مجالس العجمان الرسمي

العودة   مجالس العجمان الرسمي > ~*¤ô ws ô¤*~المجالس العامة~*¤ô ws ô¤*~ > مجلس الدراسات والبحوث العلمية

مجلس الدراسات والبحوث العلمية يعنى بالدراسات والبحوث العلمية وفي جميع التخصصات النظرية والتطبيقية.

رد
 
أدوات الموضوع طرق مشاهدة الموضوع
  #62  
قديم 27-11-2006, 03:34 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

معركة الخندق واستنطاق التجربة في الحاضر



يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: "يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً* إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا* هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً* وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً* وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً* ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سُئِلوا الفتنة لأتوْها وما تلبثوا بها إلا يسيراً* ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولّون الأدبار وكان عهد الله مسؤولاً* قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذاً لا تمتّعون إلا قليلاً " [الأحزاب:9ـ16]. " ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً* من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً" [الأحزاب:22ـ23].




نزلت هذه الآيات لتتحدث عن معركة فاصلة حاسمة بين المشركين والمسلمين، وهي معركة الخندق، وتسمى بمعركة الأحزاب، والتي حدثت في شهر شوّال، ونحن إذ نستعرض بشكل سريع هذه المعركة فمن أجل أن نقارن بين واقع المسلمين في الماضي وبين واقعهم في الحاضر، وطبيعة الأوضاع التي كانت تسيطر على تلك المرحلة من حياة المسلمين، سواء لجهة الدور الذي لعبه أعداء الإسلام والجهات المندسّة في داخل المجتمع الإسلامي من المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، ممن كانوا يمثلون القوة النفاقية التي تنسق مع المشركين ، وتعمل على إثارة الفتنة في داخل الواقع الإسلامي، أو لجهة نصر الله المسلمين بعد أن أصيبوا بزلزال نفسي وخوف حقيقي، ومن بعد حصار لم يشهدوا له مثيلاً في كل تاريخ صراعهم مع المشركين، لكن الله سبحانه وتعالى كان معهم وهيّأ لهم العوامل الطبيعية التي ساهمت في تحقيق الانتصار، في حين كانت مفاجأة للمشركين وصدمة كبيرة لهم.



الإمداد الغيبـي :



فالله تعالى يبدأ هذه الآيات بعرض الواقعة: "يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنودٌ فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها"، عندما هاجمتهم جنود المشركين وحلفاؤهم من اليهود كانت النتيجة أن أرسل الله عليهم ريحاً قاسية شاتية أثارت الرمال، فأضحى الإنسان معها لا يرى صاحبه، مما أفقدهم التماسك، وجعل أبو سفيان يأمر جنوده بالرحيل.



ويحدّثنا الله سبحانه وتعالى أنه أرسل جنوداً لم يروها، وهي كناية عن الملائكة التي عملت على إيجاد نوع من التوازن في الموقف، ولم يبين الله لنا الطريقة، لأنه غيب من غيب الله أخبرنا الله به ولا نملك تفاصيله، ولذلك فإن علينا أن نؤمن به وإن لم نعرف كلَّ مفرداته ودقائقه ، ويصوِّر القرآن الكريم لنا كيف كانت حالة المسلمين، لأنه يريد أن يعطينا الصورة حتى نتمثلها في المستقبل في كل صراعاتنا مع أعداء الله، وهذه هي قيمة القصة القرآنية التي لا تريد أن تدخلنا في التفاصيل كلها على طريقة القصص التي يلهو بها الناس، ولكنها تريد أن تركز على مفاصل القضايا التي يمكن أن تحدث في أية حالة من الحالات، ليتعلم المسلمون على مدى التاريخ كيف يواجهون الحالات المماثلة، وبالطريقة التي لا يسقطون فيها أمام الحصار والضغط، بل يتطلعون إلى غيب الله بالإضافة إلى ما يتحركون فيه.



إنّ المشكلة التي قد يعيشها المسلمون وغيرهم من الناس أنهم يرتبطون بالجانب الحسي من الأشياء، يعني دائماً أننا نُدخل في الحسابات ما يملك العدو وما نملك نحن، العدو أقوى منّا سلاحاً ونحن أضعف منه، العدوّ يملك امتدادات في الساحة الدولية ، ونحن لا نملك مثل هذه الامتدادات، العدو يجتمع على باطله ونحن نتفرق عن حقنا، فالله سبحانه وتعالى لا يمنعنا من أن ندخل في الحسابات المادية، ولكنه يعرّفنا أن هنالك حالة غيبية إلهية، يجب أن ننفتح من خلالها على الله، ولكن بعد أن نصبح على أتمِّ حالات الاستعداد لنقول له انصرنا على القوم الكافرين، لنقول له أعطنا من غيبك، كما فعل المسلمون في بدر: "إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدّكم بألفٍ من الملائكة مردفين" [الأنفال:9].



ومن هنا، علينا كمسلمين، ومن خلال إيماننا بالله سبحانه وتعالى، في كل تاريخ صراعاتنا، أن لا نغفل الإمداد الغيبي الذي يمد الله به عباده المؤمنين إذا أخلصوا له ، ولو فكّر كل واحد منّا في كل تاريخ حياته، لرأى أن الله سبحانه وتعالى كان يرعاه بطريقة لم يحسب لها حساباً، وكان يرزقه من حيث لا يحتسب، وكان يحرسه من حيث لا يحترس، وكان يخلّصه من البلاء في الوقت الذي يظن فيه أنه ليس هناك خلاصٌ من البلاء، ليدرس كل واحد منكم تاريخ حياته، وسيجد أن في حياته إمداداً غيبياً إلهياً لا يعرف من أين أتى، وكيف تحرك.



هذا الإمداد الغيبي الإلهي هو أمرٌ يمثل الحقيقة، إن على مستوى واقع المسلمين الفردي، أو على مستوى واقعهم الجماعي، ولهذا نجد أن الله يقول: " ومن يتّقِ الله يجعل له مخرجاً* ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه " [الطلاق:2ـ3]، قد يبتلينا الله، ولكنّه في الوقت نفسه يخرجنا من مآزق كثيرة ومن مشاكل كبيرة، لا ندري عوامل نشوئها والمؤثرات التي تركتها؟!



لقد أودع الله في الحياة سنناً كونية وقوانين طبيعية، ولكن الله لم يجعل الناس يعيشون تحت ضغط هذه السنن والقوانين بشكل حديدي، بل إنه سبحانه وتعالى يهيىء لهم سبيل الفرج والرحمة "سيجعل الله بعد عسرٍ يسراً " [الطلاق:7] "إن مع العسر يسرا " [الشرح:6] " لا تقنطوا من رحمة الله " [الزمر:53] " ولا تيأسوا من روح الله" [يوسف:87].



ويركِّز سبحانه وتعالى دائماً على هذا المعنى، وأن على الإنسان أن يعيش على أساس أن لا تضغط عليه الأشياء المادية ، ولهذا لا يمكن لمؤمن أن ينتحر، لأن مسألة الانتحار إنما تنطلق عندما يختنق الإنسان في ظروفه من كل جهة، والإنسان المؤمن لا يمكن أن يختنق أبداً " يا بنيّ اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون" [يوسف:87].



ولهذا أحب أن أخاطب الشباب قبل الكبار، لأن تجارب الكبار في الحياة تجعلهم يحسون بسعتها أكثر من الشباب، خصوصاً من كان منهم في سنّ المراهقة، ولم يملك تجربة كبيرة في الحياة، فيتصور أنها محصورة في جانب دون غيره من الجوانب، فيما الحياة تتسع لكل المراحل، من الضيق إلى السعة، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الشقاء إلى السعادة، ولذلك فإن عملية اليأس ليست واقعية من خلال طبيعة الحياة، لكن بعض الناس هو من يسجن نفسه في دائرة لا يسعى للخروج منها إلى دائرة أخرى، على الرغم من توفر الفرص والظروف.



وفي مسألة الإيمان بالله، فإن الكون كله يتسع لك، لأن "الله على كل شيء قدير "، إذ لا مشكلة إلا ولها حلّ، فالله لا يمكن أن يبتلينا دون أن يوجد لنا حلولاً لمشاكلنا، لكنه سبحانه وتعالى لا يتصرف في الكون على أساس مصلحة الفرد، وإنما يتصرف على أساس المصلحة العامة والحكمة العامة للناس ، وقد يرى سبحانه أن من المصلحة العامة أن يبتليك دون أن يحل لك المشكلة، وفي هذا الإطار لا تستطيع أن تقول إن هذه المشكلة لا حلّ لها، لأن "الله على كل شيء قدير"، وأن يعمل الله أو لا يعمل فهذا راجع إلى حكمته سبحانه وتعالى.



الزلـزال الشديـد :



كانت وقعة الخندق تمثل مشكلة من أصعب المشاكل التي مرت على المسلمين، ولذلك سنحاول أن نرسم صورة الواقع الذي سبق وقوعها، لنلج بعد ذلك إلى الآيات لنعيش أجواءها، حيث كان مجتمع المدينة يضم في تشكيلته ـ عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم ـ إلى جانب الأوس والخزرج عدداً من القبائل اليهودية من بني قريظة وبني القينقاع وبني النضير، وكان هؤلاء يمتلكون مواقع استراتيجية مهمة، كما كان يوجد خارج المدينة اليهود من غطفان وخيبر والمشركين من القبائل، خاصة قريش.



ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الأولوية في صراعه للمشركين، فإنه عندما دخل المدينة أقام معاهدة بين اليهود وبين المهاجرين ومختلف عوائل المدينة، وكانت بذلك أوّل وثيقة تركز معنى الدولة، وعلى هذا الأساس دخل اليهود في عهد مع النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان عندما يخرج إلى الغزوات يشعر بالاطمئنان لوجود هذا العهد، بحيث لا ينقضه هؤلاء، لأن هناك تعايشاً بينهم وبين المسلمين آنذاك، ولكن بعض اليهود من بني النضير أو من آخرين فكّر أن بمستطاعه أن يخلق حرباً جديدة بين المشركين وبين النبي صلى الله عليه وسلم حسب رواية، أو كما جاء في رواية أخرى، حيث كان المشركون يفكرون بالهجوم على المدينة واقتلاع الإسلام من مواقعه الأساسية، وجاء اليهود ليثيروهم، أو لينسِّقوا معهم، ورحبت قريش باليهود الذين لعبوا دوراً مثيراً في قضية الصراع، حتى إنه يقال بأن قريشاً عندما سألت اليهود عن الأهدى، فجاء رد اليهود بأنكم الأهدى، وقد قال تعالى عن هذه المسألة: " ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً" [النساء:51].



وقد زجّت قريش كلّ طاقاتها في المعركة، يعضدها أحلافها في الجزيرة العربية، بعد أن انضمّت إليها جماعات اليهود، ولم يبق إلا بنو قريظة خارج هذا التحالف، لأنها كانت مرتبطة بميثاقٍ مع المسلمين، ولذا حاول اليهود من بني النضير دفع قريظة إلى نقض العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم فامتنعت عن ذلك، ولكن الاستمرار في حالات الإقناع مكّنهم أخيراً من إقناعها بنقضه، بعد أن أغروهم بأن محمداً سيسقط جراء الحشد الهائل الذي تقدمت به قريش وأحلافها في المدينة.



سمع النبي صلى الله عليه وسلم بالذي حصل، فأرسل شخصاً ليتأكد من صحة القضية التي سرعان ما اكتشف بأنها صحيحة، وهنا أصبح الاحتراز واجباً "إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم"، ما جعل المسلمين يعيشون حالةً من الإرباك، لأنهم أصبحوا محاصرين من جميع الجهات، وعاشوا الرعب والخوف "وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر"، حيث كان يشعر الشخص عندما يرتجف قلبه ويخفق خفقات سريعة، كأن قلبه وصل إلى حنجرته من شدة الاهتزاز، وهذا ما أدخل المسلمين في حالة من الظن بالله "وتظنون بالله الظنونا "، إذ فقدوا كل أمل لهم بالنصر وهم على هذه الحال من الحصار المستحكم، كما فقدوا الأمل بالبقاء.



حـرج المنافقيـن :



كانت هذه محطة ابتلاء "هنالك ابتلي المؤمنون ـ في هذا الواقع الجديد ـ وزلزلوا زلزالاً شديداً ـ زلزالاً نفسياً ـ وإذ يقول المنافقون ـ الذين وقعوا في حرج شديد، ما جعلهم يستغيثون بهذا وذاك ليركزوا مفاهيمهم ويخربوا الحالة الإيمانية في نفوس المؤمنين إن استطاعوا ـ والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً ـ فهم عندما وجدوا أنهم لا يستطيعون حراكاً من بيوتهم شككوا بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يعدهم بأنهم سيصلون إلى مدائن كسرى وقيصر ـ وإذ قالت طائفة منهم ـ من هؤلاء المنافقين والذين في قلوبهم مرض ـ يا أهل يثرب ـ وهو اسم المدينة قبل أن تسمى بالمدينة ـ لا مقام لكم ـ لا مجال لكم ـ فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي ـ تحت ستار أن البيوت مكشوفة، لكي يسمح لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج من المعركة ـ يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة ـ .



وقد كانوا يبغون من ذلك الفرار ـ إن يريدون إلا فراراً* ولو دخلت عليهم من أقطارها ـ يعني جاءوا من جميع الجوانب ـ ثم سئلوا الفتنة لأتوها ـ أما في حال طلب منهم أن يخلقوا الفتنة في داخل المجتمع المسلم للتنسيق مع المشركين لجاءوا مسرعين ـ وما تلبثوا بها إلا يسيراً ـ يقول هؤلاء الناس الذين يخافون ويستأذنون النبي ـ ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولّون الأدبار ـ أن يبقوا صامدين في وجه التحديات ـ وكان عهد الله مسؤولاً* قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل ـ فلو فررتم من الموت أو القتل فإن الموت ملاقيكم "قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم" [آل عمران:154] ـ "وإذاً لا تمتعون إلا قليلاً".



الأسـوة الحسنـة :



ويعطينا الله سبحانه وتعالى صورة الجانب الآخر: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " كيف كان صامداً وقوياً وصلباً، فلم يهتز ولم يسقط، مع إنه كان هو المقصود بالدرجة الأولى من كل هذه الأحزاب، وعليكم أن تقتدوا به لتكونوا الأقوياء كما هو قوي، وتكونوا في مواقع الصلابة والشجاعة كما كان هو في مواقع الصلابة والشجاعة " لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً* ولما رأى المؤمنون الأحزاب" هذه الأحزاب التي اجتمعت من كل البلاد "قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله"، بأننا سنجابه كل المشركين وكل أعداء الله، لأنه سبحانه وتعالى كتب علينا الجهاد، لذلك قال ستدعون إلى قوم "أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون" [الفتح:16]. وفي مواجهة التحديات "وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً"، إذ لا يسقط المؤمن أمام كل التحديات، لانفتاحه على الله سبحانه وتعالى، على طريقة نبي المؤمنين وإمامهم الذي يقول لصاحبه: "لا تحزن إن الله معنا".



مواجهة الاختراق بحفر الخندق :



قدّم القرآن الكريم لنا الصورة التي استطاع فيها المشركون أن يخترقوا المسلمين، ومواجهة المسلمين لهذا الاختراق، وهذه حالة موجودة في حياة كل المؤمنين المجاهدين الذين قد يخترق العدو صفوفهم من خلال بعض نقاط الضعف، فيسيطر على مواقعهم، وهنا لا بد أن يستعدوا ليواجهوا هذا الاختراق بطريقة يجعلون فيها العدو يلاقي الهزيمة ، وهذا ما واجهه النبي محمد صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه، كما كان الله سبحانه وتعالى يأمر بذلك "وشاورهم في الأمر" [آل عمران:159] فأشار عليهم سلمان الفارسي بحفر الخندق لعدم الالتحام مع العدو كما كان متبعاً في بلاد فارس، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الفكرة، وبدأ المسلمون بحفر الخندق وهو على رأسهم، واستكمل حفر الخندق، وما إن وصل المشركون إلى المدينة حتى فوجئوا به، لأن هذه الطريقة في الحرب لم تكن مألوفة من قبل لدى العرب.



بدأ المشركون يفكرون باقتحامه، خاصة وأن القتال اقتصر على النبل والحجارة التي كان يرميها كل فريق على الآخر، ولكن كان هناك منطقة ضيقة في الخندق سمحت لعمرو بن عبد ود ومعه عدة أشخاص من اجتياز الخندق، ولكن بعضهم سقط في الخندق فرماه المسلمون وقتلوه.



وعمرو هذا كان أحد أبطال العرب، وربما جرح في بدر، ونذر أنه سينتقم ويقتل محمداً صلى الله عليه وسلم وقد لبث طوال هذه المدة يداوي جراحاته، أو أن هناك ظروفاً قد حالت دون اشتراكه في الحروب التي سبقت الخندق.



ولعلّ ـ عمراً كما كل المشركين ـ كان يتصور أن المسلمين لا يستطيعون مقاومة هذه الحملة، وبذلك يتحقق ما قطعه على نفسه من قتل محمد صلى الله عليه وسلم ، ولذلك ما إن اجتاز الخندق حتى وقف قائلاً للمسلمين بسخرية، إذا كنتم تقولون إن مَنْ يُقْتل منكم يذهب إلى الجنة، فمن يحب أن يذهب إلى الجنة، فأنا مستعد أن أقتله، وهو يصول ويجول ويرتجز ويقول: لقد بححت من النداء بجمعكم هل من مبارز



معركة الإيمان والشرك :



والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من لعمرٍ وقد ضمنت له على الله الجنة"، فلا يقوم أحدٌ إلا علي، فقال له: اجلس، ثم قال: أنا له يا رسول الله، وهكذا كان ينادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقوم أحدٌ إلا علي، والنبي صلى الله عليه وسلم يأمره بالجلوس، حتى قال له في المرة الثالثة: "أنت له" ....وانطلق علي، فقال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، قال: لقد كان أبوك صديقاً لي وأنا لا أحب أن أقتلك، فليبرز لي غيرك، قال له: ولكني أحب أن أقتلك، لأن الموقع ليس موقع علاقات شخصية، بل موقع رسالة، واشتدت العصبية بعمرو.



ويقال إن الإمام علي قال له: "إن كنت تقول ما دعاني أحد من العرب ممن أريد أن أبارزه إلى ثلاث خصال إلا أجبته إلى واحدة، قال له: نعم، فقال علي: أولاً: أن تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لأننا لا نريد أن نقاتل أحداً إلا بعد أن ندعوه إلى الإسلام ونقيم عليه الحجة، قال له: دع هذه، لو أردنا أن نقولها لقلناها بمكة، قال : إذاً أن ترجع بهذا الجيش من حيث أتيت، قال: ماذا تقول عني نساء قريش، بأني جئت ولم أفِ بنذري، هذا ليس وارداً، ثم قال: أن تنزل للبراز، أنت فارس وأنا راجل، وذلك حتى نكون في وضع متكافئ.



وكانت النتيجة أن صرع علي عمراً وقتله وفرّ من كان معه من الرجال ووقع بعضهم في الخندق، ثم جاءت الريح العاتية الشاتية القوية العاصفة، وخرّبت كل تشكيلات قريش والأحزاب، "وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال". ..



اكتسب المسلمون قوة بذلك، ما مكّن النبي صلى الله عليه وسلم أن يندفع فيما بعد إلى بني قريظة فيجليهم عن المدينة، وبذلك لم يبقَ فيها أحد من اليهود، أما الذين كانوا في خيبر فقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يهزمهم بعد ذلك.



نقض العهود :



أما إيحاءات هذه القضية، فالإيحاء الأول هو أن اليهود لا عهد لهم، وقد تحدث القرآن الكريم عن ذلك "أوَكلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم" [البقرة:100] "ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" [البقرة:27]، وإذ خاطبهم الله "وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم" [البقرة:40] ولكن اليهود لا يعاهدون إلا إذا كانوا في موقع الضعف، وعندما يجدون من أنفسهم القوة ينقضون عهدهم، وهذا ما حصل عندما رأوا المشركين جاهزين للهجوم على المدينة لإسقاطها، وأبدوا استعدادهم للتنسيق مع أيٍّ كان، لأنهم يعتبرون الإسلام في كل مواقعه يختزن حيوية في فكره وفي سياسته وفي اقتصاده، الأمر الذي يمنعهم من تحقيق أهدافهم والوصول إلى أطماعهم وتأكيد شخصيتهم، سيما وأنهم يرون أنفسهم شعب الله المختار المؤهّل للسيطرة على العالم.



وهذا ما يجب أن نعيشه ونتحسَّب له أمام كلِّ دعوات "السلام" مع "إسرائيل" ومع يهود العالم، لأنه إذا لم نقل إن كل يهود العالم ينسّقون مع "إسرائيل" ويحاربون كل المسلمين اقتصادياً وسياسياً وثقافياً لمصلحة "إسرائيل"، فعلى الأقلّ فإن أكثرية اليهود كذلك.



... ولو سلمنا جدلاً بأن الصلح يشكل مسألة واقعية على المستوى السياسي، كما يقول بعض الناس الذين يتحدثون عن الواقعية، فإن هذا بخلاف ما ينطق به تاريخنا الإسلامي، وقرآننا الكريم الذي يقول : إنه ليس لليهود عهد، لأنهم " ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" . وإذا كانوا يتحدثون الآن عن "السلام" ويزايدون في بعض الحالات، فهم يتحدّثون عن القوى الإسلامية التي تقف ضدّ "إسرائيل"، لأنها لا تعترف بشرعية وجودها ولا تهادنها بشيء، سواء كان الإسلاميون في فلسطين من أبطال الانتفاضة أو الإسلاميون في لبنان من أبطال المقاومة، أو الإسلاميون في سائر أنحاء العالم، لأن مشكلة هؤلاء ـ حسب زعمها ـ أنهم ضد "السلام"، وهي حمامة "السلام"، قاصدة من وراء كل ذلك إثارة الغرب والرأي العام الدولي، بأن هؤلاء هم دعاة حرب لا دعاة "سلام".



لذلك لا بد لنا كمسلمين أن نحمل في عقولنا وفي قلوبنا هذه الفكرة القرآنية عن اليهود، وقد بيّن الله تعالى ذلك: " لتجدنّ أشد الناس عداوةً للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا" [المائدة:82].



بناءً لما تقدم، علينا أن نعي حقيقة التحالف الذي وقع بين المشركين واليهود في وقعة الأحزاب، لأن هذه حقيقة قرآنية وسياسية على مستوى الزمن كلِّه، ولذا يجب أن نستوحي مفاهيمنا السياسية في علاقاتنا بكل المحاور الموجودة في العالم من الحقائق القرآنية، والقرآن عندما يحدثنا عن اليهود يحدثنا عن تجربة من زمن موسى عليه السلام إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم ناهيك عن التجارب الأخرى التي يتحدث عنها التاريخ، ما يجعلنا نرتكز على قاعدة مفادها أن حالة العنصرية والعدوانية متجذِّرة في الشخصية اليهودية.



إزاء هذا الواقع علينا أن نثقف أولادنا على أساس أن اليهود يشكلون خطراً حقيقياً على الإسلام وعلى المسلمين في كل قضاياهم، لأنه إذا قدّر للعبة الدولية أن تحقق أهدافها من خلال عملية الصلح بين العرب وإسرائيل، فإن أمريكا سوف تُدخل إسرائيل في كل الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمالي والأمني من خلال المفاوضات المتعددة الجنسيات، أو من خلال المفاوضات الثنائية، وذلك عن طريق فرض الأنظمة، وعندما يدخلون إلى بلادنا تحت عنوان "السلم"، فإنهم سيحققون بذلك ما عجزوا عن تحقيقه بالحرب.



هذه المسألة هي برسم كلّ المسلمين في العالم، فمثلاً إذا كنت ملتزماً إسلامياً، هل تشتري الخمر لتشربه؟ هل تأكل لحم الخنزير؟ هل تأكل لحم الميتة؟ إنك تقول : لا يمكن ذلك، إن التعامل مع إسرائيل وإيجاد حالة تطبيعية معها هو تماماً كأكل لحم الخنـزير، وكشرب الخمر، لذلك نقول حتى للناس الذين يعيشون في المناطق التي تسيطر عليها "إسرائيل"، أو الناس الذين تدفعهم إلى أن يهرّبوا البضائع "الإسرائيلية"، إن ذلك حرام وإن المال الذي تأكلونه من ذلك سحت.



وبما أن المسألة لا تقتصر على الجانب السياسي فحسب، فإننا نكون بذلك قد عملنا على تقوية "إسرائيل" من الناحية الاقتصادية، وهذا يعني أننا نمدها بالقوة اللازمة لتهزم قوتنا، وبالقوة العسكرية لتقتل أهلنا وأطفالنا ونساءنا وشيوخنا، وهذا ما يقوم به الذين يتجندون "لإسرائيل" عسكرياً.



والنقطة الثانية التي نستطيع أن نستفيدها من موقعة الخندق، هي أن المشركين كانوا في موقع الكثرة المحاصرة للمسلمين، بينما كان المسلمون أقلّ عدداً وعدة ومحاصرين، ومع ذلك فإن الله هزم الكثرة وأعز القلة، وشرّد المحاصِرين وأعزّ المحاصَرين، وهذه هي الحالة التي نقرأ خلاصتها دائماً في التعقيب: "لا إله إلا الله وحده وحده وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده".



ومن خلال هذه الصورة، علينا أن نفهم أنّه ليس من الضروري أن تولد لنا الهزيمة يأساً، لأننا إذا أخذنا بأسباب القوة فيما نريد أن نحقق لأنفسنا القوة، فقد نستطيع أن نهزمهم بطريقة وبأخرى، فإذا استطعنا أن نهزمهم في المواقع الصغيرة، فإن ذلك يعني أننا طوّرنا قوتنا، ونستطيع أن نهزمهم في المواقع الكبيرة.



ولذلك علينا دائماً أن نفكر كأمة ولا نفكر كأفراد، لأننا إذا فكرنا كأفراد نشعر بالضعف، أما إذا فكرنا كأمة فإننا لا ريب سنشعر بالقوة، وعلينا أن لا نفكر فقط بالجانب المادي من حياتنا، بل أن نفكر بالجانب الروحي أيضاً الذي يربطنا بالله سبحانه وتعالى.



وعلى هذا الأساس، ينبغي أن نفكر ونمتلك الوعي السياسي الذي نحيط من خلاله بخلفيات الأمور وعمق القضايا والأشخاص، علينا أن لا نفكر لحظة واحدة أن الذين يسيطرون على الواقع العربي وعلى كثير من الواقع الإسلامي يمثلون الضمانة للعرب وللمسلمين في قضايا الحرية والعزة والكرامة والعدالة، لأن الكثيرين منهم موظفون لدى الاستكبار العالمي، بحيث لا يعتبرون أن إسرائيل تشكل خطراً عليهم، إنما يجدون الخطر كل الخطر في الإسلام ـ الذي يحكمون باسمه ـ إذا تحرك من أجل أن يؤكد مفاهيمه وشريعته.



المصدر : موقع بينات

رد مع اقتباس
  #63  
قديم 27-11-2006, 06:55 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

إن من أسباب هذه السرية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتاب إلى ملك بصرى ، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فقتله صبراً ، وكانت الرسل لا تقتل. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرسل هذه السرية إلى مؤتة ، في جمادى الأولى من سنة ثمان الهجرية.




وكان عدة هذه السرية ثلاثة آلاف مقاتل ، وأمّر عليها زيد بن حارثة ، ثم قال : إن قُتل زيد فجعفر ، وإن قُتل جعفر فعبد الله بن رواحة ، وزاد الواقدي ، وابن سعد : (فإن أصيب عبدالله بن رواحة فليرتض المسلمون بينهم رجلا فيجعلوه عليهم).



وعندما تهيأ الجيش وتجهزوا للخروج ودع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحينها بكى ابن رواحة ، فسألوه عن السبب ، فقال : (أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم ، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله عز وجل يذكر فيها النار : (وإن منكم إلا واردها ، كان على ربك حتماً مقضياً) ، فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود) ، فقال المسلمون : صحبكم الله ودفع عنكم ، وردكم صالحين ، فقال ابن رواحة :



ولكنني أسأل الرحمن مغفرة * وضربة ذات فرغ تقذف الزبد



أو طعنة بيدي حران مجهزة * بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا



حتى يقال إذا مروا على جدثي * أرشده الله من غاز وقد رشدا



ذات فرغ : أي ذات سعة.



الزبد : هنا هو رغوة الدم.



ثم مضوا حتى نزلوا مَعَان من أرض الشام ، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب ، من أرض البلقاء ، في مائة ألف من الروم ، وانضم إليهم من لخْم وجُذام وبَلَقَين وبهراء وبَلِي مائة ألف ، عليهم رجل من بَليّ ، يقال له مالك بن رافلة ، فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم ، وقالوا : نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا ، فإما أن يمدنا بالرجال ، وإما أن يأمرنا بأمره ، فنمضي له ، فشجع ابن رواحة الناس ، وقال : (يا قوم ، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون : الشهادة ، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذين أكرمنا الله به ، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين ، إما ظهور وإما شهادة) فقال الناس : ( قد والله صدق ابن رواحة)..



فمضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء ، لقيهم جموع هرقل ، من الروم والعرب، بقرية مَشَارِف من قرى البلقاء ، ثم دنا العدو ، وانحاز المسلمون إلى قرية مؤتة، وعبؤوا أنفسهم فيها ، جعلوا على الميمنة قُطبة بن قتادة العذري ، وعلى الميسرة عبادة بن مالك الأنصاري ، ثم التقى الناس واقتتلوا ، فاستشهد زيد، وأخذ الراية جعفر ، فاقتحم عن فرس له شقراء ، ثم عقرها ، ثم قاتل حتى أكرمه الله بالشهادة ، وهو ينشد :



يا حبذا الجنة واقترابها * طيبة وبارداً شرابها



والروم روم قد دنا عذابها * كافرة بعيدة أنسابها



علي إذ لاقيتها ضرابها



وروى ابن هشام أن جعفراً أخذ اللواء بيمينه فقطعت ، فأخذه بشماله فقطعت ، فاحتضنه بعضديه حتى قتل ، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء.



ثم قال ابن هشام : (ويقال إن رجلاً من الروم ضربه يومئذ ضربة فقطعه نصفين). وقد ذكر الواقدي وابن سعد عدة روايات في الحالة التي وجد عليها جعفر بعد استشهاده ففي رواية أنه وجد في أحد نصفيه ثلاثون أو بضعة وثلاثون جرحاً ، وفي رواية ثالثة أنه وجد في بدنه أكثر من ستين جرحاً وطعنة ، قد أنفذته. وثبت في الصحيح أنه قد وجد في جسده بضع وتسعون من طعنة ورمية.



روى ابن إسحاق وغيره أنه لما قتل جعفر أخذ ابن رواحة الراية ، ثم تقدم بها وهو على فرسه ، ثم تردد بعض التردد ، ثم قال مرتجزاً :



أقسمت يا نفس لتنزلنه * لتنزلن أو لتكرهنه



إن أجلب الناس وشدوا الرنة * مالي أراك تكرهين الجنة



قد طال ما قد كنت مطمئنة * هل أنت إلا نطفة في شنه



إن أجلب الناس : أي صاحوا واجتمعوا.



الرنة : صوت فيه ترجيع شبه البكاء.



نطفة : الماء القليل الصافي.



شنة : القربة القديمة.



وقال أيضاً :



يا نفس إلا تقتلي تموتي * هذا حمام الموت قد صُلِيت



وما تمنيت فقد أعطــيت * إن تفعلي فعلهمــــــا هديت



ثم نزل ساحة الوغى. فلما نزل أتاه ابن عم له بعظم عليه بعض اللحم وطلب منه أن يشُد به صلبه لما لاقاه من أيامه تلك من الشدة ، فلما أخذ من هذا العظم شيئاً يسيراً ، سمع الكسرة من ناحية الناس فقال : وأنت في الدنيا ! ثم ألقاه وأخذ سيفه فقاتل حتى قتل ، فنال الشهادة التي كان يتمناها ، وقد ظهر ذلك في موقفه عندما حث الناس على لقاء العدو ، على الرغم من كثرته ، وعندما ترجم مشاعره في أشعاره التي ذكرنا ، وفي قوله لربيبه الذي كان في حجره ورديفه إلى مؤتة ، زيد بن أرقم، الذي سمعه يترنم بأبيات من الشعر ، ويشتهي فيها الشهادة ، فبكى زيد ، فخفقه ابن رواحة بالدرة ، وقال له : (ما عليك يالكع أن يرزقني الله شهادة وترجع بين شعبتي الرحل).



ثم أخذ الراية بعده ثابت بن أقرم ، وطلب من المسلمين أن يصطلحوا على رجل منهم ، فرشحوه فرفض ، فاصطلحوا على ابن الوليد ، فأخذ الراية ، وتمكن من الانسحاب.



وروي أنه لما قتل ابن رواحة مساء بات خالد ، فلما أصبح غدا ، وقد جعل مقدمته ساقته ، وساقته مقدمته ، وميمنته ميسرته ، وميسرته ميمنته ، فأنكر الأعداء ما كانوا يعرفون من رايات وهيئة المسلمين ، وقالوا : قد جاءهم مدد ، فرعبوا ، فانكشفوا منهزمين ، فقتلوا مقتلة لم يقتلها قوم ، وانكسرت يومئذ في يد خالد بن الوليد تسعة أسياف ، مما يدل على شدة القتال قبل أن ينسحب من ميدان القتال.



ومما يؤكد مباشرة المسلمين القتال قبل الانسحاب ما رواه مسلم وغيره من حديث عوف بن مالك أن رجلاً من أهل اليمن رافقه في هذه السرية ، فقتل رومياً وأخذ سلبه ، فاستكثره خالد ، فشكاه اليمني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.



ومما ظهر من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر هذه السرية أنه صلى الله عليه وسلم نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة قبل أن يأتيه خبرهم ، وعيناه تذرفان الدموع ، وأخبرهم بأخذ خالد للراية وبشرهم بالفتح على يديه ، وسماه يومئذ سيف الله .



وحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وقع لهم ، ثم بعد ذلك قدم بخبرهم يعلى بن أمية ولم يزد ما جاء به عما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه . وفي رواية أن عامر الأشعري هو الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمصابهم.



وعلى الرغم من ضراوة هذه المعركة وكثرة أعداد جيش العدو إلا أنه لم يستشهد من المسلمين سوى اثني عشر رجلاً كحد أقصى ، أما الأعداء فلم يعرف عدد قتلاهم، غير أن وصف المعركة يدل على كثرتهم.



وكان لشهداء مؤتة مكانة عظيمة عند الله تعالى ، ولذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (ما يسرني أو قال ما يسرهم أنهم عندنا).



أما ما روى ابن إسحاق من أن الناس قالوا لجيش مؤتة : (يا فرار ، فررتم في سبيل الله) فقد قال ابن كثير عن هذه الرواية : (وعندي أن ابن إسحاق قد وهم في هذا السياق ، فظن أن هذا الجمهور الجيش ، وإنما كان للذين فروا حين التقى الجمعان ، وأما بقيتهم فلم يفروا ، بل نصروا كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين ، وهو على المنبر في قوله : (ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ، ففتح الله على يديه) ، فما كان المسلمون ليسموهم فرارا بعد ذلك ، وإنما تلقوهم إكراماً وإعظاماً ، وإنما كان التأنيب وحثي التراب للذين فروا وتركوهم هناك ، وكان فيهم عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.



وساق ابن كثير أدلة على أن جمهور المسلمين لم يفروا ، بل فرت مجموعة من المسلمين ، من ذلك حديث عبدالله بن عمر عند أحمد ، الذي فيه أنه كان ممن فر وخشوا القتل إن هم دخلوا المدينة ، فهموا أن يركبوا البحر ، ثم أخيراً قرروا عرض أنفسهم على الرسول صلى الله عليه وسلم ، واعترفوا بفرارهم ، فقال لهم : (لا بل أنتم العكارون ، أنا فيئتكم ، وأنا فيئة المسلمين) وفي رواية قال لهم : (لا بل أنتم الكرارون).



وجيء بأبناء جعفر رضي الله عنه ، فداعبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر بحلق رؤوسهم ، ودعا لهم ، وقال لأمهم عندما جاءته تذكر يتمهم : (العيلة تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة ؟).



ولما جاء نعي جعفر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اصنعوا لآل جعفر طعاماً ، فقد أتاهم أمر يشغلهم ، أو أتاهم ما يشغلهم).



أحكام وحكم ودروس وعبر من أحداث هذه السرية :



1- إن في تعيين الرسول صلى الله عليه وسلم لثلاثة أمراء على جيش سرية مؤتة ، لدليل على جواز تعليق الإمارة بشرط ، تولية عدة أمراء بالترتيب.



2- في نعي الرسول صلى الله عليه وسلم الأمراء الثلاثة قبل مجيء خبرهم ، فيه جواز الإعلام بموت الميت ، ولا يكون ذلك من النعي المنهي عنه ، وفيه علم ظاهر من أعلام النبوة.



3- في تأمير المسلمين لخالد بعد استشهاد الأمراء الثلاثة دليل على جواز الاجتهاد في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.



4- إن ظهور الحزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما جاءه خبر استشهاد الأمراء الثلاثة لدليل على ما جعله الله فيه من الرحمة ولا ينافي ذلك الرضا بالقضاء ، ويؤخذ منه ظهور الحزن على الإنسان إذا أصيب بمصيبة لا يخرجه عن كونه صابراً راضياً إذا كان قلبه مطمئناً ، بل قد يقال إن من كان ينزعج بالمصيبة ويعالج نفسه على الرضا والصبر أرفع رتبة ممن لا يبالي بوقوع المصيبة أصلاً.



5- أفاد المسلمون دروساً وخبرات عظيمة من هذا اللقاء الأول مع الروم في مستقبل جهادهم معهم، حيث تعرفوا على عددهم وعدتهم وخططهم العسكرية وطبيعة أرضهم التي وقع فيها القتال.



6- إن في مواقف الأمراء الثلاثة دليل على مدى قوة الإيمان الذي يحرك الصحابة رضي الله عنهم نحو ميادين الجهاد.

رد مع اقتباس
  #64  
قديم 27-11-2006, 06:56 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

المبحث الأول : سرية ابن أبي العوجاء السلمي :






عندما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرة القضاء بعث ابن أبي العوجاء السلمي في خمسين فارساً ، وكان معهم عين لبني سليم ، فلما فصل من المدينة خرج العين إلى قومه فأخبرهم ، فجمعوا جمعاً غفيراً واستعدوا للقاء المسلمين.




وعندما جاءهم المسلمون دعوهم إلى الإسلام فرفضوا ، وأحدقوا بالمسلمين ، فقتلوا عامتهم ، وأصابوا ابن أبي العوجاء وتركوه جريحاً بين القتلى ، ثم تحامل حتى بلغوا المدينة في أول يوم من صفر سنة ثمان من الهجرة.






المبحث الثاني : إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد (رضي الله عنهما) :






وروى أحمد وابن إسحاق أن عمرو بن العاص عندما رأى علو شأن الرسول صلى الله عليه وسلم تحدث مع من يسمعون له من رجال قريش في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأقنعهم بالخروج معه إلى النجاشي ، فهو أحب إليهم أن يكونوا عنده من أن يكونوا تحت يدي محمد إذا ظهر ، وإن ظهر قومهم فلن يأتيهم منهم إلا الخير لمعرفتهم بهم. وجمعوا جلوداً ليهدوها إلى النجاشي لأن ذلك أحب ما يهدى إليه من أرض الحجاز. واتفق أن جاؤوا النجاشي وعنده عمرو بن أمية الضمري رسولاً من النبي صلى الله عليه وسلم ، فعندما خرج من عند النجاشي دخل عليه عمرو وطلب منه أن يعطيه إياه ليقتله لأنه من عدوه ، فغضب منه النجاشي وضربه على أنفه ، فخاف واعتذر ، ثم قذف الله في قلبه الإسلام لما رأى حماسة الناس حتى العجم في الإيمان بمحمد والدفاع عنه. ولم يتردد عمرو في مبايعة النجاشي على الإسلام عندما اقترح عليه النجاشي ذلك ، ثم خرج وكتم إسلامه عن أصحابه وعاد إلى بلاده.






وقبيل الفتح خرج عمرو بن العاص عامداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ليسلم ، فلقيه خالد بن الوليد يريد ما يريد عمرو فقدما سوياً على الرسول صلى الله عليه وسلم ، فبايعا على الإسلام.






ومما يؤكد أن إسلام عمرو وخالد كان في التاريخ الذي ذكره ابن إسحاق والواقدي أن اسم خالد ظهر في سرية مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة وأن اسم عمرو بن العاص ظهر في سرية ذات السلاسل في جمادى الثانية سنة ثمان من الهجرة.






أما قصة إسلام خالد فقد رواها الواقدي ، وخلاصتها أن خالداً عندما أراد الله به ما أراد من الخير وقذف في قلبه الإيمان ، كان ينصرف بعد كل موطن شهده ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفكر ، فيرى في نفسه أنه في موضع غير موضعه وأن محمد سيظهر ، وفي غزوة الحديبية بالذات تأكد له أن الرسول صلى الله عليه وسلم ممنوع ، لأنه عندما هم أن يغير بخيله على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان ، أطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على ما في أنفسهم فصلى بأصحابه صلاة الخوف ، ولم يترك لهم فرصة. وعندما تم الصلح بالحديبية رأى أنه لم يبق شيء ، ففكر في الذهاب إلى النجاشي وهرقل ، وبينما هو يقلب هذا الأمر في ذهنه ، دخل رسول الله في عمرة القضاء ، فتغيب ، ودخل أخوه الوليد في الإسلام في هذه العمرة ، وطلبه فلم يجده ، فكتب إليه كتاباً فيه تعجبه من مثله في ذهاب عقله عن الإسلام ، وذكر له سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله عنه : (ما مثله جهل الإسلام ، ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين على المشركين كان خيراً له ولقدمناه على غيره) ، فلما جاءه كتاب أخيه نشط للهجرة ، وزاده رغبة في الإسلام أنه رأى في المنام كأنه في بلاد ضيقة جدبة ، فخرج منها إلى بلاد خضراء واسعة ، فقال : إن هذه لرؤيا ، فذكرها لأبي بكر عندما قدم المدينة ، فقال : هو مخرجك الذي هداك الله للإسلام والضيق هو الشرك.






وعندما أجمع الهجرة أراد أن يرافقه رجال في مكانته ، فاتصل بصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل ، فرفضا ، فتركهما فخرج ، وعند خروجه التقى بصديقه عثمان بن طلحة فذكر له ما يريد ، فعلم منه أنه يريد ما يريد ، فاتعدا بيأجج ، وخرجا سحراً والتقيا عند الفجر بيأجج وسارا حتى انتهيا إلى الهدة ، فوجدا عمرو بن العاص بها ، فتعارفوا ثم ساروا سوياً إلى المدينة فأسلموا ، وكان ذلك في صفر سنة ثمان من الهجرة.






المبحث الثالث : سرية غالب بن عبد الله إلى الكديد :






أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشن الغارة على بني الملوح ، وهم بالكديد [ وهي منطقة بين عسفان وقديد] ، وفي طريقه إليهم ، وفي منطقة قديد [ وهي قرية جامعة بين مكة والمدينة كثيرة المياه ] لقوا الحارث بن مالك ، وهو ابن البرصاء الليثي ، فأخذوه ، فأخبرهم أنه في طريقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم ، فلم يطمئنوا إليه فأوثقوه واعتذروا إليه بأن رباط ليلة لن يضيره ، وتركوه مع رجل أسود من أصحابه ، وأوصوه أن يقتله إذا غالبه. وأتوا الكديد عند الغروب ، فكمنوا وأرسلوا جندب بن مكيث الجهني طليعة لهم ، فأتى تلاً مشرفاً على الحاضر ، فرأى رجل من الأعداء أن هناك شيئاً مريباً فأصابه بسهم فلم يتحرك حتى لا يكشف أمر أصحابه ، ونزع السهم من جسده ووضعه ، وفي السحر شنوا الغارة على الأعداء واستاقوا النعم ، ومضوا بها ، ومروا بابن البرصاء وصاحبه فاحتملوهما معهم ، وفي هذا الأثناء استغاث القوم فجاءهم جمع غفير لا قبل للمسلمين به ، فساروا في إثرهم حتى قربوا منهم ، ولم يكن بينهم وبين المسلمين إلا وادي قديد ، فأرسل الله الوادي بالسيل من غير سحاب ولا مطر ، فلم يستطيعوا تجاوزه ، ونجا المسلمون منهم.






وكانت هذه السرية في صفر ثمان من الهجرة ، وكانوا بضعة عشر رجلاً.






المبحث الرابع : دروس وعبر من أحداث هذه السرية :






1- إن إرسال الله تعالى الوادي بالسيل ليمنع الأعداء من الإيقاع بالمسلمين كرامة لهم.



2- وفي خبر إصابة جندب بسهم في جسده ومع ذلك لم يتحرك ، لدليل على تفاني المسلمين الأوائل وتحملهم أشد أنواع الأذى في سبيل هذه الدعوة.



3- إن في خبر ربط المسلمين ابن البرصاء دليلاً على أهمية أخذ الحذر من الأعداء.



4- وفي إرسال الطلائع للتجسس على أخبار الأعداء دليل على أهمية اتخاذ العيون أخذاً بالأسباب في المحافظة على أرواحهم والإيقاع بالعدو ، وأخذه على حين غرة ما دامت قد بلغته الدعوة ، وأخذ في تهديد أمن المسلمين.






المبحث الخامس : سرية غالب بن عبد الله الليثي أيضاً إلى مُصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك :






هيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام في مائتي رجل ليسير إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك. وعندما عاد غالب من سرية الكديد أرسله مكان الزبير ، وقيل خرج معه في هذه السرية أسامة بن زيد وعلبة بن زيد ، فأصابوا منهم نعماً ، وقتلوا منهم قتلى. وقيل كان ذلك في صفر سنة ثمان من الهجرة.






وذكر الواقدي أن أسامة بن زيد قتل في هذه السرية نهيك بن مرداس وهو يقول : لا إله إلا الله ، وعنفه الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا المسلك. وروى بإسناده إلى المقداد بن عمرو أنه قتل رجلاً شهد أن لا إله إلا الله ، فعنفه الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك ، ولما يذكر أن ذلك كان في هذه السرية.






ويبدو الاختلاف ظاهراً في قصة الرجل الذي قال : لا إله إلا الله فقتله أحد الصحابة، فمرة أنه أسامة ، ومرة أن المقداد ، ومرة في سرية الحرقة ويسمى المقاتل ولا يسمى المقتول ، ومرة في سرية الكديد ، ومرة ثالثة في سرية الميفعة ، والراجح كما قلنا ، وكما هو ثابت في الصحيحين أن قصة قتل أسامة لرجل شهد أن لا إله إلا الله قد وقعت في سرية الحرقة من جهينة ، وسمى ابن إسحاق الرجل المقتول ، وهو مرداس بن نهيك ، وإسناده صحيح.






المبحث السادس : سرية كعب بن عمير إلى قضاعة بذات أطلاح :






أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسة عشر رجلاً حتى انتهوا إلى ذات أطلاح من أرض الشام ، من وراء وادي القرى ، وذلك في ربيع الأول من العام الثامن الهجري ، فكان يسير الليل ويكمن النهار ، حتى دنا منهم ، فرآه عين لهم فأخبرهم بقلة عددهم فجاءوهم على الخيول فقتلوهم إلا رجلاً واحداً أفلت منهم فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما حدث ، فهم بالبعث إليهم ، ولكنه بلغه أنهم ساروا إلى موضع آخر ، فتركهم.






المبحث السابع : دروس وعبر :






في هذه السرية درس بليغ للناس عما كان يقع للصحابة المجاهدين في سبيل الدعوة الإسلامية. وقد تكرر مثل هذه الحادثة كثيراً كما هو واضح من سردنا لأحداث هذه السرايا الصغيرة.






المبحث الثامن : سرية شجاع بن وهب إلى السي من أرض بني عامر :






في ربيع الأول من العام الثامن الهجري بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب في أربعة وعشرين رجلاً إلى جمع من هوازن بالسي ، من أرض بني عامر ، ناحية ركبة ، فأغاروا عليهم ، فأصابوا نعماً كثيراً وشاء ، فعادوا بها بعد غياب دام خمس عشرة ليلة ، وجاء في أثرهم وفدهم إلى المدينة وأعلنوا إسلامهم، فرد المسلمون إليهم السبي. وكان في السبي جارية وضيئة اختارت المقام مع شجاع بن وهب.






وفي قصة هذه الجارية دليل على مدى أثر أخلاق المسلمين في غيرهم ، حتى ولو كان هذا الغير هم ممن حاربوهم وأرادوا القضاء عليهم.






وقد تكون هذه السرية هي التي أشار إليها البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فيها عبد الله بن عمر قبل نجد ، فغنموا إبلاً كثيرة فكانت سهامهم اثني عشر بعير أو أحد عشر بعيراً ، ونفلوا بعيراً بعيراً.






وقد تكون سرية نجد التي أشار إليها البخاري ومسلم وغيرهما هي ذاتها سرية أبي قتادة بن ربعي الأنصاري إلى خضرة ، وهي أرض محارب – من غطفان – بنجد ، في شعبان سنة ثمان من الهجرة ، وكان معه خمسة عشر رجلاً ، فهجم على حاضر منهم عظيم ، فقتلوا من أشرف لهم واستاقوا النعم والسبي ، وكان نصيب كل رجل منهم اثني عشر بعيراً ، فصارت في سهم أبي قتادة جارية وضيئة ، فاستوهبها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوهبها له ، فوهبها النبي صلى الله عليه وسلم لمحمية بن جزء.






وغابوا في هذه السرية خمس عشرة ليلة.






المبحث التاسع : سرية زيد بن حارثة إلى مدين :






بعثه إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ضميرة مولى علي بن أبي طالب ، وأخ له ، فأصاب سبياً من أهل ميناء ، وهي السواحل ، وفيها جماعات من الناس مختلطين ، فبيعوا ، ففرق بينهم الأمهات والأولاد ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وهم يبكون ، فقال : (مالهم ؟) فقيل : (يا رسول الله ، فرق بينهم) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ولا تبيعوهم إلا جميعاً).






ولم تذكر المصادر التي بين يدي تاريخاً معيناً لهذه السرية. ويستنتج أنها وقعت قبل سرية مؤتة ، لأن زيداً استشهد في سرية مؤتة.









كتاب السيرة النبوية في ضوء مصادرها الأصلية، للدكتور مهدي رزق الله ، ص 531 .

رد مع اقتباس
  #65  
قديم 27-11-2006, 06:57 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى مكة في ذي القعدة من العام السابع الهجري لأداء العمرة حسب الشروط التي تمت في صلح الحديبية؛ فقد روى البيهقي وابن سعد أن المسلمين صحبوا معهم أسلحتهم ، ووضعوها بيأجج – واد قريب من مكة أو مكان من مكة على ثمانية أميال- ، خارج الحرم ، ودخلوا بسلاح الراكب ، السيوف ، كما هو الشرط.

لقد بلغ عدد من شهد عمرة القضاء ألفين سوى النساء والصبيان ، منهم الذين شهدوا الحديبية.

وعندما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة كان عبد الله بن رواحة ينشد بين يديه :

خلوا بني الكفار عن سبيله*اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله* ويذهل الخليل عن خليله

وعندما أشاعت قريش أن المسلمين ضعفاء بسبب حمى يثرب ، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا ويسارعوا بالعدو في الأشواط الثلاثة الأولى من طوافهم ، وأن يسعوا بين الصفا والمروة مهرولين ليرى المشركون قوتهم.

ففعلوا ما أمروا به ، فرأتهم قريش وهي مصطفة على جبل قيقعان في مواجهة ما بين الركنين ، فتعجبوا من قوتهم ، وقالوا : هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى وقد وهنتهم ، هؤلاء أجلد من كذا وكذا.

وعندما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أداء مناسك العمرة أمر جماعة من الصحابة أن يذهبوا إلى أصحابهم ببطن يأجج فيقيموا على السلاح ، ويأتي الآخرون الذين كانوا في حراسة السلاح ليقضوا نسكهم ، ففعلوا ، ثم دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة ومكث بها إلى الظهر ، ثم أمر بلال فأذن على ظهر الكعبة.

وعندما انقضت الأيام الثلاثة ، جاءت قريش في صباح اليوم الرابع إلى علي رضي الله عنه ، فقالوا : ( قل لصاحبك : اخرج عنا فقد مضى الأجل). فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونزل بسرف ، فأقام بها إلى أن تتام الناس ، ثم انصرف إلى المدينة المنورة في ذي الحجة.

وفي هذه العمرة تزوج صلى الله عليه وسلم بميمونة بنت الحارث العامرية – أخت أم الفضل زوج عمه العباس – فبنى بها صلى الله عليه وسلم بسرف. والراجح أن هذا الزواج كان بعد أن تحلل الرسول صلى الله عليه وسلم من إحرامه.

وكانت ميمونة تحت أبي رهم بن عبد العزى ، وقيل تحت أخيه حويطب ، وقيل سخبرة بن رهم.

ولما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم الخروج من مكة ، تبعتهم الطفلة عمارة ابنة حمزة تنادي : يا عم يا عم ، فأخذها علي ودفعها لفاطمة ، وهي ابنة عمه ، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر ، فقال علي : أنا أخذتها وهي ابنة عمي ، وقال جعفر : ابنة عمي وخالتها تحتي ، وقال زيد : ابنة أخي ، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها ، وقال : (الخالة بمنزلة الأم) ، وقال لعلي : (أنت مني وأنا منك) ، وقال لجعفر : (أشبهت خَلقي وخُلفي) ، وقال لزيد : (أنت أخونا ومولانا) ، وكان هذا القضاء لأن جعفر محرم لها ، إذ لا يجمع الرجل بين المرأة وخالتها في الزواج.

وفي هذه القصة من الفقه : أن الخالة مقدمة في الحضانة على سائر الأقارب بعد الأبوين .... وفيها حجة لمن قدم الخالة على العمة ، وقرابة الأم على قرابة الأب ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قضى بعمارة لخالتها فقد كانت صفية عمتها موجودة إذ ذاك ، وهذا قول الشافعي ، ومالك وأبي حنيفة ، وأحمد في إحدى الروايتين عنه ، وفي الرواية الثانية : إن العمة مقدمة على الخالة ، وهو اختيار الشيخ ابن القيم.


السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية دراسة تحليلية ، للدكتور مهدي رزق الله ، ص 531

رد مع اقتباس
  #66  
قديم 27-11-2006, 06:58 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

المبحث الأول : سرية عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى تربة :
بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثين راكبا إلى بني نضر بن معاوية بن بكر بن هوازن وبني جشم بن بكر بن هوازن الذين كانوا بتربة ، وهو موضع قريب من مكة ، وعندما علموا بمسير المسلمين إليهم هربوا ، فعاد عمر وأصحابه وبنو نضر وبنو جشم هم عجز هوازن. وكان ذلك في شعبان سنة سبع من الهجرة .

المبحث الثاني : سرية أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى نجد :
بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بني فزازة في أرض نجد ، فشن عليهم الغارة ، فقتل منهم من قتل ، وكان معه في السرية سلمة بن الأكوع ، حيث تمكن من أسر مجموعة من الذراري ، فنفله أبو بكر منهم جارية جميلة ، طلبها منه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفدى بها أسرى من المسلمين بمكة . وكانت هذه السرية في شعبان سنة سبع من الهجرة.

المبحث الثالث : سرية بشير بن سعد إلى ناحية فدك :
أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثين رجلا إلى بني مرة بفدك ، فتمكن من استياق نعمهم بينما كانوا في بواديهم. وعندما علموا بالخبر أدركوه ، وأصابوا أصحابه ، وولى منهم من ولى ، وقاتل بشير ببسالة حتى سقط ، وظنوه قد مات. ورجعوا بأنعامهم. وفي المساء تمكن بشير من اللجوء إلى فدك ، وأقام عند يهودي أياما حتى ضمدت جراحه ، فرجع إلى المدينة. ونقل خبر مصابهم إلى المدينة علبة بن زيد الحارثي. وكان ذلك في شعبان سنة سبع من الهجرة.

المبحث الرابع : سرية غالب بن عبد الله إلى الميفعة :
الراجح أن هذه السرية هي التي عناها البخاري ومسلم وابن إسحاق في روايتهم من حديث أسامة بن زيد. قال أسامة : (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة ، فصبحنا القوم فهزمناهم ، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم ، فلما غشيناه قال : لا إله إلا الله ، فكف عنه الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته ، فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله ؟ قلت : يا رسول الله ، إنما كان متعوذا ، قال : أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله ؟ فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت من قبل ذلك اليوم).

وعند ابن إسحاق أن اسم الرجل المقتول (مرداس بن نهيك ، من الحرقة ، من جهينة ، وحليف لبني مرة. وعند الواقدي أن اسمه نهيك بن مرداس ، ولكن السرية عنده هي سرية غالب بن عبد الله إلى مصاب بشير وأصحابه ، وعند ابن أبي عاصم أن اسمه مرداس الفدكي ، وأنه مات في المعركة. والراجح أن اسمه مرداس بن نهيك كما هو عند إسحاق ، وأن الذي قتله هو أسامة بن زيد.

أما الواقدي وابن سعد فقد ذكر أن سرية غالب بن عبد الله التي وقعت فيها قصة أسامة مع الرجل الذي قال لا إله إلا الله فقتله على الرغم من ذلك ، كانت إلى الميفعة ، وأن عدتها مائة وثلاثون راكبا بعثهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بني عبد بن ثعلبة وبني عوال ، وفيهم يسار مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي قادهم إلى مكان العدو ، حيث أوقعوا به واستاقوا نعمه وشاءه ، وقتلوا من أشرف إليهم ، وذلك في رمضان سنة سبع من الهجرة.

وذكر ابن سعد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأسامة عندما بلغه خبر قتله الرجل الذي نطق الشهادتين : (ألا شققت قبله فتعلم صادق هو أم كاذب ؟ فقال أسامة : لا أقاتل أحداً يشهد أن لا إله الله). إن في هذا اللوم تعليما وبلاغا في الموعظة حتى لا يقدم أحد على قتل من تلفظ بالتوحيد ، وإنما كلف الإنسان بالعمل الظاهر وما ينطق به اللسان ، وأما القلب فليس للإنسان طريق إلى ما فيه. وفيه دليل على ترتيب الأحكام على الأسباب الظاهرة دون الباطنة.

المبحث الخامس : سرية بشير بن سعد إلى الجناب :
بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا من غطفان بالجناب قد واعدهم عيينة بن حصن ليكون معهم ليزحفوا على المدينة ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشير بن سعد فعقد له لواء وبعث معه ثلاثمائة رجل ، حتى أتوا إلى يمن وجبار وهم نحو الجناب ، والجناب يعارض سلاح وخيبر ووادي القرى ، فنزلوا بسلاح ، ثم دنوا على القوم ، فأصابوا لهم نعما كثيرا ، وتفرق الرعاء وحذروا القوم ، فتفرقوا ولحقوا بعلياء بلادهم. ولذا لم يجد بشير عندما حل بديارهم ومحالهم إلا رجلين ، فأسرهما وقدم بهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما ، فأرسلهما. وكان ذلك في شوال سنة سبع من الهجرة. وفي رواية أنهم عندما أتوا أسفل خيبر أغاروا على المشركين وقتلوا عينا لعيينة ، ثم لقوا جمع عيينة فناوشوهم ، ثم انكشف جمع عيينة ، وأسر منهم رجلان.

وكانت هذه السرية سببا في أن يفكر عيينة في أمر الإسلام لحوار دار بينه وبين حليفه الحارث بن عوف المري وفروة بن هبيرة القشيري. وكانت خلاصة الحوار أن أخذوا يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى ، ثم أصبح من المؤلفة قلوبهم كما استفاضت الأخبار في ذلك. فقد ثبت أنه حضر حنينا مع الرسول صلى الله عليه وسلم كما في رواية ابن إسحاق.

المرجع :السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، للدكتور مهدي رزق الله ، صفحة 527

رد مع اقتباس
  #67  
قديم 27-11-2006, 07:01 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

لم يبد يهود خيبر عداء سافراً للمسلمين حتى لحق بهم زعماء بني النضير عندما أجلوا عن المدينة. وكما سبق وأن ذكرنا فقد كان أبرز زعماء بني النضير الذين غادروا المدينة ونزلوا خيبر : سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب ، فلما نزلوها دان لهم أهلها.

لقد نزلوا بأحقادهم ضد المسلمين ، ولذا كانوا كلما وجدوا فرصة للانتقام من المسلمين انتهزوها ، ووجدوا في قريش وبعض قبائل العرب حصان طروادة الذي سيدخلون به المدينة مرة أخرى ، فألبوهم ضد المسلمين ، ثم جروهم إلى غزوة الخندق ، وسعوا في إقناع بني قريظة للانضمام إليهم والغدر بالمسلمين. ولذا كانت تلك العقوبة الرادعة التي أنزلها المسلمون بهم عندما صرف الله الأحزاب ، وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سرية عبد الله بن عتيك للقضاء على رأس من رؤوسهم أفلت من العقاب يوم قريظة ، وهو سلام ابن أبي الحقيق ، فقتلوه.

وكانت هدنة الحديبية فرصة أمام المسلمين لتصفية هذا الجيب الذي يشكل خطورة على أمن المسلمين ، وقد وعد الله المسلمين بمغانم كثيرة يأخذونها إذا هزموا يهود خيبر ، وإلى ذلك أشارت سورة الفتح التي نزلت في طريق العودة من الحديبية ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ، فعلم ما في قلوبهم ، فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً ، ومغانم كثيرة يأخذونها ، وكان الله عزيزاً حكيماً ، وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطاً مستقيماً ، وأخرى لم تقدروا عليها ، قد أحاط الله بها ، وكان الله على كل شيء قديراً).

تاريخ الغزوة :

ذكر ابن إسحاق أنها كانت في المحرم من السنة السابعة الهجرية ، وذكر الواقدي أنها كانت في صفر أو ربيع الأول من السنة السابعة بعد العودة من غزوة الحديبية ، وذهب ابن سعد إلى أنها في جمادى الأولى سنة سبع ، وقال الإمامان الزهري ومالك إنها في المحرم من السنة السادسة. وظاهر أن الخلاف بين ابن إسحاق والواقدي يسير ، وهو نحو الشهرين ، وكذلك فإن الخلاف بينهما وبين الإمامين الزهري ومالك مرجعه إلى الاختلاف في ابتداء السنة الهجرية الأولى كما سبق الإشارة إلى ذلك. وقد رجح ابن حجر قول ابن إسحاق على قول الواقدي.

أحداث الغزوة :

سار الجيش إلى خبير بروح إيمانية عالية على الرغم من علمهم بمنعة حصون خيبر وشدة وبأس رجالها وعتادهم الحربي. وكانوا يكبرون ويهللون بأصوات مرتفعة ، فطلب منهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفقوا بأنفسهم قائلاً : (إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم). وسلكوا طريقا بين خيبر وغطفان ليحولوا بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر لأنهم كانوا أعداء للمسلمين.

ونزل المسلمون بساحة اليهود قبل بزوغ الفجر ، وقد صلى المسلمون الفجر قرب خيبر ، ثم هجموا عليها بعد بزوغ الشمس ، وفوجئ أهلها بهم وهم في طريقهم إلى أعمالهم ، فقالوا : محمد والخميس !! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الله أكبر خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين).

وهرب اليهود إلى حصونهم وحاصرهم المسلمون. وقد حاولت غطفان نجدة حلفائهم يهود خيبر ، حتى إذا ساروا مرحلة سمعوا خلفهم في أموالهم وأهليهم حساً فظنوا أن المسلمين قد خالفوا إليهم فرجعوا ، وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خيبر ، فأخذ المسلمون في افتتاح حصونهم واحداً تلو الآخر.

وكان أول ما سقط من حصونهم ناعم والصعب بمنطقة النطاة وأبي النزار بمنطقة الشق ، وكانت هاتان المنطقتان في الشمال الشرقي من خيبر ، ثم حصن القموص المنيع في منطقة الكتيبة ، وهو حصن ابن أبي الحقيق ، ثم اسقطوا حصني منطقة الوطيح والسلالم.

وقد واجه المسلمون مقاومة شديدة وصعوبة كبيرة عند فتح بعض هذه الحصون ، منها حصن ناعم الذي استشهد تحته محمود بن مسلمة الأنصاري ، حيث ألقى عليه مرحب رحى من أعلى الحصن ، والذي استغرق فتحه عشرة أيام ، فقد حمل راية المسلمين عند حصاره أبو بكر الصديق ، ولم يفتح الله عليه ، وعندما جهد الناس ، قال رسول الله إنه سيدفع اللواء غداً إلى رجل يحبه الله ورسوله ويحب الله و رسوله ، ولا يرجع حتى يفتح له ، فطابت نفوس المسلمين ، فلما صلى الفجر في اليوم التالي دفع اللواء إلى علي ، ففتح الله على يديه.

وكان علي يشتكي من رمد في عينيه عندما دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم ، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له ، فبرئ.

ولقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم علياً بأن يدعو اليهود إلى الإسلام قبل أن يداهمهم ، وقال له : ( فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم). وعندما سأله علي : يا رسول الله ، على ماذا أقاتل الناس ؟ قال : ( قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله).

وعند حصار المسلمين لهذا الحصن برز لهم سيده وبطلهم مرحب ، وكان سبباً في استشهاد عامر بن الأكوع ، ثم بارزه علي فقتله ، مما أثر سلبياً في معنويات اليهود ومن ثم هزيمتهم.

وقد أبلى علي بلاء حسناً في هذه الحرب. ومن دلائل ذلك : روى ابن إسحاق من حديث أبي رافع – مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم – أن علياً عندما دنا من الحصن خرج إليه أهله ، فقاتلهم ، فضربه رجل من يهود فطرح ترسه من يده ، فتناول علي باباً كان عند الحصن فترس به عن نفسه ، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ، ثم ألقاه من يده حين فرغ.

قال الراوي – أبو رافع : فلقد رأيتني في نفر سبعة معي ، أنا ثامنهم ، نجهد على أن نقلب ذلك الباب ، فما نقلبه.

وروى البيهقي من طريقين مرفوعين إلى جابر رضي الله عنه قصة علي والباب ويوم خيبر. ففي الطريق الأول أن عليا رضي الله عنه حمل الباب حتى صعد عليه المسلمون فافتتحوها ، ولم يستطع أربعون رجلاً أن يحملوا هذا الباب. وفي الطريق الثانية أنه اجتمع عليه سبعون رجلاً ، فأعادوه إلى مكانه بعد أن أجهدهم.

وتوجه المسلمون إلى حصن الصعب بن معاذ بعد فتح حصن ناعم ، وأبلى حامل رايتهم الحباب بن المنذر بلاء حسناً حتى افتتحوه بعد ثلاثة أيام ، ووجدوا فيه الكثير من الطعام والمتاع ، يوم كانوا في ضائقة من قلة الطعام ، ثم توجهوا بعده إلى حصن قلعة الزبير الذي اجتمع فيه الفارون من حصن ناعم والصعب وبقية ما فتح من حصون يهود – فحاصروه وقطعوا عنه مجرى الماء الذي يغذيه ، فاضطروهم إلى النزول للقتال ، فهزموهم بعد ثلاثة أيام ، وبذلك تمت السيطرة على آخر صحون منطقة النطاة التي كان فيها أشد اليهود.

ثم توجهوا إلى حصون الشق ، وبدأوا بحصن أبيّ ، فاقتحموه ، وأفلت بعض مقاتلته إلى حصن نزار ، وتوجه إليهم المسلمون فحاصروهم ثم افتتحوا الحصن ، وفر بقية أهل الشق من حصونهم وتجمعوا في حصن القَمُوص المنيع وحصن الوطيح وحصن السلالم ، فحاصرهم المسلمون لمدة أربعة عشر يوماً حتى طلبوا الصلح.

نتائج الغزوة :

وهكذا فتحت خيبر عنوة ، استناداً إلى النظر في مجريات الأحداث التي سقناها ، وما روى البخاري ، ومسلم وأبو داود من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر وافتتحها عنوة.

فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك فقبل ذلك منهم. فكانت فدك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب.

وقتل من اليهود في معارك خيبر ثلاثة وتسعون رجلاً. وسبيت النساء والذراري ، منهن صفيه بنت حيي بن أخطب ، التي اشتراها الرسول صلى الله عليه وسلم من دحية حيث وقعت في سهمه فأعتقها وتزوجها. وقد دخل عليها في طريق العودة إلى المدينة ، وتطوع لحراسته في تلك الليلة أبو أيوب الأنصاري.

واستشهد من المسلمين عشرون رجلاً فيما ذكر ابن إسحاق وخمسة عشر فيما ذكر الواقدي.

وممن استشهد من المسلمين راعي غنم أسود كان أجيراً لرجل من يهود. وخلاصة قصته أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصر لبعض حصون خيبر ومعه غنم يرعاها لبعض يهود خيبر ، فطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليه الإسلام ، فعرضه عليه ، فأسلم ، ثم استفتاه في أمر الغنم ، فطلب منه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يضرب وجوهها ، فسترجع إلى أصحابها ، فأخذ الراعي حفنة من الحصى فرمى بها في وجوهها ، فرجعت إلى أصحابها ، وتقدم ليقاتل فأصابه حجر فقتله ، وما صلى لله صلاة قط ، فجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجي بشملة ، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أعرض عنه ، وعندما سئل عن إعراضه قالإن معه الآن زوجتيه من الحور العين).

واستشهد أعرابي له قصة دلت على وجود نماذج فريدة من المجاهدين. وخلاصة قصته أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم ، وطلب أن يهاجر مع الرسول صلى الله عليه وسلم. فلما كانت غزوة خيبر – وقيل حنين – غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرج له سهمه ، وكان غائباً حين القسمة ويرعى ظهرهم ، فلما جاء دفعوا إليه سهمه ، فأخذه وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ما هذا يا محمد؟ ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( قسم قسمته لك). قال : ما على هذا اتبعتك ، ولكن اتبعتك على أن أرمى ها هنا ، وأشار إلى حلقه بسهم ، فأدخل الجنة ، قال : (إن تصدق الله يصدقك) ، ولم يلبث قليلاً حتى جيء به وقد أصابه سهم حيث أشار ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (صدق الله فصدقه) ، فكفنه الرسول صلى الله عليه وسلم في جبة للنبي صلى الله عليه وسلم ودفنه.


وبعد الفراغ من هذه الغزوة حاول اليهود قتل الرسول صلى الله عليه وسلم بالسم. فقد أهدته امرأة منهم شاة مشوية مسمومة ، وأكثرت السم في ذراع الشاة عندما عرفت أنه يحبه ، فلما أكل من الذراع أخبرته الذراع أنه مسموم فلفظ اللقمة ، واستجوب المرأة ، فاعترفت بجريمتها ، فلم يعاقبها في حينها ، ولكنه قتلها عندما مات بشر بن البراء بن معرور من أثر السم الذي ابتلعه مع الطعام عندما أكل مع الرسول صلى الله عليه وسلم.

وتم الصلح في النهاية بين الطرفين وفق الأمور الآتية :

- بالنسبة للأراضي والنخيل – أي الأموال الثابتة : دفعها لهم الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يعملوا عليها ولهم شطر ما يخرج منها.
- أن ينفقوا من أموالهم على خدمة الأرض.
- أما بالنسبة لوضعهم القانوني فقد تم الاتفاق على أن بقاءهم بخيبر مرهون بمشيئة المسلمين ، فمتى شاؤوا أخرجوهم منها.

وقد أخرجهم عمر بن الخطاب إلى تيماء وأريحاء ، استناداً إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في مرض موته : (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) وتكرر منهم الاعتداء على المسلمين. ففي المرة الأولى اتهمهم الرسول صلى الله عليه وسلم في قتل عبد الله بن سهل ، فأنكروا فلم يعاقبهم ، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده. وفي هذه المرة الثانية أكدت الأولى – كما أشار عمر – أنهم اعتدوا على عبد الله بن عمر ، وفدعوا يديه.

- واتفقوا على إيفاد مبعوث من قبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل خيبر ليخرص ويقبض حصة المسلمين.

أما بالنسبة للأموال المنقولة ، فقد صالحوه على أن له الذهب والفضة والسلاح والدروع ، لهم ما حملت ركائبهم على ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئاً ، فإن فعلوه فلا ذمة لهم ولا عهد. فغيبوا مسكاً لحيي بن أخطب ، وقد كان قتل في غزوة خيبر ، وكان قد احتمله معه يوم بني النظير حين أجليت.

وعندما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم سعية – عم حيي – عن المسك ، قال : (أذهبته الحروب والنفقات) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (العهد قريب المال أكثر من ذلك) ، فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الزبير فمسه بعذاب ، فاعترف بأنه رأى حيياً يطوف في خربة ها هنا ، فوجدوا المسك فيها ، فقتل لذلك ابني أبي الحقيق ، وسبى نساءهم وذراريهم ، وقتل محمد بن مسلمة ابن عم كنانة هذا الذي دل على المال ، قتله بأخيه محمود بن مسلمة.

وبالنسبة للطعام فقد كان الرجل يأخذ حاجته منه دون أن يقسم بين المسلمين أو يخرج منه الخمس ما دام قليلاً ، وكانت غنائم خيبر خاصة بمن شهد الحديبية من المسلمين ، كما في قوله تعالى : ( سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم ، يريدون أن يبدلوا كلام الله. قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل ، فسيقولون بل تحسدوننا ، بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً ).

ولم يغب عن فتح خيبر من أصحاب بيعة الرضوان أحد سوى جابر بن عبد الله ، ومع ذلك أعطي سهماً مثل من حضر الغزوة – غزوة الحديبية.

وأعطى أهل السفينة من مهاجرة الحبشة الذين عادوا منها إلى المدينة ، ووصلوا خيبر بعد الفتح ، أعطاهم من الغنائم. وكانوا ثلاثة وخمسين رجلاً وامرأة بقيادة جعفر بن أبي طالب. وتقول الرواية : إنه لم يقسم لأحد لم يشهد الفتح سواهم. وهم الذين فرح الرسول صلى الله عليه وسلم بقدومهم ، وقبل جعفر بين عينيه والتزمه ، وقال : (ما أدري بأيهما أنا أسر ، بفتح خيبر أو بقدوم جعفر).

وربما يرجع سبب استثنائهم إلى أنهم حبسهم العذر عن شهود بيعة الحديبية ، ولعله استرضى أصحاب الحق من الغانمين في الإسهام لهم ، ولعله رأى ما كانوا عليه من الصدق وما عانوه في الغربة ، وهم أصحاب الهجرتين.

وأعطى الرسول صلى الله عليه وسلم أبا هريرة وبعض الدوسيين من الغنائم برضاء الغانمين ، حيث قدموا عليه بعد فتح خيبر.

وشهد خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء مسلمات فأعطاهن من الفيء ولم يضرب لهن بسهم.

وكذلك أعطى من شهدها من العبيد ، فقد أعطى عميرًا ، مولى أبي اللحم ، شيئاً من الأثاث.

وأوصى صلى الله عليه وسلم من مال خيبر لنفر من الداريين ، سماهم ابن إسحاق.

وكان كفار قريش يتحسسون أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم مع يهود خيبر ، ويسألون الركبان عن نتيجة المعركة ، وقد فرحوا عندما خدعهم الحجاج بن علاط السلمي وقال لهم : إن المسلمين قد هزموا شر هزيمة وإن اليهود أسرت محمداً ، وستأتي به ليقتل بين ظهراني أهل مكة ثأراً لمن كان أصيب من رجالهم ، وما لبثوا قليلا حتى علموا بأن الأمر خدعة من الحجاج بن علاط ليحرز ماله الذي بمكة ويهاجر مسلماً. فحزنوا لتلك النتيجة التي كانوا يراهنون على عكسها.

وبعد الفراغ من أمر خيبر توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو وادي القرى ، وحاصرهم ، ثم دعاهم إلى الإسلام وأخبرهم أنهم إذا أسلموا أحرزوا أموالهم وحقنوا دماءهم ، وحسابهم على الله ، فبرز رجل منهم ، فبرز له الزبير فقتله ، ثم برز آخر فبرز إليه علي فقتله ، ثم برز آخر فبرز إليه أبو دجانة فقتله ، حتى قتل منهم أحد عشر رجلاً ، ثم قاتلهم حتى أمسوا ، وفي الصباح استسلموا ، ففتحت عنوة. وأقام فيها ثلاثة أيام ، وقسم ما أصاب على أصحابه ، وترك الأرض والنخل بأيدي يهود ، وعاملهم عليها.

فلما بلغ يهود تيماء ما حدث لأهل فدك ووادي القرى ، صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجزية ، وأقاموا بأيديهم أموالهم. فلما كان عهد عمر أخرج يهود خيبر وفدك ولم يخرج أهل تيماء ووادي القرى لأنهما داخلتان في أرض الشام ، ويرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز ، وأن ما وراء ذلك من الشام.

وثبت في الصحيح أن مدعماً – مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم – أصابه سهم فقتله وذلك حين كان يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وصلوا وادي القرى ، فقال الناس : هنيئاً له بالجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا والذي نفسي بيده ، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم ، لتشتعل عليه ناراً . فجاء رجل حين سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بشراك أو بشراكين ، فقال : هذا شيء كنت أصبته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( شراك أو شراكان من نار).

بعض فقه وحكم ودروس غزوة خيبر :

1- نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغلول : وأن من يموت وهو غال يدخل النار. وقد جاء ذلك في خبر الرجل الذي قال عنه الصحابة إنه شهيد ، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : (كلا ! إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة …) وخبر مدعم مع الشملة.

2- نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الإنسية.

3- نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم البغال.

4- النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع وعن أكل كل ذي مخلب من الطير.

5- النهي عن وطء الحبالي من السبايا حتى يضعن.

6- النهي عن ركوب الجلالة والنهي عن أكل لحمها وشرب لبنها.

7- النهي عن النهبة من الغنيمة قبل قسمتها.

8- وأجرى الله على نبيه بعض المعجزات دليلاً على نبوته وعبرة لمن يعتبر ، فإضافة إلى ما ذكرنا من قصة بصقه على عيني علي فصحتا ، وإخبار ذراع الشاة المسمومة إياه بأنها مسمومة ، فقد ثبت أنه نفت ثلاث نفثات في موضع ضربة أصابت ركبة سلمة بن الأكوع يوم خيبر ، فما اشتكى بعدها.

9- وفي خبر الإسهام لأهل السفينة أنه إذا لحق مدد الجيش بعد انقضاء الحرب ، فلا سهم لهم إلا بإذن الجيش ورضاه.

10- جواز المساقاة والمزارعة بجزء مما يخرج من الأرض من تمر أو زروع ، كما عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على ذلك ، وهو من باب المشاركة ، وهو نظير المضاربة ، فمن أباح المضاربة ، وحرم ذلك ، فقد فرق بين متماثلين.

11- عدم اشتراط كون البذر من رب الأرض ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دفع إليهم الأرض على أن يعملوها من مالهم.

12- خرص الثمار على رؤوس النخيل وقسمتها كذلك ، وأن القسمة ليست بيعاً ، والاكتفاء بخارص واحد وقاسم واحد.

13- جواز عقد المهادنة عقداً جائزاً للإمام فسخه متى شاء.

14- جواز تعليق عقد الصلح والأمان بالشرط ، كما عقد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرط ألا يغيبوا ولا يكتموا ، كما في قصة مسك حيي.

15- الأخذ في الأحكام بالقرائن والإمارات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكنانة : (المال كثير والعهد قريب) ، فاستدل بذلك على كذبه في قوله : (أذهبته الحروب والنفقة).

16- جواز إجلاء أهل الذمة من دار الإسلام إذا استغنى عنهم ، وقد أجلاهم عمر رضي الله عنه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.

17- لم يكن عدم أخذ الجزية من يهود خيبر لأنهم ليسوا أهل ذمة ، بل لأنها لم تكن نزل فرضها بعد.

18- سريان نقض العهد في حق النساء والذرية ، وجعل حكم الساكت والمقر حكم الناقض والمحارب كما في حالة كنانة وابني ابن الحقيق ، على أن يكون الناقضون طائفة لهم شوكة ومنعة ، أم إذا كان الناقض واحداً من طائفة لم يوافقه بقيتهم ، فهذا لا يسري النقض إلى زوجته وأولاده.

19- جواز عتق الرجل أمته ، وجعل عتقها صداقها ، ويجعلها زوجته بغير إذنها ولا شهود ولا ولي غيره ، ولا لفظ نكاح ولا تزويج ، كما فعل صلى الله عليه وسلم بصفية.

20- جواز كذب الإنسان على نفسه وعلى غيره ، إذا لم يتضمن ضرر ذلك الغير ، إذا كان يتوصل بالكذب إلى حقه ، كما كذب الحجاج بن علاط على المسلمين والمشركين حتى أخذ ماله من مكة من غير مضرة لحقت بالمسلمين من ذلك بالكذب.

21- إن من قتل غيره بسم يقتل مثله قصاصاً ، كما قتلت اليهودية ببشر بن البراء.

22- جواز الأكل من ذبائح أهل الكتاب وحل طعامهم وقبول هديتهم ، كما في حادثة الشاة المسمومة.

23- الإمام مخير في الأرض التي تفتح عنوة إن شاء قسمها وإن شاء وقفها وإن شاء قسم البعض ووقف البعض الآخر ، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنواع الثلاثة ، فقسم قريظة والنضير ، ولم يقسم مكة ، وقسم شطراً من خيبر وترك شطرها الآخر.



السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، للدكتور مهدي رزق الله ، ص 499

رد مع اقتباس
  #68  
قديم 27-11-2006, 07:03 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road


المبحث الأول: أحداث الحديبية:

خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأداء العمرة في يوم الاثنين هلال ذي القعدة من السنة السادسة الهجرية .

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يخشى أن تعرض له قريش بحرب أو يصدوه عن البيت الحرام ، لذلك استنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه ، فأبطؤوا عليه ، فخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار وبمن لحق به من العرب.

وقد كشف القرآن عن حقيقة نوايا الأعراب، فقال: { سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا. يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، قل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً أو أردا بكم نفعاً ، بل كان الله بما تعملون خبيراً. بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا).

وقد ذكر مجاهد أن الأعراب الذي عنتهم الآية هم أعراب جهينة ومزينة ، وذكر الواقدي أن الأعراب الذي تشاغلوا بأموالهم وأولادهم وذراريهم هو بنو بكر ومزينة وجهينة.

ويفهم من رواية البخاري أن المسلمين كانوا يحملون أسلحتهم استعداد للدفاع عن أنفسهم في حالة الاعتداء عليهم.

لقد اتفق خمسة من الذين كانوا في هذه الغزوة على أن عدد من خرج فيها كانوا ألفا وأربعمائة رجل.

ولقد صلى المسلمون وأحرموا بالعمرة عندما وصلوا إلى ذي الحليفة ، وقلد الرسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي وأشعره ، وعددها سبعون بدنة. وبعث بين يديه بسر بن سفيان الخزاعي الكعبي عينا له إلى قريش ليأتيه بخبرهم.

وعندما وصل المسلمون الروحاء جاءه نبأ عدو بضيقة ، فأرسل إليهم طائفة من أصحابه ، فيهم أبو قتادة الأنصاري ، ولم يكن محرماً ، فرأى حماراً وحشياً ، فحمل عليه فطعنه ، ورفض أصحابه أن يعينوه عليه ، ولكنهم أكلوا منه وهم حرم ، ثم شكوا في حل ذلك ، فعندما التقوا بالرسول صلى الله عليه وسلم في السقيا ، استفتوه في الأمر ، فأذن لأصحابه بأكل ما جاؤوه به من بقية اللحم ما داموا لم يعينوا على صيده.

وعندما وصلوا عسفان جاءهم بسر بن سفيان الكعبي بخبر قريش فقال: ( يا رسول الله ، هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجوا معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور ، وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبداً ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قدموا كراع الغميم). فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أن يغيروا على ديار الذين ناصروا قريشاً واجتمعوا معها ليدعوا قريشاً ويعودوا للدفاع عن ديارهم ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ( يا رسول الله ، خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد ، فتوجه له ، فمن صدنا عنه قاتلناه). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( امضوا على اسم الله).

وعندما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بقرب خيل المشركين منهم صلى بأصحابه صلاة الخوف بعسفان.

ولتفادي الاشتباك مع المشركين ، سلك الرسول صلى الله عليه وسلم طريقاً وعرة عبر ثنية المرار ، وهي مهبط الحديبية ، وقال عندما وصلها : (من يصعد الثنية ثنية المرار فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل) ، فكان أول من صعدها خيل بني الخزرج ، ثم تتام الناس.

وعندما أحس بتغيير المسلمين خط سيرهم رجع إلى مكة ، وخرجت قريش للقاء المسلمين ، فعسكرت ببلدح ، وسبقوا المسلمين إلى الماء هنا.

وعندما اقترب الرسول صلى الله عليه وسلم من الحديبية بركت ناقته القصواء ، فقال الصحابة رضي الله عنهم : (خلأت القصواء) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل). ثم قال: والذي نفسي بيده، لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، ثم زجرها فوثبت، ثم عدل عن دخول مكة وسار حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد – بئر – قليل الماء، ما لبثوا أن نزحوه ثم اشتكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فجاش لهم بالري فارتووا جميعاً ، وفي رواية أنه جلس على شقة البئر فدعا بماء فمضمض ومج في البئر. ويمكن الجمع بأن يكون الأمران معا وقعاً ، كما ذكر ابن حجر. ويؤيده ما ذكره الواقدي وعروة من أن الرسول صلى الله عليه وسلم تمضمض في دلو وصبه في البئر ونزع سهماً من كنانته فألقاه فيها ودعا ففارت.

ولخصائص قريش ومكانتها بين العرب ، وحرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إسلامهم ، وتحسر على عنادهم وخسارة أرواحها في الحروب مع المسلمين ، فها هو يعبر عن هذه الحسرة بقوله : ( يا ويح قريش ، أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس ، فإن أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وهو وافرون ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فماذا تظن قريش ، والله إني لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله له حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة …).

بذل الرسول صلى الله عليه وسلم ما في وسعه لإفهام قريش أنه لا يريد حرباً معهم، وإنما يريد زيارة البيت الحرام وتعظيمه، وهو حق المسلمين، كما هو حق لغيرهم، وعندما تأكدت قريش من ذلك أرسلت إليه من يفاوضه ويتعرف على قوة المسلمين ومدة عزمهم على القتال إذا ألجئوا إليه، وطمعاً في صد المسلمين عن البيت بالطرق السليمة من جهة ثالثة.

فأتاه بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة، وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، وبينوا أن قريشاً تعتزم صد المسلمين عن دخول مكة، فأوضح لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب مجيئه وذكر لهم الضرر الذي وقع على قريش من استمرار الحرب، واقترح عليهم أن تكون بينهم هدنة إلى وقت معلوم حتى يتضح لهم الأمر، وإن أبوا فلا مناص من الحرب ولو كان في ذلك هلاكه، فنقلوا ذلك إلى قريش، وقالوا لهم: يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد، إن محمداً لم يأت لقتال وإنما جاء زائراً هذا البيت، فاتهموهم وخاطبوهم بما يكرهون، وقالوا: وإن كان إنما جاء لذلك فلا والله ولا يدخلها علينا عنوة أبدا ولا تتحدث بذلك العرب.

وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤكد هدفه من هذه الزيارة ويشهد على ذلك كل العرب،لذا أرسل إلى قريش خراش بن أمية الخزاعي على جمله( الثعلب) ولكنهم عقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرادوا قتله ، فمنعته الأحابيش ، لأنهم من قومه.

ثم دعا الرسول صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة ، فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له ، فقال عمر : (يا رسول الله ، إني أخاف قريشاً على نفسي ، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها ، وغلظتي عليها ، ولكن أدلك على رجل أعز بها مني ، عثمان بن عفان).

فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان فبعثه إليهم. فنزل عثمان في حماية وجوار أبان بن سعيد بن العاص الأموي حتى أدى رسالته ، وأذنوا له بالطواف بالبيت ، فقال : (ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم) واحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل. ولذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للبيعة تحت شجر سمرة ، فبايعوه جميعاً على الموت ، سوى الجد بن قيس ، وذلك لنفاقه.و في رواية أن البيعة كانت على الصبر ، وفي رواية على عدم الفرار ، ولا تعارض في ذلك لأن المبايعة على الموت تعنى الصبر عند اللقاء وعدم الفرار.

وكان أول من بايعه على ذلك أبو سنان عبد الله بن وهب الأسدي ، فخرج الناس بعده يبايعون على بيعته ، فأثنى عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( أنتم خير أهل الأرض) ، وقال : ( لا يدخل النار إن شاء الله ، من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها).

وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يده اليمنى ، وقال (هذه يد عثمان) ، فضرب بها على يده اليسرى ، وقال : (هذه لعثمان). فنال عثمان بذلك فضل البيعة.
وقبل أن تتطور الأمور عاد عثمان رضي الله عنه بعد البيعة مباشرة.

وعرفت هذه البيعة بـ (بيعة الرضوان) ، لأن الله تعالى أخبر بأنه رضي عن أصحابها ، في قوله : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة}.

أرسلت قريش عدداً من السفراء للتفاوض مع المسلمين ، بعد سفارة بديل بن ورقاء. فقد أرسلوا عروة بن مسعود الثقفي ، وقبل أن يتحرك خشي أن يناله من التعنيف وسوء المقالة ما نال من سبقه ، فبين لهم موقفه منهم ، وأقروا له بأنه غير متهم عندهم ، وذكر لهم أن الذي عرضه عليهم محمد هو خطة رشد. ودعاهم إلى قبولها، فوافقوا على رأيه.

وعندما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال له ما قال لبديل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد ، أرأيت إن استأصلت أمر قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى ، فإني والله لا أرى وجوهاً وإني لأرى أشواباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك. فقال له أبو بكر : امصص بظر اللات ، أنحن نفر عنه وندعه ؟ … وكان كلما تكلم كلمة أخذ بلحية الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس البني صلى الله عليه وسلم ومعه السيف ، فيضربه بنعل السيف ويقول : أخّر عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم … ولحظ عروة تعظيم الصحابة للرسول صلى الله عليه سلم وحبهم له وتفانيهم في طاعته ، فلما رجع إلى قريش ، قال لهم : (أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك ، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه مثل ما يعظم أصحاب محمد محمداً).

ثم بعثوا الحليس بن علقمة الكناني سيد الأحابيش ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه) ، فلما رأى الحليس الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده ، رجع إلى قريش قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك إعظاماً لما رأى ، وقال لقريش : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت ، فما أرى أن يصدوا عن البيت ، فقالوا : اجلس ، إنما أنت أعرابي لا علم لك. فغضب وقال : يا معشر قريش ، والله ما على هذا حالفناكم ، أيصد عن بيت الله من جاءه معظما له !! والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد، قالوا : مه ، كف عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.

ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( هذا مكرز وهو رجل فاجر) … فجعل يكلم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو رسولاً من قبل قريش ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم متفائلاً : ( لقد سهل لكم أمركم). وقال : ( قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل) ، وكانت قريش قد قالت لسهيل بن عمرو : ائت محمداً فصالحه ، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، فوالله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً . فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم فأطال الكلام ، وتراجعا ، ثم جرى بينهما الصلح.

وعندما بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم في إملاء شروط الصلح على علي بن أبي طالب ، كاتب الصحيفة ، اعترض سهيل على كتابة كلمة (الرحمن) في البسملة ، وأراد بدلاً عنها أن يكتب (باسمك اللهم) ، لأنها عبارة الجاهليين ، ورفض المسلمون ذلك ، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم وافق على اعتراض سهيل. ثم اعترض سهيل على عبارة (محمد رسول الله) ، وأراد بدلاً عنها عبارة : ( محمد بن عبد الله) ، فوافقه أيضاً على هذا الاعتراض.

وعندما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به) اعترض سهيل قائلاً : لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة قهراً ولكن ذلك في العام المقبل ، فنخرج عنك فتدخلها بأصحابك فأقمت فيها ثلاثاً معك سلاح الراكب لا تدخلها بغير السيوف في القرب . فوافق الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الشرط .

ثم قال سهيل : وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا. قال المسلمون: سبحان الله ! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟! فبينما هو كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده ، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إنا لم نقض الكتاب بعد) ، فقال سهيل : والله إذاً لم أصالحك على شيء أبداً.

وألح الرسول صلى الله عليه وسلم على سهيل أن يستثني أبا جندل ، فرفض على الرغم من موافقة مكرز على طلب الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم بداً من إمضاء ذلك لسهيل.

ثم بعد هذا تم الاتفاق على بقية الشروط وهي : ( على وضع الحرب عشر سنين ، يأمن فيها الناس ، ويكف بعضهم عن بعض ، وأن بينهم عيبة مكفوفة ، فلا إسلال - سرقة - ولا إغلال – خيانة- ، وأن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ). فتواثبت خزاعة فقالوا : نحن مع عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده ، وتواثبت بنو بكر فقالوا : نحن في عقد قريش وعهدهم.

لقد تبرم كثير من الصحابة من معظم هذه الشروط. ومن الأدلة على ذلك أن علياً اعتذر عن محو كلمة ( رسول الله) التي اعترض عليها سهيل بن عمرو ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أرني مكانها) ، فأراه مكانها فمحاها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكتب على مكانها (ابن عبد الله). وغضبوا لشرط رد المسلمين الفارين من قريش إلى المسلمين ، فقالوا : ( يا رسول الله ، نكتب هذا؟ ) قال : ( نعم إنه من ذهب إليهم فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً).

ويحكي عمر بن الخطاب مجيئه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غاضباً عند كتابة ذلك الصلح ، قال : ( فأتيت نبي الله ، فقلت : ألست نبي الله حقاً ؟ قال : بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال: بلى ، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً ؟ قال : إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري. قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال: بلى. أفأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ قال : قلت : لا . قال: فإنك آتيه ومطوف به). وأتى عمر أبا بكر وقال له مثل ما قال للرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال له أبو بكر : إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يعصي ربه وهو ناصره ، فاستمسك بغرزه ، فوالله إنه على الحق ، وقال عمر : ما زلت أصوم وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خيراً ) ولم تطب نفس عمر إلا عندما نزل القرآن مبشراً بالفتح.

وعندما كان أبو جندل يستنجد بالمسلمين قائلاً : يا معشر المسلمين ، أتردونني إلى أهل الشرك فيفتنوني في ديني ؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( يا أبا جندل ، اصبر واحتسب فإن الله عز وجل جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجاً) ، كان عمر يمشي بجنب أبي جندل يغريه بأبيه ويقرب إليه سيفه ، لكن أبا جندل لم يفعل ، فأعيد إلى المشركين ، وذلك لحكمة تجلت للناس فيما بعد ، يوم كان أبو جندل وأصحابه سبباً في إلغاء شرط رد المسلمين إلى الكفار ، وفي إسلام سهيل وموقفه يوم كاد أهل مكة أن يرتدوا عندما مات الرسول صلى الله عليه وسلم فثبتهم على الإسلام بكلام بليغ.

وقال سهل بن حنيف يوم صفين : (اتهموا رأيكم ، رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته).

وعندما أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن ينحروا الهدي ويحلقوا رؤوسهم ، لم يقم منهم أحد إلى ذلك ، فكرر الأمر ثلاث مرات ، فدخل على أم سلمة رضي الله عنها وحكى لها ما حدث من المسلمين ، فأشارت إليه بأن يبدأ هو بما يريد ، ففعل ، فقاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غماً ، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم لمن حلق منهم ثلاثاً ولمن قصر لمرة واحدة. وكان عدد ما نحروه سبعين بدنة ، كل بدنة عن سبعة أشخاص.

وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ جملاً لأبي جهل من غنائم بدر ، نحره ليغيظ بذلك المشركين . ونحروا بعض الهدي في الحديبية في الحل والبعض الآخر نحره ناجية بن جندب داخل منطقة الحرم.

ولا شك أن هذا التصرف من عمر وغيره من المسلمين ما هو إلا اجتهاد منهم ورغبة في إذلال المشركين.

ولم تتوقف قريش عن التحرش بالمسلمين واستفزازهم خلال مفاوضات كتابة الصلح وبعد كتابته ، وقد تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة بانضباط شديد إزاء هذه الأفعال. فعندما حاول ثمانون من رجال مكة مهاجمة معسكر المسلمين في غرة ، أسرهم المسلمين وعفا عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكرر المحاولة ثلاثون آخرون من قريش أثناء إبرام الصلح ، فأسروا ، وأطلق الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا سراحهم.

وبعد إبرام الصلح حاول سبعون من المشركين استفزاز المسلمين، فأسروهم وقبض سلمة بن الأكوع على أربعة من المشركين أساءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، بعد إبرام الصلح ، فعفا عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد نزلت في ذلك الآية { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم}.

ثم رجع المسلمون إلى المدينة بعد أن غابوا عنها شهراً ونصف الشهر ، منها بضعة عشر يوماً ، ويقال عشرين يوماً ، مكثوها بالحديبية.

وفي طريق العودة تكررت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في تكثير الطعام والماء ، مثلما حدث في طعام جابر يوم الخندق ، وتكثير ماء بئر الحديبية ، فقد ذكر سلمة بن الأكوع أنهم عندما أصابهم الجوع وكادوا أن يذبحوا رواحلهم دعا الرسول صلى الله عليه وسلم بأزواد الجيش ، فلم يتجاوز ربضة العنز ، وهم أربع عشرة مائة ، فأكلوا حتى شبعوا جميعاً وحشوا جربهم ، ثم جيء له بأداوة وضوء فيها نطفة ماء فأفرغها في قدح ، فتوضأ منها كل الجيش.

ونزلت سورة الفتح ، وهم في طريق العودة : {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} وقال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس). وقال عمر متعجباً: أو فتح هو ؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : ( نعم) ، فطابت نفسه ورجع ، وفي رواية : ( نعم ، والذي نفسي بيده إنه لفتح) وفرح المسلمون بذلك فرحاً غامراً ، وانجلت تلك السحابة من الغم ، وأدركوا قصورهم عن إدراك كل الأسباب والنتائج ، وأن الخير في التسليم لأمر الله ورسوله.

وعندما جاءته أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مهاجرة لم يردها إلى أهلها عندما طلبوها لما أنزل الله في النساء { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ، الله أعلم بإيمانهن … ولا هم يحلون لهن) فكان الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا يختبرهن ، فإن كن خرجن بسبب الإسلام استبقاهن مع دفع مهورهن لأزواجهن ، وكان قبل الصلح لا يعيد إليهم مهور الزوجات.

وهذه الآية الواردة في عدم رد المهاجرات المسلمات إلى الكفار هي التي استثنت من شرط الرد وحرمت المسلمات على المشركين { ولا تمسكوا بعصم الكوافر}.






السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، للدكتور مهدي رزق الله ، ص481

رد مع اقتباس
  #69  
قديم 27-11-2006, 07:04 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

المبحث الثاني : فقه وحكم ودروس في صلح الحديبية:

1- عندما وجد سبب مانع من أداء المسلمين لعمرتهم التي أحرموا لها تحللوا ، وبذلك شرع التحلل للمعتمر وأنه لا يلزمه القضاء.

2- أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة أن يحلق رأسه وهو محرم ، لأذى أصابه ، على أن يذبح شاة فدية أو يصوم ثلاثة أيام أو يطعم ستة مساكين ونزلت الأية { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}.

3- إذن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة بالصلاة في منازلهم عندما نزل المطر.

4- وقعت تطبيقات عملية لمبدأ الشورى في الإسلام ، حيث استشارهم في الإغارة على ذراري المشركين الذين يساندون قريشاً ، واستشار أم سلمة في أمر الناس عندما أبطؤوا في التحلل ، وأخذ برأيها.

5- ويستنتج من مدة الصلح أن الحد الأعلى لمهادنة الكفار عشر سنين ، لأن أصل العلاقة معهم الحرب وليس الهدنة.

6- جواز مصالحة الكفار على رد من جاء من قبلهم مسلماً.

7- استحباب التفاؤل لقوله صلى الله عليه وسلم : ( سهل أمركم) وذلك عندما قدم عليهم سهيل بن عمرو مفاوضاً.

8- كفر من يقول : ( مطرنا بنوء كذا وكذا) والصواب أن يقول : ( مطرنا بفضل الله ورحمته ). قال ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة عندما صلى بهم الصبح إثر مطر هطل ليلاً.

9- جواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم مثل التوضؤ بماء وضؤئه صلى الله عليه وسلم ، وهو خاص به خلافاً لآثار الصالحين من أمته.

10- السنة لمن نام عن صلاته أو نسيها أن يصليها وإن خرج وقتها ، وذلك لأن المسلمين ناموا عن صلاة الفجر وهم في طريق عودتهم من الحديبية ولم يوقظهم إلا حر الشمس ، ونام حارسهم بلال ، فصلوها حين استيقظوا.

11- في الصلح اعتراف من قريش بكيان المسلمين لأول مرة ، فعاملتهم معاملة الند للند.

12- ذهاب هيبة قريش ، بدليل مبادرة خزاعة الانضمام إلى حلف المسلمين دون خشية من قريش كما كان في السابق.

13- أتاح الصلح للمسلمين التفرغ ليهود خيبر خاصة ويهود تيماء وفدك بصفة عامة.

14- أتيح للمسلمين مضاعفة جهودهم لنشر الإسلام ، وفي ذلك قال الزهـري : ( فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه ، إنما كان القتال حيث التقى الناس ، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب ، وآمن الناس بعضهم بعضاً ، والتقوا فتفاضوا في الحديث والمنازعة ، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل إلا دخل فيه ، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك) وعلق ابن هشام على هذا قائلاً والدليل على قول الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة في قول جابر ، ثم خرج في عام الفتح بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف).

15- جاءت نتائج بعض الشروط في مصالح المسلمين من ذلك أن أبا بصير عندما فر من المشركين ولجأ إلى المسلمين رده الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم عندما طلبوه ، فعدا على حارسيه فقتل أحدهما ، وفر الآخر ، وعاد أبو بصير إلى المدينة ، وقال للرسول صلى الله عليه وسلم : ( قد والله أوفى الله ذمتك ، قد رددتني إليهم ثم نجاني الله منهم) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ويل أمه مِسْعر حرب لو كان له أحد) ، ففهم أبو بصير نية الرسول صلى الله عليه وسلم في رده إلى المشركين ، فلجأ إلى سيف البحر، وفهم المستضعفون المسلمون في مكة إشارة الرسول صلى الله عليه وسلم : ( مسعر حرب ولو كان له أحدا) ، ففروا من مكة ولحقوا بأبي بصير ، وعلى رأسهم أبو جندل. وتكونت منهم عصابة ، أخذت تتعرض لقوافل قريش ، فأرسلت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تناشده أن يعطيهم الأمان بالمدينة ، فأرسل إليهم ، وهم بناحية العيص ، فجاؤوا ، وكانوا قريبا من الستين أو السبعين رجلاً.

16- في قصة أبي بصير وأبي جندل ورفقائهم في العيص ، نموذج يقتدى به في الثبات على العقيدة وبذل الجهد في نصرتها وعدم الاستكانة للطغاة.




السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، للدكتور مهدي رزق الله ، ص 488

رد مع اقتباس
  #70  
قديم 27-11-2006, 07:05 PM
د.فالح العمره د.فالح العمره غير متصل
 
تاريخ التسجيل: Feb 2005
الدولة: في قلوب المحبين
المشاركات: 7,593
معدل تقييم المستوى: 27
د.فالح العمره is on a distinguished road

وقعت هذه الغزوة بعد غزوة الأحزاب مباشرة ، في آخر ذي القعدة وأول ذي الحجة من السنة الخامسة الهجرية.

وواضح من سير الأحداث أن سبب الغزوة كان نقض بني قريظة العهد الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، بتحريض من حيي بن أخطب النضري.

وقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم الزبير لمعرفة نيتهم ، ثم أتبعه بالسعدين وابن رواحة وخوات لذات الهدف ليتأكد من غدرهم.

ولأن هذا النقض وهذه الخيانة قد جاءت في وقت عصيب ، فقد أمر الله تعالى نبيه بقتالهم بعد عودته من الخندق ووضعه السلاح ، وامتثالاً لأمر الله أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يتوجهوا إلى بني قريظة ، وتوكيدا لطلب السرعة أوصاهم قائلاً : ( لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة ) كما في رواية البخاري ، أو الظهر كما في رواية مسلم.

وعندما أدركهم الوقت في الطريق ، قال بعضهم : لا نصلى حتى نأتي قريظة ، وقال البعض الآخر : بل نصلى ، لم يرد منا ذلك ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم. وهذا اجتهاد منهم في مراد الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال ابن حجر : ( … وقد جمع بعض العلماء بين الروايتين – البخاري ومسلم – باحتمال أن يكون بعضهم قبل الأمر كان صلى الظهر ، وبعضهم لم يصلها ، فقيل لمن لم يصلها : لا يصلين أحد الظهر ، ولمن صلاها : لا يصلين أحد العصر. وجمع بعضهم باحتمال أن تكون طائفة منهم راحت بعد طائفة فقيل للطائفة الأولى الظهر وقيل للطائفة التي بعدها العصر ، وكلاهما جمع لا بأس به …).

خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف مقاتل معهم ستة وثلاثون فرساً وضرب الحصار على بني قريظة لمدة خمس وعشرين ليلة على الأرجح ، وضيق عليهم الخناق حتى عظم عليهم البلاء ، فرغبوا أخيرا في الاستسلام ، وقبول حكم الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم. واستشاروا في ذلك حليفهم أبا لبابة بن عبد المنذر رضي الله عنه ، فأشار إلى أن ذلك يعني الذبح. وندم على هذه الإشارة، فربط نفسه إلى إحدى سواري المسجد النبوي ، حتى قبل الله توبته.

وعندما نزلوا على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم أحب أن يكل الحكم عليهم إلى واحد من رؤساء الأوس ، لأنهم كانوا حلفاء بني قريظة ، فجعل الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ ، فلما دنا من المسلمين قال الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار : ( قوموا إلى سيدكم أو خيركم ، ثم قال : إن هؤلاء نزلوا على حكمك ). قال : تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم وتقسم أموالهم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( قضيت بحكم الله تعالى .

ونفذ الرسول صلى الله عليه وسلم حكم الله فيهم ، وكانوا أربعمائة على الأرجح . و لم ينج إلا بعضهم ، وهم ثلاثة ، لأنهم أسلموا ، فأحرزوا أموالهم ، وربما نجا اثنان آخران منهم بحصولهم على الأمان من بعض الصحابة ، أو لما أبدوه من التزام بالعهد أثناء الحصار. وربما نجا آخرون لا يتجاوزن عدد أفراد أسرة واحدة ، إذ يفهم من رواية عند ابن إسحاق وغيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهب لثابت بن قيس بن الشماس ولد الزبير بن باطا القرظي ، فاستحياهم ، منهم عبد الرحمن بن الزبير ، الذي أسلم ، وله صحبة.

وجمعت الأسرى في دار بنت الحارث النجارية ، ودار أسامة بن زيد ، وحفرت لهم الأخاديد في سوق المدينة ، فسيقوا إليها المجموعة تلو الأخرى لتضرب أعناقهم فيها. وقتلت امرأة واحدة منهم ، لقتلها خلاد بن سويد رضي الله عنه، حيث ألقت عليه ، جرحى ، ولم يقتل الغلمان ممن لم يبلغوا سن البلوغ. ثم قسم الرسول صلى الله عليه وسلم أموالهم وذراريهم بين المسلمين.

مصير بعض سيي بني قريظة :
ذكر ابن إسحاق وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن زيد الأنصاري بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد ، فابتاع لهم بها خيلا وسلاحا.

وذكر الواقدي في المغازي في شأن بيع سبايا بني قريظة قولين آخرين إضافة إلى ما ذكره ابن إسحاق ، والقولان هما :
1- بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة إلى الشام بسبايا ليبيعهم ويشتري بهم سلاحاً وخيلاً.
2- اشترى عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما جملة من السبايا … إلخ. ويمكن الجمع بين هذه الأقوال الثلاثة بأن ذلك كله قد حدث.

واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خنافة ، وأسلمت. وقد توفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في ملك يمينه ، وكان ذلك باختيارها.

أحكام وحكم ودروس وعبر من غزوة بني قريظة :

1- جواز قتل من نقض العهد. ولا زالت الدول تحكم بقتل الخونة الذين يتواطؤون مع الأعداء حتى زماننا هذا.

2- جواز التحكيم في أمور المسلمين ومهامهم. كما في تحكيم ابن معاذ.

3- مشروعية الاجتهاد في الفروع ، ورفع الحرج إذا وقع الخلاف فيها. فقد اجتهد الصحابة في تفسير قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (ألا لا يصلين أحد العصر أو الظهر إلا في بني قريظة) ، ولم يخطئ الرسول صلى الله عليه وسلم أحدا منهم.

4- ذكر النووي أن جماهير العلماء احتجوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( قوموا إلى سيدكم أو خيركم) وغيره على استحباب القيام لأهل الفضل ، وليس هذا من القيام المنهي عنه ، وإنما ذلك فيمن يقومون عليه هو جالس ويمثلون قياما طوال جلوسه ، وقد وافق النووي جماهير العلماء في هذا ، ثم قال : ( القيام للقادم من أهل الفضل مستحب ، وقد جاء في أحاديث ، ولم يصح في النهي عنه شيء صريح. وقد جمعت كل ذلك مع كلام العلماء عليه في جزء وأجبت فيها عما توهم النهي عنه).

5- قال الدكتور البوطي : واعلم أن هذا كله لا يتنافى مع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار) ، لأن مشروعية إكرام الفضلاء لا تستدعي السعي منهم إلى ذلك أو تعلق قلوبهم بمحبته ، بل إن من أبرز صفات الصالحين أن يكونوا متواضعين لإخوانهم زهادا في طلب هذا الشيء … (غير أن من أهم ما ينبغي أن تعلمه في هذا الصدد أن لهذا الإكرام المشروع حدود إذا تجاوزها ، انقلب الأمر محرما ، واشترك في الإثم كل من مقترفة والساكت عليه. فمن ذلك ما قد تجده في مجالس بعض المتصوفة من وقوف المريدين عليهم وهم جلوس ، يقف الواحد منهم أمام شيخه في انكسار وذل … ومنه ما يفعله بعضهم من السجود على ركبة الشيخ أو يده عند قدومه عليه ، أو ما يفعله من الحبو إليه عندما يغشى المجلس … فالإسلام قد شرح مناهج للتربية وحظر على المسلمين الخروج عليها ، وليس بعد الأسلوب النبوي في التربية من أسلوب يقر).



السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية،مهدي رزق الله ، ص459

رد مع اقتباس
رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع إلى

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
حوار مع الشيخ العبيكان حول جهاد الدفع د.فالح العمره مجلس الدراسات والبحوث العلمية 6 31-12-2007 09:54 PM
أساليب تربية الناشئة في عهد النبوة د.فالح العمره مجلس الدراسات والبحوث العلمية 12 11-04-2007 09:34 PM
هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم المراجل المجلس الإســــلامي 10 21-07-2006 02:44 AM
دروس في فتنة المسيح الدجال محمد بن دويش المجلس الإســــلامي 4 07-03-2006 05:14 PM
هذا اقل شئ نقدر نسويه تجاه رسول الله عليه الصلاة والسلام ولــد الشرقيه المجلس الإســــلامي 4 07-02-2006 07:58 AM

 


الوقت في المنتدى حسب توقيت جرينتش +3 الساعة الآن 06:30 PM .


مجالس العجمان الرسمي

تصميم شركة سبيس زوون للأستضافة و التصميم و حلول الويب و دعم المواقع