا عام 1993م

ثم مؤتمر السكان والتنمية في القاهرة بمصر عام 1994م

ثم المؤتمر العالمي الرابع للمرأة في بكين بالصين عام 1995م

ثم مؤتمر الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية في استانبول بتركيا عام 1997

وأخيراً مؤتمر المرأة في نيويورك عام 2000م الذي عقد على شكل جلسة استثنائية للجمعية العامة للأمم المتحدة ومعها منتدى للمنظمات غير الحكومية، وعرضت على المؤتمر توصيات ونتائج المؤتمرات السابقة بهدف الخروج بوثيقة دولية موحدة، يسعون لجعلها وثيقة ملزمة لدول العالم، وقد حفل مشروع الوثيقة المقدم للمؤتمر بما حفلت به وثائق المؤتمرات السابقة من دعوة صريحة إلى هدم الأسرة، وإطلاق الحرية الجنسية للشباب، ودعوة صريحة كذلك للشذوذ بكل أنواعه، والمطالبة بشل سلطة الأبوين على الأبناء وحرية الإجهاض، وإلغاء نظام الميراث في الإسلام، وغيرها من البنود التي تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية بل مع أبجديات الفطرة الإنسانية ([41]).

ومن هنا أصبحت حصوننا وبيوتنا مهددة من الداخل؛ بسبب ما يبث إلينا من خلال بعض الكتابات المغرضة في الصحف والمجلات، و ما تبثه القنوات الفضائية، وما يدور في شبكات الإنترنت ومواقعها المختلفة من دعوات صريحة للسفور والاختلاط والمشاركة للرجال وهدم الأسرة والقضاء على كرامة المرأة وعفتها.

ويكفي لبيان خطورة هذا الغزو الإعلامي النتائج التي قدمتها إحدى الدراسات في جامعة الملك عبد العزيز بجدة وكانت عن أثر الأطباق الفضائية على الأسرة والمرأة خصوصاً، فجاءت نتائجها مذهلة حيث ظهر أنّ 85% من النساء يحرصن على مشاهدة قنوات فضائية تعرض مواد إباحية، و53% قلت لديهن تأدية الفرائض الدينية, و32% قصّرن في تحصيلهن العلمي و 22% تعرضن للإصابة بأمراض نسائية نتيجة ممارسة عادات خاطئة ([42]).

كذلك نلحظ أن هذه النداءات والصيحات التحريرية يراد لها أن تظهر بصورة جماعية، وأنها تمثل قطاعاً واسعاً من النساء إلا أنها في حقيقتها الواقعية مجرد دعوات فردية وأحياناً خارجية، وربما من الرجال أكثر من النساء، ولعل في ردة الفعل الغاضبة في مجتمعنا النسائي من هذه الدعوات شاهد على حقيقة هذا الرفض العام، وأن هذه الدعوات مجرد شعارات فارغة مدفوعة ومرفوضة من الناحية الدينية والحضارية والعقلية والفطرية وحتى من الناحية الإنسانية كما سيأتي معنا...

ويمكن الرد على هذه الشبهات من خلال النواحي التالية:

إن فتاوى هيئة كبار العلماء في أكثر من قطر إسلامي وقرارات المجامع الفقهية قد ضبطت لنا نوعية المشاركة وحدودها العملية وفق الأطر الشرعية والعلمية، فضلاً عن أن النصوص الشرعية من الكتاب والسنة قد أصّلت لنا حقوق المرأة وواجباتها ودروها في المجتمع مما لا يوجد في أي ملة أخرى. ونجد في الآونة الأخيرة أن دعاة التحرير اتجهوا إلى لبس الجبب وعمائم العلماء والتنقير والبحث عن أقوال الفقهاء قديماً وحديثاً وتلبيسها على الناس بما يوافق أغراضهم ويحقق مقصودهم في هدم ثوابت الدين بالشاذ من الأقوال والآراء. يدل على ذلك مئات المقالات و الكتب المنشورة لتضليل الناس.

و من الفتاوى التي ضبطت نوعية المشاركة وحدودها العملية وفق الأطر الشرعية والعلمية:

بيان من اللــجنة الدائــمة للبـحوث العلمية والإفتاء حول ما نشر في الصحف عن المرأة والذي جاء فيه:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه وبعد:

فمما لا يخفى على كل مسلم بصير بدينه ما تعيشه المرأة المسلمة تحت ظلال الإسلام ـ وفي هذه البلاد خصوصاً ـ من كرامة وحشمة وعمل لائق بها ونيل لحقوقها الشرعية التي أوجبها الله لها، خلافاً لما كانت تعيشه في الجاهلية، وتعيشه الآن في بعض المجتمعات المخالفة لآداب الإسلام من تسيب وضياع وظلم وهذه نعم نشكر الله عليها، ويجب علينا المحافظة عليها إلا أن هناك فئات من الناس ممن تلوثت ثقافتهم بأفكار الغرب لا يرضيهم هذا الوضع المشرف الذي تعيشه المرأة في بلادنا من حياء، وستر، وصيانة، ويريدون أن تكون مثل المرأة في البلاد الكافرة والبلاد العلمانية فصاروا يكتبون في الصحف، ويطالبون باسم المرأة بأشياء تتلخص في:

1- هتك الحجاب الذي أمرها الله به في قوله: ]يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [ وبقوله تعالى:]وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [ وبقوله تعالى: ] وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [الآية وقول عائشة رضي الله عنها في قصة تخلفها عن الركب ومرور صفوان بن المعطل رضي الله عنه عليها وتخميرها لوجهها لما أحست به قالت: وكان قد رآني قبل الحجاب، وقولها: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن محرمات فإذا مر بنا الرجال سدلت إحدانا خمارها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه)، إلى غير ذلك مما يدل على وجوب الحجاب على المرأة المسلمة من الكتاب والسنة، ويريد هؤلاء منها أن تخالف كتاب ربها وسنة نبيها وتصبح سافرة يتمتع بالنظر إليها كل طامع وكل من في قلبه مرض.

2- ويطالبون بأن تمكن المرأة من قيادة السيارة رغم ما يترتب على ذلك من مفاسد، وما يعرضها له من مخاطر لا تخفى على ذي بصيرة.

3- ويطالبون بتصوير وجه المرأة ووضع صورتها في بطاقة خاصة بها تتداولها الأيدي ويطمع فيها كل من في قلبه مرض، ولا شك أن ذلك وسيلة إلى كشف الحجاب.

4- ويطالبون باختلاط المرأة بالرجال، وأن تتولى الأعمال التي هي من اختصاص الرجال، وأن تترك عملها اللائق بها والمتلائم مع فطرتها وحشمتها، ويزعمون أن في اقتصارها على العمل اللائق بها تعطيلاً لها.

ولا شك أن ذلك خلاف الواقع، فإن توليتها عملاً لا يليق بها هو تعطيلها في الحقيقة، وهذا خلاف ما جاءت به الشريعة من منع الاختلاط بين الرجال والنساء، ومنع خلو المرأة بالرجل الذي لا تحل له، ومنع سفر المرأة بدون محرم، لما يترتب على هذه الأمور من المحاذير التي لا تحمد عقباها. ولقد منع الإسلام من الاختلاط بين الرجال والنساء حتى في مواطن العبادة، فجعل موقف النساء في الصلاة خلف الرجال، ورغب في صلاة المرأة في بيتها، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن) كل ذلك من أجل المحافظة على كرامة المرأة وإبعادها عن أسباب الفتنة.

فالواجب على المسلمين أن يحافظوا على كرامة نسائهم، وأن لا يلتفتوا إلى تلك الدعايات المضللة، وأن يعتبروا بما وصلت إليه المرأة في المجتمعات التي قبلت مثل تلك الدعايات، وانخدعت بها، من عواقب وخيمة، فالسعيد من وعظ بغيره، كما يجب على ولاة الأمور في هذه البلاد أن يأخذوا على أيدي هؤلاء السفهاء ويمنعوا أفكارهم السيئة، حماية للمجتمع من آثارها السيئة وعواقبها الوخيمة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) وقال عليه الصلاة والسلام: (واستوصوا بالنساء خيراً) ومن الخير لهن المحافظة على كرامتهن وعفتهن وإبعادهن عن أسباب الفتنة.

وفق الله الجميع لما فيه الخير والصلاح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.

قد يستغرب القارئ كيف يكون خروج المرأة من بيتها والمشاركة المطلقة للرجال في الإدارة والأعمال أمراً مرفوضاً حضارياً في حين نجد الغرب المتحضر قد أشرك المرأة في العديد من المجالات ومنذ سنوات طويلة ؟

وأقول: إن التعجب والاستغراب وارد على الذهن خصوصاً أن منظارنا للتقدم الحضاري منظار سينمائي براق لا يظهر إلا الجوانب الجميلة، ويخفي العيوب والتشوهات الداخلية. وأعتقد أن لغة الإحصائيات أبلغ وأقدر على التصوير الدقيق لذلك المجتمع الغربي، فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ جاء ضمن تقرير رفع إلى وزير الشؤون النسائية الكندي تضمن دراسة واقع المرأة الكندية في العمل؛ تبين خلاله أن 40% من النساء هناك تعرضن إما للضرب وإما للاغتصاب مرة على الأقل، وفي الولايات المتحدة الأمريكية قامت جامعة كورفل باستفتاء بين عدد من العاملات في الخدمة المدنية جاء فيه أن 70% منهن قد تعرضن لمضايقات واعتداءات جنسية ([43]) !! وحتى لا أبتعد كثيراً عن واقعنا العربي فقد أثبتت دراسة علمية في بلد عربي شقيق اتجه نحو إخراج المرأة حذو المجتمعات الغربية أن 70% من واقع (1472) فتاة وسيدة يعملن في أماكن متعددة ومهن مختلفة جرت عليهن هذه الدراسة يتعرضن للمضايقات والإهانة في أماكن عملهن، وأن 54% من هذه المضايقات تأخذ طابعاً جنسياً !! ومن العجيب أيضاً أن مجموعة من الطالبات البريطانيات بجامعة إكسفورد العريقة قمن بمظاهرة خوفاً من السماح بالاختلاط في إحدى كلياتهن بالجامعة ؟! وأعتقد أن لهن ما يبرر هذا الخوف فرياح الاختلاط لم تذر شيئاً أتت عليه إلا أفسدته وجعلته حطاما.ً تقول الكاتبة الإنجليزية الليدي كوك: ((إن الاختلاط يألفه الرجال، ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها، وعلى قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا، وهنا البلاء العظيم على المرأة))([44])

يؤكد ذلك الإحصائيات التي تثبت كثرة أولاد الزنا في المجتمعات الغربية ففي الولايات المتحدة الأمريكية تصل نسبتهم إلى الثلث. بينما تصل في الدول الإسكندنافية إلى 50% من نسبة الأطفال ([45]) . أما عن انتشار الزنا فحدث ولا حرج حيث التقارير تثبت أن ما لا يقل عن 40% من نساء إيطاليا من أعمار (14) إلى (59) عاماً هن ضحايا الاغتصاب الجنسي ([46])، وفي أمريكا تسجل كل ست دقائق جريمة اغتصاب، ونصف النساء العاملات في الولايات المتحدة الأمريكية والبالغ عددهن 40 مليون امرأة يتعرضن لمضايقات جنسية كثير منها لاتسجل من حالات الشكوى والتظلم خوفاً من أن يفقدن عملهن، هذا مع انتشار الزنا ووفرته في مجتمعاتهم !!([47]) ولهذا لا نستغرب أن يصل عدد النساء المصابات بمرض الإيدز في العالم نحو 14 مليون امرأة مع تزايد مذهل في أعدادهن وكل ذلك بسبب الدعوة إلى الاختلاط المنفلت بين الجنسين([48]).

وإذا ناقشنا مشروع مشاركة المرأة للرجل من الناحية العقلية، فلا يمكن إبراز محاسن شيء أو مساوئه إلا بالمقارنة بين سلبياته وإيجابياته، ولا أعتقد أن أحداً يخالف أن العمل المطلق للمرأة وقيادتها للسيارة فيه العديد من الإيجابيات والمحاسن، ولكن بالمقارنة بين السلبيات والمساوئ المترتبة عليه في مجتمعنا يصعب أن يسمح به عاقل أو غيور، فالخمر والميسر على سبيل المثال حُرِّما في القرآن بدلالة القطع والثبوث وبأسلوب المقارنة بين المصالح والمفاسد كما في قوله تعالى:] قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا[ البقرة 219 فلم يمنع وجود بعض المنافع فيها واتساع الشريحة التي تتعاطاها من أن تحرم، حتى عند العقلاء من أهل الكفر والإلحاد. وفي الآونة الأخيرة بدأنا نسمع صيحات عديدة لعقلاء الغرب تدعو إلى العفة والاحتشام وعدم الاختلاط بالرجال يشهد على هذا كتاب لمدير مركز البحوث بجامعة هارفارد بعنوان (الثورة الجنسية) يقرر المؤلف أن أمريكا سائرة إلى كارثة في الفوضوية الجنسية، وأنها تتجه إلى نفس الاتجاه الذي أدى إلى سقوط الحضارتين الإغريقية والرومانية في الزمن القديم ويقول: ((إننا محاصرون من جميع الجهات بتيار خطر من الجنس يفرق كل غرفة من بناء ثقافتنا وكل قطاع من حياتنا العامة)) ([49]). وبينما هناك من يغمض عينيه ويسير إلى النار وخلفه قطعان من البشر، فإن هناك أيضاً من أبصر حقيقة تلك المجتمعات وبدأ يدعو إلى العفة والاستعفاف، ففي فرنسا تشكلت مجموعة من الشبان وأسست جمعية للعفة، ومثلها في أمريكا انضم تحت لوائها أكثر من 250 ألف شاب وشابة ([50]).

أما من الناحية الفطرية والخلقية للمرأة فليس كل عمل يناسب طبيعتها العاطفية وأنوثتها الرقيقة، والدراسات التي تؤكد ذلك كثيرة وقطعية وليس هناك عمل أولى وأنسب وأهم وأجدر من أن تقوم المرأة بأعمال بيتها وتربية أبنائها التربية الصالحة، ولو قامت المرأة في العالم أجمع بمثل هذا الدور لخففنا الكثير من الظواهر الخطيرة التي تنذر بدمار كامل للأسرة في المستقبل كجنوح الأحداث، وحمل المراهقات وإدمانهم المخدرات، وغيرها من الظواهر الخطيرة، في حين نجد أن دعاة التحرر والمساواة للمرأة أخرجوها من عملها الأساسي في التربية وإصلاح المنزل إلى مجالات ثانوية في غالب قطاعات العمل التي توجد بها من دون عدل أو مساواة مع الرجال كن يطمحن به، وقد أشارت إلى ذلك دراسة غربية تبين أن الفارق بين أجور المرأة والرجل يصل من 59% إلى 79% وأضيف أيضاً أن هناك دراسة أوربية حديثة أثبتت أن المواقع القيادية بالمؤسسات الأوربية لا تزال مقصورة على الرجال، فقد أكدت دراسة تضمنت استطلاعاً لواقع 1500 شركة أوربية حقيقة غياب المرأة في أعلى السلم الإداري للمؤسسات، وتبين أن أكثر من نصف الشركات الألمانية ليس لديها أي امرأة في مواقعها القيادية العليا ([51]).وهذا يدل على أن تلك المجتمعات لم تعط المرأة الثقة الكاملة والصلاحية المطلقة للقيام بأعمال الرجال في كل المجالات..

وأعتقد أن من الجدير المناسب ذكره في هذا المقام أن الجانب الإنساني يفرض علينا أن نرحم المرأة من وطأة مشكلات العمل الخارجي واحتياجاته، وأن نقدر لها دورها الذي تقوم به في المنزل والتربية بالمحافظة على نشاطها وحيويتها من الهدر فيما لا يفيد، وأن يقوم رجال المجتمع بتوفير احتياجاتها وتلبية طلباتها لتبقى (امرأة) بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالة ومعنى، وكم هو مؤسف حقاً أن ترى المرأة في المجتمعات المتحررة أشبه بالرجال في أشكالهن وطبائعهن وكأن الأنوثة والعفاف رمز تراثي ذهب وانقرض.

.. ولا أدري بعد هذا العرض الموجز كيف نسمح بإخراج المرأة للمشاركة المطلقة مع الرجال وفي جميع المجالات والدلائل الدينية والعقلية والاجتماعية والإنسانية والحضارية تأبى هذا الطرح من نشازه المتوقع في أرض الواقع، وإن كان هناك حجة بقي أن نناقشها فهي الشهوة والهوى التي تدفع الكثير إلى مثل هذه الأطروحات المفبركة، والحوادث المثيرة بغية الوصول إلى الحق المزعوم في هذه القضية، وصدق الله عز وجل حيث قال:] وَلَوْ اتَّبــَعَ الْحـَقُّ أَهــْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [المؤمنون 71 .

فيا دعاة التحرير.. اربعوا على أنفسكم، فحجاب المرأة المسلمة مهما حاولتم لن يسقط، وقيمتها وحقوقها من ثوابت مجتمعنا لا نفرط فيها أبداً، ودعواتكم حول حقوق المرأة في العمل والمشاركة والقيادة تزييف مفضوح والتفاف قبيح حول تغيير الحقائق بغية استرقاقها.. لا تحريرها.



--------------------------------------------------------------------------------

* قسم الدراسات الإسلامية والعربية

جامعة الملك فهد للبترول والمعادن

الظهران 31261 ص. ب. 1516

(1) انظر: تفسير الطبري 4 / 319، تفسير القرطبي 5 / 105.

(2) ماذا بعد سقوط المرأة لبدرية العزاز ص 17ـ 19، المرأة المسلمة والتغريب للرماني ص 23 ـ 26.

(1) رواه أحمد في المسند 6 / 256، وأبو داود في السنن 1 / 61

(2) انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص 410، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 384.

(1) يرى بعض الفقهاء الأخذ بشهادتها في الجنايات المتعلقة بمجتمعات النساء الخاصة كحمامات النساء والأعراس. انظر: المغني 14 / 134، فتح القدير 7 / 357، الأحكام السلطانية للماوردي ص 280.

(1) المرأة بعد السقوط ص 53.

(2) انظر الأحكام السلطانية للماوردي ص 289، المبسوط 26 / 79، المغني 12 / 58

(3) انظر: نيل الأوطار 7 / 224.

(1) أحكام القرآن للجصاص 2/ 236، زاد المسير 2 / 46، تفسير ابن السعدي 2 / 60.

(1) البحر المحيط 3 / 178.

(2) رواة الترمذي وقال حديث حسن صحيح 3 / 467.

(3) رواة الترمذي وقال حديث حسن صحيح 3 /457.

(4) انظر: فتح القدير 3 / 410، حاشية الدسوقي 2 / 238، مغني المحتاج 4 / 425، المغني 10 / 220.

(5) أحكام الجصاص 2 / 132.

(1)رواه البخاري 5 / 1974 (4843)

(2) رواه النسائي 6 / 86، ورواه ابن ماجه 1 / 602.

(3) انظر: حقوق النساء في الإسلام لسيد محمد رشيد رضا ص 17.

(1) رواه مسلم 2/889-890.

(2) الأسرة شوال 1417 هـ.

(3) رواه مسلم 2 / 692.

(4) انظر: بدائع الصنائع 2 / 331، كشاف القناع 5 / 192، مغني المحتاج 4 / 353.

(1) رواه البخاري 3 / 262 ومسلم 4 / 2191.

(2) رواه أبو داود في سننه 2 / 245 (2146).

(3) جريدة القبس 15/ 2 / 88م .

(4) جريدة الرأي العام 28 / 5 / 1990م.

5)) وكالة الأنباء فرانس برس نقلاً من كتاب (من أجل تحرير حقيقي للمرأة) ص 9 ـ 28 انظر: آداب الخطبة والزفاف في السنة المطهرة لعمرو عبد المنعم ص 180 ــ 196، رسالة إلى العروسين لسيد الصبيحي ص 131ـــ158، المرأة بين طغيان النظام الغربي ولطائف التشريع الرباني للبوطي ص 93 ـ 114، مركز المرأة في الحياة الإسلامية للقرضاوي ص 9 ــ 30.

(1) رواه البخاري 6 / 2666، ورواه مسلم 4 / 2028.

(2) رواه أبو داود في سننه 4 / 11 (3887)

(3) رواه البخاري 2 / 900.

(4) انظر:ج8 من طبقات ابن سعد،ج8 من الإصابة لابن حجر ففيه كثير من ترجمات من لهن فضل وعلم وسابقة في الإسلام.

(1) انظر: حقوق المرأة في الإسلام لمحمد رشيد رضا ص 46، المرأة بين طغيان النظام الغربي ولطائف التشريع الرباني للبوطي ص83 ــ 85، المرأة في الإسلام لمحمد رشيد رضا ص 15.

(2) حقوق المرأة في الإسلام لمحمد رشيد رضا ص 15.

(1) طبقات ابن سعد 8 / 447.

(2) المرجع السابق 8 / 274.

(3) رواه مسلم 3 / 1447.

(4) فتح الباري 1 / 260

(1) رواه أبو داود في سننه 3 / 84 (2763).

(2) الإجماع ص 27.

(1) انظر: المرأة المسلمة بين الغزو والتغريب للرماني ص 56.

1)) الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية لأبي الحسن الندوي ص 20-26.

(1) انظر: المؤامرة على المرأة المسلمة للسيد فرج ص 47 ــ 78، المرأة ماذا بعد السقوط لبدرية العزاز ص 31ـــ57، المرأة المسلمة بين الغزو والتغريب للرمانيص41 ـ 81، مجلة المجتمع (1404)، الأسرة 1417هـ، المنار (32).

(1) جريدة المدينة 23 / 11 / 1420 هــ.

(1) مجلة الأسرة صفر 1420هــ.

(1) ماذا بعد سقوط المرأة لبدرية العزاز ص 76.

(2) مجلة المجتمع (1399).

(3) مجلة الأسرة (70) محرم 1420هــ.

(4) من أجل تحرير حقيقي للمرأة للعويد ص 164، 165.

(5) جريدة الحياة 8 / 3 / 1321هــ.

(1) مركز المرأة في الحياة الإسلامية للقرضاوي ص 55.

(2) جريدة المسلمون (662).

(1) مجلة المجتمع (1399).



رد مع اقتباس
  #24  
قديم 03-04-2005, 03:47 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

الدلالة المحكمة لآية الجلباب على وجوب غطاء الوجه
لطف الله خوجة






قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ..}.

في هذه الآية دلالة محكمة على وجوب الحجاب الكامل على سائر المؤمنات، وبيان ذلك من وجوه:

الوجه الأول: الأمر واحد للجميع، فالصفة واحدة.

في الآية مقدمة ونتيجة:

المقدمة: أن الأزواج والبنات ونساء المؤمنين أمرن بأمر واحد، بلا فرق، هو: إدناء الجلباب.

النتيجة: أن صفة الإدناء في جميعهن واحدة.

فالجمع إذا خوطب بشيء، فالأصل أن فحوى الخطاب واحد في حق الجميع، ما لم يرد استثناء. وهنا لا استثناء في الآية، فيبقى الخطاب واحدا، فبالنظر إلى دلالة الآية: فإنها صريحة الدلالة في تساوي الأزواج والبنات ونساء المؤمنين، في صفة الإدناء، بغير فرق بين أحد.

لكن السؤال الوارد هنا: ما صفة الإدناء؟

والجواب: أن إحدى الفئات التي ذكرت في الآية وهم: الأزواج. قد عرف صفة إدنائها بقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ}، وبالإجماع الآية تدل على الحجاب الكامل.

وفقا لهذين الأمرين نخرج بنتيجة هي: أن صفة الإدناء في حق الجميع هو: الحجاب الكامل.

ويمكن تصوير المسألة بمقدمتين ونتيجة:

المقدمة الأولى: الجميع: الأزواج، والبنات، ونساء المؤمنين. خوطبن بخطاب واحد هو: إدناء الجلباب.

المقدمة الثانية: أن صفة الإدناء في حق بعض هذا الجميع (الأزواج) هو الحجاب الكامل بالإجماع.

النتيجة إذن: صفة الإدناء في حق الجميع واحد، هو: الحجاب الكامل.

ففي الآية نفسها قرينة واضحة على التغطية، قال الشيخ الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان 6/586:

"فإن قيل: لفظ الآية الكريمة، وهو قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} لا يستلزم معناه ستر الوجه لغة، ولم يرد نص من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع على استلزامه، وقول بعض المفسرين: إنه يستلزمه. معارض بقول بعضهم: إنه لا يستلزمه. وبهذا يسقط الاستدلال بالآية على وجوب ستر الوجه.

فالجواب: أن في الآية الكريمة قرينة واضحة على أن قوله تعالى فيها: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ}، يدخل في معناه ستر وجوههن، بإدناء جلابيبهن عليها، والقرينة المذكورة: هي قوله تعالى: {قل لأزواجك}، ووجوب احتجاب أزواجه وسترهن وجوههن، لا نزاع فيه بين المسلمين. فذكر الأزواج مع البنات ونساء المؤمنين، يدل على وجوب ستر الوجوه، بإدناء الجلابيب، كما ترى".

فإن نازع منازع فقال: كلا، لا نسلم بأن فحوى الخطاب في حق الجميع واحد هنا، فالأمر واحد، هو إدناء الجلباب، لكن صفة الإدناء يختلف، فالأزواج عليهن الحجاب الكامل، والمؤمنات لهن كشف الوجه.

وهذا مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، فالجميع رجس محرم، لكن الصفة تختلف، فالخمر حرمته في شربه، والميسر في اللعب به، والأنصاب في التقرب إليها، والأزلام في الاستقسام بها، وهكذا فالتحريم واحد، وصوره مختلفة.

فالجواب من أوجه:

الأول: أن هذا القول يتضمن الإقرار بدلالة الإدناء على التغطية؛ وإن كان يخصه بالأزواج، وبهذا ينتقض قولهم الأول: أن الإدناء في الآية لا يدل على التغطية بوجه.

الثاني: أن أصحاب هذا القول ترددوا في تفسير الإدناء بين التغطية والكشف، وبالتالي لن تكون دلالة الآية، عندهم، قاطعة على الكشف، وهذا يلزمهم، أما نحن فنقول: الآية لا تدل إلا على التغطية. ومن ثم دلالتها عندنا قاطعة على التغطية، وينتج عن هذا: أنه ليس لهم القول بأن الآية لا تدل على التغطية.

الثالث: قد علمنا بطلان تخصيص الأزواج بالحجاب الكامل، كما سبق بيانه في آية الحجاب. وإذا بطل التخصيص رجع فحوى الخطاب واحدا في حق الجميع، دون استثناء أو اختلاف.

الرابع: ما قولهم في بنات النبي صلى الله عليه وسلم، هل الإدناء في حقهن بالكشف أم بالتغطية؟.. إن قالوا: التغطية. لزمهم ذلك في سائر النساء، إذ لا موجب للتفريق بين البنات وسائر النساء. وهم لا يقولون بالكشف، لأنهم يساوونهن بالأزواج رضوان الله عليهن.

لكن إن سلموا بأن الخطاب واحد للجميع، لزمهم أن يقروا بأن الصفة واحدة للجميع أيضا.

الوجه الثاني: تفسير الإدناء بالكشف يلزم منه جواز كشف الأزواج وجوههن.

الإدناء، عموما، إما أن يكون بتغطية الوجه، وإما بدونه.

فإن فسر بكشف الوجه، لزم منه كشف الأزواج وجوههن، وهذا باطل، لوجوب التغطية في حقهن.

وإن فسر بتغطية الوجه لم يلزم منه أية لوازم باطلة، بل يكون موافقا لأمر الله تعالى الأزواج بتغطية وجوههن في الآية الأخرى، وليس في تغطية البنات ونساء المؤمنين وجوههن ما ينكر أو يعترض عليه.

فإن قيل: الصفة متفاوتة، فالأزواج عليهن التغطية، وسائر النساء ليس عليهن، والإدناء يتضمن المعنيين.

فالجواب: أن هذا الإيراد وجوابه تقدم في الوجه السابق.

الوجه الثالث: أن صفة الإدناء لغة هو التغطية.

قال تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ}، فعل الإدناء عدي بـ "على"، وهو يستعمل لما يكون من أعلى إلى أسفل، فدلالة الآية: أن الإدناء يكون من فوق الرأس. وحينئذ ينزل بعض الجلباب على الوجه. فهذا شاهد على أن الإدناء هنا متضمن تغطية الوجه، بنزول بعض الجلباب عليه.

قال الزمخشري في تفسيره الكشاف [3/274]:

" ومعنى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ}، يرخينها عليهن، ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، يقال: إذا زل الثوب عن وجه المرأة: أدني ثوبك على وجهك".

وقال الإمام النحوي المفسر أبو حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط [7/240]:

"(من) في (جلابيبهن) للتبعيض، و(عليهن) شامل لجميع أجسادهن، أو (عليهن) على وجوههن، لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه".

فهذان إمامان في اللغة، قد فسرا الإدناء بإرخاء الجلباب على الوجه.

وقال النسفي في تفسيره [3/315]: "و (من) للتبعيض؛ أي ترخي بعض جلبابها وفضله على وجهها".

الوجه الرابع: سبب النزول يشير إلى أن المعنى وجوب التغطية.

قال ابن جرير: "حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ..}، إلى قوله: {وكان الله غفورا رحيما}، قال: كانت الحرة تلبس لباس الأمة، فأمر الله نساء أن يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ، وإدناء الجلباب: أن تقنّع وتشد على جبينها".

وساق سنده إلى قتادة ومجاهد وأبي صالح بمثل هذا المعنى والسبب في نزول الآية[التفسير 19/182-183].

فقد كان من علامة الحرة منذ الجاهلية تغطية وجهها، بخلاف الأمة فكانت تكشف وجهها، ولا يعني ذلك أن كل الحرائر كن يغطين، بل كان مشهورا عنهن، قال النابغة الذبياني، وهو من شعراء الجاهلية، يصف المتجردة زوجة النعمان، لما فجأها بالدخول، فسقط خمارها، فعمدت، فغطت وجهها بذارعيها، وكانت ضخمة، فاستترت بهما:

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد[1]

فلما حصل الأذى من الفساق والمنافقين حين خروج النساء ليلا، أمرهن الله تعالى أن يتشبهن بالحرائر في تغطية الوجه، حتى يعرفن بذلك فلا يتعرضن للأذى.

قال الإمام النحوي المفسر أبو حيان الأندلسي في تفسيره: البحر المحيط [7/240]:

"(من) في (جلابيبهن) للتبعيض، و(عليهن) شامل لجميع أجسادهن، أو (عليهن) على وجوههن، لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه".

وروى ابن سعد في طبقاته [8/176،177] عن محمد بن كعب القرظي قال: "كان رجل من المنافقين يتعرض لنساء المسلمين ويؤذيهن، فإذا قيل له، قال: (كنت أحسبها أمة)، فأمرهن الله أن يخالفن زي الإماء، ويُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ، تخمر وجهها إلا إحدى عينيها، يقول: {ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين}"[2].

وهذا المعنى تتابع المفسرون على حكايته في تفسير هذه الآية، فكلهم ذهبوا في قوله تعالى: {ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين}؛ أي يعرفن أنهن حرائر، بتغطية وجوههن وأجسادهن بالجلباب، حتى يتميزن عن الإماء، وبهذا يعرف أن الأمة لا يجب عليها حجاب وجهها، فالفرق بينهما ثابت بهذه الآية، وتظاهر المفسرين، من الصحابة والتابعين، على هذا التفريق، كما أنه قد ثبت في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حيي بن أخطب، قال الصحابة: "إن حجبها فهي امرأته، وإلا فأم ولد". رواه البخاري ومسلم[3].

الوجه الخامس: تفسير الجلباب بتغطية الوجه ورد عن جمع من الصحابة والسلف.

وبهذا المعنى جاءت الأقوال عن السلف، فقد روى ابن جرير في تفسيره [19/181]، فقال:

"حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنى معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ}: أمر الله نساء المؤمنين، إذا خرجن من بيوتهن في حاجة، أن يغطين وجوههن، من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة".

وروى أيضا فقال: "حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد، عن عبيدة في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ..}. فلبسها عندنا ابن عون، قال: ولبسها عندنا محمد، قال محمد: ولبسها عندي عبيدة. قال ابن عون: بردائه، فتقنع، فغطى أنفه وعينه اليسرى، وأخرج عينه اليمنى، وأدنى رداءه من فوق حتى جعله قريبا من حاجبه، أو على الحاجب".

وساق الأثر نفسه من طريق يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، قال سألت عبيدة عن قوله: الآية. قال: "فقال بثوبه، فغطى رأسه ووجهه، وأبرز ثوبه عن إحدى عينيه".[التفسير 19/181-182]

وفي الدر المنثور [5/415]: "وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين رضي الله عنه قال: سألت عبيدة رضي الله عنه عن هذه الآية: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} فرفع ملحفة كانت عليه، فقنع بها، وغطى رأسه كله، حتى بلغ الحاجبين، وغطى وجهه، وأخرج عينه اليسرى من شق وجهه الأيسر، مما يلي العين".

فهذا قول جمع من السلف في صفة الإدناء: ابن عباس، وعبيدة السلماني، ومحمد بن سيرين، وابن عون، وابن علية، وغيرهم.

الوجه السادس: أقوال المفسرين في تفسير الإدناء بتغطية الوجه.

تظاهر المفسرون وتتابعوا على تفسير الإدناء في الآية بتغطية الوجوه والأبدان، ولم يمر بي مفسر قال إنها تدل على الكشف، غاية ما هنالك بعض الأقوال أن من صفته: ستر معظم الوجه. وهذه أقوال هؤلاء الأئمة:

1- ابن جرير [19/181] قال: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين، لا يتشبهن بالإماء في لباسهن، إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن، فكشفن شعورهن ووجوههن، ولكن ليُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ؛ لئلا يعرضن لهن فاسق، إذا علم أنهن حرائر، بأذى من القول". وهذا النص صريح في صفة إدناء نساء المؤمنين، وأنه يعم تغطية الوجه.

2- قال أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن في تفسير الآية [5/245]: "في هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج لئلا يطمع أهل الريب فيهن".

3- قال: إلكيا الهراس في تفسيره [انظر: عودة الحجاب 3/184]: "الجلباب هو الرداء، فأمرهن بتغطية وجوههن ورؤوسهن، ولم يوجب ذلك على الإماء".

4- قال الزمخشري في تفسيره الكشاف [3/274]: " ومعنى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ}، يرخينها عليهن، ويغطين بها وجوههن وأعطافهن. يقال: إذا زل الثوب عن وجه المرأة: أدنى ثوبك على وجهك. وذلك أن النساء كن في أول الإسلام على هجيراهن في الجاهلية، متبذلات، تبرز المرأة في درع وخمار، لا فصل بين الحرة والأمة، وكان الفتيان وأهل الشطارة يتعرضون إذا خرجن بالليل، إلى مقاضي حوائجهن في النخيل والغيطان، للإماء، وربما تعرضوا للحرة، بعلة الأمة، يقولون: حسبناها أمة. فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء، بلبس الأردية والملاحف، وستر الرؤوس والوجوه، ليحتشمن، ويهبن، فلا يطمع فيهن طامع، وذلك قوله: {ذلك أدنى أن يعرفن}؛ أي أولى وأجدر بأن يعرفن، فلا يتعرض لهن، ولايلقين ما يكرهن. فإن قلت ما معنى {من} في: {من جلابيبهن}؟، قلت: هو للتبعيض، إلا أن معنى التبعيض محتمل وجهين:

- أحدهما: أن يتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب، والمراد أن لا تكون الحرة متبذلة في درع وخمار، كالأمة والماهنة، ولها جلبابان فصاعدا في بيتها.

- والثاني: أن ترخي المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها، تتقنع حتى تتميز من الأمة، وعن ابن سيرين: (سألت عبيدة السلماني عن ذلك، فقال: أن تضع رداءها فوق الحاجب، ثم تديره حتى تضعه على أنفها)، وعن السدي: (أن تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين)، وعن الكسائي: (يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن) أراد بالانضمام معنى الإدناء".

5- قال البغوي في تفسيره [3/469]: "قال ابن عباس وأبو عبيدة: أمر نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب إلا عينا واحدة، ليعلم أنهن حرائر"، ذكر هذا وما ذكر غيره.

6- قال القرطبي في تفسيره [14/243]: "لما كانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن، كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن، وتشعب الفكرة فيهن، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن، إذا أردن الخروج إلى حوائجهن".

7- قال البيضاوي في تفسيره أنوار التنزيل [4/386]: " {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ}: يغطين وجوههن وأبدانهن بملاحفهن، إذا برزن لحاجة".

8- قال الإمام النسفي في تفسيره مدارك التنزيل [3/315]: "{يدنيهن عليهن من جلابيبهن} يرخينها عليهن، ويغطين وجوههن وأعطافهن، يقال إذا زال الثوب عن وجه المرأة: أدنى ثوبك على وجهك. و (من) للتبعيض، أي ترخي بعض جلبابها وفضله على وجهها، تتقنع حتى تتميز من الأمة".

9- قال ابن جزي الكلبي في تفسيره التسهيل لعلوم التنزيل [534]: "كان نساء العرب يكشفن وجوههن، كما تفعل الإماء، وكان ذلك داعيا إلى نظر الرجال لهن، فأمرهن الله بإدناء الجلابيب ليسترن بذلك وجوههن، ويفهم الفرق بين الحرائر والإماء، والجلابيب جمع جلباب، وهو ثوب أكبر من الخمار، وقيل: هو الرداء. وصورة إدنائه عند ابن عباس: أن تلويه على وجهها، حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها. وقيل: أن تلويه حتى لا ينظر إلا عيناها. وقيل: أن تغطي نصف وجهها".

10- قال ابن تيمية [الفتاوى 22/110]: "قبل أن تنزل آية الحجاب، كان النساء يخرجن بلا جلباب، يرى الرجل وجهها ويديها، وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها؛ لأنه يجوز لها إظهاره، ثم لما أنزل الله عز وجل آية الحجاب، بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ..} حجب النساء عن الرجال".

11- وذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية، في تفسيره [6/471] أثر علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وأثر عبيدة السلماني، كما أورد قول عكرمة: "تغطي ثغرة نحرها بجلبابها، تدنيه عليها".

12- قال أبو حيان في تفسيره [7/240]: "وقال أبو عبيدة السلماني حين سئل عن ذلك، فقال: أن تضع رداءها فوق الحاجب، ثم تديره حتى تضعه على أنفها. وقال السدي: (تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين). انتهى، وكذا عادة بلاد الأندلس لا يظهر من المرأة إلا عينها الواحدة. وقال الكسائي: يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن. أراد بالانضمام معنى الإدناء. وقال ابن عباس وقتادة: وذلك أن تلويه فوق الجبين، وتشده، ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها، لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه... و{من} في {جلابيبهن} للتبعيض، و{عليهن} شامل لجميع أجسادهن، أو {عليهن} على وجوههن، لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه".

13- قال أبو السعود في تفسيره إرشاد العقل السليم 7/115]: "الجلباب ثوب أوسع من الخمار ودون الرداء، تلويه المرأة على رأسها، وتبقي منه ما أرسله على صدرها، وقيل: هي الملحفة، وكل ما يستر به؛ أي يغطين بها وجوههن وأبدانهن، إذا برزن لداعية من الدواعي، و{من} للتبعيض، لما مر من أن المعهود التلفع ببعضها، وإرخاء بعضها".

14- قال: السيوطي: "هذه آية الحجاب في حق سائر النساء، ففيها وجوب ستر الرأس والوجه عليهن" [عون المعبود شرح سنن أبي داود 12/158، اللباس، باب قول الله تعالى: {يدنين عليهن..}].

15- قال الألوسي في روح المعاني [11/264]: "الإدناء: التقريب. يقال: أدناني. أي قربني، وضمن معنى الإرخاء أو السدل، ولذا عدّي بـ (على)، على ما يظهر لي، ولعل نكتة التضمين: الإشارة إلى أن المطلوب تستر، يتأتى معه رؤية الطريق إذا مشين، فتأمل. ونقل أبو حيان عن الكسائي أنه قال: أي يتقنعن بملاحفهن، منضمة عليهن، ثم قال: أراد بالانضمام معنى الإدناء، وفي الكشاف معنى {يدنين عليهن} يرخين عليهن، يقال: إذا زل الثوب عن وجه المرأة، أدني ثوبك على وجهك. وفسر ذلك سعيد بن جبير بيسدلن عليهن، وعندي أن كل ذلك بيان لحاصل المعنى، والظاهر أن المراد بعليهن على جميع أجسادهن، وقيل: على رؤوسهن، أو على وجوههن؛ لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه". ثم أورد أثر عبيدة السلماني، وأثر ابن أبي طلحة عن ابن عباس في إبداء عين واحدة، والأثر الآخر عنه وقتادة في ليّ الحجاب فوق الجبين وشده ثم عطفه على الأنف، وإن ظهرت العينان، مع ستر الصدر ومعظم الوجه، ثم ذكر أثر أم سلمة عند عبد الرزاق وعائشة عند ابن مردوية في صنيع نساء الأنصار بعد نزول الآية، ثم قال:"ومن للتبعيض، ويحتمل ذلك على ما في الكشاف؛ لوجهين:

- أحدهما: أن يكون المراد بالبعض واحدا من الجلابيب، وإدناء ذلك عليهن، أن يلبسنه على البدن كله.

- وثانيهما: أن يكون المراد بالبعض جزءا منه، وإدناء ذلك عليهن: أن يتقنعن، فيسترن الرأس والوجه بجزء من الجلباب، مع إرخاء الباقي على البدن".

16- قال الشوكاني في فتح القدير [4/304]: "من للتبعيض، والجلابيب جمع جلباب، وهو ثوب أكبر من الخمار، قال الجوهري: الجلباب: الملحفة. وقيل: القناع. وقيل: هو ثوب يستر جميع بدن المرأة. كما ثبت في الصحيح من حديث أم عطية أنها قالت: (يا رسول الله! إحدانا لا يكون لها جلباب، فقال: لتلبسها أختها من جلبابها)، قال الواحدي: قال المفسرون: يغطين وجوههن ورؤوسهن إلا عينا واحدة، فيعلم أنهن حرائر، فلا يعرض لهن بأذى. وقال الحسن: تغطي نصف وجهها. وقال قتادة: تلويه فوق الجبين، وتشده، ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها، لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه".

17- قال القاسمي تفسيره محاسن التأويل [انظر: عودة الحجاب 3/201]: "أمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء، بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه ليحتشمن ويهبن، فلا يطمع فيهن طامع".

18- قال الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان [6/586]: "ومن الأدلة القرآنية على احتجاب المرأة وسترها جميع بدنها حتى وجهها: قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ}":

19- جاء في تفسير الجلالين [560]: "أي يرخين بعضها على الوجوه، إذا خرجن لحاجتهن، إلا عينا واحدة، {ذلك أدنى}؛ أقرب إلى أن يعرفن بأنهن حرائر، {فلا يؤذين}، بالتعرض لهن".

- وفي عون المعبود شرح سنن أبي داود [12/158، اللباس، باب في قوله الله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} : "أي يرخين بعضها على الوجوه، إذا خرجن لحاجتهن، إلا عينا واحدة، كذا في الجلالين. وقال في جامع البيان: الجلباب: رداء فوق الخمار، تستر من فوق إلى أسفل؛ يعني يرخينها عليهن، ويغطين وجوههن وأبدانهن".

- وإلى هذا القول ذهب الشيخ أبو الأعلى المودودي، والجزائري، والدكتور محمد محمود جحازي، والشيخ عبد العزيز بن خلف، وعبد الله الأنصاري وغيرهم. [انظر: عودة الحجاب: 3/200-211].

***

هؤلاء هم أئمة التفسير المشهورون، لم نر فيهم من فسر الإدناء بكشف الوجه بلفظ صريح، بل جلهم تتابعوا على التصريح بالتغطية، كما رأينا، وبعضهم ذكر هيئات أخرى، بعضها صريح في تغطية معظم الوجه، وبعضها غير صريح في الكشف، بل إلى التغطية هو أقرب، فمن ذلك ما جاء عن ابن جرير قال [التفسير 19/182]:

"وقال آخرون: بل أمرن أن يشددن جلابيبهن على جباههن"، ثم ساق سند إلى ابن عباس قال: "كان الحرة تلبس لباس الأمة، فأمر الله نساء المؤمنين أن يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ، وإدناء الجلباب: أن تقنّع وتشد على جبينها".

وهذا ليس فيه نص على الكشف، بل فيه شاهد على التغطية وهو التقنع. وسيأتي مزيد بيان لمعنى القناع.

وذكر الشوكاني في تفسيره فتح القدير قال:

"قال: الواحدي: قال المفسرون: يغطين وجوههن ورؤوسهن إلا عينا واحدة، فيعلم أنهن حرائر فلا يعرض لهن بأذى. وقال: الحسن: تغطي نصف وجهها. وقال قتادة: تلويه فوق الجبين وتشده، ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها، لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه".

فنحن بين تفسيرات:

· منها تغطية الوجه إلا العين.

· ومنها تغطية نصف الوجه.

· ومنها إبداء العينين وبعض الوجه، مع ستر معظمه.

والأول منها هو المشهور، وهو قول ابن عباس، وجمع من التابعين، وعليه جل المفسرين، وأكثرهم يذكره، وليس فيها نص صريح يقول بكشف الوجه، بل حتى هذا الذي اعتمدوا عليه في جواز الكشف، فيه ما يدل على التغطية، وهو ذكر التقنع.

ومما يجدر لفت النظر إليه: أن أولئك الذين صرحوا بجواز الكشف، في آية الزينة، كالقرطبي، والبغوي، وابن عطية، لما جاءوا إلى هذه الآية فسروها بتغطية الوجه، وليس في قول أحد من أهل العلم والمفسرين أن هذه الآية خاصة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في وسع أحد أن يدعي ذلك، فهي عامة، حيث ذكر: الأزواج، والبنات، ونساء المؤمنين. معا، تحت أمر واحد.

وبعد كل هذه الدلائل، والتظاهر والاتفاق بين المفسرين: كيف يصح الاستدلال بهذه الآية على الكشف؟!

***

منع الشيخ الألباني من دلالة هذه الآية على التغطية، وذهب إلى أنها دليل على الكشف، واستدل بأمور:

1. أن الإدناء في اللغة هو التقريب، وليس تغطية الوجه [الرد المفحم ص7].

2. الآية وحدها ليست نصا صريحا في التغطية، بل لا بد من مرجح [الرد المفحم ص7].

3. الاستدلال بأثر لابن عباس فيه: "تدني جلبابها إلى وجهها، ولا تضرب به" [الرد المفحم ص8].

4. الاستدلال ببعض الآثار عن قتادة ومجاهد وسعيد بن جبير [الرد المفحم ص51].

5. رد وتضعيف أثر ابن أبي طلحة عن ابن عباس وأثر عبيدة السلماني [جلباب المرأة المسلمة ص88].

والجواب على إيرادات الشيخ، رحمه الله تعالى، وأعلى درجته، يكون بما يلي:

قال الشيخ: "يصر المخالفون المتشددون على المرأة، وفي مقدمتهم الشيخ حمود التويجري حفظه الله، على أن معنى {يدنين}: يغطين وجوههن. وهو خلاف معنى أصل هذه الكلمة: الإدناء، لغة، وهو التقريب".

الإدناء في اللغة هو التقريب بين الشيئين، فالدنو هو القرب، قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة [2/303]: "دنى: الدال، والنون، والحرف المعتل، أصل واحد، يقاس بعضه على بعض، وهو المقاربة.. ودانيت بين الأمرين: قاربت بينهما".

فهذا معنى الإدناء، فهل فيه ما يمنع أن يكون معناها تغطية الوجه؟

هل يلزم من إدناء الجلباب كشف الوجه، وعدم تغطيته؟

الجواب: كلا، لا يلزم، بل العكس هو الصحيح، فإن كل الدلائل الشرعية، واللغوية، وأقوال المفسرين تشير إلى أن الإدناء يلزم منه تغطية الوجه، والأدلة ما يلي:

1. أن هذا هو قول أهل اللغة من المفسرين، كما هو قول الزمخشري، قال: "يرخينها عليهن، ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، يقال: إذا زل الثوب عن وجه المرأة: أدني ثوبك على وجهك"، وعن أبي حيان مثله، وقد تقدم.

2. أن الفعل عدي بـ (على): {يدنين عليهن}، فهذا دليل على أن الإدناء يكون من فوق الرؤوس، وحينئذ ينزل بعض الجلباب على الوجه، فيغطيه.

3. تفسير ابن عباس رضي الله عنهما الإدناء في الآية بتغطية الوجه، كما في رواية علي بن أبي طلحة.

4. تطبيق التابعين لهذا المعنى عمليا، كما ورد عن عبيدة السلماني، وابن سيرين، وابن عون، وابن علية.

5. تتابع المفسرين على ذكر رواية علي بن أبي طلحة، في تفسير الآية، وهي صريحة في التغطية، وتصريحهم بأن معنى الإدناء هو تغطية الأبدان والوجوه، حتى إنك لا تجد مفسرا فسر الآية بالكشف.

كل هذه الأمور تدل على رجحان التغطية، إذن دلالة الكلمة في اللغة هي التغطية، وليس الكشف.

***

يقول الشيخ: "وبينت أنه ليس نصا في تغطية الوجه، وأن على المخالفين أن يأتوا بما يرجح ما ذهبوا إليه".

يقال هنا: لو سلمنا، جدلا، أن الآية تحتمل المعنيين، وتحتاج إلى مرجح، فالمرجحات هي ما سبق من وجوه:

· الأول: ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الآية: مرجح على أن المراد هو التغطية.

· الثاني: أن تفسير الإدناء بالكشف، يلزم منه كشف الأزواج وجوههن، ولا قائل به، وهذا مرجح آخر.

· الثالث: أنه قال عليهن: {يدنين عليهن}، والإدناء من أعلى دليل على التغطية، وهذا مرجح ثالث.

· الرابع: سبب النزول أن النساء كن يكشفن الوجه والشعر، فأمرن بالتغطية. وهذا مرجح رابع.

· الخامس: تفسير ابن عباس وعبيدة السلماني وجمع من التابعين الآية بالتغطية. مرجح خامس.

· السادس: تتابع المفسرين على تفسير الآية بالتغطية، فلا تجد من يقول بالكشف. مرجح سادس.

· السابع: قول المفسرين من أهل اللغة، كالزمخشري وأبي حيان. مرجح سابع.

***

ذكر الشيخ أن هذا الأثر أخرجه أبو داود في مسائله (ص110) بسند صحيح جدا [الرد المفحم51].

ونص الأثر هو كما يلي: قال أبو داود في مسائله للإمام أحمد، في باب: ما تلبس المرأة في حرامها:

"حدثنا أحمد، قال حدثنا يحيى وروح، عن ابن جريج، قال أخبرنا، قال عطاء، أخبرني أبو الشعثاء، أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (تدني الجلباب إلى وجهها ولا تضرب به)، قال روح في حديثه: قلت: وما: لا تضرب به؟، فأشار لي، كما تجلبب المرأة، ثم أشار لي ما على خدها من الجلباب، قال: تعطفه، وتضرب به على وجهها، كما هو مسدول على وجهها".

والشيخ حكم بالشذوذ على زيادة روح، فقال:

"وهذه زيادة شاذة لا تصح؛ لأن يحيى جبل في الحفظ؛ قال أحمد: إليه المنتهى في التثبت في البصرة"، وقال: هو أثبت من هؤلاء. يعنى: ابن مهدي وغيره. فإذا قابلت هذه الشهادة منه بقوله في روح: لم يكن به بأس. عرفت الفرق بينهما، ولم تقبل زيادته على يحيى، ولم يدر التويجري هذا الفرق، ورجح رواية روح واحتج بها! ذلك مبلغه من العلم بهذا الفن" [الرد المفحم ص51].

فمخلص رأي الشيخ هنا يدور حول أمرين:

· الأول: الجزم بأن معنى: "لا تضرب به" هو المنع من غطاء الوجه، أو هو دليل على الكشف.

· الثاني: بنى على هذا المعنى الحكم بالشذوذ على زيادة روح، كونها تدل صراحة على التغطية.

وتعليقا يقال:

"الشذوذ" مصطلح يطلق على زيادة تفرد بها ثقة، خالف به غيره، ولا يطلق على ما رواه ولم يروه غيره، وبهذا عرفه الشافعي، حيث قال: "هو أن يروي الثقة حديثا يخالف ما روى الناس، وليس من ذلك أن يروي ما لم يرو غيره". قال ابن كثير: "الذي قاله الشافعي أولاً هو الصواب: أنه إذا روى الثقة شيئا، قد خالف فيه الناس فهو الشاذ، يعني المردود، وليس من ذلك أن يروي الثقة ما لم يرو غيره، بل هو المقبول، إذا كان عدلا، ضابطا، حافظا، فإن هذا لو رد لردت أحاديث كثيرة من هذا النمط، وتعطلت كثير من المسائل عن الدلائل" [الباعث الحثيث 56].

وإذا طبقنا هذا التعريف على زيادة روح فهل هو من قبيل رواية الثقة حديثا يخالف ما روى الناس؟ أم أن الراوي روى ما لم يرو غيره؟.

الجواب: قد علمنا أن الشيخ بنى حكمه بالشذوذ: على الجزم بأن معنى "لا تضرب به" هو: الكشف. وهذا ما لا يسلم به، فللمنازع أن يقول: هذه مصادرة على المطلوب. وعلى القائل الدليل على ما ذهب إليه.

فهذه الكلمة غامضة المعنى، لا تفهم لأول وهلة، فيُحتاج إلى مفسر، فتعين معنى ما، والجزم به، دون الاستناد إلى دليل مرجح، هو ما لا يقبل، وهذا ما فعله الشيخ.

بل لنا أن نقول عكس ذلك؛ إن معنى: "لا تضرب به"؛ أي تغطي وجهها، لكن بصورة معينة، إذ صور التغطية متعددة، فمنها ما يكون بالجلباب، ومنها ما يكون بالقناع، ومنها ما يكون بالخمار. والأدلة ما يلي:

1. أن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو القائل، قد فسر كلامه بالتغطية، وخص نوعا منه هو السدل، فهو أدرى بما قال، وليس لنا أن نتحكم في كلامه، فنفسره بغير ما فسره هو به، خاصة إذا لم يكن لدينا دليل يبطل هذا التفسير.

2. أن هذا الأثر ساقه أبو داود في باب: "ما تلبس المرأة في حرامها"، وهذا فيه قطع للخلاف، وذلك: أن المحرمة ممنوعة من النقاب، غير ممنوعة من السدل؛ لأن النقاب فيه شد على العضو، وهو الوجه، وهذا ما تمنع منه، كما تمنع من القفاز، للعلة ذاتها، أما السدل فليس فيه الشد، ولذا جاز، ومن هنا ورد عن عائشة وأمهات المؤمنين رضوان الله عليهن، ونساء المؤمنين، السدل حال الإحرام، فابن عباس إذن كان يقصد بقوله: "لا تضرب به" أي النهي عن الشد على الوجه، بالنقاب ونحوه، ولذا لما سئل عن المعنى فسره بما يباح للمحرمة، مما لا يكون ضربا به، ففسره بالسدل. وعكس السدل هو الضرب به.

3. أن الإمام أحمد رحمه فهم هذه المسألة عن ابن عباس، فكان يفتي المحرمة بالسدل للمحرمة، ويمنع من الضرب به، وهو الشد على الوجه، لما فيه من ملابسة العضو[4].

4. أن القول بأن الكلمة معناها: الكشف. فيه إشكال؛ إذ مقتضاه أن ابن عباس أطلق النهي عن تغطية الوجه، ومعلوم أن أقل أحوال التغطية الاستحباب، ومن المستبعد جدا أن ينهاهن عن التغطية، هذا إن كان حكما عاما، وأما إن كان خاصا بالمحرمة، فكذلك بعيد أن يطلق المنع من التغطية لأمرين:

· الأول: أنه بلا ريب، كان يرى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم والصحابيات يغطين، بمرأى منه صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة، فكيف يمنعهن من شيء رأى وشاهد إباحة الشارع لهن؟!

· الثاني: أن حمل كلامه على المنع من التغطية، يلزم دخول الأزواج رضوان الله عليهن في هذا الحكم؛ لأن حكمهن في الإحرام حكم سائر النساء.

ومن هذا يتبين لنا أنه لا وجه للحكم على هذه الزيادة بالشذوذ؛ لأنه لا شذوذ هنا، ولا دليل عليه، بل هي زيادة ثقة، يروي ما لم يرو غيره. وهذا على فرض أن هذه الزيادة من قول ابن عباس!!

فإن من المحتمل أن تكون من سؤال روح لشيخه، حيث جاء في النص: "قال روح في حديثه: قلت.."فالنص فيه احتمال الأمرين: أن يكون المسؤول ابن عباس من تلميذه أبي الشعثاء، وقد يكون المسؤول شيخ روح، يسأله روح. فلو قدر أن الاحتمال الثاني هو الوارد، فالحكم على الزيادة بالشذوذ خطأ لا يصح، إذ ليس كلاما لابن عباس، بل تفسير الراوي كلامه، وتفسير الراوي لا يخضع لقاعدة القبول والشذوذ، بل لقاعدة الخطأ والصواب، والذي يبدو أن الشيخ رحمه الله تعالى عدّ الزيادة من كلام ابن عباس، فلذا أجرى عليها قاعدة الشذوذ والقبول، لكن قد تبين لنا: أن الزيادة إنما هي من قبيل رواية الراوي ما لم يرو غيره.

إذن الخطأ وقع في أمرين:

· الأول: استعمال مصطلح الشذوذ في هذا الموضع، وليس محله.

· الثاني: الجزم بأن معنى الكلمة عدم التغطية، دون تقديم دليل يدل عليه، وبنا الحكم بالشذوذ عليه.

***

استدل الشيخ الألباني ببعض الآثار لدعم قوله في الكشف، وهي كما يلي [الجلباب 85، الرد المفحم51]:

· في الدر 5/222: وأخرج بن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ}، قال: يسدلن عليهن من جلابيبهن، وهو القناع فوق الخمار، ولا يحل لمسلمة أن يراها غريب إلا أن يكون عليها القناع فوق الخمار، وقد شدت بها رأسها ونحرها".

· ونقل الجصاص في أحكام القرآن (3/372) عن مجاهد وابن عباس: "تغطي الحرة إذا خرجت جبينها ورأسها".

· وعن ابن جرير عن قتادة: "أخذ الله عليهن إذا خرجن أن يقنعن على الحواجب".

ويقال هنا: هذه النصوص، وقد مضى ذكرها عند سرد أقوال المفسرين، ليس فيها القول بكشف الوجه، وإنما قال الشيخ ذلك، من رأيه في معنى القناع، أنه غطاء الرأس دون الوجه [انظر: الرد المفحم 20]، لكن يشكل عليه تتابع العلماء على تفسير القناع بما يدل على أنه غطاء الوجه، والأدلة ما يلي:

1. في البخاري: ( أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل مقنع بالحديد..)، قال الحافظ في الفتح (6/25): "قوله: (مقنع) بفتح القاف والنون المشددة، وهو كناية عن تغطية وجهه بآلة الحرب". ومع صراحة هذا التفسير، غير أن الشيخ رحمه الله أبى إلا أن يقول: "فإنه يعني ما جاور الوجه، وإلا لم يستطع المشي، فضلا عن القتال، كما هو ظاهر" [الرد المفحم 21]. والواقع أن كل من رأى الأقنعة، علم أنها غطاء الوجه. فالقناع يغطي الوجه، حتى لا يبدو إلا العين، للنظر، كهيئة النقاب، وحينئذ يمكن المشي والقتال، وكلام ابن حجر واضح أنه يعني بالقناع غطاء الوجه، فهذا صريح كلامه، فتأويل هذا الصريح بعدئذ، لينقلب فيغدو: "ما جاور الوجه".. أمر غير سائغ بمرة..؟!!

2. مر معنا سابقا قول الزمخشري: "أن ترخي المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها، تتقنع، حتى تتميز من الأمة"، وهو من أئمة اللغة العربية، وها قد فسر القناع بما يفيد تغطية الوجه.

3. فيس أثر عبيدة، وقد رواه ابن جرير، كما مر سابقا: "قال ابن عون: بردائه، فتقنع، فغطى أنفه وعينه اليسرى، وأخرج عينه اليمنى، وأدنى رداءه من فوق حتى جعله قريبا من حاجبه، أو على الحاجب". وهنا كذلك فسر التقنع بما يفيد تغطية الوجه.

والقناع عند العرب معروف بكونه غطاء الوجه، وهاكم أدلة على هذا:

1. المقنع الكندي، إنما عرف بهذا اللقب، لأنه كان يغطي وجهه ببرقع من حرير، كما ذكر البغدادي في كتابه [ الفرق بين الفرق ص243]، وزعم أنه إله، وأنه لو كشف وجهه لم يحتمل أحد رؤيته [الموسوعة الفلسفية 2/323 ].

2. ذكر اليعقوبي في تاريخه [2/315]: "وكانت العرب تحضر سوق عكاظ وعلى وجوهها البراقع، فيقال: إن أول عربي كشف قناعه ظريف بن غنم العنبري".

3. المثل السائر: "ألقى عن وجهه قناع الحياء" [لسان العرب 11/323، مادة: قنع].

ولعل كذلك مما دعا الشيخ ليتبنى هذا الرأي، هو ما جاء في الآثار من ذكر الرأس والجبين، دون الوجه.

وإذا تأمل المرء القناع، عرف أنه لا بد فيه من شد على الجبين والرأس، فبدونه لا يكون، وإذا كان كذلك فليس بعيدا أن يذكر الشد على الرأس والجبين، ويستغنى به عن ذكر الوجه، لأن هذا لازم لهذا.

فأقوال هؤلاء الأئمة ليس فيها المنع من تغطية الوجه، وذكرهم القناع دليل على أنهم أرادوا تغطية الوجه. فإذا اعترض أحد فقال: ليس في هذه الأقوال التصريح بتغطية الوجه.

قيل: وليس فيها التصريح بكشف الوجه، فيبقى محتملا، وعندنا ما يرجح التغطية، وهو ذكر القناع، فيحمل عليه إذن.

مضى ذكر الأثرين، وهما صريحان في التغطية، غير أن الشيخ مال إلى تضعيفهما، فقال في أثر ابن عباس:

"لا يصح هذا عن ابن عباس، لأن الطبري رواه من طريق علي عنه، وعلي هذا هو ابن أبي طلحة، كما علقه عنه ابن كثير، وهو مع أنه تكلم فيه بعض الأئمة، لم يسمع من ابن عباس، بل لم يره، وقد قيل: بينهما مجاهد، فإن صح هذا في هذا الأثر فهو متصل، لكن في الطريق إليه أبو صالح، واسمه عبد الله بن صالح، وفيه ضعف". [جلباب المرأة 88]

فالشيخ إذن رد هذا الأثر من جهتين: من جهة علي ابن أبي طلحة، ومن جهة عبد الله بن صالح.

فأما علي بن أبي طلحة، فقد ذكر الشيخ أنه إن صح أخذه التفسير من مجاهد فهو متصل، وهذا هو ما كان، قال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال (3/134):

"أخذ تفسير ابن عباس عن مجاهد، فلم يذكر مجاهدا، بل أرسله عن ابن عباس".

فهذه شهادة باتصال تفسيره إلى ابن عباس، هذا وإن رواية علي هذه من الروايات المقبولة والمعتبرة عند المحدثين، قال السيوطي [في الإتقان في علوم القرآن 2/241]:

"وقد ورد عن ابن عباس في التفسير ما لا يحصى كثرة، وفيه روايات وطرق مختلفة، فمن جيدها طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي، عنه قال أحمد بن حنبل:

بمصر صحيفة في تفسير، رواها علي ابن أبي طلحة، لو رحل رجل فيها إلى مصر، قاصدا، ما كان كثيرا.

أسنده أبو جعفر في ناسخه. قال ابن حجر:

وهذه النسخة كانت عند أبي صالح، كاتب الليث، رواها معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، وهي عند البخاري عن أبي صالح، وقد اعتمد عليها في صحيحه كثيرا، فيما يعلقه عن ابن عباس، وأخرج منها ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر بوسائط بينهم وبين أبي صالح.

وقال قوم: لم يسمع ابن أبي طلحة من ابن عباس التفسير، وإنما أخذه عن مجاهد أو سعيد بن جبير. قال ابن حجر: بعد أن عرفت الواسطة، وهو ثقة، فلا ضير في ذلك"[5].

وذكر ابن حجر في كتابه [العجاب في بيان الأسباب ص57-58] فقال: "ومن طريق: معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وعلي: صدوق. لم يلق ابن عباس، لكنه إنما حمل عن ثقات أصحابه، فلذلك كان البخاري وابن أبي حاتم وغيرهما، يعتمدون على هذه النسخة".

وابن حجر نفسه يحتج بهذه الرواية ويصححها، ففي الفتح [13/271] قال:

"وأخرج الطبري بسند صحيح عن عاصم، عن أبيه عن ابن عباس... ثم أخرج من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بسند صحيح، قال: الأب: الثمار الرطبة".

إذن لا وجه للطعن في هذه الرواية، فهي ثابتة، عمل بها الأئمة، واحتجوا بها، وليس بعد قول الإمام أحمد والبخاري وابن حاتم وابن حجر فيها قول.

أما عبد الله بن صالح، فقد نقل الذهبي أقوال الأئمة فيه، بين مجرح ومعدل (ميزان الاعتدال 2/440-442)، فالشيخ قال: فيه ضعف، وهذه إشارة إلى أن ضعفه ليس بالشديد، وهكذا قال أبو زرعة:

"لم يكن عندي ممن يتعمد الكذب، وكان حسن الحديث".

"وقال ابن عدي: هو عندي مستقيم الحديث، إلا أنه يقع في أسانيده ومتونه غلط، ولا يتعمد".

قال الذهبي: "وقد روى عنه البخاري في الصحيح، على الصحيح، ولكنه يدلسه، يقول: حدثنا عبد الله، ولا ينسبه، وهو هو، نعم علق البخاري حديثا فقال فيه: قال الليث بن سعد، حدثني جعفر بن ربيعة، ثم قال في آخر الحديث: حدثني عبد الله بن صالح، حدثنا الليث، فذكره. ولكن هذا عند ابن حمّويه السرخسي دون صاحبيه، وفي الجملة ما هو بدون نعيم بن حماد، ولا إسماعيل بن أبي أويس، ولا سويد بن سعيد، وحديثهم في الصحيحين، ولكل منهم مناكير تغتفر في كثرة ما روي".

فإذا كان هذا رأي الذهبي فيه، وابن عدي، وأبي زرعة، والبخاري، فكيف يرد حديثه جملة وتفصيلا؟

ثم إن ثناء الإمام أحمد وقبوله، والإمام البخاري، وابن أبي حاتم، وابن حجر:

ما في صحيفة علي بن أبي طلحة تعديل وقبول ضمني لرواية أبي صالح عبد الله بن صالح، إذ هو أحد رواة هذه الصحيفة.

وأمر أخير هو: أن هذه الرواية معتضدة بأثر عبيدة السلماني، الذي بنفس معناها، لكن الشيخ كذلك ضعفها، من وجوه هي [الرد المفحم 55-57] ما يلي:

1- قال الشيخ رحمه الله تعالى: "إنه مقطوع، موقوف، فلا حجة فيه؛ لأن عبيدة السلماني تابعي، اتفاقا، فلو أنه رفع حديثا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكان مرسلا، لا حجة فيه، فكيف إذا كان موقوفا عليه كهذا، فكيف وقد خالف تفسير ترجمان القرآن: ابن عباس، ومن معه من الأصحاب؟".

هنا يقال:

· أولا: هذا الأثر سنده كالشمس، لا مطعن فيه بوجه.

· ثانيا: ليس رفع الأثر محل الاحتجاج، فهذا لم يدعه أحد، بل في كونه حكاية قول جماعة من السلف في معنى الآية، وهذا ثابت بثبوت سنده.

· ثالثا: لو فرض جدلا مخالفته رأي ابن عباس، فليس دليلا على ضعفه، إذ هو أثر مستقل، وليس رواية عن ابن عباس، فكيف وهو موافق تمام الموافقة لقول ابن عباس رضي الله عنهما؟.

2- قال: "إنهم اضطربوا في ضبط العين المكشوفة فيه، فقيل: (اليسرى)، كما رأيت، وقيل: (اليمنى)، وهو رواية الطبري (22/33)، وقيل: (إحدى عينيه)، وهي رواية أخرى له".

يقال: الاضطراب في المتن هو: الاختلاف بين ألفاظ الروايات، على وجه لا يمكن الترجيح بينها. والاختلاف هنا ليس من هذا القبيل ألبتة، بل هو متصور، أن يقول أحدهم: اليمنى. والآخر: اليسرى. فالغلط هنا وارد، لكنه ليس بالغلط القادح في الرواية.[6]

هذا والشيخ نفسه قد قبل مثل هذا الاختلاف في حديث أسماء المشهور في كشف الوجه، ولم يرده بدعوى الاضطراب، بل شنع على من رده، فقال [الرد المفحم ص109]:

" نعم لقد شغب العنبري على المتن من ناحية واحدة، فقال: نرى الرسول صلى الله عليه وسلم في الطريق الأولى يشير إلى الوجه والكفين، وفي الطريق الثانية لم يبد إلا أصابعه.

فأقول: نعم، ولكن ما بالك كتمت اتفاق الطريق الثالثة، الصحيحة إلى قتادة باعترافك، مع الطريق الأولى؟! أليس هذا مما يرجح لفظ: (الكفين) على (الأصابع)".

فالشيخ هنا لم يحكم على الحديث بالاضطراب، مع كونه ورد في رواية بلفظ: (الوجه والكفين)، وفي الأخرى بلفظ: (الأصابع)، لكنه حكم بالاضطراب على أثر عبيدة السلماني بالاضطراب؛ لأنه روي من طريق بلفظ: (العين اليمنى)، وفي أخرى: (اليسرى)، وفي ثالثة: (إحدى عينيه)..!!.

الذي نعلمه أن الغلط في تحديد العين وارد، ومن ثم فلا وجه للحكم على الأثر بالاضطراب.

وانظر بعد هذا إلى كلام الشيخ، وهو يعلق على حديث عبيدة [الرد المفحم 56]:

"وإذا عرفت هذا، فاعلم أن الاضطراب عند علماء الحديث علة في الرواية تسقطها عن مرتبة الاحتجاج بها، حتى ولو كان شكليا كهذا؛ لأنه يدل على أن الراوي لم يضبطها ولم يحفظها".

ويقال هنا: على هذا الميزان يجب كذلك إسقاط حديث أسماء؛ لأن العلة ذاتها موجودة فيه ..!!.

مع ملاحظة أن الشيخ أبلغ الجهد في تصحيحه، حتى إنه استغرق قرابة 50 صفحة في الكلام عنه في الرد المفحم [من ص79-127].

3- قال: "ذكره ابن تيمية في الفتاوى (15/371) بسياق آخر يختلف تماما عن السياق المذكور، فقال: "وقد ذكر عبيدة السلماني وغيره: إن نساء المؤمنين كن يدنين عليهن الجلابيب من فوق رؤوسهن، حتى لايظهر إلا عيونهن، لأجل رؤية الطريق".

يقال: من الواضح أن شيخ الإسلام كان يروي الأثر نفسه، لكن بالمعنى، وليس من طريق آخر، ويحكي تاريخا واقعا، فلا أدري كيف يكون هذا دليلا على ضعف الرواية الأصل وبطلانها؟!!

والعجب أن الشيخ نفسه قد ذكر هذا فقال [الرد المفحم ص56]:

"على أن سياق ابن تيمية ليس شكليا، كما هو ظاهر؛ لأنه ليس في تفسير الآية، وإنما هو إخبار عن واقع النساء في العصر الأول، وهو بهذا المعنى صحيح ثابت في أخبار كثيرة، كما سيأتي في الكتاب بعنوان: (مشروعية ستر الوجه) ص104، ولكن ذلك لا يقضي وجوب الستر؛ لأنه مجرد فعل منهن".

فإذا كان الأمر كذلك، فكيف صار هذا وجها لتضعيف أثر عبيدة السلماني؟!

4- قال: "مخالفته لتفسير ابن عباس للآية كما تقدم بيانه، فما خالفه مطرح بلا شك".

يقال: تقدم ثبوت أثر ابن عباس من رواية ابن أبي طلحة، بشهادة الأئمة: أحمد، والبخاري، وابن أبي حاتم، وابن حجر. وهي موافقة تماما لما جاء في أثر عبيدة السلماني، وعليه فلا حجة لهذا الوجه.

وبعد بيان هذه الاعتراضات من الشيخ ـ رحمه الله ـ والجواب عليها، يتبين بوضوح أنه لا حجة في هذه الآية على القول بالكشف. والأمر الملفت للنظر:

تظاهر المفسرين على تفسير الآية بالتغطية، فلا تجد مفسرا صرح فيه بكشف الوجه، وهذا بخلاف ما جاء عنهم في آية الزينة: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}، لأمر سنذكره في موضعه.

ويلاحظ أن الشيخ لم يلتفت إلى هذا التظاهرة، وتصريح جماهير المفسرين بدلالة الآية على تغطية الوجه، فلم يذكرها، ولم يتطرق إليها، كما لم يلتفت إلى كلام أهل اللغة، من المفسرين، كالزمخشري وابن حيان، في تفسيرهم الإدناء بالتغطية!!

أنه إذا كانت الآية قطعية الثبوت، وهذا بإجماع المسلمين؛ لأنها من القرآن، والله تعالى حفظه.

وإذا ثبتت قطعية دلالتها على وجوب حجاب الوجه، بما سبق من الوجوه والأدلة.

فنخرج من ذلك: أن الآية محكمة الدلالة، فتكون من المحكمات، التي يصار إليها حين الخلاف، فما عارضها، وكان ثابتا بسند صحيح، بدلالة صريحة على الكشف، فهو متشابه، كأن يكون قبل الأمر بالحجاب، أو لعذر خاص، وحالة خاصة، فيرد هذا المتشابه إلى هذا المحكم، ويفهم في ضوئه، وبذلك ينتفي التعارض، فهذا سبيل التعامل مع المحكمات، لا يصح ولا يجوز تعطيلها لأجل متشابه.

هذا لو كان هذا المتشابه بهذا الوصف من الثبوت والدلالة، فكيف إذا كان باطل السند، كحديث أسماء؟ أو محتمل الدلالة غير قطعي في الكشف، كحديث الخثعمية؟

وهذا حال الآثار التي استدل بها الذين أجازوا الكشف، فحينئذ فلا ريب أن الواجب طرحه، وعدم الالتفات، ولا يجوز بحال تقديمه على نص محكم.

مواد ذات صلة:

الدلالة المحكمة لآية الحجاب على وجوب غطاء الوجه.



--------------------------------------------------------------------------------

* عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى.

[1] - الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني 11/14.

[2]- يرى الشيخ الألباني، رحمه الله تعالى وأعلى درجته، أن هذا الأثر لا يصح، وأعله بثلاثة أمور: إرسال ابن كعب، فهو تابعي لم يدرك عصر النبوة، وضعف ابن أبي سبرة، والواقدي. [انظر: جلباب المرأة المسلمة 90-91]، والروايات التاريخية قد لا تعامل بالصرامة نفسها، التي تعامل بها الروايات الحديثية. [انظر: السيرة النبوية الصحيحة، أكرم العمري1/20]، ثم إن هذا الأثر ليس الوحيد في هذا المعنى، بل الآثار كثيرة.

[3] - البخاري في المغازي، باب: غزوة خيبر.

[4] - قال الإمام أحمد: " إنما لها أن تسدل على وجهها من فوق، وليس لها أن ترفع الثوب من أسفل"، قال ابن قدامة: " كأنه يقول إن النقاب من أسفل على وجهها"، وقال الخرقي: "والمرأة إحرامها في وجهها، فإن احتاجت سدلت على وجهها"، قال ابن قدامة: " إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبا منها فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها". [المغني 3/305-306، 1/638]، وقال ابن تيمية: " والذي يدل عليه كلام أحمد وقدماء أصحابه، جواز الإسبال سواء وقع على البشرة أو لم يقع، لأن أحمد قال: تسدل الثوب"، قال: " ولأن في مجافاته مشقة شديدة، والحاجة إلى ستر الوجه عامة، وما احتيج إليه لحاجة عامة أبيح مطلقا، كلبس السراويل والخف... ولأن وجه المرأة كبدن الرجل وكيد المرأة، لأن النبي قال: (لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين)، ولم ينهها عن تخمير الوجه مطلقا، فمن ادعى تحريم تخميره مطلقا، فعليه الدليل، بل تخصيص النهي بالنقاب وقرانه بالقفاز دليل على أنه إنما نهاها عما صنع لستر الوجه، كالقفاز المصنوع لستر اليد، والقميص المصنوع لستر البدن، فعلى هذا: يجوز أن تخمره بالثوب من أسفل ومن فوق ما لم يكن مصنوعا على وجه يثبت على الوجه، وأن تخمره بالملحفة وقت النوم" [العدة شرح العمدة 2/270-271]، أي أن المرأة ممنوعة من الخمار المفصل المشدود على الوجه المصنوع على قدره، كما يمنع الرجل من السراويل المصنوعة على قدر الأرجل، والقميص المصنوع على قدر البدن، ولعلي أذكر هنا بعض الآثار المتعلقة بهذه المسألة:

عن عائشة رضي الله عنها: " كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله محرمات فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه"، رواه أبو داود في الحج باب في المحرمة تغطي وجهها.

وعن فاطمة بنت المنذر: " كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق فلا تنكره علينا" رواه مالك في الموطأ في الحج، باب: تخمير المحرم وجهه.

فهذه الآثار وغيرها صريحة في تغطية الوجه، حال الأحرام، والله أعلم.


[5] - وانظر مزيد كلام في هذه الرواية في كتاب: التفسير والمفسرون للدكتور محمد حسين الذهبي 1/78



رد مع اقتباس
  #25  
قديم 03-04-2005, 03:49 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

تطور خطاب دعاة التحرر في قضية المرأة المعاصرة
غازي التـوبة






تناول دعاة التحرر قضية المرأة بالبحث والتحليل، ونادوا بتحريرها، وقد تطور خطابهم خلال القرن الماضي، وسأرصد تطور هذا الخطاب من خلال بعض رموزهم، ثم سأدوّن في النهاية بعض الملاحظات العامة المشتركة حول هذا الخطاب.

قاسم أمين ودعوة تحرير المرأة:

تناول قاسم أمين قضية المرأة في عدة كتب ومقالات، وأبرز ما كتبه عن المرأة كتابان (تحرير المرأة) أصدره عام 1899م و(المرأة الجديدة) أصدره عام 1900م، وقد أثار الكتابان جدلاً واسعاً وما زالا إلى الآن، تحدث فيهما عن عدة أمور مثل التربية، والتمدن، ووضع المرأة المصرية، والاستبداد السياسي، وحال المرأة الغربية... إلخ. ودعا في هذين الكتابين إلى عدة أمور، منها: تغيير الحق الممنوح للرجل في إنهاء الرابطة الزوجية بالطلاق، وتغيير نظام تعدد الزوجات، وتعليم المرأة... إلخ. وقد أشار الدكتور محمد عمارة في كتاب "الأعمال الكاملة لقاسم أمين" إلى مساهمة الشيخ محمد عبده في تأليف كتاب (تحرير المرأة)، وليس من شك بأن قاسم أمين قد أصاب في بعض آرائه التي تحدث فيها عن واقع المجتمع المصري وأخطأ في بعضها الآخر، ولا أريد أن أتعرض إلى الآراء المختلفة التي طرحها الآن بالنقد والتحليل؛ لأن المقام لا يتسع لذلك، ولكني أريد أن أتساءل عن أصل الموضوع وعن أصل المعركة التي أثارها حول المرأة، والتي أسماها (تحرير المرأة)، أريد أن أتساءل عن المبررات الموضوعية لإثارة مثل هذه الضجة وعن الجذور التاريخية لهذه المسألة، وهل كان يقرأ واقع أمتنا أم أنه كان يحاكي واقعاً آخر؟ وهل يمكن فصل قضية المرأة عن بقية قضايا الأمة في النظر والدراسة والحلول؟ وما السمات الخاصة التي ميزت قضية المرأة عن بقية قضايا الأمة؟ وهل أنكر الدين الإسلامي حقوق المرأة؟ وهل حقّر إنسانيتها؟ هل كبّلتها الشريعة حتى ندعو إلى تحريرها؟ لكن الذي يبدو لي -والله أعلم- أن قاسم أمين عندما كتب داعياً إلى تحرير المرأة كان يحاكي واقعاً آخر، هو واقع أوروبا المسيحية في القرون الوسطى، فما الذي كانت عليه أوروبا حتى نشأت فيها قضية مستقلة ذات سمات متميزة هي قضية (تحرير المرأة)؟

كانت تنظر أوروبا إلى المرأة على أنها ينبوع المعاصي وأصل السوء والفجور، وهي باب من أبواب جهنم، وهي التي تحمل الرجل على الإثم والمعصية، وهي سلاح إبليس الذي لا يوازيه سلاح، وعليها أن تكفّر عن خطيئتها ولا تنقطع عن أداء الكفارة أبداً؛ لأنها هي التي جاءت بالشقاء لأهل الأرض، وقد قال ترتوليان "tertullion" أحد أقطاب المسيحية مبيناً نظرية المسيحية في المرأة: "إنها مدخل الشيطان إلى نفس الإنسان، وإنها دافعة بالمرء إلى الشجرة الممنوعة، ناقضة لقانون الله" وكذلك يقول كراي سوستام (chry sostem) الذي يعد من كبار أولياء الديانة المسيحية في شأن المرأة: "هي شر لابد منه، وآفة مرغوب فيها، وخطر على الأسرة والبيت، ومحبوبة فتّاكة".

وكانت تنظر أوروبا المسيحية أيضاً إلى العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة على أنها نجس في ذاتها، يجب أن يتجنبها الإنسان، ولو كانت عن طريق نكاح وعقد رسمي مشروع، وجاءت هذه النظرة من الرهبانية التي كانت تدعو إليها المسيحية والتي كانت تمجد حياة العزوبة وتجعلها مقياساً لسمو الأخلاق، وعلامة من علامات التقوى والورع. كما وضعت أوروبا المسيحية المرأة تحت سلطة الرجل الكاملة من الناحية الاقتصادية، وكان كل ما عندها ملك لزوجها، ولم يكن الطلاق والخلع مباحين بحال من الأحوال مهما بلغ البغض والتنافر بين الزوجين، ومهما بلغ الشقاق بينهما، بل كان الدين والقانون يحتمان عليهما دوام العشرة وبقاء حبل الزوجية متصلاً بينهما، وكان من أقبح العار أن يتزوج الرجل أو المرأة ثانية إذا توفي عن أحدهما زوجه، بل هو عند رجال الدين المسيحي من كبائر الإثم، وكانوا يعبرون عن الزواج الثاني بكلمة (الزنى المهذب).

هذه أوضاع المرأة الأوروبية في القرون الوسطى، وهي أوضاع ـ كما رأينا - شاذة ومخالفة للفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهي ظروف استدعت الثورة عليها فقامت حركت (تحرير المرأة).. فهل هناك شيء مشابه لذلك عندنا؟

الجواب: لا؛ لأن القرآن أقر بالخلقة المتساوية بين الرجل والمرأة فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء)(النساء،1)، ولأن القرآن الكريم بيّن أن كلاً من آدم وحواء تعرضا للوسوسة، ووقعا في الذنب وأكلا من الشجرة، واستغفرا لذنبهما، ولم يحمّل المعصية لحوّاء وحدها، قال تعالى: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ * قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف،20-23)، وقد وضّح القرآن الكريم أن الله ساوى بين الذكر والأنثى في الأجر الأخروي وأنه لا يضيع عمل أي منهما فقال تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ) (آل عمران،195)، وقد بيّن القرآن كذلك أن المؤمنين والمؤمنات يشتركون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) (التوبة،71)، وبيّن الرسول – صلى الله عليه وسلم - ندية النساء للرجال فقال: "إنما النساء شقائق الرجال" إلخ..

لذلك نقول إن الفرق بين واقعنا وواقع الغرب كبير فإن الإسلام أقر بإنسانية المرأة وحقوقها وأهليتها لممارسة كثير من الأعمال الاقتصادية والواجبات الدنيوية، في حين أن الغرب في القرون الوسطى أنكر إنسانية المرأة، بل نظر لها نظرة ازدراء واحتقار وأهمل كثيراً من حقوقها، لذلك كان عليها أن تثور لتسترد إنسانيتها وكرامتها وحقوقها. أما المرأة المسلمة فإننا نعترف بأن حيفاً أصابها لكن هذا الحيف نتيجة أمراض أصابت جسم الأمة بشكل عام، وإذا عوفيت الأمة فإنه يكون من السهل على المرأة نيل حقوقها المقررة لها وإعادتها إلى وضعها الطبيعي، هذا الفرق، الذي تجاهله دعاة التحرر في اختلاف الواقعين، جعل قاسم أمين يضخم بعض الأمور ويعطيها أكثر من حجمها من مثل قوله إن سبب انحطاط الشرق هو الحجاب وسبب تقدم الغرب هو نزع الحجاب! فقد قال بالحرف الواحد: "بل الكل يتفقون على أن حجاب النساء هو سبب انحطاط الشرق، وأن عدم الحجاب هو السر في تقدم الغرب".

ساطع الحصري والفكر القومي العربي:

لا نستطيع أن نتحدث عن تحرير المرأة دون التوقف عند الفكر القومي العربي، فالفكر القومي العربي هو الذي قاد المنطقة العربية بعد الحرب العالمية الأولى، وأثّر في مختلف شؤون الأمة: فوجّه التربية والإعلام، ورسم السياسة، وحشد العقول والعواطف، ووجّه الاقتصاد، وقنّن التشريع... إلخ. ثم ازداد تأثيره بعد الحرب العالمية الثانية. ويعتبر ساطع الحصري رائد الفكر القومي العربي بدون منازع، لذلك يعتبر أنسب مفكر يمكن أن نرصد من خلاله خطاب الفكر القومي العربي في قضية المرأة.

لقد ألّف "ساطع الحصري" عدة كتب عن القومية بشكل عام وعن القومية العربية بشكل خاص، واعتبر أن الأمة تقوم على عاملين: هما اللغة والتاريخ، واعتبر أن اللغة روح الأمة، والتاريخ ذاكرتها، وكان الحصري في اعتباره عنصري اللغة والتاريخ أساس تشكيل الأمم معتمداً على النظرية الألمانية، ولم يكن الحصري منظّراً قوميّاً فحسب، بل كان تربوياً، عمل في صياغة المناهج التربوية وتأليف الكتب المدرسية ووضع الخطط التربوية وإدارة المعاهد التربوية أثناء فترة مكوثه في استامبول وبغداد ودمشق، ثم عمل أخيراً في الجامعة العربية في القاهرة وفي معهد التربية العالي ثم أنشأ متحف الثقافة العربية ثم أنشأ معهد الدراسات العربية العالمية، ومع كل هذا الإنتاج الغزير في التربية لا نجد له كتاباً عن المرأة يتحدث فيه عن ماضيها وحاضرها ومستقبلها، ولا عن مشاكلها، ولا عن تصور لبعض ما تعانيه ولا عن حلول لهذه المشاكل، والشيء المفاجئ أن مفكراً قومياً بارزاً آخر هو "قسطنطين زريق" ليس له كتاب مخصوص عن المرأة مع أنه اشتغل وألّف في التربية بمقدار ما ألّف في الفكر القومي، والسؤال الآن:

لماذا لم يؤلف ساطع الحصري وقسطنطين زريق أي كتاب عن المرأة؟
الجواب: أن ذلك يعود إلى الفقر الثقافي للفكر القومي، وسطحية تحليله لواقع أمتنا، وعدم موضوعيته في النظر إلى مسيرة الأمة، ويؤكد ذلك أن الدراسة الموضوعية لواقع أمتنا تبيّن أنها قامت على عنصرين آخرين غير اللذين تحدّث عنهما ساطع الحصري وهما: القرآن والسنة، ومما يؤكد ذلك أننا نرى أثرهما في مختلف مجالات حياة الأمة من عقائد وعادات وتقاليد وتطلعات وآمال وسلوك وفنون... إلخ، فهما اللذان شكّلا ثقافة الأمة، وهما اللذان رسما تصورها عن الكون والحياة والإنسان، وهما اللذان وضعا قواعد مشاعرها، وهما اللذان دفعاها إلى المزاوجة بين عمارة الدنيا والتطلع إلى الآخرة، وهما اللذان أسسا عاداتها وتقاليدها، وهما اللذان ساهما في إنشاء أوقافها الغنية، وهما اللذان شكّلا منظومتها الأخلاقية، وهما اللذان كوّنا مصدر تشريعاتها، وهما اللذان رسّخا قواعد الأسرة فيها، وهما اللذان رسما ملامح فنونها، وهما اللذان وضعا أسس اقتصادها، وهما اللذان صاغا بناءها النفسي، وهما اللذان كوّنا بناءها العقلي... إلخ.

ومن الصعب أن نفهم العنصرين اللذين جعلهما ساطع الحصري والفكر القومي العربي الأصل في بناء الأمة وهما: اللغة والتاريخ، إلا في ضوء القرآن والسنة، فقد كانت هناك عدة لهجات عربية في الجزيرة العربية قبل نزول القرآن الكريم، وكان يمكن أن تتطور كل لهجة لتكون لغة مستقلة، وبالتالي كان يمكن أن تنشأ عدة لغات عربية في الجزيرة العربية نتيجة وجود اللهجات المختلفة للقبائل، لكن القرآن الكريم عندما كتب بلسان قريش، جعل الديمومة والهيمنة لهذه اللهجة على غيرها من اللهجات مما أنشأ لغة عربية واحدة وقضى على إمكانية نشوء عدة لغات عربية، وقد أكد عثمان رضي الله عنه هذا المعنى عندما قال للرجال الذين نسخوا عدة نسخ من المصحف الذي كان موجوداً عند حفصة بنت عمر رضي الله عنها زوج الرسول صلى الله عليه وسلم وأرسلها إلى مختلف الأمصار، عندما قال لهم : "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم" (رواه البخاري).

ثم إن الرعاية التي رعاها المسلمون للغة العربية كانت انطلاقاً من ظروف دينية، فعندما وضع أبو الأسود الدؤلي قواعد النحو وأتم ذلك سيبويه في مصنفه "الكتاب"، وعندما نقّط حروف العربية وشكّلها كلٌّ من أبي الأسود الدؤلي ويحيى بن يعمر ونصر بن عاصم الليثي، وعندما وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي أصول معاجم اللغة، وعندما جمع العلماء مفردات اللغة ومعانيها في معاجم لغوية، إنما قاموا بكل تلك هاتيك الأعمال من أجل إبعاد التحريف واللحن عن آيات القرآن الكريم، ومن أجل فهمهما الفهم الصحيح.

ومما يؤكد الدافع الديني وراء تلك الخدمات الجلّى التي قدّمها أولئك الرجال النوابغ الذي ألممنا بذكر طرف بعض منهم وأغفلنا في الوقت نفسه الكثير، مما يؤكد الدافع الديني وراء جهودهم أن قسماً كبيراً منهم ليسوا عرباً وليس لسانهم العربية، إنما اهتموا بالعربية وأفرغوا جهودهم للمحافظة عليها وضبط ألفاظها انطلاقاً من دينهم وإسلامهم.

أما التاريخ وهو العنصر الثاني من عناصر تكون الأمم حسب قول الحصري فمرتبط بالقرآن والسنة، فقد ثار الصراع بين الرسول صلى الله عليه وسلم والمشركين في الجزيرة العربية حول حقائق القرآن والسنة، وقامت الأمة بالفتوحات الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين من أجل نشر الإسلام القائم على القرآن والسنة، ونشأت الفرق الدينية والسياسية نتيجة الاختلاف حول أحكام القرآن والسنة، وقامت الدول المتعددة من أجل خدمة القرآن والسنة، ونشأت العلوم من أجل المساعدة في استنباط الأحكام من القرآن والسنة ومن أجل إثبات الحقائق التي تحدث عنها القرآن والسنة، ونشأت مؤسسة الحسبة لتنفيذ حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المقرّر في القرآن والسنة... إلخ.

ماذا كانت نتيجة هذا الفقر الثقافي، وسطحية تحليل واقع الأمة، وعدم الموضوعية في النظر إلى مسيرة الأمة، واستبعاد الإسلام من عوامل تكوين الأمة إزاء قضية المرأة؟

كانت النتيجة انفتاح باب التغريب على مصراعيه أمام المرأة العربية المسلمة بصورة لم نعهدها من قبل، وولوجها له، وأصبحت قيم المرأة الغربية وعاداتها وتقاليدها هي الرائجة، وصدرت تشريعات تقنن ذلك في بعض البلاد العربية، ومنها تشريعات توجب عليها خلع الحجاب وزاد الأمر سوءاً في المرحلة الاشتراكية حيث اعتبر الدين الإسلامي العامل الرئيسي في التخلف والانحطاط والهزيمة لذلك يجب اقتلاعه من حياة الناس ووجودهم، واعتبرت الاشتراكية على لسان "انجلز" ستر العورة طريقة صريحة لامتلاك النساء، واعتبرت كذلك بأن ولادة الحجاب جاءت مترافقة مع ولادة الملكية الفردية، لذلك سينتهي الحجاب عند انتهاء الملكية الفردية، وستعود العلاقات الجنسية مشاعة كما كانت في المجتمع القديم: كل النساء لكل الرجال.

الدكتور محمد شحرور وبعض آرائه في قضية المرأة:

لقد دعا الدكتور "محمد شحرور" في كتابه (الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة) الذي صدر عام 1990م إلى فقه جديد في مجال المرأة، وفهم جديد للقرآن الكريم، لكن ما يهمنا الآن آراؤه المتعلقة بالمرأة فقد تحدث عن تعدد الزوجات، والإرث، والمهر، ولباس الرجل والمرأة وسلوكهما الاجتماعي، والعلاقة العائلية بين الرجل والمرأة، وحق العمل السياسي، وعقدة النكاح، والطلاق، والعلاقة بين الرجل والمرأة... إلخ.، ففي مجال تعدد الزوجات دعا محمد شحرور إلى أن تكون الزوجة الثانية من الأرامل مع التكلف برعاية أولادها، وفي مجال الإرث دعا شحرور إلى المساواة بين الرجل والمرأة، وفي مجال العورة اعتبر شحرور أن الزينة الظاهرة في قوله تعالى: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا) (النور،31) هي الزينة الظاهرة من جسد المرأة بالخلق، أي ما أظهره الله ـ عز وجل - في خلقها كالرأس والبطن والظهر والرجلين واليدين، واعتبر أن الزينة التي يجب أن تخفيها هي الجيوب وهي: ما بين الثديين وتحت الثديين وتحت الإبطين والفرج والإليتين، وهذه الجيوب هي العورة، لذلك إذا ظهرت البنت أمام والدها عارية فهذا ليس حراماً بل عيباً فقط، واعتبر أن تغطية الوجه خروج عن حدود الله.

والسؤال الآن: ما المنهج الذي اتبعه الدكتور محمد شحرور في إصدار أحكامه تلك؟

اعتمد الدكتور شحرور على المنهج اللغوي في تحديد معاني الألفاظ، ومال إلى نظرية أبي علي الفارسي التي تقول بعدم وجود ترادف في اللغة، والتقى الدكتور شحرور في هذا المنهج مع المعتزلة الذين قالوا بأن المعني الشرعي لأي لفظ تحدده اللغة؛ لأن الله أنزل القرآن بلسان عربي مبين، وأن الله أنزل الأنبياء والرسل بلسان أقوامهم؛ لكي يبينوا لهم، فقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (إبراهيم،4) فأوقعهم هذا المنهج في أخطاء متعددة، أبرزها حصرهم معنى الكلمة الشرعي بالمعنى اللغوي وحده، وقد ردَّ بعض علماء الأمة عليهم معتمدين على المنهج الديني في النظر إلى هذه الألفاظ، فبيّنوا أنّ بعض الألفاظ مثل: الزكاة، الإيمان، الوضوء، الإسلام، الشرك، الصلاة، الكفر... إلخ. نقلها الشرع من معناها اللغوي وأعطاها معنى آخر، فأصبحت مصطلحاً محدّداً وضّحه القرآن والسنة توضيحاً كاملاً، فمثلاً لفظ الإيمان يعني لغة: التصديق؛ لقوله تعالى: (وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا) (يوسف:17) بمعنى: وما أنت بمصدّق لنا، لكنه يعني في الشرع: الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقضاء والقدر، ويعني الإيمان بالله بصفاته التي وردت في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، وكذلك قل بالنسبة لبقية الأركان التي دخلت في مسمّى الإيمان، وقد أجمل بعض علمائنا تعريف الإيمان فقالوا: الإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان.

وقد نتجت فروق رئيسية بين الإيمان عند المعتزلة وعند أهل السنّة نتيجة الخلاف في منهج التعامل مع كلمة الإيمان، أبرزها: إدخال أهل السنّة العمل في مسمّى الإيمان، وبالمقابل عدم إدخال المعتزلة له. فشتان ما بين الإيمان لغة واصطلاحاً.

وكذلك الصلاة في اللغة تعني الصلة والدعاء، لكن الصلاة في الشرع أصبحت مصطلحاً يدل على أعمال منها: القيام، والركوع، والسجود، وقراءة الفاتحة، والتسبيح... إلخ. ويجب أن يسبق تلك الأعمال شروط، منها: طهارة البدن، وطهارة الثياب، وطهارة المكان، ودخول الوقت... إلخ.، ويجب أن يرافق ذلك أعمال قلبية، منها: الخشوع، والاطمئنان، والتعظيم، والتذلّل... إلخ. فشتان ما بين الصلاة لغة واصطلاحاً.

إذن.. اعتمد الدكتور محمد شحرور بشكل عام على المنهج اللغوي في تحديد معاني الألفاظ الشرعية، لكنه زاوج في تحديد معاني بعض الألفاظ بين المنهج اللغوي وبعض العلوم الرياضية والاقتصادية والفلسفة، فهو اعتمد في توضيح معنى الحد الشرعي كحد السرقة والزنا والحرابة على المعنى اللغوي لكلمة الحد وعلى مفهوم "التوابع المستمرة" في نظرية نيوتن، كما اعتمد على ديالكتيك هيجل في رسم نظرية للمعرفة الإسلامية.

الدكتور نصر حامد أبو زيد وكتابه الجديد حول المرأة:

نشر الدكتور نصر حامد أبو زيد كتاباً تحت عنوان "دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة" عام 1999م، وتناول فيه عدة موضوعات متعلقة بالمرأة بشكل مباشر وبشكل غير مباشر، وأبرز الموضوعات التي تحدثت عن المرأة بشكل مباشر هي: حقوق المرأة في الإسلام، والإسلام والديمقراطية والمرأة، والمرأة والأحوال الشخصية، وتعرض في هذا الكتاب – أيضاً - بالنقد لخطاب النهضة، وللخطاب الديني في مجال المرأة، ولقضايا متعددة أخرى.

وقد اعتبر الدكتور أبو زيد عند دراسته لآية تعدد الزوجات أنها آية تشريع مؤقت لمعالجة موقف طارئ، وبناء عليه يدعو إلى أن تقنن الدولة تشريعات تلزم المسلمين بالزواج من واحدة، كما يدعو إلى المساواة بين الرجل والمرأة في حق طلب الطلاق، كما يدعو إلى المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث، كما يدعو إلى اعتبار شهادة المرأة مثل شهادة الرجل على الإطلاق، كما يعتبر أن كل هذه الضجة المفتعلة حول الحجاب لا تستحق كل الجهود المبذولة في مناقشتها، ويعتبر أن انتشار الحجاب في السنوات الأخيرة كان رد فعل على الهزائم التي وقعت سواء حرب 1967م أو حروب البوسنة والهرسك، وهو يعتبر أن مفهوم العورة ليس مفهوما كلياً ثابتاً في وعي الجماعة البشرية، لذلك ينتهي من خلال النظر في السياق القرآني أن العورة هي الأعضاء الجنسية فقط بالنسبة للأحياء، وهي جثة الشخص الميت. ويمتدح نصر حامد أبو زيد قانون الأحوال الشخصية الذي صدر في تونس عام 1957م، والذي يقنن معظم الأمور السابقة مثل: منع الزواج من ثانية ووضع العقوبات على ذلك بالحبس لمدة سنة وبغرامة مالية أو بإحداهما، وربط الطلاق بالقاضي، وجعل شهادة المرأة مساوية لشهادة الرجل بعد بلوغ سن العشرين، وجعل ميراث المرأة مثل ميراث الرجل، وإقرار التبني وحصول المُتبنّى على ميراث مساو للابن الشرعي.

علام استند الدكتور أبو زيد في كل الأحكام السابقة التي أصدرها أو التي امتدحها؟ وما المنهجية التي حكمت إصدار آرائه؟

اعتباره القرآن الكريم نصاً تاريخياً ودعوته إلى ضرورة فهم النصوص في سياق إنتاجها الاجتماعي والتاريخي.

سأمثل على منهج الدكتور أبو زيد في كيفية تطبيقه القاعدة السابقة بحديثه عن الآية الكريمة: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) (النساء،11)، فقد علّل الدكتور نصر حامد أبو زيد الحكم السابق الوارد في الآية السابقة بأن الواقع الذي يخاطبه الوحي ويتوجه إليه النص يقوم على الاعتداد بعلاقات الدم والنسب الأبوية على وجه الخصوص، إنه مجتمع العصبية الذكورية، وهو من جهة أخرى مجتمع يقوم على الصراع على منابع المياه والكلأ. في مثل هذا المجتمع يتحدد دور الأنثى ومكانتها في الخلفية، لذلك عندما أعطاها الوحي نصف حظ الذكر اعتبرت هذه الخطوة تقدمية؛ لذلك علينا أن نمضي في السياق نفسه وبعد مرور أربعة عشر قرناً على ذلك الحكم، فنجعل الآن ميراث المرأة مساوياً لميراث الرجل.

ويمكن أن نعلق على دعوته تلك بالأمور التالية:

1- إن المرأة التي أعطاها الشرع نصف حظ الرجل في الميراث، إنما أعطاها ذلك وهي ليست مسؤولة عن الإنفاق في كل أحوالها، سواء أكانت بنتاً أم زوجاً أم أمّاً.

2- يعتبر الشرع أن مؤسسة الأسرة ثابتة، وهي المؤسسة التي يجب أن تقوم من خلالها علاقة الرجل بالمرأة، والذكر بالأنثى، لذلك يفترض الشرع أن تبقى هذه النسبة ثابتة.

3- إن ظلم المرأة وإنصافها لا يكون المؤشر الحقيقي عليه تعديل نصيبها في الميراث، بل في جملة التوجيهات والقيم والمبادئ التي رافقت نشأتها ووجودها وتربيتها وحقوقها والتي حفلت بها آيات القرآن الكريم وأحاديث السنة المشرفة، وهي التي نعرفها ويعرفها الدكتور أبو زيد وأشار لها في كتابه "دوائر الخوف".

4- إن المرأة التي أعطاها الشرع نصف حظ الذكر تحصل في بعض حالات توزيع الميراث أكثر مما يحصل عليه الذكر.

اعتبر نصر حامد أبو زيد الألفاظ مثل: الملائكة والجن والشياطين والسحر والحسد... إلخ. ألفاظاً مرتبطة بواقع ثقافي معين، ويجب أن نفهمها على ضوء واقعها الثقافي، واعتبر أن وجودها الذهني لا يعني وجودها العيني، وقد أصبحت ذات دلالات تاريخية، ويمكن أن نفهمها الآن على ضوء واقعنا الثقافي الجديد وهو يعتمد في كل ما يروج له على نظرية عالم اللغة دي سوسير.

وفي الرد على الدكتور أبي زيد نسأل: لماذا اعتبر الدكتور أبو زيد تلك الألفاظ ذات دلالات تاريخية؟ وهل نفى العلم بشكل قطعي وجود حقائق عينية لتلك الألفاظ حتى نعفي عليها ونعتبرها ألفاظاً لا حقائق لها وذات وجود ذهني فقط؟ لم نسمع بذلك حتى الآن. وإنني أدعو الأخ المسلم إلى تصوّر وتخيّل وتقدير الاضطراب الذي سيصيب ديننا عندما نفسر الألفاظ حسب الثقافة الموجودة في كل مرحلة تاريخية.

اقترح الدكتور أبو زيد منهجاً جديداً لاستنباط الأحكام من النصوص الدينية سمّاه "منهج القراءة السياقية" وهو في اقتراحه ذلك متأثر ببعض العلوم اللسانية التي أنتجتها الحضارة الغربية، ويقوم ذلك المنهج على النظر إلى مجمل السياق التاريخي والاجتماعي لنـزول الوحي وهو القرن السابع الميلادي، والتمييز في إطار التشريعات والأحكام بين ما هو من إنشاء الوحي أصلاً وبين ما هو من العادات والأعراف الدينية والاجتماعية السابقة على الإسلام، وهناك مستويات أخرى عديدة للسياق يجب مراعاتها في المنهج المقترح ومنها السياق الوصفي والسياق السجالي، المهم أنه ينتهي من كل ذلك إلى أحكام جديدة، منها أن القوامة الواردة في قوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء) (النساء،34) وقول أم مريم عليها السلام باختلاف الذكر عن الأنثى في قوله تعالى: (ولَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى) (آل عمران،36) ليست تشريعاً بمقدار ما هي وصف للحال.

ملاحظات عامة على آراء دعاة التحرر في قضية المرأة المعاصرة:

يعتبر دعاة التحرر المرأة الغربية نموذجهم المحتذى، وهم عندما يفعلون ذلك يبرزون الجوانب الإيجابية في قضية المرأة الغربية ويغفلون الجوانب السلبية ـ التي ربما تكون أكثر بكثير من الجوانب الإيجابية ـ من مثل: تحطيم الأسرة، وكثرة الطلاق، والعلاقات غير الشرعية خارج إطار الزواج، وتفشي اللواط والسحاق، وكثرة الولادات غير الشرعية، واتخاذ بعض الأزواج خليلات لهم بمعرفة المجتمع وإقراره...إلخ، ويغفلون كذلك عن تطورات الحضارة الغربية التي لم تقف عند العلمانية الجزئية التي تعني فصل الدين عن الدولة، وهي صفة تقبل الحضارة الغربية أن تتعايش الدولة مع قيم إنسانية ودينية وأخلاقية مطلقة مادامت لا تتدخل في عالم السياسة بالمعنى المباشر والمحدّد، وقد ساد هذا الاتجاه لفترة من الزمن، لكن حدثت تحولات تاريخية حوّلت العلمانية الجزئية إلى علمانية شاملة أودت بالإنسان كمقولة مستقلة عن عالم الطبيعة وبدأت هذه العملية بانفصال المجال الاقتصادي عن القيم الأخلاقية والدينية والإنسانية، وأصبح يحكم على عالم الاقتصاد بمقدار ما يحققه من الأهداف الاقتصادية بغض النظر عن أية قيمة دينية وأخلاقية وإنسانية، ثم شملت عملية الانفصال بقية المجالات الحياتية: السياسة والعلم والحب والجنس... إلخ. فيحكم على نجاح العلم أو فشله بمقدار ما يحقق من أهداف علمية محضة مثل مراكمة المعلومات وإجراء التجارب الناجحة، بعيداً عن أية قيم أخلاقية وإنسانية ودينية، ويتحرر الجنس من سائر المعايير والقيم ليستمد معياريته من ذاته، ويحكم على مقدار نجاحه أو فشله بمقدار ما يحققه من أهداف جنسية محضة، مثل اللذة، خارج أي نطاق اجتماعي أو أخلاقي. إذن انتهت العلمانية الشاملة لا لتفصل الدين عن الدولة فقط، وإنما لتفصل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية جميعها عن الدولة وعن جوانب الحياة العامة والخاصة كافة، أي أنها تفصل سائر القيم عن الطبيعة والإنسان وتنـزع عنهما أية قداسة، فكلاهما مكتف بذاته، ومرجعية لذاته.

يطعن دعاة التحرر في الفترة الأخيرة في أدوات الاجتهاد التي تساعد على استنباط الأحكام من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، من مثل: علوم أصول الفقه، وعلوم القرآن الكريم، وعلوم اللغة العربية... إلخ، وقد وصفها الدكتور حامد نصر أبو زيد بأنها علوم بائسة، ورفض الدكتور محمد شحرور التعامل معها منذ البداية واخترع أدوات خاصة به، ولا يتسع المقام الآن لاستعراض طعونهم والرد عليهم، ولكن نتساءل: لماذا يطعنون بها وهي العلوم التي تدل على عبقرية هذه الأمة؟ أيطعنون بها لأنها لم تساعدهم على إقرار التأويلات والمعاني التي يريدون أن يفرضوها على الدين والمسلمين؟ نحن يمكن أن نقرّهم فيما يذهبون إليه في حالة واحدة عندما يثبتون بالدليل والبرهان عجز هذه الأدوات عن استنباط المعاني بالصورة الصحيحة والسليمة، وطالما أنهم لم يفعلوا ذلك مسبقاً، فإن طعنهم فيها وتجاوزها يدخل في إطار الهدم والتخريب. ليس معنى ذلك أننا نرفض أي تطوير لها أو استفادة من علوم الغرب اللسانية في تطويرها، فذلك ما نقره وندعو إليه؛ لأن التطوّر سنّة الحياة، وهو ما حدث خلال القرون السابقة، فهي لم تكن مقننة أصلاً ووجدت متتالية في عهود وأزمان مختلفة، فبدأت بعلم النحو، وعلم الصرف، وعلوم البيان، والبديع والمعاني، مروراً بعلم فقه اللغة، وأصول الفقه، وانتهت بعلم مقاصد الشريعة، لكن الذي نرفضه هو التجاوز النهائي، والطعن فيها دون حجة علمية وبرهان علمي.

يدعو دعاة التحرر إلى أن نفهم النصوص القطعية الثبوت القطعية الدلالة التي جاءت في مجال الزواج والطلاق والشهادة والميراث والعورة واللباس... إلخ.. فهماً جديداً على ضوء واقعنا الجديد، وأن لا نقف في فهمها عند العصر الذي نزلت وهو القرن السابع الميلادي، ويبرّرون ذلك بأن هذه النصوص هي نصوص لغوية نزلت في حقبة تاريخية معينة، وعندما يقف دعاة المحافظة في فهم تلك النصوص عند مستوى معيّن، فليس ذلك رغبة في الجمود وإنما نتيجة فهم لطبيعة النفس البشرية التي تحتوي على جوانب ثابتة من مثل: علاقة التجاذب بين الذكر والأنثى، وعبادة الله، وحب التملك... إلخ. فجاءت الشريعة بنصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة توازي الثبات في النفس البشرية كالنصوص التي تتعلق بالزواج والطلاق والميراث... إلخ. وكالنصوص التي تبين صفات الله وتدعو إلى عبادته وتحدد صور العبادة، وكالنصوص التي تبيح التملك وتقرّه... إلخ.

والسؤال الذي يرد في هذا المجال هو: من أين جاءت كل هذه الضجة المفتعلة حول النصوص القطعية الثبوت القطعية الدلالة؟ جاءت من نسبية الحقيقة التي تقوم عليها الحضارة الغربية، والتي تتصادم مباشرة مع النصوص القطعية الثبوت القطعية الدلالة، فيجب إذن تطويع هذه النصوص وتفسيرها تفسيراً يخرجها عن ثباتها لتصبح متفقة مع نسبية الحقيقة التي تقوم عليها الحضارة الغربية.

وإنني أختم ورقتي بعبارة لبرنارد لويس وهو مستشرق إنكليزي يهودي قارب الثمانين من عمره، وهو مختص بشؤون العالم العربي والإسلامي والشرق الأوسط، ويقيم الآن في أمريكا، وطُلب منه أن يكتب عن رأيه في مستقبل الشرق الأوسط، قال: "سنحسم التغريب في الشرق الأوسط من خلال ثلاثة عوامل: إسرائيل وتركيا والمرأة".

وأنا أقول له: أخطأت التقدير، فإن المرأة العربية المسلمة أكثر ارتباطاً مما تظنّ بقيم أمتها ومبادئ شريعتها، وخير دليل على ذلك دور المرأة الأساسي في الصحوة التي أفشلت مخططات التغريب في القرن العشرين، وسيكون لهذه المرأة العربية المسلمة - بإذن الله - دور أساسي في إفشال التغريب في القرن الحادي والعشرين.



رد مع اقتباس
  #26  
قديم 03-04-2005, 03:50 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

نفقة الزوجة.. حدودها وصورها
نوال الطيار






نفقة الزوجة حق شرعي لها، واجبٌ على زوجها، تعرضه الباحثة ـ التي سبق لها نشر بحث "نفقة الزوجة العاملة" - وفق منهج البحث العلمي مجموعة من العناصر الشاملة لمفردات موضوع النفقة من الناحية الفقهية، فتعرض التعريف بأنواعه، والصور التي تشملها النفقة، ومن ثم تسرد أدلة المشروعية والتي تضم جميع أنواع الأدلة المتفق عليها لدى جمهور الأصوليين مع بيان وجه الدلالة من كل دليل، ثم تختم البحث بالشروط الواجب توفرها لثبوت النفقة على الزوج.. وهي بذلك تكون قد سارت على المنهج الفقهي، المقتصر على التعليل والتدليل، دون ذكر الِحكم والتوجيهات التربوية والأخلاقية التي لا تشمل منهج البحث الفقهي، عناصر البحث:

o تعريف النفقة

o ما تشمله نفقة الزوجة.

§ أولاً : الطعام.

§ ثانياً: الكساء.

§ ثالثاً: المسكن.

§ رابعاً: الخادم.

§ خامساً: العلاج.

o أدلة مشروعية نفقة الزوجة.

§ أولاً: الأدلة من الكتاب.

§ ثانياً: الأدلة من السنة النبوية.

§ ثالثاً : الإجماع.

§ رابعاً: المعقول.

o شروط وجوب نفقة الزوجة.



تشتمل مادة (نفق) على حروف النون والفاء والقاف على أصلين صحيحين.

1-مصدر مأخوذ من النفوق، يقال: نفق الفرس، والدابة، وسائر البهائم، ينفق، نفُوقأ، أي: ماتت، وفي حديث جابر بن سمرة: فأبى، فنفقت.."(1) الحديث، أي: ماتت.

2-مصدر مأخوذ من الإنفاق، وهو صرف المال وفناؤه، ومنه قوله تعالى{إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق}(2). أي: خشية الفناء والنفاد(3).

3-مصدر مأخوذ من النفاق، يقال: نفق البيع نفاقاً، أي راج، ونفقت السلعة، أي: غلت ورغب فيها. ونفقة الزوجة والأقارب والمماليك مأخوذة من هذا الأصل، فالنفقة: ما أنفقت واستنفقت على نفسك وأولادك(4).

مأخوذ من النفق، وهو السرب في الأرض له مخلص إلى مكان ومنه قوله تعالى: {فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض..}(5) الآية

والنفق في الأرض: المدخل وهو السرب(6) والجمع أنفاق، والنفقة، والنّافقاء: جحر الضب.

ومن هذا الأصل اشتقاق النفاق، لأن صاحبه يخفي خلاف ما يظهر، فكأن الإيمان يخرج، أو هو يخرج من الإيمان في خفاء، لذا فالأصل في الباب واحد وهو الخروج(7).

النفقة في اصطلاح الفقهاء:

اختلفت آراء الفقهاء – رحمهم الله – في تعريف النفقة،

لكن لعل أقربها إلى الصواب ما ذكره علماء الحنابلة، وهي أن النفقة:

"كفاية من يمونه خبزاً وأُدماً وكسوة وسكنى وتوابعها"(8).

1-كفاية: بيان بأن الواجب بالنفقة هو قدر الكفاية للمنفق عليه، ويخرج ما زاد عن الضرورة والحاجة فلا تسمى نفقة وإنما هي من باب التبرعات والهبات.

2-من يمونه: بيان لمن تشمله النفقة من زوجة أو قرابة ومن في حكمهم.

3-خبزاً وأدما وكسوة وسكنى: بيان لأنواع النفقة، وهي الحاجات التي لا يقوم حال الإنسان إلا بها.

4-وتوابعها: بيان لتوابع النفقة كثمن الماء، وتكاليف الوقود ونموهما.

العلاقة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي:

بالنظر إلى المعنى اللغوي والاصطلاحي للنفقة، فيظهر بينهما عموم.

وخصوص، فاللغوي عام في الإخراج، والمعنى الاصطلاحي خاص بإخراج كفاية من يمونه في حال الحياة، لذا فيكون التعريف الاصطلاحي للنفقة أخص من التعريف اللغوي.

لما كانت النفقة من ضروريات حفظ الحياة، وبها يقوم حال المنفق عليه، فقد أوجب الله تعالى للزوجة ما يقوم به حالها من مستلزمات الحياة الضرورية، وهي:

للزوجة على زوجها قدر الكفاية، لقول الله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف}(9)، والمعروف هو: قدر الكفاية. ولقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لهند بنت عتبة رضي الله عنها: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"(10)، فذكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم الإنفاق مطلقاً دون تقييد ولا تحديد ورده للعرف(11).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية(12): "الصواب المتطوع به ما عليه الأمة علماً وعملاً، قديماً وحديثاً، أن تأخذ الزوجة قدر الكفاية، ولم يقدر لها نوعاً ولا قدراً، ولو تقدر ذلك بشرع أو غيره لبين القدر والنوع، كما بين فرائض الزكاة والديات".

الكساء الواجب للزوجة هو الكساء الكامل الكافي لها بحسب العرف، وهو ما جرت به العادة في البلد من ثياب البدن بلا تقتير أو إسراف.

وهو مقدر بكفايتها، لأن الشرع أوردها غير مقدرة، وليس لها أصل يرد إليه، فيرجع في عددها وقدرها إلى العرف(13).

لما كانت حاجة الزوجة قائمة للإيواء، وحفظ النفس والمتاع، فقد جعل الله تعالى سكنى الزوجة حقاً من حقوقها، على أنه يشترط فيه ما يلي:

1-أن يكون على قدر حالهما يسارا أو إعسارا(14).

2-أن يكن المسكن آمناً، بحيث تأمن على نفسها فيه، كإسكانها بين جيران صالحين(15).

3-أن يسكن الزوج زوجته في دار مفردة ليس فيها أحد من أهله، وقد اختص علماء الحنفية(16) والمالكية(17) بهذا الشرط وزاد المالكية أنه خاص بالشريفة.

وبناء على هذا القول فإذا اشترطت الزوجة على الزوج عند العقد أن تكون في بيت مستقل، فيتعين الوفاء بهذا الشرط لخبر "المسلمون على شروطهم"(18) وأما إذا لم تشترط عليه فالعرف جار على إسكانها مع أهله دون نكير. والله أعلم.

ذهب جمهور الفقهاء على أنه يجب على الزوج أن يخدم زوجته إذا كانت مريضة عاجزة عن القيام بأمور نفسها، وكذلك إذا كانت غير مريضة ولكنها ممن لا يخدم نفسه في العرف، بأن كان لها خادم في بيت أبيها، فإن على زوجها في هذه الحال إخدامها بخادم واحد لا يزاد عليه، وذهب أبو يوسف إلى أن لها أكثر من خادم إذا كانت ممن يستحق ذلك في العرف.

فإذا كانت معافاة وهي ممن يخدم نفسه في العرف، لم يجب عليه إخدامها، لأن العرف في حقها خدمة نفسها(19).

ذهب الأئمة الأربعة(20) على أن العلاج لا يجب على الزوج لزوجته، ولكنه واجب عليها في مالها، فإذا لم يكن لها مال وجب على من تجب عليه نفقتها لولا زوجها كالأب والأبن، لأن الواجب على الزوج النفقة العادية، وهذه نفقة طارئة فلا تجيب عليه. لكن هناك من قال بوجوب تكفل الزوج بنفقات علاج الزوجة وهو قول لبعض علماء الحنفية وبعض علماء المالكية(21) وهو الراجح – إن شاء الله – للأدلة التاليــة:

1-أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال لهند بنت عتبة "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف. وهنا أمر بأخذ الكفاية بلفظ عام، باعتبار لفظ ما، ومن كفايتها: القيام بعلاجها.

2-قوله ـ صلى الله عليه وسلم -: "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف"(22). فأمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – برزق الزوجات، وهو لفظ عام، ومن الرزق: القيام بعلاجها.

3-لأن علاج الزوجة مراد لحفظ الروح، فكأن شبيها بالنفقة(23).

4-لأن الحاجة إلى الدواء والعلاج أشد من الحاجة إلى المأكل والمشرب، فإذا وجبت النفقة وجب الدواء وهو أولى.

5-لأنه ليس من مكارم الأخلاق التخلي عن الزوجة في حال مرضها، حيث لا يخلوا حالها من أن تكون غنية فتستطيع القيام بأمر نفسها، وإما فقيرة لا مال لها، فمن أين لها المال لعلاج نفسها، هل من إكرامها ردها لأهلها ليداووها وقد قال تعالى: {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}(24) ومن تمام الأخلاق القيام بعلاجها.

لقد ثبت وجوب النفقة للزوجة بالكتاب العزيز والسنة المطهرة والإجماع والمعقول.

1-قال الله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}(25).

أمر الله – عز وجل – بنفقة وسكنى المطلقة المعتمدة، فيجب لمن هي في صلب النكاح بطريق الأولى(26).

2-قال الله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}(27).

3-قال الله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}(28).

فرض الله تعالى فرائض للزوجات وما ملكت الأيمان، ومن تلك الفرائض النفقة(29).

4-قال الله تعالى: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(30).

خص الله تعالى وجوب النفقة في حالة الولادة وهي تتشاغل بولدها عن استمتاع الزوج، ليكون ذلك أدل على وجوبها عليه في حال استمتاعه بها"(31).

1-قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لهند بنت عتبة: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف".

2-عن حكيم بن معاوية القشيري، عن أبيه، قال: قلت يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال" "تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت"(32).

3-قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف".

اتفق أهل العلم – رحمه الله تعالى – على وجوب نفقة الزوجات على أزواجهن البالغين إلا الناشز منهن، والممتنعة عن الطاعة، أو من حبس زوجها بدعوى منها"(33).

أن الزوجة محبوسة المنافع عليه، وممنوعة من التصرف لحقه في الاستمتاع بها، فوجب عليه مؤنتها من طعام وكسوة وسكنى، لقول – صلى الله عليه وسلم –: "الخراج بالضمان"(34) كالعبد الموقوف على خدمة السيد، وكما يلزم الإمام في بيت المال نفقات أهل النفير، لاحتباس نفوسهم على الجهاد"(35).

يشترط لوجوب نفقة الزوجة على زوجها ما يأتي:

1-أن يكون عقد زواجهما صحيحاً.

فإذا كان عقد النكاح فاسداً كالعقد بلا شهود، أو كان باطلاً كالعقد على المجوسية والمرتدة ومن لا دين لها، لم تجب النفقة لها على العاقد مطلقاً؛ لأن سبب وجوب نفقة الزوجة على زوجها عامة الاحتباس، ولا احتباس على المعقود عليها فاسداً، أو باطلاً، لوجوب التفرق عليهما، فلا تجب النفقة لها عليه لذلك.

وهذا الشرط محل اتفاق بين أهل العلم(36).

2-أن تسلم المرأة نفسها لزوجها أو وليها.

وذلك لأن مقصود النكاح لا يتم إلا بالتسليم، ويحصل ذلك بأن تصرح أو يصرح الولي باستعدادهما للتسليم، أو أن يظهروا بما يجري به العرف.

وكذا أن يطلب الزوج التسلم بدون ممانعة، أما إذا رضي الزوج ببقاء الزوجة عند أهلها فهذا في حكم التسلم، لأن فوت حقه في الاحتباس باختياره.

أما لو تساكتا، ومضت مدة معتبرة أو امتنعت الزوجة أو الولي من التسليم، فلا تجب لها النفقة، والدليل هو فعل الرسول – صلى الله عليه وسلم – في قصة عائشة فإنه عقد عليها لسبع سنين وبنى بها لتسع و بقيت في بيت أبيها ولم يدفع نفقة ما مضى.

3-أن يكون الرجل والمرأة من أهل الاستمتاع.

والمعنى بأن يكون الرجل ممن يطأ مثله عادة، وكون المرأة ممن يوطأ مثلها عادة.

فإذا كانت الصغيرة لا تقدر على المعاشرة الزوجية ولا إيناس الزوج أو القيام بمهام بيت الزوجية فهذه لا تستحق نفقة على زوجها.

وإن كانت تقدر على مصالح بيت الزوجية وإيناس الزوج وإمتاعه نفسياً، ولكن لا تقدر على إشباع رغبته الجنسية وجبت النفقة لها.

وبالأولى تجب النفقة لها لو كانت تقدر على إشباع رغبته الجنسية حيث لا فرق بينها وبين الكبيرة حينئذ.

هذا رأي أبي يوسف بن الحنفية(37) ورأي لبعض الشافعية(38) والحنابلة(39) والظاهرية(40) لأن الزوج بتسلمه للمرأة قد رضي بحقه ناقصاً وهو الوطء والحق له، ثم إننا لا نسلم أن الاستمتاع مقصوراً بالوطء فقط، لتحققه فيما دون الوطء، فيمكن الاستئناس والسكن إليها وهذا قدر من الاستمتاع، وهو الراجح –إن شاء الله.

وأما إن كان الزوج صغيراً لا يصلح للمعاشرة الجنسية، فالصحيح من أقوال العلماء أن هذه المرأة لها النفقة، لأن المانع من كمال الاستمتاع ليس من جهتها بل من جهته، فيقاس على ما إذا كان كبيراً وسافر وتركها أو كان كبيراً ورضي ببقائها في بيت أهلها، فلا يمكنه الاستمتاع ومع ذلك عليه النفقة.

4-ألا يفوت حق الزوج في احتباس الزوجة من أجله إلا بمسوغ شرعي أو بسبب من جهته؛ لأن الاحتباس في الجملة حق للزوج، فإذا فات حقه فات ما يقابله وهو النفقة.

1-لو امتنعت من تسليم نفسها، كما إذا امتنعت عن الانتقال إلى بيت الزوجية دون مبرر شرعي وقد دعاها الزوج، فإن كان لها مبرر شرعي في امتناعها فلا تعتبر ناشزاً، وبالتالي لا يسقط حقها في النفقة، وذلك كما لو كان امتناعها بسبب مطالبتها الزوج في دفع معجل صداقها، وكما لو كان بيت الزوجية مشغولاً بأناس يضرها ويؤذيها وجودهم معها فيه.

2-إذا امتنعت عن السفر والانتقال معه إلى بلد آخر اضطرته ظروف عمله إلى الانتقال إليه وكان مأمونها عليها.

أما لو كان سفره بقصد الإضرار بها والكيد لها فلا يعتبر امتناعها نشوزاً ومن ثم لا تسقط نفقتها.

3-إذا خرجت من بيته بلا أذن أو عذر شرعي، فإذا أذن لها وكان خروجها بسبب عذر يحتم ذلك لا تكون ناشزاً ولا تسقط نفقتها.

4-إذا فات حق الزوج بسبب من جهته، كأن يسافر فيتركها، فتجب لها النفقـة، فكأن الزوج تنازل عن حقه.

قال العلامة ابن سعدي رحمه الله:

"والصحيح وجوب النفقة لكل زوجة غير ناشز - حتى الصغيرة والمسافرة لحاجتها بإذنه ونحوهما - لأن الأصل وجوب النفقة لكل زوجة، كما تجب بقة أحكام الزوجية، ولا نسلم أن النفقة علتها إمكان التمكين فقط، بل العلة الأصيلة كونها زوجة غير ناشز، ويؤيد هذا وجوب النفقة على الزوج الصغير، وللزوجة المريضة، والحائض، المحرمة، ونحوهن، مع أن التمكين من الوطءِ غير ممكن حساً أو شرعاً. والله أعلم"[41].

مواضيع ذات صلة:

· الداعية المغربية: ندية ياسين، تتحدث عن مشاكل النفقة في المغرب

· اعتراف الإسلام بإنسانية المرأة

· ضمانات حقوق المرأة الزوجية
· القوامة.. دكتاتورية وتسلط أم تهذيب وتبسط؟


--------------------------------------------------------------------------------

(1)رواه الإمام أحمد في مسنده 5/140، ورواه أبو داوود في سننه، كتاب كتاب الأطعمة، باب: المضطر إلى الميتة 3/358 (6/38) وفيه سماك بن حرب، قال ابن حجر في تقريب التهذيب: صدوق، 1/230، ومسنده صحيح، ورجاله ثقات.

(2)سورة الإسراء: آية (100)

(3)لسان العرب 12/235.

(4)ينظر: معظم مقاييس اللغة 5/454-455، لسان العرب 11/236.

(5)سورة الأنعام، آية (35)

(6)تفسير غريب القرآن ص53

(7)معجم مقاييس اللغة 5/4540455، لسان العرب 12/36م،37م.

(8)المبدع 8/185، كشاف القناع 5/460، الروض الندي 1/432. وعندي أن الأولى تقييد التعريف (بالمعروف) فيكون على ما يلي : (كفاية من يمونه بالمعروف من الطعام والكسوة والسكنى وتوابعها".

(9)سورة البقرة: آية (233)

(10)رواه الإمام البخاري في صحيحه، ينظر: البخاري في صحيحه، ينظر: البخاري مع الفتح، كتاب النفقات، باب: إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف 9/507 (5364)، ورواه الإمام مسلم، ينظر: صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الأقفية، باب قضية هند رضي الله عنها12/ن.

(11)زاد المعادة/ 492.

(12)مجموع الفتاوى 34/85، 86

(13)ينظر: الاخيار لتعليل المختار 4/4، جواهر الأكليل 1/402، الحادي الكبير 15/22، المغني م/159.

(14)ينظر : البحر الرائق 4/211، مواهب الجليل 3/232، روضة الطالبين 9/52، المغني 8/160، نيل المآدب 1/113.

(15)نظر: بدائع الصنائع 4/23، الشرح الكبير للدردير 2/512، 513 2، 513، الاختيار لتعليل المختار 4/8.

(16)ينظر : بدائع الصنائع 4/23، حاشية ابن عابدين 3/600.

(17)ينظر : الشح الكبير للدردير 2/512، 513، حاشية الدسوقي 2/513.

(18)رواه أبو داوود، كتاب الأقفية، باب : في الصلح 3/304 (3594) والدار قطني فس سنن (69)، والحاكم في المستدرك 2/49، والبيهقي في السنن الكبى 6/79، وابن عدي في الكامل 6/68، وقال: "كثير بن زيد الأسلمي لم أر بحديثه بأساً، وأرجوا أنه لا بأس به". وقال الألباني: حديث صحيح (إرواء الغليل 5/142).

(19)ينظر : بدائع الصنائع 4/24 البحر الرائق 4/190/191، المدونة الكبرى 2/268، بداية المجتهد 2/86، ففي المحتاج 3/434، نهاية المحتاج 7/197، المغني 8/160 / المحرر 2/114.

(20)ينظر : فتح القدير 4/387، الفواكه الدواني 2/104، مغني المحتاج 3/431، المغني 8/159، الفروع 5/579.

(21)منح الجليل للشيخ عليش 2/425، الفقه على المذاهب الأربعة 4/558.

(22)رواه الإمام مسلم في صحيحه، ينظر صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الحجج، باب : حجةالنبي – صلى الله عليه وسلم 8/ 149.

(23)الروضة الندية 2/79.

(24)سورة البقرة : آية (237)

(25)سورة الطلاق: الآية (6)

(26)المبدع 8/186

(27)سورة الطلاق: الآية (7)

(28)سورة الأحزاب: الآية (50)

(29)الحاوي الكبير 15/4

(30)سورة البقرة، الآية 233.

(31)الحاوي الكبير 15/4

(32)رواه الإمام احمد في مسنده، انظر: الفتح الرباني، كتاب النكاح، أبواب حقوق الزوجين 16/231 (258)، وكتاب النفقـات، باب: وجوب نفقة الزوجة باعتبار حال الزوج وأنها مقدمة على الأقارب وثواب الزوج عليها 17/57 (26)، ورواه أبو داوود في سننه، كتاب النكاح، باب: في حق المرأة على زوجها 2/244 0 245 (42/2)، ورواه ابن ماجه في سننه، كتاب النكاح، باب: حق المرأة على الزوج 1/341 (1855) ورواه ابن حبان، انظر، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، باب معاشرة الزوجين 6/188 (4163)، والحاكم في المستدرك 2/187، 188، والبيهقي في السنن الكبرى 7/295، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وقال الألباني: حديث صحيح (إرواء الغليل 7/98).

(33)ينظر : الإشراف على مذاهب أهل العلم 1/119، بدائع الصنائع 4/16، الهداية 2/39، بداية المجتهد 2/86، الفواكه الدواني 2،104، نهاية المحتاج 7/187، المغني 8/156، العدة شرح العمدة ص398، المملى 10/88.

(34)رواه الإمام أحمد في المستند 6/60، 183، 237، 269، ورواه أبو داود في البيوع، باب: فيمن اشترى عبداً فاستعمله ثم وجد به عيباً 3/284 (3508)، والإمام الترمذي في سننه، كتاب البيوع، باب: ما جاء فيمن يشتري العبد ويستغله ثم يجد به عيباً 4/422 (1303) والنسائي في البيوع، باب: الخراج بالضمان 7/254، 255، وابن ماجه في التجارات، باب: الخراج بالضمان 2/23 (2261)، والحاكم في المستدرك 2/15 والدارقطني في سننه 3/53 (213)، والشافعي في مستنده 9/438، والطيالي في مسنده (14641) وقال الترمذي: "حديث صحيح غريب" وقال الألباني رحمه الله: حديث حسن (إرواء الغليل 5/158).

(35)ينظر: بدائع الصنائع 4/16، الحاوي الكبير 15/7.

(36)المبسوط 5/113 مثنى المحتاج 3/ 438، المغني 8/960.

(37)بدائع الصنائع 4/20.

(38)مغنى المحتاج 3/438.

(39)المغنى 8/

(40)المحلى 7/88

[41] المختارات الجلية من المسائل الفقهية، تأليف العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص 137



رد مع اقتباس
  #27  
قديم 03-04-2005, 03:53 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

هل يميز الإسلام ضد المرأة؟
صالح بن عبد الرحمن الحصين






يقصد بالتميز هنا معنى الكلمة الإنجليزية discrimination ويفسرها قاموس اكسفورد الوجيز بأنَّها تعني (unfavouable treatment based on prejudice, esp. regarding race, colour or ) أي: معاملة أدنى على أساس التحيز والإجحاف، وبخاصة فيما يتعلق بالعرق أو اللون أو الجنس. كما يفسر كلمة يميز أو يميز ضد discriminate بأنها تعني make adistinction esp. unjustly and on the basis of race, colour or أي التفريق في المعاملة بغير عدل على أساس العرق أو اللون أو الجنس.

ولا يعني العنوان بالضرورة المضمون الذي حددته اتفاقية الأمم المتحدة أو أي نصوص أخرى، وإنَّما يتعلق بهذا المضمون بطريق غير مباشر، أي من حيث التفريق بين التصور الإسلامي وتصور الثقافات الأخرى، فيما يعتبر التمييز ضد المرأة وما لا يعتبر كذلك.

ليس غير المسلمين هم فقط من يجيب على هذا السؤال بنعم، بل إنَّ من علماء المسلمين من يرى أنَّ الإسلام يعتبر الرجل من حيث هو رجل أفضل وأكرم وأرقى منزلة من المرأة من حيث هي امرأة، وأنّ جنس النساء أدنى من جنس الرجال، ويؤسسون في التمييز في الأحكام الشرعية أو بعضها بين الرجال والنساء على هذا التمييز في الفضل والتكريم وشرف الرتبة.

يقول عالم جليل معاصر (توفى رحمه الله) في تفسير الآية الكريمة: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}: أشار (أي القرآن) إلى أنَّ الرجل أفضل من المرأة؛ وذلك لأنَّ الذكورة شرف وكمال، والأنوثة نقص خلقي طبيعي، والخلق كأنه مجمع على ذلك؛ لأنَّ الأنثى يجعل لها جميع الناس الزينة والحلي، وذلك إنما لجبر النقص الخلقي الطبيعي الذي هو الأنوثة. بخلاف الذكر، فجمال الذكورة يكفيه عن الحلي وغيره. اهـ.

وأصل هذه الفكرة نجد التعبير عنه (وإن لم يكن مثل هذا التعبير الغالي) لدى غيره من المفسرين عند تفسيرهم بعض النصوص التي تحمل ألفاظها تفضيل جنس الرجال على جنس النساء.

فمثلاً في تفسير الآية الكريمة: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}.

جاء في تفسير الزمخشري: (درجة) زيادة في الحق وفضيلة.

وفي تفسير الرازي: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة} الرجل أزيد في الفضيلة من النساء في أمور العقل والدية والمواريث، وصلاحية الإمامة والقضاء، والشهادة، وأن يتزوج عليها، وأن يتسرى عليها، والتطليق، وإذا ثبت فضل الرجل على المرأة، ظهر أنَّ المرأة كالأسير العاجز في يد الرجل.

وعند تفسير الآية الكريمة: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ}.

قال الزمخشري: والضمير في (بعضهم) للرجال والنساء جميعاً، وإنما كانوا مسيطرين عليها بسبب تفضيل الله بعضهم وهم الرجال على بعض وهم النساء.

وقال الرازي: لما أثبت للرجال سلطة على النساء ونفاذ أمرهم عليهن بين أنَّ ذلك معلل بأمرين: بما فضل الله بعضهم على بعض، يعود التفضيل إلى صفات خلقية منها القدرة والعقل والحزم، وأما تفضيل عائد للأحكام الشرعية فإنَّ فيهم الإمامة الكبرى وكونهم مأمورين بالجهاد وزيادة النصيب في الميراث وتحمل الدية وبما أنفقوا من أموالهم، وهو السبب الثاني في التفضيل. والمراد هنا بالإنفاق ما يقدمه الرجال من مهور وما يبذلونه من نفقة.

وقال أبو السعود: {بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي قوامون عليهم بسبب تفضيل الله تعالى إياهم عليهن، أو متلبسين بتفضيله دون تصريح بما فيه التفضيل من صفات ككمال العقل وحسن التدبير والرزانة والقوة. ولذلك خصوا بالنبوة والجهاد.

ويقول الرازي عند تفسير قوله تعالى: {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ}. المراد من قوله: {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ}لتنبيه إلى نقصانها (أي المرأة) وهو أنَّ الذي يربي في الحلية يكون ناقص الذات؛ لأنه لولا نقصان ذاتها لما احتاجت إلى تزيين نفسها بالحلية.

ويقول الزمخشري: فيه أنَّه جعل النشأة في الزينة والنعومة من المعايب والمذام، وأنه من صفات ربَّات الحجال.

(قد غفل الرازي والزمخشري ـ رحمهما الله ـ عن أنَّ المقربين في الجنة يحلون بأساور من ذهب ولؤلؤ، وأنَّ الحلية تبلغ من المؤمن مبلغ الوضوء).

ويقول الرازي: بين نقصها (المرأة) من وجه آخر، وهو قوله تعالى: {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} يعني: أنها إذا احتاجت المخاصمة والمنازعة عجزت وكانت غير مبين، وذلك لضعف لسانها وقلة عقلها وبلادة طبعها. فهذه الوجوه دالة على كمال نقصها.

ويقول الزمخشري: {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} وهو إذا احتاج مجاثاة الخصوم ومجاراة الرجال كان غير مبين، ليس عنده بيان ولا يأتي ببرهان يحتج به على من يخاصمه؛ وذلك لضعف عقول النساء ونقصهن عن فطرة الرجال، ويقال: قلما تكلمت المرأة فأرادت أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها.

(الرازي والزمخشري ـ رحمهما الله ـ هنا أيضاً غفلا عن قوله تعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ}، {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ}، والمرأة إنسان. كما غفلا عن قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} والمرأة مخلوق).

لئلا يتوهم القارئ أنَّ مثل هذه الأحكام هي الطابع العام لعلماء التفسير عند تفسيرهم كل النصوص القرآنية، أسارع بالاعتراف بأنني كنت انتقائياً في تلقط هذه الآراء التي تخفض من مرتبة المرأة، وقد أردت بإيرادها التنبيه إلى أنه حتى العلماء الكبار، مثل الرازي والزمخشري، قد لا يستطيعون التخلص من تأثير البيئة والثقافات السائدة.

كما أردت إيضاح أنَّ العادات والتقاليد والموروثات الثقافية لدى الشعوب التي اعتنقت الإسلام، وما بقي لدى العرب أيضاً من تقاليد، كل ذلك صار له تأثير على تفكير المسلمين في مختلف العصور، وفي مختلف الأمكنة. بحيث بَعُدَ هذا التفكير بدرجات متفاوتة عن التصورات الإسلامية المتفقة مع القرآن والسنة الصحيحة.

ولا شك أنَّ صراحة النصوص ووضوحها فيما يتعلق بالتصور عن المرأة وعلاقتها بالرجل كانت في أغلب الأحيان تتغلب على التأثير الضاغط للتقاليد والعادات والموروثات الثقافية الغربية عن الإسلام.

ولكن ممَّا لا شك فيه أيضاً أنه بقي لهذا التأثير الضاغط عمله في عقل المسلم.

كما أردت بالإشارة إلى هذه النصوص في كتابات المفسرين إيضاح مدى قابلية التراث الإسلامي المكتوب في هذا الموضوع للاستغلال من قبل الباحث المتحيز، وكذلك قابليتها لخداع القارئ المتعجل الذي لا يعنى بالمقارنة بين الآراء المختلفة والمقارنة بين النصوص التي أشير إليها فيما سبق، ونصوص الوحي الأخرى صريحة الدلالة التي تعارض مثل تلك المعاني.

مثل الآراء السابقة التي أشرنا إليها في كلام المفسرين يوجد في كلام غيرهم من العلماء، كما شاعت تصورات تخفض من منزلة المرأة في البيئات والثقافات المختلفة في العالم الإسلامي، وقد ساعد على شيوعها ركام من الأحاديث الموضوعة وغير الصحيحة وردت في كتب الحديث أو غيرها من الكتب مثل: "طاعة المرأة ندامة"، "شاوروهن وخالفوهن"، "لولا النساء لعبد الله حقاً"، "لولا النساء لدخل الرجال الجنة"، "لا تعلموهن الكتابة ولا تسكنوهن الغرف"، فكل هذه أحاديث موضوعة.

ومن الأحاديث غير الصحيحة:

ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابنته فاطمة: "أي شيء خير للمرأة؟ قالت: أن لا يراها رجل ولا ترى رجلاً، فضمَّها إليه وقال: ذرية بعضها من بعض".

"إنما النساء لعب فمن اتخذ لعبة فليحسنها أو ليستحسنها" ،"هلكت الرجال حين أطاعت النساء"، "استعينوا على النساء بالعري"، "أعروا النساء يلزمن الحجال"، "واروا عوراتهن بالبيوت".

وهذه الأحاديث كما نرى بالإضافة إلى كونها أو غير صحيحة فهي تخالف الأحاديث الأخرى الصحيحة. وهذه الأحاديث في الغالب مثل بعض التفاسير لنصوص القرآن، كانت نتيجة بيئات ثقافية تنظر إلى المرأة نظرة دونية، ولكن هذه الأحاديث ـ في الغالب أيضاً ـ ساهمت في تركيز التقاليد والتصورات التي تجسد النظرة الدونية للمرأة.

ولكن ما موقع الحقيقة في الآراء السابقة، هل حقاً إنَّ الإسلام يميز ضد المرأة، بمعنى أنه يقدر أن الرجل من حيث هو رجل أفضل وأكرم وأشرف منزلة من المرأة من حيث هي امرأة؟

الواقع أنه عند تأمل النصوص الأخرى من القرآن والسنة وعندما نحاكم إليها النصوص والآراء السابقة فإنَّ الإجابة على السؤال الوارد في عنوان المقال تكون بالنفي. إيضاح ذلك:

أولاً: إنَّ المعيار في التمييز بين الناس بنص القرآن (التقوى) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}. وفي الحديث الشريف: "لا فضل لعربي على عجمي ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى"، وفي حديث آخر: "إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" فالأكرم والأشرف منزلة من الرجال والنساء الأتقى.

ودلَّت النصوص على المساواة بين الجنسين، ولعلَّ من أبلغها وأدقها في التعبير عن المساواة عبارة {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} في الآية الكريمة: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ}.

قال الزمخشري في تفسير {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ}: أي يجمع ذكوركم وإناثكم أصل واحد فكل واحد منكم من الآخر، أي من أصله، أي كأنه منه لفرط اتصالكم واتحادكم.

وقال الرازي: فيه وجوه أحسنها أن يقال "من" بمعنى الكاف أي بعضكم كبعض.

وقال أبو السعود: قوله {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} بيان لسبب انتظام النساء في سلك الرجال في الوعد، فإن كون كلّ منهما من الآخر لتشعبهما من أصل واحد أو لفرط الاتصال بينهما أو لاتفاقهما في الدين والعمل مما يستدعي الشركة والاتحاد في ذلك.

وقال سيد قطب في "في ظلال القرآن": العمل الذي يعتبره الإسلام الثمرة الواقعية (للعبادة) والذي يقبل من الجميع ذكراناً وإناثاً بلا تفرقة بين الجنسين فكلهم سواء في الإنسانية بعضهم من بعض وكلهم سواء في الميزان.

وقد تكرر في القرآن النص على خلق الله ذكورهم وإناثهم من نفس واحدة، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء}. كما تكرر النص على المساواة في الجزاء، مثل قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}. وقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ..} الآية.

ويؤكد فكرة المساواة بين الجنسين النص على وحدة طبيعة العلاقة بينهما كما في قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ}. وفي الحديث الشريف: "الناس سواسية كأسنان المشط"، وفيه "إنما النساء شقائق الرجال".

ومن جهة أخرى نعى القرآن على أهل الجاهلية تمييزهم بين الجنسين كما في قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}. وربما ألمح لهذا المعنى قوله تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ} حيث قدم الإناث في الذكر. فكأنه يشعر بالتنبيه إلى بطلان مذهب الجاهلية في تحقيرها للإناث وكراهيتها لولادتهن.

وقد وردت نصوص ربما يفهم منها تفضيل جنس النساء في الرعاية، مثل ما جاء في الحديث الشريف: "من أحقّ الناس بصحابتي قال أمك قال ثمَّ من قال أمك قال ثمَّ من قال أمك قال ثمَّ من قال أبوك" ومن الأحاديث الواردة في فضل رعاية البنات، ولكن الداعي للتوصية بالأم والبنات هو حاجتهن أكثر للرعاية، وليس المقصود تفضيل جنس النساء على جنس الرجال.

وتنبغي الإشارة هنا إلى أنَّ المقصود بالمساواة بين الجنسين في المسؤوليات والوظائف الاجتماعية مساواة التكامل وليس مساواة التماثل، وهذا ما يتفق مع الطبيعة والفطرة، إذ إن الجنسين غير متماثلين في الصفات والوظائف الفسيولوجية والبيولوجية والسايكولوجية، فالمثل من المعقول أن لا يكونا متماثلين في الوظائف السيوسيولوجية، والعدل هو المماثلة بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين.

إنَّ فكرة مساواة التماثل التي وجدت في الجاهلية المعاصرة بالإضافة إلى أنها شذوذ عن الطبيعة والفطرة فهي فكرة ظالمة ضحية الظلم الأولى فيها المرأة.

1ـ الاستدلال بالنص الكريم (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى) استدلال في غير محله، فمع أنَّ عدم التماثل بين الجنسين على نحو ما أوضح سابقاً، حقيقة طبيعية، إلا أنَّ النص لا يدل على أنَّ جنس المذكور أسمى أو أرقى أو أفضل من جنس الإناث.

فشيخ المفسرين الطبري رحمه الله في رأيه نفسه، وفيما نقله عن المفسرين الآخرين، يرى أنَّ هذه العبارة من كلام امرأة عمران وليست من كلام الله، ومقصودها أنها بعد أن نذرت مولودها محرراً للمعبد وفي تصورها أنه سيكون ذكراً فوجئت بأنَّ مولودها أنثى، فعبرت عن أنَّ الذكر في التحرير للمعبد وخدمته ليس كالأنثى. فالعبارة لفظ امرأة عمران، والمقصود منها نفي التماثل بين الذكر والأنثى في التأهيل لخدمة المعبد ولا صلة لها بالتمييز ضد المرأة.

2ـ النص الكريم {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} جاء هذا النص مباشرة بعد قوله تعالى: {وَإِذَابُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌٌ}، وهذه الآية مثل قوله تعالى في موضع آخر: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ}. اختلف المفسرون في المقصود في النصّ الكريم بمن ينشؤ في الحلية، فرأى بعضهم أنَّ المقصود به الأنثى، وأنَّه تقرير من الله معناه عيب الموصوف بصفتي ذم وهما التنشئة في الحلية، وعدم الإبانة في الكلام والجدل، ورأوا تبعاً لذلك أنَّ النص يعني ذم الأنثى وعيبها وتقرير أنَّها دون الرجل، وفي منزلة أدنى من منزلته.

ويردّ على هذا التفسير ما يأتي:

أ ـ إنَّ هذا التفسير يعارض في الظاهر ما ذكر الله في موضعين من القرآن من أنه خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين، والمرأة إنسان مخلوق فهي مشمولة بصفة الإبانة في الخصومة.

ب ـ إذا لم تكن الآية تقريراً من الله بمضمونها فلا يظهر من الواقع ما يدلّ على أنَّ المرأة عندما يتاح لها أن تناول مستوى من التربية والتثقيف مثل ما يناله الرجل تكون أقلّ منه في القدرة اللغوية. فالقدرة اللغوية في الغالب ـ وباستثناء حالات الإعاقة ـ تكتسب بالتربية والتعليم.

ج ـ أنَّ وصف المقربين من عباد الله بأنهم يحلون من أساور من ذهب ولؤلؤاً في الجنة، ينفي أن يكون التحلي في ذاته صفة ذم، ولا يعترض على هذا بأنَّ الخمر ـ وهي مذمومة في الدنيا ـ موجودة في جزاء الصالحين في الجنة؛ لأنَّ ما هو موجود منها في الجنة نفى عنه ما كانت به مذمومة في الدنيا، وهو التصديع والنزف.

د ـ إنَّ الجاهليين لم ينسبوا إلى الله الإناث من البشر، وإنَّما سموا الملائكة إناثاً ونسبوهم إلى الله.

ربما لأجل هذه الإيرادات وغيرها فسَّر آخرون المراد بمن ينشؤ في الحلية بالأصنام التي تصنع من الذهب أو تحلى بالذهب والجواهر، ولكن هذا تفسيربعيد جداً، ولا يساعد عليه السياق؛ لأنه لم يسبق النص الكريم كلام عن الأصنام، ومع بُعد هذا التفسير وغموضه فالغالب أنَّ الذي ألجأ المفسرين له هو أنه امتنع عليهم التسليم بالتفسير الأول للإيرادات التي ذكرناها.

وكلا التفسيرين ألجأ إليها افتراض أنَّ النص الكريم تقرير من الله وليس حكاية عن غيره.

ولكن السياق لا يمنع من افتراض آخر يبدو أقرب، وهو أن يكون النص الكريم حكاية عن لسان الحال أو لسان المقال لموصوف قبله، وهو من يظل وجهه مسوداً وهو كظيم إذا بشر بولادة أنثى. فكأنه يقول: {وَإِذَابُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌٌ} يقول بلسان الحال أو المقال: {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ}. وبهذا يتفق هذا النص مع النص المشابه في سورة النحل. وهذا النص الأخير صريح في التشنيع على من يظل وجهه مسوداً وهو كظيم إذا ولدت زوجته أنثى وليس ذكراً، والإعلان عن سفاهة عقله وسخف مذهبه.

وإذا أخذ بهذا التفسير فيكون النص في تقدير "يقول" مشابهاً للنص الكريم الوارد في قوله تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً} فقوله: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً} حكاية عن لسان الحال أو لسان المقال لمن يتفكرون في خلق السموات والأرض، وكذلك مشابه لقوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

قال الإمام الطبري في تفسيرها: يعني أنهم يقولون بما ينالهم من ذلك الكرب والجهد هذا عذاب أليم.. وترك من الكلام (يقولون) استغناء بمعرفة السامعين معناه عن ذكره. اهـ.

في القرآن أشبه كثيرة لهذا السياق لا تكاد تحصى، مثل قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}. قال الطبري: وتأويل الكلام: والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله يقولون لا نفرِّق بين أحد من رسله، وترك ذكر (يقولون) لدلالة الكلام عليه، كما ترك ذكره في قوله تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم..} بمعنى: يقولون سلام عليكم.

3ـ أنَّ القول بأنَّ الذكر والأنثى عندما يجتمعان سوياً في مستوى واحد من القرابة ـ من ناحية درجة القرابة وقوتها (شقيق أو لأب أو لام) ـ يكون دائماً للأنثى نصف نصيب الذكر من الميراث، فكرة وهمية غير صحيحة، وإن شاعت على الألسن. فالقرآن تضمَّن سبع حالات في الحكم بالميراث عندما يجتمع الذكر والأنثى في مستوى واحد من القرابة.

ثلاث منها يكون نصيب الأنثى نصف نصيب الذكر.

وثلاث منها يكون نصيب الأنثى مثل نصيب الذكر.

وحالة سابعة يختلف المفسرون في تفسيرها وفي إحدى صورتيها يرى بعضهم أنَّ للذكر نصف نصيب الأنثى.

فإذاً الحكم بتصنيف نصيب الأنثى غير مطرود على خلاف فهم كثير من الناس، ووجود حالة واحدة ينخرم فيها الاطراد يدل على أنَّ العامل المؤثر ليس محض الذكورة والأنوثة، وإنما الظروف المختلفة التي يراعيها الشارع في الاختلاف في تحديد أنصبة الوارثين.

أما عندما لا يكون الذكر والأنثى في مستوى واحد من القرابة للموروث سواء من ناحية درجة القرابة أو قوتها، فتوجد حالات كثيرة يكون فيها نصيب الأنثى أكثر من نصيب الذكر، بل أحياناً لا يكون للذكر نصيب مع وجود الأنثى.

4ـ فكرة أنَّ وزن شهادة المرأة نصف وزن شهادة الرجل على الدوام أيضاً فكرة وهمية، ذلك أنَّ النصّ الكريم: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء} وارد على شهادة التحمل وليس على شهادة الأداء، ووارد فقط على الشهادة في توثيق الدين، وقاس عليها العلماء توثيق المعاملات المالية الأخرى. والحديث الشريف: "أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل" يشير إلى هذا النص كما في فتح الباري (ج1، ص484).

أما شهادة الأداء فالغالب أنَّ الأحكام الفقهية التي نظمتها مصدرها المباشر الاجتهاد وليس النص، وهي تخضع لاعتبارات مختلفة، ومن ذلك مثلاً أن هناك حالات تقبل فيها شهادة امرأة واحدة، ولا تقبل فيها شهادة الرجال.

وتحسن الإشارة هنا إلى أنَّ شهادة المرأة الواحدة تقبل في نقل النص الشرعي، بدون تفريق بينها وبين الرجل. بل الملفت للنظر أنَّ نسبة من ضعفه علماء الجرح والتعديل أو كذبوه من النساء في رواية الحديث أقلّ بكثير من نسبة الرجال، بل إنَّ الإمام الذهبي (هو حجة في الرواة) يقول: لا أعلم من النساء من تركوه ـ أي علماء الحديث ـ.

5ـ فكرة أن دية المرأة نصف دية الرجل، هذه الفكرة أيضاً لا علاقة لها بالتمييز ضد المرأة، إذ إن المنتفع بالدية ليس الميت أو الميتة، بل الوارث عنه أو عنها، وإذا لحظ معنى التعويض عن الضرر في تشريع الدية، فإنَّ العدل يوجب التمييز بين الأضرار، بحسب أثرها على المضرور، وهذا ما تذهب إليه كلّ الشرائع.

ولا شك أنَّ الضرر المادي الذي يلحق بالورثة بموت مورثهم إذا كان رجلاً ـ في الغالب ـ أكبر منه إذا كان الميت امرأة؛ لأنَّ الغالب أنَّ الموروث يكون هو العائل للورثة. والأحكام الشرعية والقانونية تبنى دائماً على الغالب. يوضح هذا الأمر أنَّ الدية عندما يكون المنتفع المصاب نفسه أي عندما تكون جزئية كدية الأعضاء فإنَّ الأمر يختلف حينئذٍ، وتستوي دية المرأة والرجل إلى حدود يختلف اجتهاد الفقهاء في تعيينها.

6ـ النص الكريم {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} جاء في سياق النص {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} فإما أن يكون هذا الحكم وارداً على حالة الرجعة أن يكون وارداً على نطاق أوسع وهو علاقة الزوج بزوجته، ولكنه بدلالة السياق ليس وارداً على علاقة الرجل بالمرأة من حيث هو رجل وهي امرأة، ويبدو أنَّ القول بأنَّ الحكم وارد على العلاقة بين الزوجين هو الأرجح عند المفسرين.

ثمَّ يختلف المفسرون في المقصود بقوله سبحانه: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} فبالإضافة إلى التفسيرات التي أشير إليها فيما سبق، يذكر شيخ المفسرين الطبري أنَّ بعض المفسرين يرى أنَّ المراد بها الإمرة والطاعة، وأنَّ آخرين يرون أنَّ المراد بها أفضاله عليها (أي الرجل)، وأداء حقها إليها وصفحه عن الواجب له عليها أو عن بعضه.

قال الطبري: وأولى هذه الأقول بالتأويل ما قاله ابن عباس وهو أنَّ الدرجة التي ذكرها الله جلّ ثناؤه في هذا الموضع: الصفح من الرجل لامرأته عن بعض الواجب له عليها، واغضاؤه لها عنه، وأداء كل الواجب لها عليه، وذلك أنَّ الله جلَّ ثناؤه قال: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} عقب قوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فأخبر أنَّ على الرجل من ترك ضرارها في مراجعته إياها في أقرائها الثلاثة وفي غير ذلك من أمورها وحقوقها مثل الذي عليها من ترك ضراره في كتمانها إياه ما خلق الله في أرحامهن، وغير ذلك من حقوقه، ثم ندب الرجال إلى الأخذ عليهن بالفضل فقال: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} بتفضلهم عليهن وصفحهم لهن عن بعض الواجب لهم عليهن، وهذا هو المعنى الذي قصده ابن عباس بقوله: ما أحب أن أستنظف جميع حقي عليها؛ لأنَّ الله تبارك وتعالى يقول: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}. ومعنى الدرجة: الرتبة والمنزلة، وهذا القول من الله جلَّ ثناؤه وإن كان ظاهره خبرا فمعناه ندب الرجال إلى الأخذ على النساء بالفضل ليكون لهم عليهن فضل درجة. اهـ.

ويقول سيد قطب في تفسير {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}: أحسب أنها مقيدة في هذا السياق بحق الرجال في ردهن إلى عصمتهم في فترة العدة.. وهي درجة مقيدة في هذا الموضع وليست مطلقة الدلالة كما يفهمها الكثيرون ويستشهدون بها في غير موضعها اهـ.

على أنه إن قيل أنَّ النص الكريم: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِوَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} ليس خاصاً بحالة الفرد في فترة العدة، بل هو عام يحكم العلاقة بين الزوجين، وإذا تجاوزنا المعنى الذي اختاره الطبري ـ رحمه الله ـ فالظاهر أنَّ المقصود بالدرجة "القوامة" التي تضمَّنتها الآية الكريمة: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} وعلى كل الأحوال فليس في الآية يما يتضمَّن التمييز ضد المرأة.

7ـ النص الكريم {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} لقد فسرت لفظة {قَوَّامُونَ} بما يرجع للإمرة وقيادة المجتمع الصغير (الأسرة)، وفسرت بتحمل مسؤولية الإنفاق والرعاية. ولعلّ الأرجح أنَّها لا تعني الأمرين معاً.

ويلاحظ أنَّ هناك فرقاً في التعبير وبالتالي في المعنى بين أن يقال {بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} وأن يقال: بما فضل الله الرجال على النساء. فقوله {بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} يحتمل أن يكون المراد منه بما فضل الله بعض الرجال على بعض النساء، وهو الغالب في الصفات المؤهلة للإمرة في الأسرة وتحمل مسؤولية الإنفاق عليها والرعاية لها. كما يحتمل اللفظ أن يكون المراد: بما تميز به كل من الجنسين من ميزات توجب أن تكون القوامة للرجل، بمعنى أنَّ ما فضل الله به الرجال من صفات وما فضل الله به النساء من صفات جعل الرجل أكثر أهلية لقيادة الأسرة وجعل المرأة أكثر أهلية لإدارتها "الرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها".

ولعلّ الأولى تفسير {بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} في هذه الآية بالمعنى المراد بعبارة (بعضكم على بعض) في الآية قبلها {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ} فهنا الواضح أنَّ المعنى: لا يتمنى الرجال ما فضل الله به النساء ولا النساء ما فضل الله به الرجال، فالآية لا توجب القول بتمييز الرجل من حيث هو رجل على المرأة من حيث هي امرأة، كما لا توجب القول بأنَّ هذا التمييز هو سبب اختصاص الرجل بتلك المسؤولية.

وعلى كل فإذا فسرنا القوامة بالإمرة فإنَّ هذا بالطبع يوجب الطاعة على المأمور. ولكن الطاعة هنا ـ كما هي الطاعة في حالة كل أمير مجتمع ـ صغير أو كبير ـ ليس طاعة مطلقة، وإنما هي الطاعة بالمعروف، كما جاء في حديث الحكم بن عمرو الغفاري "إنما الطاعة بالمعروف" وهذا الحديث صحيح، بل هو أصحّ حديث في الباب، وقال تعالى في بيعة النساء للنبي صلى الله عليه وسلم {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قال المفسرون: علم الله أن نبيه صلى الله عليه وسلم لن يأمر بغير المعروف ولكن أراد أن يعلم الأمراء أنَّ طاعتهم غير مطلقة، والواضح أنَّ الطاعة المطلقة ـ في حكم الإسلام ـ من خصائص الإلهية.

وقد روت الأحاديث الصحيحة بترغيب المرأة في طاعة زوجها وتحذيرها من معصيته، وكلها مقيدة كما أشير بأن تكون الطاعة بالمعروف.

والإمرة والطاعة لا تعني الاستبداد والخضوع، سواء في المجتمع الكبير أو الصغير، بل إنَّ الشورى يجب أن تطبق في كل مجتمع بما في ذلك مجتمع الأسرة {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، بل إنَّ القرآن نصَّ على أنه حتى بعد انفصام علاقة الزوجية يكون فطام الرضيع برضا وتشاور من الوالدين {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}.

أ ـ أنه ينظم حالة ومرحلة في علاقة الزوجية تنشأ قبل مرحلة الشقاق بين الزوجين التي نظمت بالآية بعدها {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا} فالنص الكريم {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ..} الآية، ينظم مرحلة في الحالة الزوجية، تكون المرأة فيها راغبة في البقاء زوجة ولم تبلغ المرحلة من الشقاق التي ترغب المرأة فيها في فراق زوجها.

ب ـ أنَّ معنى النشوز في اللغة: الارتفاع والعلو، ويلاحظ أنَّ القرآن يجعل إرادة العلو في الأرض والفساد وسفك الدماء أسوأ الصفات في علاقة الإنسان بالإنسان، وكما جعل القرآن النشوز في جانب الزوجة حالة مرضية تستوجب العلاج بنص الآية الكريمة {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} جعل بالمثل النشوز في جانب الزوج حالة مرضية استوجبت العلاج بنص الآية الأخرى {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} الآية. ففي حق المرأة جعل العلاج بالتأديب الذي توجبه طبيعة العلاقة بين الآمر والمأمور، وهو يتدرج في العظة، والهجر، والضرب غير المبرح.

وفي حق الرجل جعل العلاج بالخلع.

وهذا العلاج التأديبي هو أكثر ما شغب به أهل الأهواء في دعواهم أنَّ الإسلام يميز discriminate ضد المرأة، وإنما يشغب بهذا من لا يعترف بأنَّ الله الحكيم الخبير أعلم بما يصلح عباده، ولا يستقرئ طبائع النفس البشرية ويستبطن سايولوجية الإنسان.

وعلى كل فهذا الإجراء ـ كما هو واضح ـ إنما يطبق في حالة نشوز المرأة واستعلائها على زوجها وبالتالي انتهاكها لمتطلبات القيادة في الأسرة. ولا صلة لهذا الأمر بالعنف الجنسي، أو التجاوز abuse في السلطة. وبالتالي فلا صلة له بالتمييز ضد المرأة أو بالنظرة الدونية لها. (يراجع في هذا المعنى تفسير في ظلال القرآن لسيد قطب ـ رحمه الله ـ عند تفسير الآية).

9ـ الزواج على المرأة، والتطليق: من كلام الرازي في تفسير {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}: الرجل أزيد في الفضيلة من النساء بأمور.. أن يتزوج عليها. وأن يتسرى عليها والتطليق. ربما لا يقصد الرازي إنَّ إباحة زواج الرجل على المرأة وحقه في تطليق زوجته شرعاً بسبب أنَّ جنس الرجال أرقى وأسمى من جنس النساء، وإنما يرى أنَّ ذلك مظهر من مظاهر تفضيل الرجل على المرأة.

ولكن قضية تعدد الزوجات، وبدرجة أقل قضية الطلاق، كانت من أكثر القضايا التي استخدمها المحاربون للإسلام لنقده والشغب عليه.

وفيما يتعلق بالغربيين من هؤلاء فإنَّ الأمر يجد تفسيره في الموروث الثقافي لديهم culture إذ إن جزءاً من تكوين هذا الموروث مستمد من المسيحية التي ترى أنَّ الزواج في ذاته ليس مرغوباً، إذ إنه ينزل بدرجة الإنسان روحياً، وأنَّ الطلاق محظور في الشريعة. أمَّا غيرهم ممَّن ليس لهم هذا الموروث الثقافي فإنَّ الأمر يجد تفسيره في التقليد الببغائي، والنظر إلى الغرب بأنه المثال الذي يجب أن يحتذى في التقاليد والقيم وفلسفة الحياة.

إنَّ النظرة الغربية لتعدد الزوجات أو الطلاق ليست مبنية على التفكير العقلاني، والموضوعي، أو التجارب العملية التي تهدي إلى ما يصلح البشر، وتسعد به المجتمعات، وإنما مبنية على مجرَّد الموروث الثقافي.

ولو تأملنا التنظيم الإسلامي لتعدد الزوجات أو الطلاق ونظرنا إليه بموضوعية وتخل عن الهوى الجامح والعاطفة الطائشة؛ لظهر لنا أنَّ هذا التنظيم يحقق مصلحة المرأة أولاً ثمَّ مصلحة الرجل، وشرع لإيجاد مجتمع سليم، وأنه لا صلة له إطلاقاً بالتمييز ضد المرأة.

توضيح ذلك أنه بقراءة الآية الوحيدة في القرآن المصرَّحة بإباحة تعدد الزوجات، في ضوء الواقع العملي والتاريخي، يلاحظ أنَّ نصّ الآية الكريمة يقضي بأنَّ تعدد الزوجات عامل محقق للفاعلية في ضمان عدل المجتمع تجاه اليتامى، وفي هذا إشارة غير مباشرة إلى الدور الذي يؤديه هذا التنظيم في مصلحة المرأة والمجتمع.

إنَّ المجتمع لا يمكن أن يعدل في اليتيم بإيداعه دار الأيتام أو بتوفير غذائه وكسائه، إذ إن لليتيم وراء ذلك حاجات عاطفية ونفسية لا تحقق إلا بتنشئته في جو الأسرة، وهذا لا يتحقق إلا إذا تزوجت أمه فصار له أب بديل ومشاركون في الحياة من إخوة وأخوات، وهذا الأمر لا يتحقق على نطاق معقول إلا إذا زاد طلب الرجال على النساء، وهذا إنما يتم فقط في مجتمع تكون فيه الفرصة متاحة لتعدد الزوجات.

وإذا لاحظنا من ناحية أخرى أنَّ للمرأة حقوقاً أساسية يعترف بها الإسلام وتتجاوز الحقوق التي تضمَّنتها وثيقة حقوق الإنسان الدولية، وتشمل هذه الحقوق حقها في الأمومة، وحقها في أن يكون لها زوج تتبادل معه معاني السكن والمودة والرحمة، وحقها في أن يكون لها بيت تكون مليكته وتمارس فيه وظائفها الطبيعية.

إذا تأملنا ذلك أدركنا مدى الظلم والإجحاف الذي يلحق بالمرأة إذا عاشت في مجتمع يحدد بالتقاليد أو بالقانون فرصتها في الحصول على هذه الحقوق.

ولا شك أنَّ المجتمع الذي يقلّ فيه طلب الرجال على النساء كما في المجتمعات التي يتحدد فيها تعدد الزوجات، تتحدد فيه فرصة المرأة في الحصول على تلك الحقوق، والواقع شاهد بذلك.

من ناحية أخرى فإنَّ المجتمع التي يتحدد فيه تعدد الزوجات يصبح فيه الطلاق بالنسبة للمرأة المتزوجة شبحاً مرعباً؛ لأنها تعلم أنها بالطلاق سوف تفقد حقوقها التي حصلت عليها بالزواج مما أشير إليه مما سبق، وسوف يكون من الصعب عليها التعويض بزواج آخر في مجتمع تتحدد فيه فرص المرأة في الزواج.

وهذا الوضع يحمل المرأة على الصبر على ظلم الرجل لها واضطهاده إياها ويقيد حريتها في الحركة. وإذا أردت صورة توضيحية لهذا الأمر فما عليك إلا أن تقارن بين المرأة في مجتمعات شبه القارة الهندية والمرأة في مجتمعات غرب أفريقيا، لترى أيهما أقدر على حماية حقوقها ومقاومة ظلمها وامتلاك حريتها.

ليس أوضح في الدلالة على أنَّ الغرب في نظرته لتعدد الزوجات يقاد بالهوى والعاطفة وغلبة الموروث الثقافي وليس بالتفكير المنطقي، أو الاختبار العملي للمصالح، ليس أوضح في الدلالة على ذلك من أنَّ الغرب يقبل بسهولة (قانوناً وسلوكاً اجتماعياً) أن تقوم خارج العلاقة الزوجية علاقة بين الزوج وامرأة أخرى (خليلة) أو امرأتين أو أكثر تماثل علاقة الزوجية في كل شيء عدا عدم وجود عقد الزواج الشكلي، وعدا أنَّ الخليلة أو الخليلات أو ثمرة علاقة الزوج بها أي الأولاد محرومون من الحقوق التي للزوجات أو للأولاد، باستثناء ما يحاول القانون بين وقت وآخر أن يحفظه.

ومن ناحية أخرى فليس هناك ما يدل على رفض الغرب لتعدد الأزواج أو الزوجات في حالات الزواج الجنسي الشاذ (اللوطيين والسحاقيات) الذي شاع واعتبر قانونياً في عدد من بلدان الغرب.

وكل ما سبق يدل على أنَّ نظرة الغرب لتعدد الزوجات ليست مبنية على المنطق أو على التجارب العملية واختبار المصالح، وإنما على مجرَّد الموروث الثقافي calture.

لا شك أنَّ لتعدد الزوجات سلبيات ككل شيء في الحياة، وحتى الزواج بواحدة له سلبيات، ولا شك أنه لا أكره للزوجة في الغالب من أن يتزوج عليها زوجها أو يطلقها، ولكن النظم الاجتماعية لا تبنى على عواطف الرغبة والكراهية، وإنما تبنى على المصالح العامة.

منذ بداية الاستعمار تتركز حملة المستشرقين الغربيين على الحجاب بدعوى أنه مظهر تخلف ورمز لاضطهاد الإسلام للمرأة أو نتيجة اضطهاد المسلم للمسلمة، ولم يخب أوار هذه الحملة مع مرور الزمن الطويل.

وكان من الملفت للنظر حقاً تركيز أعداء الإسلام على الحجاب من بين المظاهر الإسلامية الأخرى، سواء من الغربيين أو المتشدقين بالعلمانية من المثقفين والحكام في العالم الإسلامي، وفي العشرينيات من القرن العشرين كان اهتمام أتاتورك في تركيا ونادر شاه في أفغانستان وظاهر شاه في إيران بمنع الحجاب، واتخاذ الإجراءات المؤلمة والعقابية في سبيل إلغائه، يطغى ـ ربما ـ على كل اهتمام آخر.

وفي السنوات الأخيرة، وبالرغم من تحاشي الدول الغربية في أوربا وأمريكا عن الظهور داخلياً بمظهر من ينتهك الحريات الشخصية، فقد اقتحم الغرب هذه العقبة، وما زالت تظهر أمثلة على اضطهاد المسلمات انتهاك حرياتهن بسبب الحجاب.

وفي أواخر القرن الماضي، اهتدت طالبة للإسلام وكانت تدرس في جامعة تورنتو ـ كندا، للحصول على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية، وتحجبت، وبسبب مرورها بهذه التجربة العملية وما واجهته من ردود أفعال المجتمع، أدركت أهمية قضية الحجاب فطلبت من الجامعة تغيير موضوع أطروحة الدكتوراه إلى موضوع الحجاب، بالرغم من أنها كانت قد أمضت سنة ونصف السنة في الإعداد للموضوع الأول، وفي أثناء بحثها اطلعت على قدر كبير جداً مما كتب باللغة الإنجليزية عن الحجاب، وأجرت مقابلات مع مسلمات متحجبات في كندا، واستطاعت في أطروحتها المعنونة "الحجاب في السياسة" أن تحلل دوافع الحرب على الحجاب وصلتها بالصراع السياسي والثقافي، وأثبتت أن لا صلة للحجاب باضطهاد الرجل للمرأة ولا بالتمييز ضد المرأة. وكل ذلك من خلال التزام صارم بالمنهجية العلمية والبحث الموضوعي الذي لا يدع لذي لب شكاً في صحة ما انتهت إليه من نتائج.

معيار التفاضل بين الناس عند الله، وعند عباده الصالحين: "التقوى" فلا تمييز في الإسلام بسبب العرق أو اللون أو الجنس أو الموقع الجغرافي. وفيما يتعلق بالجنس فإنَّ عدم التماثل بين الرجل والمرأة فسيولوجيا وبيولوجيا وسايكولوجياً، يجعل من المعقول عدم تماثلهما في الوظائف السوسيولوجية، وقد راعى الإسلام ذلك في توزيع الوظائف والمسؤوليات بين الرجل والمرأة، ففي هذا المجال أقام بين الجنسين مساواة التكامل وليس مساواة التماثل.

وفي تاريخ البشرية في أغلبه تعرضت المرأة للظلم وانتهاك حق المساواة بينها وبين الرجل.

وبين وقت وآخر تجرى محاولات لتحقيق مساواة التماثل في الوظائف والمسؤوليات بين الرجل والمرأة. ولعلّ أهم هذه المحاولات وأشملها وأوسعها نطاقاً وأطولها عمراً: تجربة الاتحاد السوفيتي التي استمرت أكثر من سبعين سنة.

لقد كانت البداية الشعار الذي أطلقه الزعيم الشيوعي "لينين" حين قال: "إنَّ المجتمع لا يمكن أن يتقدم ونصفه في المطبخ"، فخرجت المرأة في الاتحاد السوفيتي إلى سوق العمل المأجور، فشاركت الرجل في عمله على اختلاف أنواعه، عملت مهندسة، ورائدة فضاء، وباحثة في مراكز البحوث، وميكانيكية في المصنع، وعاملة في مجال البناء، ورصف الطرق وكنس الشوارع.

وكان نصيب المرأة الأكبر في الأعمال الشاقة بدنياً والمكروهة.

ثم كانت النهاية في كلمات معبرة للزعيم الشيوعي "جورباتشوف" في كتابه "البروسترويكا" حين كتب: "لقد وضعت الدولة السوفيتية حداً للتمييز ضد المرأة الذي كان سائداً في روسيا القيصرية.. كسبت المرأة.. نفس الحق في العمل كالرجل والأجر المتساوي للعمل المتساوي.. ولكن طوال سنوات تاريخنا البطولي والشاق عجزنا عن أن نولي اهتماماً لحقوق المرأة الخاصة واحتياجاتها الناشئة عن دورها كأم وربة منزل ووظيفتها التعليمية التي لا غنى عنها بالنسبة للأطفال. إنَّ المرأة إذ تعمل في مجال البحث العلمي وفي مواقع البناء، وفي الإنتاج والخدمات، وتشارك في النشاط الإبداعي، لم يعد لها وقت للقيام بواجباتها اليومية في المنزل ـ العمل المنزلي، وتربية الأطفال وإقامة جو أسري طيب ـ لقد اكتشفنا أنَّ كثيراً من مشاكلنا ـ في سلوك الأطفال والشباب وفي معنوياتنا وثقافتنا وفي الإنتاج ـ تعود جزئياً إلى تدهور العلاقات الأسرية، والموقف المتراخي من المسؤوليات الأسرية، وهذه نتيجة مناقضة لرغبتنا المخلصة والمبررة سياسياً لمساواة المرأة بالرجل في كل شيء. والآن في مجرى البيرسترويكا بدأنا نتغلب على هذا الوضع. ولهذا السبب فإننا نجري الآن مناقشات جادة في الصحافة وفي المنظمات العامة، وفي العمل والمنزل بخصوص مسألة ما يجب أن نفعله لنسهل على المرأة العودة إلى رسالتها النسائية البحتة" اهـ.

إذا سلمنا بأنَّ تصور الإسلام للعلاقة بين المرأة والرجل مساواتها له مساواة التماثل في معنى الإنسانية، وقيمة الشخصية والكرامة البشرية، وكمال الأهلية القانونية، وجزاء العمل، ومساواة التكامل معه في الوظائف والمسؤوليات الاجتماعية، المساواة التي تتناغم مع ما بينهما من اختلافات فسيولوجية وبيولوجية وسايكولوجية، وتتناسق مع القوانين الطبيعية..

إذا سلمنا بذلك فينبغي أن نسلم بأنَّ جزءاً كبيراً من تراثنا المكتوب والتقاليد والعادات السائدة في المجتمعات الإسلامية، تبتعد بدرجات متفاوتة عن التصور الإسلامي للعلاقة بين الرجل والمرأة. ويبدو في مقارنة التراث المكتوب أنَّه كلما تأخر الزمن عن زمن النبوة يزيد هذا الابتعاد.

وهذا يوجب أن نقرأ التراث ونحكم على التقاليد، مستحضرين في الذهن ما يلي:

أ ـ مضمون الآيتين الكريمتين: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ..}، {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}. وما يوجبه هذا المضمون من التخلي عند قراءة النصوص عن التأثير السلبي للأفكار السابقة، والأهواء، والانقياد لسلطان العادة، وكذلك توقي التأثير السلبي لتصورات وأفكار الجاهلية المعاصرة.

ب ـ إنَّ من عوامل الترجيح بين الآراء والتفسيرات: تقديم الرأي والتفسير الذي تتوافق فيه النصوص وتتناغم، وتأخير الرأي والتفسير الذي تختلف فيه النصوص أو لا تتوافق إلا بتمحل أو تحكم.

ج ـ حقيقة أنَّ المفسر أو الفقيه عاش في بيئة ثقافية ليس من السهل عليه أن يتخلص من تأثيرها الضاغط على عقله، وتوجيه تفكيره، وما يوجبه الوعي بهذه الحقيقة من وزن للرأي والتفسير، وتمييز ما هو منها نتيجة التفكير المجرَّد، وما هو نتيجة تأثير البيئة الثقافية التي عاش فيها صاحب الرأي أو التفسير.

د ـ أنَّ الأعراف والتقاليد الاجتماعية قد تراعى في تعيين العلاقة بين الجنسين؛ بشرط أن لا يترتب على ذلك ظلم لأحد أو انتهاك لحقه أو معارضة للصالح العام.

وفي الختام.. فلقيام المجتمع الإسلامي الصحيح والمحافظة عليه ولتثبيت التصور الإسلامي لعلاقة الرجل بالمرأة؛ تقع المسؤولية الأولى على من تناط بهم تربية الناشئة، وخصوصا الوالدين، ولا سيما الأم، إذ إن لطريقة معاملتهما الأولاد من الذكور والإناث الأثر الباقي الذي سيحدد في المستقبل تصورات المجتمع، وأساليب سلوكه، ولعلَّ هذا ما حرص عليه الشارع الحكيم عندما أكَّد الحديث الشريف على أهمية التسوية في المعاملة بين الأولاد "من كان له بنت فلم يئدها ولم يهنها ولم يؤثر ولده عليها دخل الجنة"، "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم".

وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه.



رد مع اقتباس
  #28  
قديم 03-04-2005, 03:54 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

المرأة في السعودية والوعي بأخطار التغريب1ـ2
علي التمني






إنَّ المرأة السعودية ترفض رفضاً باتاً هذه الدعوات والتحركات واللقاءات والبيانات التي تدعو إلى انسلاخ المرأة المسلمة في بلادنا السعودية من قيمها وأحكام شرعها، وتعتبر كلّ هذه الأراجيف والألاعيب والمؤامرات ضد دينها، ومن ثم ضد سلامتها وأمنها واستقرارها، وهي تطالب بوقف هذا العبث بمكانتها وحشمتها وكينونتها ودينها.

هذا ما شعرنا به وعلمناه من واقع المرأة في بلادنا خلال الوقائع والتدبيرات والأحداث المتتابعة قديماً وحديثاً ضدّها وضدّ المجتمع برمته.

ولقد بيَّن ولاة الأمر في هذه البلاد ـ وفقهم الله ـ أنَّ تنميتنا ونظمنا كلها من وإلى الإسلام غدوَّاً ورواحاً. وأنه لن يكون إلا ما أراده الإسلام، وأنَّ افتعال القضايا لن يغير من الأمر شيئاً.

إننا نعلم.. وكل عاقل من ذكر وأنثى يعلم.. أنَّ دعوات تغريب وجرّ المرأة إلى حتفها في الدنيا والآخرة بدأت في كل الأقطار، والإسلامية منها على وجه الخصوص، بداية فيها استحياء، وأخذ بمبدأ التدرُّج، فقد فطن دعاة الفساد إلى أنَّ الدعوة إلى كل ألوان الفساد المتعلق بالمرأة دفعة واحدة أمر غير حكيم، وقد يجرّ إلى ردود أفعال تقضي عليهم وعلى دعوتهم على السواء؛ ولذلك أخذوا بمبدأ التدرج، فدعوا أول ما دعوا إليه في البلاد الإسلامية إلى نبذ غطاء الوجه، وقالوا: فيه قولان، ثم الخروج للعمل، وهذا ما يفعله المتأخرون منهم في هذه الأيام: دعوة للعمل لتحقيق الاستقلال المعنوي والمادي، مدعين أنَّ ذلك لا يناقض الشريعة وقد افتروا: إذا ما أخذنا في الاعتبار ما حدث للمرأة المسلمة من تدهور وانحدار على كل صعيد في الأقطار الإسلامية التي وجدت فيها دعوة هؤلاء نجاحاً، وإذا ما أخذنا في الاعتبار مناهج هؤلاء المخرِّبين وأهدافهم القريبة والبعيدة، وسلوكياتهم في حياتهم الخاصة والعامة ونظرتهم إلى الشريعة، وهي أمور تبين عن أهدافهم الحقيقية ومقاصدهم القريبة والبعيدة.

لقد وصلت دعوات الإباحية والفساد إلى منتهاها في بلد كالسويد (وحرية المرأة في السويد شملت الحمل، فالمرأة السويدية لا تريد أن تفقد حريتها في المتعة والانطلاق، ولا تريد أن تقاسي من الحمل والولادة، فهي تريد طفلاً جاهزاً، لهذا فإنَّ الفتاة السويدية التي تريد أن تتخلص من الولادة لا تتعب ولا تحتار، بل تختار فتاة أخرى تتقاضى أجراً؛ لأنها قامت بمهمة الحمل بالنيابة عن الزوجة!) (تحرير المرأة ممن؟ شوقي أبوخليل ص30).

وهكذا وصل الأمر بالمرأة السويدية التي ذهبت إلى آخر الشوط في طلب المساواة بالرجل، وليست المرأة السويدية هي التي سعت إلى ذلك، بل فئة من الرجال الذين يريدون أن تصبح المرأة لعبة في أيديهم، وتصبح في العراء لا يحميها من ذئاب الشهوة البشرية شيء سوى أن تخضع لشهواتهم وقد كان. وقد يقول قائل: إنَّه لا مقارنة بين المرأة المسلمة والمرأة الكافرة في السويد، ونقول فعلاً لا مقارنة بين الاثنتين من حيث الدين، ولكن ما تفسير هؤلاء لخروج المرأة المسلمة وسيرها في ركاب المرأة السويدية وغير السويدية في أمور كثيرة مخالفة للشرع مثل الاختلاط؟ ألأم يحدث الاختلاط في كثير من بلاد المسلمين والاختلاط محرَّم في الإسلام؟ بل من أين جاءنا الاختلاط؟ أليس من الغرب والشرق الكافرين؟

ومثل التمثيل، وتمثيل المرأة حرام في الإسلام؛ لأنَّ فيه كل المحاذير الشرعية والمحرَّمات القطعية فيما يتعلق بالمرأة كالاختلاط والتبرج والتنكر للحياء والعفة والخلوة مع الممثلين والمخرجين والغمز واللمس والغزل والتقلب على فراش النوم والحب وتمثيل الحياة الزوجية، والاستهتار بالقيم الإسلامية كاللعب بعقود النكاح تمثيلاً وغير ذلك كثير، وكلّ ذلك محرَّم، فمن أين جاء كل ذلك؟ أليس بتقليد المرأة السويدية وغير السويدية من النساء الكافرات ومن سار في ركابهن ممن خلعن رداء الإسلام ومضين في طريق الفساد إلى آخره؟

واللباس القصير الذي يظهر كثيراً من جسد المرأة الذي يجب أن تستره تماماً عن الرجال، وكذا لبس البنطلون الذي لم تعرفه المرأة المسلمة، وفيه تشبّه بالرجال وبالنساء غير المسلمات، من أين جاء كل ذلك؟ هل خروج المرأة المسلمة بالملابس الفاضحة من الإسلام؟ أم هو ناتج عن التأثير بالثقافة الجاهلية المعاصرة؟ ثقافة الغرب والشرق غير المستضئين بنور الإسلام الحنيف؟ فهل بعد كل ذلك وغيره من صور الانحراف والانجراف وراء المرأة غير المسلمة، نقول إنَّ المرأة المسلمة غير متأثرة بالمرأة الكافرة شرقاً أو غربياً في كثير من سلوكياتها وأحوالها؟ لقد سارت كثير من نساء المسلمين وراء كل فاسد مفسد، وكان لكثير من الرجال الذين يزعمون الانتماء لهذا الدين الحنيف أثر بالغ في تغيير مفاهيم وأخلاقيات المجتمع الإسلامي حول المرأة، جاحدين وجوب التمسك بهدي الإسلام في كلّ شأن من شؤون الحياة، وداعين في الآن نفسه إلى التعلق بكلّ ما هو غير إسلاميّ تحت دعاوى المعاصرة والتقدم والتحضر، وليت شعري هل علم هؤلاء أنَّ كثيراً من الغربيين بدؤوا يدعون إلى العودة إلى قيم الأسرة والمحافظة، ويدعون إلى عودة المرأة إلى بيتها، وإلى محافظتها على عفتها؟ بل لقد أخذ الأمريكيون ممن أدركوا خطورة التبرج والاختلاط إلى فتح الكليات والجامعات المخصصة بالكلية للنساء ولا يدخلها الرجال، وقد بلغ عدد هذه الكليات حوالي المئة كلية في أمريكا وحدها، وأثبتت التجربة نجاحها المنقطع النظير سواء من ناحية المحافظة على العفة والأخلاق، أو من ناحية التحصيل العلمي.

ونعود للمرأة السويدية التي بلغت آخر المدى في حريتها وفسادها، فقد اختارت الأمم المتحدة القاضية السويدية (بريجيدا أولف هامر) لدراسة مشكلات المرأة الشرقية على الطبيعة، ومدى تمتعها بحقوقها وفق موازين هيئة الأمم المتحدة القائمة على المفاهيم الغربية العلمانية، وقد زارت القاضية السويدية أربعة أقطار إسلامية، فزارت قرية أبي طشت في صعيد مصر، وسيدي تمراز في تونس، ومصراتة الليبية، والسلمانية في العراق، فماذا خرجت به القاضية السويدية التي نالت كلّ ما تحلم به من حرية على الطريقة السويدية طبعاً؟ كتبت القاضية السويدية في دراستها: (المرأة القروية في صعيد مصر، والمرأة البدوية في أعماق فزان بليبيا على الرغم من عزلتها عن المجتمع فإنَّها تمارس وضعاً ينتمي إلى القداسة لا إلى العبودية، وتتسلَّط على الرجل تسلطاً فعلياً، ابتداء من شؤون النهار، وانتهاء بشجون الليل)، وقالت بريجيدا: (إنَّ للمرأة الشرقية عالمها الحالم الخاص، وبعبارة أخرى فإنَّ المرأة الغربية والاسكندنافية بوجه خاص قد (داخت سبع دوخات) لكي تنال حريتها في المساواة بالرجل، ولم يتحقق لها ما أرادت إلا بعد أن جرَّدتها من صفاتها الأنثوية، وحقوقها الأنثوية، وحرّيتها الأنثوية، لتجعل منها كائناً أقرب إلى الرجل، إنَّها حرية ساكن الجنة الذي يسعى للنزول إلى الأرض، أو حرية الطاؤوس الذي سعى إلى أن يكون غراباً،

وباختصار: هي حرية المرأة في أن تكون رجلاً!



رد مع اقتباس
  #29  
قديم 03-04-2005, 03:56 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

المرأة في السعودية والوعي بأخطار التغريب 2ـ2
علي التمني






إنَّ نعم الله تعالى على الإنسان لا تحصى، ولكنها على المسلم الموحد أعظم وأجزل وأشمل، قال تعالى: " وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا" فالإسلام أعظم نعمة وأكمل رحمة بما يمنحه للعبد المسلم المؤمن من اليقين والإيمان ومن السعادة والاطمئنان، حيث يستيقن العبد لِمَ خُلق، وما الغاية من وجوده في حياته وما مصيره بعد مماته، ولم يترك الخالق تبارك وتعالى عباده هكذا هملاً، بل أرسل إليهم رسولاً خاتماً صلى الله عليه وسلم، بعثه بالقرآن والسنة ليعبد العبد خالقه على هدى وليمضي المسلم في حياته على بصيرة ونور، وهذه السعادة والطمأنينة لا يجدها غير المسلم ولا تتحقق في أمة غير أمة الإسلام، ولا تكون في مجتمع إلا إذا أطاع ربه ومضى وفق شريعته الكاملة الخاتمة، ولقد نالت المرأة المسلمة من هذا الخير مثل ما ناله الرجل، ومثل ما ناله الطفل الصغير والكبير، والعبد والأمة، فالكل تحققت له النعمة، حتى الحيوان والجماد نالته رحمة هذا الدين وسعته وشموله.

لقد بحث الغرب والشرق عن السعادة واليقين في غير الإسلام فلم يجداها، ونتج عن ذلك تخبط تلك المجتمعات غير المؤمنة بالله تعالى حق الإيمان، فقد جرتها الفلسفات المادية والأفكار الإلحادية الشكية إلى الشقاء ومفاوز الضياع، وما حال المرأة والرجل في تلك المجتمعات ـ وهو حال شقاء وعذاب وضنك وفساد وخواء ـ إلا دليل على ما ذهبنا إليه من تردي تلك المجتمعات وتصحر في قيمها ويباس في يقينها.

تقول القاضية السويدية المجربة والمثقفة والمدركة لعواقب الأمور بريجيدا: (إنَّ حرية المرأة العربية تعايش حرية الرجل دون أن تمسه، فكل منهما حر في ميدانه، وبطريقته الخاصة، أما المرأة الغربية المنعمة فإنَّها تمارس حرية تنقص حرية الرجل وتخنقها وتزاحمها، كما أباح القانون الحرية الجنسية للمرأة إلى أقصى حد، لدرجة جعلت الرجل هو الفريسة، والمرأة هي الصياد).

والنتيجة ـ على مستوى الأمة ـ مذهلة حقاً، ففي تقرير رسمي خطير لوزارة الشؤون الاجتماعية السويدية، تعلن الحكومة أنَّ 25% من سكان السويد مصابون بأمراض عصبية، وأنَّ 30% من مجموع المصروفات الطبية في السويد تنفق على علاج الأمراض العصبية والنفسية.

وتسفر ظاهرة انتشار الأمراض العصبية عن نفسها على هيئة ارتفاع مذهل في نسبة حوادث الانتحار، ففي الفترة ما بين: 1951ـ 1968م تضاعفت حالات انتحار السويديات، وخصوصاً النساء اللواتي تتراوح أعمارهن بين 25 و 29 سنة، إذ زادت من 602 حالات من كل ألف امرأة، إلى 12.1 حالة في حين لم تسجل حالات انتحار الرجل أي ارتفاع.

وتقول بريجيدا معلقة: (من المستحيل تجاهل الربط بين هذه النسبة المتضاعفة بهذا الشكل الغريب، واضطراد الحرية التي تمارسها المرأة السويدية في الحقبة الزمنية ذاتها.

ومن مشكلات السويدالتي نجمت عن حرية المرأة، مشكلة المسنين، فالمسنون في السويد أتعس خلق الله! على الرغم من الرعاية الأسطورية التي يضفيها عليهم المجتمع، فالإحساس بالوحدة والاغتراب، يضفي نوعاً من القتامة والجهامة على المجتمع السويدي لارتفاع نسبة المسنين فيه، فالأولاد والبنات حين يكبرون يفترقون ـ بشكل طبيعي ـ عن عائلاتهم، وانخفاض نسبة الإنجاب تزيد قساوة الوحدة، التي تكاد تقضي على معنويات الآباء، وليس للمشاعر العائلية في مجتمعاتهم قداسة تشبه قداستها في المجتمعات الشرقية، ومن هنا يمكن تصور الآلام النفسية المفزعة التي يشعر بها المسنون في السويد).

وتقول القاضية السويدية: (إنَّ نسبة الطلاق في السويد هي أكبر نسبة في العالم، طبقاً للإحصاءات التي أعدتها وزارة الشؤون الاجتماعية بالسويد، فإنَّ أي سبب يقدمه أحد الزوجين يمكن أن يتم به الطلاق، وهذا التخبط في حياة الأسرة والزوجية يسود النرويج والدنمارك، والحال في عدد آخر في من دول العالم، لا تقل عن هذه الحال) هذا ما قالته القاضية السويدية بمناسبة عام المرأة العالمي 1975م.

(تحرير المرأة ممن؟ وفيم حريتها؟ د. شوقي أبوخليل ص32ـ36 نقله من الأسبوع العربي العدد 820 الاثنين 24 شباط 1975م).

وأقول: كل هذا بدأ بالدعوة للخروج والعمل والاختلاط بالرجال وترك البيت والقرار فيه، وسبحان الله القائل: "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ" (الأحزاب/32)، فيوم أن تترك المرأة بيتها تكون كالريشة في مهب ريح الضياع والفساد، ووحشية الرجل الذي تحلل من دينه، وإن تظاهر بالأناقة والرقة والتحضر، فالزمي يا ابنة الإسلام دينك، ومن التزام أوامر دينك أن تلزمي بيتك في ظل أحكام الإسلام الخالدة التي تبيح لك الخروج مع المحرم والتمتع بمتع الحياة السامية النظيفة، وانتبهي جيداً لأهل الفساد من الشهوانيين الذين يريدونك رهن إشارتهم لقضاء أوطارهم النتنة المحرَّمة، واعلمي أنَّ عزتك وكرامتك وأمنك النفسي والبدني والإيماني إنما يكون في التزامك بشرع الله الذي هو الحصن الحصين من الضياع الذي لا ريب أنك قد تحققت منه مما قد رأيت وسمعت عن النساء التعيسات اللائي أطعن شياطين الإنس والجن، فخرجن من سعادتهن وأمنهن إلى الشقاء والخوف القاتلين، فاحذريهم، واحذري دعواتهم.

وأختم بما قرأته للعلامة بكر بن عبدالله أبي زيد في كتابه (حراسة الفضيلة) ص91، حيث قال: (وقد ثبت من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيته) متفق عليه، وقرارها في بيتها فيه وفاء بما أوجب الله عليها من الصلوات المفروضة وغيرها، ولهذا فليس على المرأة واجب خارج بيتها، فأسقط عنها التكليف بحضور الجمعة والجماعة في الصلوات، وصار فرض الحج عليها مشروطاً بوجود المحرم، وقد ثبت من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه في حجته (هذه ثمَّ ظهور الحصر) رواه أحمد وأبوداود، قال ابن كثير رحمه الله في التفسير: (يعني الزمن ظهور الحصر ولا تخرجن من البيوت).

أقول: وفي هذا تشريف كبيرومسؤولية عظيمة حين تكون المرأة راعية لبيت زوجها بكلّ ما يعنيه من تربية الأبناء والبنات ليكونوا قدوة وذخراً لأمتهم ومجتمعهم، وحين تكون الزوجة عاملاً حاسماً وراء نجاح زوجها، وقد قيل: وراء كل رجل عظيم امرأة، أي عظيمة، قال الله تعالى: "الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ"(الأنعام/82).



رد مع اقتباس
  #30  
قديم 03-04-2005, 03:58 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

الدلالة المحكمة لآية الحجاب على وجوب غطاء الوجه
لطف الله خوجة






قال الله تعالى:

{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}.

ذكر في سبب نزول هذه الآية، آية الحجاب، بعض الآثار المفسرة:

- منها ما روى الإمام البخاري في صحيحه بسنده: عن أنس قال: " قال عمر رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله! يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب". [التفسير، باب قوله تعالى: {لا تدخلوا بيوت النبي}].

- وروى عنه قال: "أنا أعلم الناس بهذه الآية: آية الحجاب. لما أهديت زينب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت معه في البيت، صنع طعاما ودعا القوم، فقعدوا يتحدثون، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخرج، ثم يرجع، وهم قعود يتحدثون، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} إلى قوله: {مِن وَرَاء حِجَابٍ}، فضرب الحجاب، وقام القوم". [المصدر السابق].

هذه الآية تضمنت أربعة أمور، هي:

1- مسألة، هي: الحجاب.

2- خطابا متجها إلى الأزواج ( = أزواج النبي صلى الله عليه وسلم).

3- وحكما، هو: وجوب الحجاب الكامل (= سائر البدن مع غطاء الوجه والكف).

4- وعلة للحكم، هي: تحصيل طهارة القلب.

فأما الثلاثة الأولى فلا يختلف قول عالم فيها.. لكن الخلاف في الرابعة:

- فمنهم من اعتبرها (= العلة)، فبنى عليها عموم الحكم لجميع النساء، بما فيهن الأزواج، لحاجة الجميع إلى طهارة القلب، وهم الموجبون تغطية الوجه على الجميع.

- ومنهم من أهملها (= العلة)، فجعل الحكم خاصا بمن خوطب بها، وهم الأزواج، وهم المبيحون كشف الوجه لسائر النساء، سوى الأزواج، وحجتهم أمران:

- الأول: توجه الخطاب إليهن ( = الأزواج).

- الثاني: نصوص وآثار متشابهة، توهم جواز الكشف.

وأما القائلون بوجوب الغطاء للجميع، فكانت حجتهم الأوجه الخمسة التالية:

إذا ثبت أن الحكم في الآية معلل، فمتى وجدت العلة، فثم الحكم.. وهذا هو القياس المستعمل في الفقه.

والقياس هو: حمل فرع على أصل، في حكم، بجامع بينهما. فلا بد في كل قياس من: أصل، وفرع، وعلة، وحكم. وهذه أركان القياس[1].

وأركان القياس موجودة في هذه الآية:

1. فالأصل: أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، حيث الخطاب متجه إليهن.

2. والحكم: الحجاب الكامل عن الرجال.

3. والعلة: تحصيل طهارة القلب مطلوب لهن، وللرجال.

4. والفرع هو: سائر نساء المؤمنين.

فهل العلة موجودة فيهن؟. الجواب: نعم. تحصيل طهارة القلب مطلوب لهن، وللرجال.

إذن فالعلة واحدة في الجميع، وعليه فالحكم واحد للجميع.

فمدار الحكم على العلة، ولا يمكن أن يدعي أحد استغناءه عن تحصيل طهارة القلب، ولا أن نساء المؤمنين لسن في حاجة إلى تحصيل طهارة القلب، ولا يصح إبطال هذه العلة الظاهرة من الآية؛ لأمرين:

- الأول: لوضوحها علة للحكم.

- الثاني: لأن الكلام حينئذ يكون معيبا، حاشا كلام الله تعالى.

قال الشنقيطي في تفسيره [6/584]: "في هذه الآية الكريمة الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب عام في جميع النساء، لا خاص بأزواجه صلى الله عليه وسلم، وإن كان أصل اللفظ خاصا بهن، لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه، ومسلك العلة الذي دل على أن قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} هو علة قوله تعالى: {فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ}، هو المسلك المعروف في الأصول بمسلك الإيماء والتنبيه، وضابط هذا المسلك المنطبق على جزئياته: هو أن يقترن وصف بحكم شرعي على وجه لو لم يكن فيه ذلك الوصف علة لذلك الحكم لكان الكلام معيبا عند العارفين".

فالعلة في الآية هي: طهارة القلب. وإذا لم تكن هذه علة الحكم، فالكلام حينئذ معيب، بحسب هذا المسلك الأصولي: مسلك الإيماء والتنبيه. كما ذكر الشيخ رحمه الله، وحاشا لكلام الله تعالى أن يكون معيبا، بل كونها علة الحكم، شيء ظاهر ليس خفيا، فإذا ثبتته علتها، انتفى التخصيص؛ لأن العلة حيثما وجدت وجد الحكم، وحينئذ فالحكم هو العموم.

وبهذا القياس يثبت عموم الحكم، وهذا القياس الذي يستعمله الفقهاء يسمى قياس التمثيل، الذي يستوي فيه الأصل والفرع في الحكم، وثمة قياس أعلى منه رتبة، لا يستعمل إلا في تفضيل شيء على شيء، وهو قياس الأولى، ولهذه الآية حظ من هذا القياس العالي، وفحواه: أن الخطاب إذا توجه إلى فئة معينة، بحكم معين؛ لأجل علة معينة، فإذا وجدت العلة في فئة أخرى، فهي مخاطبة بنفس الحكم، فإن وجدت فيها العلة بصورة أقوى، فهي أولى بالخطاب.. فكلما كانت العلة آكد، كان الحكم آكد.

فالآية خاطبت فئة معينة هي: أمهات المؤمنين. بحكم معين هو: الحجاب. لأجل علة معينة هي: تحصيل طهارة القلب. وإذا سألنا: من أحوج إلى هذه الطهارة: آلأمهات، أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، المصطفيات المبرءآت من كل سوء، بشهادة الله تعالى لهن: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}.. أم سائر المسلمات، اللاتي فيهن المحسن، والمقتصد، والظالم؟

لا ريب أن الجواب: أن سائر المسلمات أحوج إلى هذه الطهارة، فالعلة فيهن أقوى، فهن إذن أولى بالحكم.

ومثل هذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ}.

فإذا كان هذا تحذير الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من الشرك، مع علو منزلته ورفعة درجته عند الله تعالى.. فمن لم يعرف منزلته ولا درجته، ولم يدر مآله وعاقبته، فأولى بالتحذير، وأحرى بالحذر منه.

ومثل أمره تعالى في بر الوالدين بقوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا}.. فإذا كان الله تعالى نهى الولد عن إظهار التذمر والضجر بقول: أف. لهما، وانتهارهما، فالنهي عن السب والضرب من باب أولى، لأنه أسوأ وأردأ.

تقرر في علم الأصول: أن الخطاب الواحد يعم حكمه جميع الأمة؛ لاستوائهم في التكليف، إلا بدليل خاص.

وأهل الأصول متفقون على هذا، وما يبدو من خلاف بينهم، فهو صوري أو حالي.

- فإن منهم من يرى خطاب الواحد نفسه، من صيغ العموم.

- ومنهم من يرى أن خطاب الواحد لا يعم، إنما الذي يعم حكمه، بدليل آخر: نصا، أو قياسا.

ويدل على هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم:

"إني لا أصافح النساء، وإنما قولي لمئة امرأة، كقولي لامرأة واحدة" [رواه النسائي في البيعة، باب: بيعة النساء، من حديث أميمة بنت رقيقة. صحيح النسائي 3/875]

يقول الشنقيطي [أضواء البيان 6/589-591]: "ومن الأدلة على حكم آية الحجاب عام: هو ما تقرر في الأصول من أن خطاب الواحد يعم جميع الأمة، ولا يختص الحكم بذلك الواحد المخاطب، وقد أوضحنا هذه المسألة في سورة الحج، في مبحث النهي عن لبس المعصفر، وقد قلنا ذلك لأن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لواحد من أمته يعم حكمه جميع الأمة؛ لاستوائهم في أحكام التكليف، إلا بدليل خاص، يجب الرجوع إليه، وخلاف أهل الأصول في خطاب الواحد: هل هو من صيغ العموم، الدالة على عموم الحكم؟

خلاف في حال، لا خلاف حقيقي، فخطاب الواحد عند الحنابلة صيغة عموم، وعند غيرهم من المالكية والشافعية وغيرهم، أن خطاب الواحد لا يعم، لأن اللفظ للواحد لا يشمل بالوضع غيره، وإذا كان لا يشمله وضعا، فلا يكون من صيغ العموم، ولكن أهل هذا القول موافقون، على أن حكم خطاب الواحد عام لغيره، ولكن بدليل آخر، غير خطاب الواحد، وذلك الدليل بالنص، والقياس.

أما القياس فظاهر؛ لأن قياس غير ذلك المخاطب عليه، بجامع استواء المخاطبين في أحكام التكليف، من القياس الجلي، والنص، كقوله صلى الله عليه وسلم في مبايعة النساء: "إني لا أصافح النساء، وما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمئة امرأة"...

وبهذه القاعدة الأصولية التي ذكرنا، نعلم أن حكم آية الحجاب عام، وإن كان لفظها خاصا بأزواجه صلى الله عليه وسلم؛ لأن قوله لامرأة واحدة من أزواجه، أو من غيرهن، كقوله لمئة امرأة".

ويقول الشيخ الألباني: "إذا خاطب الشارع الحكيم فردا من الأمة، أو حكم عليه بحكم، فهل يكون هذا الحكم عاما في الأمة، إلا إذا قام دليل التخصيص، أو يكون خاصا بذلك المخاطب؟

اختلف في ذلك علماء الأصول، والحق الأول، وهو الذي رجحه الشوكاني وغيره من المحققين، قال ابن حزم في أصول الأحكام 3/88-89: وقد أيقنا أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى كل من كان حيا، في عصره، في معمور الأرض، من إنس أو جن، وإلى من يولد بعده إلى يوم القيامة، وليحكم في كل عين وعرض يخلقها الله إلى يوم القيامة، فلما صح ذلك بإجماع الأمة المتيقن المقطوع به، المبلغ به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبالنصوص الثابتة، بما ذكرنا من بقاء الدين إلى يوم القيامة، ولزومه الإنس والجن، وعلمنا بضرورة الحس أنه لا سبيل لمشاهدته عليه السلام من يأتي بعده، كان أمره صلى الله عليه وسلم لواحد من النوع، وفي واحد من النوع، أمرا في النوع كله، وللنوع كله، وبين هذا أن ما كان في الشريعة خاصا لواحد، ولقوم، فقد بينه عليه السلام نصا، وأعلمه أنه خصوص، كفعله في الجذعة بأبي بردة بن نيار، وأخبره عليه السلام أنه لا تجزئ عن أحد بعده، وكان أمره عليه السلام للمستحاضة أمرا لكل مستحاضة، وإقامة ابن عباس وجابر عن يمينه في الصلاة، حكم على كل مسلم ومسلمة يصلي وحده مع إمامه، ولا خلاف بين أحد في أن أمره لأصحابه رضي الله عنهم وهم حاضرون، أمر لكل من يأتي إلى يوم القيامة..

ثم شرع في الرد على من خالف في ذلك، تأصيلا، أو تفريعا".[2]

فالشيخ إذن يقر بهذا القاعدة، لكنه يبدو أنه أخذ بالاستثناء؛ لقيام الدليل عنده على تخصيص حكم غطاء الوجه بالأمهات. لكن إذا ثبت بطلان هذا التخصيص، بما تقدم من عموم العلة، وما سيأتي من أوجه، فحينئذ يلزمه القول بعموم غطاء الوجه لجميع النساء.

وبيان هذا الوجه: أنه لما لم يكن لخصوصية الحكم وجه، استنبط المدعون الخصوصية علة عجيبة، فقالوا:

إنما جاء الحكم خاصا بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لأجل حرمتهن، فحرمتهن أعظم من حرمة سائر المسلمات، لذا تحجبن.!!

فانظر كيف غيروا العلة، فبعد أن كانت في الآية هي: تحصيل طهارة القلب. جعلوها: الحرمة والمنزلة ؟!!

والحرمة والمنزلة ثابتة لهن رضوان الله عليهن، لكن لنا أن نقلب المسألة فنقول: بل حرمتهن موجب لعدم حجابهن (= غطاء الوجه)؛ لأن الحجاب شرع للمرأة لصونها، وأمهات المؤمنين لا مطمع فيهن؛ لأمرين:

- أولاً: لأن الله تعالى حرم نكاحهن: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا}.. فإذا حرم نكاحهن، فلا يطمع فيهن طامع، فلا موجب لغطاء الوجه حينئذ.

- ثانيا: لأن زمانهن كان خير الزمان وأطهره، ففيه أشراف الرجال وأعظمهم إيمانا: الصحابة رضوان الله عليهن. وقد كانوا هم الخلفاء، فبذلك صيانتهن متحققة حتى بدون حجاب الوجه.

ثم مع كل ذلك نقول: إذا كان وجوب الحجاب الكامل في حقهن لأجل حرمتهن ومنزلتهن.. فلم لم تؤمر بناته صلى الله عليه وسلم بالحجاب الكامل كذلك؟! أليست حرمتهن أعظم من حرمة سائر المسلمات؟

إن قالوا: ليست لهن حرمة كأزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

فقد غلطوا، بل حرمة بعضهن أعظم من بعض الأزواج، كفاطمة رضي الله عنها، فهي سيدة نساء الجنة.

وإن قالوا: لهن حرمة كالأزواج.

لزمهم أن يقولوا بوجوب الحجاب الكامل في حقهن كالأزواج.. ولو قالوا كذلك لم يعد الحكم خاصا بالأزواج، ومن ثم نقضوا مذهبهم في خصوصية الحكم في الآية بالأزواج، فهاهم أدخلوا البنات فيه.

فهم بين أمرين أحلاهما مر، فليس أمامهم إلا القول بعموم الحكم، ولو كان الخطاب خاصا، وهو الحق.

وبيان هذا الوجه: أن الآية نصت على أن الرجال إذا سألوا النساء شيئا فلا بد أن يكون بينهما حجاب، والحجاب هنا على نوعين:

- الأول: إذا كن في بيوتهن، فالحجاب حينئذ: ستار، أو جدار، أو باب. والآية جاءت في هذا السياق.

- الثاني: إذا كن خارج البيوت، فالحجاب حينئذ الجلباب، الذي يغطي سائر البدن، بدون استثناء شيء.

فمن قال بعموم الآية في حق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا نساء المؤمنين، فلا إشكال حينئذ، فإنهن مأمورات بالاستتار عن الرجال في كل حال:

- إن كن في البيوت، فبالستائر، والجدر، والأبواب.

- وإن كن خارج البيوت، فبالجلباب الساتر لجميع البدن.

لكن إذا قيل الآية خاصة بالأمهات، فالأقسام ثلاثة:

1- أن يكون التخصيص في البيوت دون خارجها.

2- أن يكون التخصيص خارج البيوت دون داخلها.

3- أن يكون التخصيص في البيوت وخارجها.

فأما القسمان الأولان فباطل، من وجه اجتمعا فيه، وهو: التخصيص في حال، والتعميم في حال.

فهذا التخصيص والتعميم: إبطال للتخصيص من أصله.

لأن مبنى التخصيص هنا هو قولهم: أن الخطاب توجه إلى الأزواج رضوان الله عليهن.

فالقول بعدئذ بعموم بعض أجزاء الخطاب، فيه الإقرار:

بأن مجرد توجه الخطاب إليهن، ليس كافيا في إثبات التخصيص، ولا دليلا عليه.

وهذا إبطال للتخصيص، فللمنازع أن يقول: ما دام بعض الخطاب عاما، فلا مانع من عموم بعضه الآخر. وليس لأهل التخصيص دفع هذا الاعتراض، أو نقضه.

فإن قالوا: الدليل أصله التخصيص، ولا يلغى هذا إلا بدليل يدل على العموم، ففي حال البيوت: دل الدليل على العموم. وفي حال خارج البيوت: لم يدل دليل على العموم، فبقي على أصله.

فيقال: هذا تسليم منكم، بأن مجرد توجه الخطاب إلى الأزواج، ليس دليلا على التخصيص، وهذا مطلوب. وأما دعواكم وجود ما يلغي التخصيص خارج البيوت فمردود بما سبق من الأوجه الثلاثة:

- الأول: عموم العلة يلزم عنه عموم الحكم، وتأكد العلة يلزم عنه تأكد الحكم.

- الثاني: خطاب الواحد يعم الجميع.

- الثالث: التعليل بالحرمة يوجب إلغاء الخصوصية.

وبهذا يثبت العموم، فالآية قطعية الثبوت، ودلالتها على غطاء الوجه قطعية، كما أثبتنا، والقطعية والعموم يثبت وجوب تغطية الوجه على سائر المؤمنات، بلا استثناء.

- وللقسم الأول وجه آخر، ينفرد به، يدل على بطلانه، فإنه معناه:

جواز دخول الأجانب على سائر النساء، سوى الأزواج أمهات المؤمنين، وهذا باطل، لا يقول به أحد، حتى أهل التخصيص؛ لورود النهي عن ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والدخول على النساء" [رواه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب: لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم].

كما أن معناه: أن تغطية الوجه واجب على الجميع: الأزواج، وسائر النساء. وهذا وإن كان صحيحا، لكن لا يقول به أهل التخصيص. فهذا القسم ليس قولا لأهل التخصيص.

- وأما القسم الثاني فباطل، وإن كان يقول به أهل التخصيص، فإن معناه:

أن الحكم عام في البيوت، فلا يدخل أجنبي على المسلمات، ولا الأزواج، لكنه خارجها خاص بالأمهات، دون النساء. وهو باطل، كما تقدم؛ لأن في الإقرار بعموم الخطاب: إبطال للتخصيص.

- وأما القسم الثالث فهو باطل أيضا، وذلك أنه يتضمن أمرين:

- أولا: أن لسائر النساء كشف الوجه والكف خارج البيوت.

- ثانيا: أن لسائر النساء أن يأذنّ للأجانب، بالدخول عليهن بيوتهن، لسؤال متاع.

وهذا التخصيص المطلق، في الحالين، وإن لم يقل به أهل التخصيص، فهو لازم القول بالتخصيص.

إذن النتيجة:

1- القسم الأول باطل عند الجميع.

2- القسم الثاني قول أهل التخصيص، وهو باطل؛ لأن فيه إبطال للتخصيص، بتعميم بعض الخطاب.

3- القسم الثالث باطل عند الجميع، ويلزم أهل التخصيص.

4- القسم الرابع وهو العموم في الحالين، هو القول الحق والصواب، الخالي من المعارضة.

للعلماء مذاهب في هذه الآية:

- فبعضهم نص على التخصيص صراحة، وهم قلة، ولم أقف، من هذا الصنف، إلا على اثنين، هما: ابن جزي الكلبي في تفسيره، والطاهر ابن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير". هذا من حيث من المفسرين، أما غيرهم، فالمجزوم به: أن كل من يقول بالكشف، فإنه يقول: الآية خاصة بالأزواج.


- وبعضهم لم ينص صراحة على التخصيص، وكلامه محتمل، وحمله على العموم أرجح؛ لأن التخصيص لا يستفاد إلا من صريح القول، ومن هذا الصنف الرازي وأبو السعود.

- والصنف الثالث نص صراحة على عموم حكم الآية، منهم: ابن جرير، وابن العربي، والقرطبي، وابن كثير، والجصاص، والشوكاني، والشنقيطي، وكذا الشيخ حسنين مخلوف، مفتي الديار المصرية، وذهب إلى هذا أيضا: محمد أديب كلكل، وسعيد الجابي، ووهبي سليمان غاوجي، وأبو هشام عبد الله الأنصاري، وعبد العزيز بن خلف [انظر أقوالهم في: عودة الحجاب 3/240-247] وبالعموم فكل من قال بوجوب غطاء الوجه على الجميع، فهو يقول بعموم هذه الآية، حتى من يقول بأن آية الحجاب في المساكن، وآية الجلباب في البروز، كابن تيمية، لا يمنع من دلالة هذه الآية على الحجاب، كما سيأتي قوله، وهذه أقوال طائفة من المفسرين الذين صرحوا بعموم حكم الآية:

1- قال ابن جرير في تفسيره جامع البيان عن تأويل آي القرآن [19/166]: "يقول: إذا سألتم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج: متاعا: {فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ}، يقول: من وراء ستر بينكم وبينهن، ولا تدخلوا عليهن بيوتهن".

2- قال ابن العربي في تفسيره أحكام القرآن، في تفسيره الآية [3/1579]: "هذا يدل على أن الله أذن في مساءلتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض، أو مسألة يستفتى فيها، والمرأة كلها عورة، بدنها وصوتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة، أو لحاجة، كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يعن ويعرض عندها".

3- قال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن [14/227]: "في هذا الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض، أو مسألة يستفتين فيها، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة: بدنها وصوتها، كما تقدم، فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يعرض وتعين وعندها".

4- قال ابن كثير في تفسيره [6/446] في تفسير الآية المتممة لآية الحجاب: {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ..}: "لما أمر الله تعالى النساء بالحجاب من الأجانب، بين أن هؤلاء الأقارب لا يجب الاحتجاب منهم، كما استثناهم في سورة النور، عند قوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ..}".

5- قال الجصاص في أحكام القرآن، في تفسيره الآية [5/242]: "هذا الحكم وإن نزل خاصا في النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه، فالمعنى عام فيه وفي غيره، إذ كنا مأمورين باتباعه والاقتداء به، إلا ما خصه الله به دون أمته".

6- قال الشوكاني في تفسيره فتح القدير [4/298]: "{ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}، أي: أكثر تطهيرا لها من الريبة، وخواطر السوء، التي تعرض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال، وفي هذا أدب لكل مؤمن، وتحذير له، من أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له، والمكالمة من دون حجاب لم تحرم عليه".. قال: "ثم بين سبحانه من لا يلزم الحجاب منه، فقال: {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ ولا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ..}، فهؤلاء لا يجب على نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا غيرهن من النساء الاحتجاب منهم".

7- قال الشنقيطي في تفسيره "أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن" [6/584]: "في هذه الآية الكريمة الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب عام في جميع النساء، لا خاص بأزواجه صلى الله عليه وسلم، وإن كان أصل اللفظ خاصا بهن، لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه، ومسلك العلة الذي دل على أن قوله تعالى: {ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن} هو علة قوله تعالى: {فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ}، هو المسلك المعروف في الأصول بمسلك الإيماء والتنبيه، وضابط هذا المسلك المنطبق على جزئياته: هو أن يقترن وصف بحكم شرعي على وجه لو لم يكن فيه ذلك الوصف علة لذلك الحكم لكان الكلام معيبا عند العارفين".

8- قال الشيخ حسنين مخلوف مفتى الديار المصرية [انظر: عودة الحجاب 3/240، نقلا عن صفوة البيان لمعاني القرآن 2/190]: " وحكم نساء المؤمنين في ذلك حكم نسائه صلى الله عليه وسلم".

أما العلماء الذين نصوا على الخصوصية من غير المفسرين، فمنهم:

1- القاضي عياض، قال: [الفتح 8/530]: " فرض الحجاب مما اختصصن به، فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها، ولا إظهار شخوصهن، وإن كن مستترات، إلا ما دعت إليه ضرورة من براز".

2- قال أبو جعفر الطحاوي [ شرح معاني الآثار 2/392-393. انظر: الرد المفحم ص34]: "أبيح للناس أن ينظروا إلى ما ليس بمحرّم عليهم من النساء، إلى وجوههن وأكفهن، وحرم ذلك عليهم من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى".

3- قال ابن بطال [الفتح 1/10]: "فيه دليل على أن نساء المؤمنين ليس عليهن من الحجاب ما يلزم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لو لزم ذلك جميع النساء لأمر النبي صلى الله عليه وسلم الخثعمية بالاستتار ولما صرف وجه الفضل. قال: فيه دليل على أن ستر المرأة وجهها ليس فرضا، لإجماعهم على أن المرأة تبدي وجهها في الصلاة، ولو رآها الغرباء، وأن قوله: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} على الوجوب في غير الوجه".

- اعتراض، وجواب.

قال بعضهم: لما كان على الأمهات ستر شخوصهن، ولم يكن ذلك على سائر المؤمنات، صح حينئذ القول بأن ثمة حجاب خاص للأمهات، يفترق عن سائر المؤمنات، فإذا ثبت التفاوت، فالقول بأن الأمهات عليهن تغطية الوجه، دون غيرهن، فمن هذا الباب، فهذا أساس في المسألة.

ويقال: هذا المذهب باطل، يخالف الآثار، وهو مذهب القاضي عياض، وقد رده ابن حجر، حيث قال تعليقا على حديث الحجاب الآنف [الفتح 8/530]: "وفي الحديث من الفوائد مشروعية الحجاب لأمهات المؤمنين، قال عياض: فرض الحجاب مما اختصصن به، فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها، ولا إظهار شخوصهن، وإن كن مستترات، إلا ما دعت إليه ضرورة من براز. ثم استدل بما في الموطأ أن حفصة لما توفي عمر سترها النساء عن أن يرى شخصها، وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها ليستر شخصها. انتهى.

وليس فيما ذكر دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن، وقد كن بعد النبي صلى الله عليه وسلم يحججن ويطفن، وكان الصحابة من بعدهم يسمعون منهن الحديث، وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص، وقد تقدم في الحج قول ابن جريج لعطاء لما ذكر له طواف عائشة: أقبل الحجاب أو بعده؟، قال: قد أدركت ذلك بعد الحجاب".

وفي كل حال: هذه المسألة خارج محل النزاع، فليس النزاع في ستر الشخوص، بل في ستر الوجوه، فلو ثبت وجوب ستر الشخوص للأزواج واختصاصهن به، لم يكن ذلك دليلا على أن ستر الوجوه خاص به، بل قد يقال: هو دليل على عموم حكم غطاء الوجه، وإنما الذي اختصت به الأمهات ستر الشخوص.

- استطراد آخر: اعتراض، وجواب.

قال الشيخ الألباني في كتابه [ الرد المفحم ص10]: "يزعم كثير من المخالفين المتشددين: أن الجلباب المأمور به في آية الأحزاب هو بمعنى الحجاب المذكور في الآية الأخرى: {فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ}، وهذا خلط عجيب، حملهم عليه علمهم بأن الآية الأولى لا دليل على أن الوجه والكفين عورة، بخلاف الآية الأخرى، فإنها في المرأة ودارها، إذ إنها لا تكون عادة متجلببة ولا متخمرة فيها، فلا تبرز للسائل، خلافا لما يفعله بعضهن اليوم ممن لا أخلاق لهن، قد نبه على هذا الفرق شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال في الفتاوى 15/448: (فآية الجلابيب في الأردية عند البروز من المساكن، وآية الحجاب عند المخاطبة في المساكن). قلت: فليس في أي من الآيتين ما يدل على وجوب ستر الوجه والكفين".

من هذا يتضح أن للشيخ رأيا خاصا في الآية، فهو يرى عموم حكمها جميع النساء، لكنه يخصها بالبيوت، وكأنه أعمل قاعدة: "خطاب الواحد يعم الجميع"، لكنه نظر إلى سياق الآية، فحكم بأنها في البيوت، دون الخارج، لكن في قوله ثمة إشكال مبني على مذهبه في جواز كشف الوجه، وهو: إذا كان يقصر آية الحجاب على المساكن، ويمنع دلالة آية الجلباب على تغطية الوجه، فمن أين أوجب على الأزواج التغطية؟!

من أجاز كشف الوجه، فلا دليل لديه يوجب تغطية الأزواج الوجه إلا آية الحجاب، وليس في الآثار أمر للأزواج بالتغطية، بل غاية ما فيها تطبيقهن لهذا الحكم، فإذا قصر القائلون بالكشف آية الحجاب على المساكن، حينئذ لا يبقى لديهم دليل يوجب التغطية على الأزواج وجوههن خارج البيت، فيلزمهم القول بجواز كشف الأزواج وجوههن. وهذا لم يقل به أحد، ولا الشيخ نفسه.

فليس ثمة طريق إذن، للقول بوجوب تغطية الأزواج وجوههن، إلا التسليم بشمول حكم آية الحجاب البيت وخارجه، وإذا فعل فقد أقر بأن الآية تدل على وجوب التغطية داخل البيوت وخارجها، وحينئذ يلزمه القول بعموم الحكم نساء المؤمنين، لبطلان التخصيص، كما تقدم، ولأن الشيخ كذلك لا يقول بتخصيص الحكم.

وينتبه هنا: إلى أنه على قول من يوجب التغطية على الجميع، فلا إشكال في تخصيص آية الحجاب بالمساكن، وآية الجلباب في البروز من المساكن؛ لأن هؤلاء يستدلون بآية الجلباب على التغطية، وحينئذ فهي دليل وجوب التغطية في حق الأزواج، كما هو في حق سائر النساء، وهذا هو مذهب ابن تيمية رحمه الله تعالى.

وإذا كانت هذه هي صورة المسألة، فما كان للشيخ أن يستدل على ما ذهب إليه بشيخ الإسلام ابن تيمية، دفعا للإيهام، من أنه يقول بالكشف، فإنه من القائلين بوجوب تغطية الوجه على عموم النساء، ويستدل على ذلك بآية الجلباب، وإذا كان كذلك وجب أن يفهم قوله المنقول في ضوء هذا المذهب، يقول:

"وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين: زينة ظاهرة، وزينة غير ظاهرة. وجوز لها إبداء زينتها الظاهرة، لغير الزوج وذوى المحارم، وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب، كان النساء يخرجن بلا جلباب، يرى الرجل وجهها ويديها، وكان إذا ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها؛ لأنه يجوز لها إظهاره، ثم لما أنزل الله عز وجل آية الحجاب، بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} حجب النساء عن الرجال" [الفتاوى 22/110].

على أنه يقال: إن القول بقصر دلالة آية الحجاب على البيوت مطلقا يعارض علة الآية، التي هي: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}، فالطهارة مطلوبة في الحالين، ومن ثم فالقصر ممتنع، وكون سياق الآية جاء في البيوت، فلا يمنع ذلك من تعميم الحكم خارجه لوجود العلة، والقاعدة معروفة: "العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب".

كذلك لم نجد في أقوال المفسرين التصريح بالقصر، بل ظاهر كلامهم شمول الحكم البيوت وخارجها.

وقد ذهب الشيخ الألباني رحمه الله تعالى إلى أنه لا نص صريح الدلالة، على وجوب ستر الوجه واليدين، ومن ثم فلا يصح حمل النصوص المبيحة على ما قبل الأمر بالحجاب.. قال [الرد المفحم ص122]:

"الشبهة الخامسة: قال أحد الفضلاء: وعلى التسليم بصحة الحديث، يحمل على ما قبل الحجاب، لأن نصوص الحجاب ناقلة عن الأصل فتقدم. فأقول: لا يصح الحمل المذكور هنا لأمرين:

الأول: أنه ليس في تلك النصوص، ما هو صريح الدلالة، على وجوب ستر الوجه واليدين، حتى يصح القول بأنها ناقلة عن الأصل.

الثاني: أن نصوص الحجاب المشار إليه تنقسم إلى قسمين من حيث دلالتها:

- الأول: ما يتعلق بحجاب البيوت، حيث المرأة متبذلة في بيتها، فهذا لا علاقة له بما نحن فيه، على أنه ليس في إلا آية الأحزاب: {وإذا سألتموهن متاعا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ}، وقد قدمنا عن ابن تيمية أنها في البيوت.

- والآخر: ما يتعلق بالمرأة إذا خرجت من بيتها، وهو الجلباب...".

ويفهم من كلامه، أنه لو وجد نص صريح الدلالة على الوجوب، فإنه يكون ناسخا لكل نص يبيح الكشف.

وبما سبق من تفصيل وأوجه، يتبين أن هذه الآية نص صريح الدلالة، في وجوب تغطية الوجوه، لعموم النساء، ويمتنع أن يكون حكم الآية قاصرا على البيوت، لأنه الدليل الوحيد، الذي يوجب تغطية الأزواج وجوههن، عند من يخصهن بالتغطية، فقصر دلالته على البيوت، يعطل دلالته على هذا الحكم، ولا قائل بهذا أحد، ولا الشيخ نفسه.

فإذا ثبت عموم الحكم في آية الحجاب: {وإذا سألتموهن متاعا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}.. فلم يعارضه معارض صحيح يقصر الحكم على الأزواج، فنخرج من ذلك بنتيجة مهمة هي: أن الشارع يؤصل للحجاب الكامل، بتغطية الوجه وسائر البدن. بصريح هذه الآية، التي لم يجد أحد طريقا لصرف معناها وحكمها في حق سائر المؤمنات إلا دعوى الخصوصية بالأزواج..

وقد علم بطلان هذه الخصوصية بما سقنا من أدلة شرعية وعقلية وأقوال للعلماء.

والنتيجة المهمة هنا هي:

- أنه إذا كانت الآية قطعية الثبوت، وهذا بإجماع المسلمين؛ لأنها من القرآن، والله تعالى حفظه.

- وإذا ثبتت قطعية دلالتها على وجوب الحجاب الكامل، بما سبق من الوجوه والأدلة.

فنخرج من ذلك: أن الآية محكمة الدلالة، فتكون من المحكمات، التي يصار إليها حين الخلاف، فما عارضها، وكان ثابتا بسند صحيح، بدلالة صريحة على الكشف، فهو متشابه، كأن يكون قبل الأمر بالحجاب، أو لعذر خاص، وحالة خاصة، فيرد هذا المتشابه إلى هذا المحكم، ويفهم في ضوئه، وبذلك ينتفي التعارض، فهذا سبيل التعامل مع المحكمات، لا يصح ولا يجوز تعطليها لأجل متشابه.

هذا لو كان هذا المتشابه بهذا الوصف من الثبوت والدلالة، فكيف إذا كان باطل السند، كحديث أسماء، أو محتمل الدلالة غير قطعي في الكشف، كحديث الخثعمية، وهذا حال الآثار التي استدل بها الذين أجازوا الكشف، فحينئذ فلا ريب أن الواجب طرحه، وعدم الالتفات، ولا يجوز بحال تقديمه على نص محكم.



--------------------------------------------------------------------------------

[1] [انظر: مذكرة أصول الفقه للشنقيطي ص243]

[2] [تمام المنة 41-42].



* عضو هيئة التدريس بقسم العقيدة بجامعة أم القرى.

رد مع اقتباس
رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع إلى

 


الوقت في المنتدى حسب توقيت جرينتش +3 الساعة الآن 02:39 AM .


مجالس العجمان الرسمي

تصميم شركة سبيس زوون للأستضافة و التصميم و حلول الويب و دعم المواقع