من جهود المجمع العلمي العراقي في التعريب
القسم الثاني: ما يتعلق بخصوص التعريب
أ.د. كاصد ياسر الزيدي
قسم اللغة العربية – كلية التربية للبنات
جامعة بغداد
يراد بالتعريب في مفهومه العام الشامل في العصر الحديث: إيراد لفظ عربي دال على لفظ أعجمي (أجنبي)، وهو الذي يطلق عليه اسم (الدخيل)، وهذه هي (الترجمة). أو إحداث تغيير في اللفظ الأجنبي المراد نقله إلى العربية، من ناحية الصوت أو البنية أو كليهما(1)، وهذا هو (التعريب) بمفهومه الخاص. فالمعرّب لفظ طوّعته العرب بأَلسنتها، فغيرّت فيه بالحذف والزيادة والإبدال في الأصوات، بما يوافق قوانينها في التعبير والاستعمال(1). وهو الذي يسميه بعض المعاصرين بـ (الآقتراض). وهي تسمية قد لا تفي بمتطلبات التعريب؛ لأن اللفظ المقترض، قد ينقل من لغته كما هو، فلا يكون عندئذ معرّباً. فالاقتراض إذن أعمّ من التعريب وأشمل.
وقد عاملت العرب المعرّب معاملة العربي، فاشتقوا من اشتقاقهم من العربي، ولذلك أجاز الخليل بن أحمد الفراهيدي(2) أن يُشتق من كلمة (باشِق)، وهو الصقر الصغير، الفعل (بَشَقَ)، فقال: "ولو أُشتقُ من فعل الباشق: بَشَقَ لجاز، وهي فارسية عرّبت للأجدل الصغير".
ومما اشتقه العرب من الاسم المعرّب قولهم في الاشتقاق من (الِدرْهَم): "دَرْهَمَتِ الخُبّازى" أي استدارت في شكلها حتـى صارت كالدرهم، وقولهم كذلك "رَجلٌ مُدَرْهَمٌ"، أي: كثير الدراهَم(3)، فاشتقوا منه فعلاً، ووصفاً هو اسم المفعول: مُدَرْهَم. وأصل هذا اللفظ (دراخما). ثم عُرّب مصوغاً بزنة عربية، وقد عده سيبويه مما ألحقته العرب ببناء كلامها، وأنها ألحقته ببناء (هِجْرَع)(4) وبالمثل اشتق العرب من (اللجام)، وهو اسم معرَّب(5) فعلاً، فقالوا: ألجم فلانُ الفَرَس، واشتقوا منه كذلك وصفاً، فقالوا: الفَرَس مُلجَم، ثم تصرفوا فيه دلالياً، فاستعملوه استعمالاً مجازياً، فقالوا: ألجمَ فلانٌ فلاناً، إذا منعه من الكلام، وقطعه عنه. وهكذا تلَعَبّت العرب باللفظ الأعجمي ليكون معرّباً، تلعُّبها بالعربي من حيث التصريف فيه صيغة ودلالة، ذلك أنهم لما ألحقوه بالعربي، جعلوا له حكمه فعاملوه معاملته. وقد صار هذا المفهوم سائداً بعد ظهور الإسلام أيضاً. وآية ذلك وصف القرآن بأنه عربي في عدة مواضع. منها قوله تعالى: (إنا أنزلناه قُرآناً عربياً لعلكم تعقلون)(6)، مع أنّ فيه ما هو معرّب بلا شك.
أما اللغويون العرب القدامى، فقد فرّقوا بين (العربي) و(المعرَّب) و(الدخيل)، فالعربي معروف، والمعرَّب ما أوضحناه سالفاً، ويختلف عنهما الدخيل من حيث إنه لم يكن أصيلاً كالعربي، ولا مغيَّراً في الصوت أو البنية أو كليهما كالمعرَّب، بل ينقل إلى العربية بصورته التـي كان عليها في لغته. وما يزال الدخيل لا يبرأ من غربة في الصوت، وغربة في الزنة، وهذا كثير في ما هو ناتج عن علم وصناعة من الألفاظ التـي دخلت العربية، في عصر النهضة وما بعده. وهذا جلي في مثل كلمة ( تلفزيون) إذ ينطقها كثير من الناس بالفاء الأعجمية، لا الفاء العربية. وهي مع ذلك تنطق بزنتها (فَعَلَلْيون)، وهي زنة غريبة على العربية ولذلك يصدق على هذه اللفظة اسم (الدخيل). ومن هنا عمد كثير من الأدباء والكتاب إلى تعريبها، وشاع هذا التعريب، فقالوا: (تِلفاز)، متمثلاً بجانبيه: الصوتي والبنيوي، إذ أبدلوا بالفاء فاء، وجعلوا له زنة اسم الآلة (مِفعال). وهو التعريب الذي آرتآه المجمع أيضاً(*).
على أن أوزان الدخيل إذ تخالف في كثير من الأحيان أوزان العربية، فإنها إما أن تكون مفردة كما تقدم بيانه في ( تلفزيون). وإما مركبة من لفظين يصبحان بعد التعريب عند العرب لفظاً واحداً، يخفى على سامعه أصله، فلا يعرفه إلا بعد البحث. فمن ذلك (سَهْ مَرّه) الفارسية، التـي تعني: ثلاث مرات. وأريد بها استخراج الخراج ثلاث مرات. فلما عرّبت صارت (سَمَرَّج)(7) بزنة (فَعَلَّل) العربية المعروفة، مثل (فَرَزْدق)(8)، وقد وردت في أرجوزه للعجاج يقول فيها:
يومّ خراجٍ يُخرِجُ السَمَرَّجا(9)
فيلحظ أن التعريب حذف صوت (الهاء) من (سَهْ), وأبدله في (مَرّهْ) جيماَ، مثلما أبدله في (اسْتَبْرَه) قافاً، فقيل: (اسْتَبْرَق) إظهاراً لوجه التعريب فيها، وتغييراً لصورتها الأعجمية، لئلا تكون دخيلة عند استعمالها. وهي كلمة قرآنية، آستعملها القرآن بالقاف، في مواضعـها الأربعة(10) التـي وردت فيه.
ولقد عُرف اصطلاح (معرَّب) و(تعريب) في كتابات اللغويين العرب القدامى، كأبي عبيد القاسم بن سلام (ت 224 هـ)، وابن قتيبة (ت 276 هـ). غير أن من المتأخرين من خلط بين المعرّب والدخيل، على نحو ما نجد في كتاب شهاب الدين الخفاجي (ت 1069 هـ)، الذي سّماه: (شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل)، إذ سمّى طائفة من الألفاظ المعربة دخيلة. وبمثل ذلك سّمى بعض من ألف في فقه اللغة من المعاصرين، مثل الدكتور علي عبد الواحد وافي(11)، والدكتور محمد خضر(12)، وهي تسمية ليست بسديدة؛ لأنها لا تفرّق بين لونين مختلفين من الألفاظ ذات الأصول غير العربية، وهما المعرّب والدخيل.
ومن المعاصرين من جعل الزمن فارقاً بين المعرّب والدخيل، فالدخيل، عنده ما أخذته العربية من لغة أخرى في مرحلة متأخرة من حياتها عن عصر العرب الخُلّص، الذين يُحتج بلسانهم، سواء أكانت اللفظة أخذت كما هي، أم بتغيير يسير فيها. على حين جعل هؤلاء المعرّب: ما استعاره العرب الخلّص في عصر الاحتجاج باللغة واستعملوه في لسانهم (13).
والحق هو أن هذا التفريق المبني على أساس العصر لا وجه له، لأن مدار الفرق بين النوعين: المعرّب والدخَيل، يقوم على صورة اللفظ إن كان قد لحقه تغيير بما يلائم أساليب العربية، أم بقي على حاله من غير تغيير، وليس مدار ذلك على عنصر الزمن، تقدّم أو تأخر. وهذا التفسير الذي ذكرناه يعضده دلالة المعرّب والدخيل في اللغة أيضاً.
أساليب المجمع العراقي في التعريب
عند التأمل في الألفاظ المعرّبة التـي تضمنتها نشرة المجمع العلمي العراقي، يتبين الآتي:
(1) إنّ المجمع جرى في عمله هذا على ما يوجبه (التعريب)، من وجوب صياغة اللفظة المعرّبة صياغة عربية من جانبيها: الصوتي والبنيوي. فحين نقل مثلاً لفظة (شكولاته)، الحلوى المعروفة الشائعة في عدة أقطار عربية بهذه الصورة من اللفظ، جعلها عند تعريبها (شُكْلَة)(14)، مختاراً لها صيغة (فُعْلَة) العربية الشهيرة، قياساً على نظائرها في الزنة مما يؤكل، مثل (قُرْصة) و(لُقْمة) و(خُبزة) و(بُلْعه)، مع صفة القلة والصغر عموماً. وهو ما اتسمت به هذه الحلوى، وهذه النظائر. فعمد المجمع بهذا الصنيع إلى تعريبها بدلاً من ترجمتها أو إبقائها على صورتها في لغتها.
ويلحظ أيضاً أن المجمع تحاشى تعريبها إلى (جُكْلِيْته) العامية الشائعة لدى عامة الناس في العراق؛ لما فيها من عجمة واضحة متمثلة بهذا الصوت المزدوج: (ﭺ) ch. ويبدو أن لشيوع اللفظة دخلاً في هذا الاختيار، فكأن المجمع لم يشأ أن يترجمها مثلاً، فيأتي بلفظ لا يهتدي به السامع إلى هذه المادة الغذائية التـي هي ضرب من الحلوى، بل جاء بما هو قريب جداً من لفظها الأصل، عن طريق التعريب. فُوفّق المجمع في ذلك ـ في رأينا ـ إلى الأيسر الأفضل.
(2) وقد يختار المجمع عند التعريب اللفظ المشهور الشائع لدى عامة الناس، ما دام في أصواته وزنته موافقاً للعربية. على نحو ما نجد في لفظة: Biscuitus"" إذ بيّن أنها من أصل لاتيني(15)، وجعلها في التعريب: (بِسْكِت)، وهو اللفظ العراقي المشهور المتداول.
ولسنا نرى في هاذ الاختيار ضيراً لسببين: أحدهما أنه قريب إلى الأفهام، نظراً لتداوله وشهرته. والآخر: أنه قيس على نظائر له في العربية بزنة (فِعْلِل)، والاسم الرباعي المجرد. إذ صاغت العرب على زنته (زِبْرِج)(*) و(عِنْفِص) و(زِهْلِق)(16)، أسماء وأوصافاً.
(3) وقد يكون التعريب بإسقاط صوت صامت، كالنون مثلاً في (سينما) Cinema فقد ذكر إزاءها هذه العبارة (بحذف النون)(16). وهو تعريب أصاب توفيقاً كثيراً؛ إذ وافق العربية في أنّ (السيماء) العلامة(17)، فإذا خففت الهمزة بإسقاطها صارت (سِيْما)، ونَسَب المجمع إليها، فقال في ترجمة (السيناريو) Senario"“ "نَصُّ سِيْميّ"(18).
وقد يكون التعريب بإسقاط عدة أصوات من الأصل الأجنبي، ليصاغ على وزن عربي، كما في (إيشارﭖ) echarpe( (19؛ إذ عرّبها المجمع (شَرْب)، وذكر إلى جانبها (ج: شُرُوْب)، دالاً بذلك على جمعها على (فُعُول)، إذ كان مفردها على (فَعْل)، فقيس الجمع على نظائره في العربية، مثل (بَيْتِ وبُيُوت) و(قَصْر وقُصُور)(20). واللفظة معروفة بصورتها الأجنبية
(إيْشارْﭖ) في استعمال عدد من الأقطار العربية وهي معروفة في بعض مدن العراق، ومنها الموصل. ويلحظ أيضاً أن المجمع أبدل (الباء) الأعجمية (باء) عربية، فتم بذلك عمدتا التعريب: الزنة والصوت.
(4) وقد يكون التعريب بإسقاط أكثر من صوت، وإلحاق صوت في آخر الاسم عند تعريبه فمن هذا الوادي (هامبركر)، إذ كتب المجمع بجانبها (غذائية)؛ تبييناً لماهيتها في الحياة اليومية. فلما عرّبها جعلها (هَمْبُركية)(21)، فأسقط منها صوتين هما الألف والراء، وألحق بها صوتين هما الياء المشدّدة التـي تبدو هنا كأنه "ياء النسبة" حين تلحق الأسماء المنسوبة، والتاء بعد هذه الياء.
و(الهامْبُركر) لحم خالص بقطعة عجين، وهو من الأكلات اليومية السريعة، التـي يعمد إليها كثير من الناس خارج البيت. ويلحظ هنا أن المجمع لم يشأ عند التعريب أن يذهب بصورة اللفظة في أصلها اللاتيني، بل أبقى على أكثر أصواتها؛ لُتعرف عند سماعها فلا تغمّ على مسامعها.
غير أن الذي يبدو لنا هو أن لجنة الاصطلاحات ـ شكر الله جهدها ـ كان لها أن تجعلها في التعريب: (هَبْرِيّة)، فنحسب أنه لفظ سائغ له ما يعضده؛ للإيجاز أولاً، ولأنّ له وشيجة بالاستعمال العربي، إذ يُؤخذ عندئذ من (الهَبْرَة)، وهي قطعة لحم لاعظم فيها، أو قطعة مجتمعة منه(22). وهي معروفة جداً لدى العراقيين، كثيرة الاستعمال عندهم فإذا نسبناها فجعلناها (هَبْريّة)، لم نبعد عن الأصل الأجنبي من جهة ولا عن اللفظ المعرّب من جهة ثانية. يضاف إلى هذين المسوّغين شهرتها في الاستعمال اليومي، وفصاحتها في العربية.
ويلحظ أن المجمع لم يعرّب مادة لها وشيجة بها، وهي (ستيك)، بل ترجمها بـ "شريحة بقرية"(23) وكأنه رأى أن ترجمة (هامبركر) لا تخلو من تعقيد، فالتعريب لها أفضل؛ ذلك أنها ينبغي أن تتضمن عند الترجمة قطعة اللحم الخالصة، وما توضع فيه ويوضع معها عند إعدادها للأكل. على حين أن هذا الإشكال لا ينال الـ (ستيك) بحال؛ لأنها قطعة لحم بقر خالصة قبل أن تُعدّ للأكل. ولهذا لم تكتب اللجنة بجانبها (غذائية) مثلاً. فهذا ما بدا لنا من عدم تعريبها.
التعريب والصوائت
وتناول التعريب إحداث تغيير في عدد من الصوائت Vowels، سواء أكانت صوائت طويلة Long Vowels، أم صوائت قصيرة Short Vowels، فالطويلة: الألف، والواو والياء إذا سبقتا بحركة مجانسة لهما. والقصيرة: الفتحة والضمة والكسرة.
فأما ما يتعلق بالصوائت الطويلة، فله عدة صور منها:
(أ) إسقاط الصائت الطويل عند التعريب، وصولاً إلى ما يلائم الوزن العربي، كما في كلمة (جَوارِيب)، إذ صارت (جَوارِب) (24)عند التعريب، فعُدل بها عن (فَواعِيْل) في اللفظ الأعجمي إلى (فَواعِل) في اللفظ المعرَّب. وهَذه اللفظة (جَوارِيب) دائرة على ألسنة العراقيين، وهي عندهم جمعٌ مفرده: (جُوْارب)، أي: أنه على زنة (فُوْعال)، وهو قليل مستعمل في العربية مثل (طُوْمار) التـي تعني الصحيفة، وجمعها (طَوامِير)(25). وعلى هذا يصح (جَواريب) قياساً على (طوامِير). فجاء في استعمال الناس إذن على هذا القياس، فلما قررت اللجنة تعريب اللفظ، غيرت فيه بإسقاط الصائت الطويل (الياء)، فصار (جوارِب)، فوافق زنة العربية، لأن (فواعِل) كثير شائع فيها، مثل: جَوائز، وحَوائط، وحَواسر(26)... هذا إلى الخفة التـي لحقت اللفظ عند تعريبه بإسقاط صوت المدّ. وهي صفة ومنهج حريّ بأن يُلحظ عن التعريب؛ تيسيراً على الناطق، وتمييزاً للمعرَّب من الدخيل، وهو ما عمدت إليه لجنة الاصطلاحات في المجمع العراقي هنا.
(ب) وقد يكون التعريب بإضافة صائت طويل يقتضيه الوزن، مع إبدال صائت قصير بآخر مثله. وذلك مثل (دَمَلُوك)(27)، وهي المادة الصفراء التـي تستعمل في صبغ الأثاث بعد إضافة سائل مذيب لها. فقد عربها المجمع: (دُمالُوك)(27)، ولم يترجمها؛ إذ التعريب هو المعرِّف لها؛ لاشتهارها على ألسنة الناس، فلو عدل بها إلى الترجمة لغمَّت ولم تُتَبيْن؛ إذ يشاركها في الدلالة العامة والاستعمال كثير من الأشياء التـي يصبغ بها. وقد جرى التعريب بصورتين تتعلقان بالصوائت إحداهما: إحلال الضمة محل الفتحة في فاء الكلمة (الدال)، والأخرى: إضافة ألف بعد عين الكلمة (الميم)، فصارت: (دُمالُوك) بدلاً من (دَمَلُوك).
وأحسب أنه كان في إمكان اللجنة ترك اللفظة على حالها عند تعريبها، إذ إن وزن (فَعَلوُل) معروف في العربية، اسماً ووصفاً. فمن الاسم: (قَرَبُوس)(28) و(قَرَقُوس)(29)، ولا سيما أنها بأصلها الذي على هذا الوزن متداولة في كلام العراقيين، وقد تركت اللجنة ألفاظاً من هذا القبيل على حالها، لشهرتها على الألسنة، وموافقتها العربية، مثل (بَكرْه)(30) و(فيتامين)(31)، إذ كتبت اللجنة بجانب الثانية منهما: "تعريباً". ولا شك أن هذا التعريب أوجب وضع الفاء العربية في هذه الكلمة محل (الفاء) الأجنبية.
فهذه أمثلة مما يتعلق بالصوائت الطويلة عند التعريب، إضافة أو حذفاً.
فأما ما يتعلق بالصوائت القصيرة: فأمثلته كثيرة، منها:
(آ) إحلال السكون محل الصائت القصير، تعريباً للفظ؛ إذ وضع السكون محل الفتخة في لفظة (كَعَك) فصارت (كَعْك)(32) بزنة (فَعْـلْ) بدلاً من (فعَلَ)، وهي في الدلالة جمع؛ لأن مفردها ـ كما هي متداولة لدى الناس (كَعْكَة) ـ وهي مشهورة في الأقطار العربية، وإن كانت في العراق تطلق على قطع صغار من هذا النوع. فجعلت اللجنة التغيير الصوتي بإسكان المتحرك، ضرباً من التعريب، وهو عمل صحيح، إذ كثيراً ما يحرك العوام الساكن تسهيلاً للنطق بما يسميه المعاصرون من اللغويين: (التماثل) أو (الانسجام) الصوتي: Assimilation، وسّماه ابن جني(33) تقريب الصوت من الصوت". فضلاً عما في خفة الفتحة من التخفيف من شدة (الكاف)، الذي هو صوت انفجاري Plosive. إلا إن للتعريب أصوله وقواعده، فكان إسكان العين من اللفظة أمارة على تعريبها، كما في عبارة اللجنة: "بتسكين ثانيه، تعريباً".
غير أن هناك إشكالاً في تعريب كلمة (كُرْكَمُ) الذي هو ضرب من التوابل الشهيرة الكثيرة الاستعمال في العراق. وقد ذكر له اللغويون القدامي أكثر من دلالة، فقال الفيروز آبادي(34): "الكُرْكًم" بالضم ـ يقصد ضم الكافين ـ الزَعْفران، والعِلْك، والعُصَْفُر..". وهو في معناه الحديث المتداول في العراق وبلاد عربية أخرى: ضرب من (البهار)، وهي التوابل، أصفر اللون ذو رائحة، يوضع على الأطعمة. ووزنه في الأصل اللغوي (فُعْلُلُ)، وفد عرّبتة اللجنة بهذه الزنة أيضاً، فلم تزد في نشرتها القيمة على العبارة الاتية: "كُرْكُمْ: غذائية" ثم ذكرت إزاءها: "كُرْكُم": "تعريباً"(35).
ولا يبدو أي تغيير في أصوات هذه الكلمة ولا في بنيتها. وأغلب الظن أن عبارة (تعريباُ) بعد نقل الكلمة كما هي في الأصل، أريد بها إبقاؤها على أصلها من غير مجافاة لأصول التعريب وقواعده، إذ هي بزنة (فُعْلُل)، وهو وزن كثير الاستعمال في العربية، مثل: (لُؤْلُؤ)، و(طُرْطُب)(36)، فإذا أبُقيتْ على تلك الزنة التـي كانت عليها في أصلها الأجنبي، كان ذلك من قبيل التعريب لها، إذ إنها زنة موافقة للعربية، كثيرة الدوران فيها.
(ج) وقد يكون التعريب المتعلق بالصوائت حذفاً لصائت طويل مع بقاء حركة القصير السابق له الموافق له على حاله. وبذلك يجري ضرب من الاختزال عند التعريب، وهو سمة من سماته في عدة كلمات. ويتجلى ذلك في كلمة (أُوكْسِيْد) التـي عربها المجمع (أُوكْسِيْد) بإسقاط واو المدّ فيها؛ تركاً للزنة الأجنبية: (أُفْعٍيْلُ)، وجلباً للزنة العربية (أفُعِْيل)، ولم نلحظ في نشرة المجمع ذكراً لكلمة (أُوْمْلِيْت)، اللفظة الغذائية المعروفة لدى العراقيين، إذ تصنّع من لحم وبيض وعجين. وزنتها زنة (أوكسيد) تماماً، فلو عُرّبت لصارت (أُوْمْلِيْت)، بزنة (أفُعِْيل) أيـضاً. وعربت اللجنة كلمة (كاكاو)، بإيرادها كما هي، إذ ورد في النشرة الآتي: كاكاو cocoa ¬ كاكاو (تعريباً)(37). ولما كانت أصوات هذه الكلمة في أصلها الأجنبي غير نابية عن الأصوات العربية، فلم يبق للتعريب إذن إلا الزنة، وهي (فاعال)، إذ عددنا الواو فيها صوتاً أصيلاً، وهو ما يقتضيه الظاهر والتبادر. فلو نطقت (كَكاو) عند التعريب، لكان ذلك أجدى وأدلّ على تعريبها، ولا سيما أن هذا الوزن كثير جداً في العربية، إذ يستعمل (فعَال) في الفصيح والعامي. فضلاً عن أن هذه اللفظة معروفة في استعمال العراقيين وغيرهم. وإن كان الناس يقصرونها بحذف الألف في استعمالهم اليومي، فيقولون: (كَكَو)، وهي مادة تشرب شرب القهوة والشاي، بُنيّة اللون.
وكان من المتوقع أن تعمد اللجنة عند تعريبها إمّا إلى استعمال هذه الزنة المعروفة في العربية الفصيحة: (فَعِال)، وإما الزنة الثانية، التـي هي معروفة أيضاً، فزنة (كَكَو): (فَعَل)، وهي من الشهرة بمكان. وهذا يتّسق ولمنهج اللجنة في ألفاظ أخرى مثل (بَسْكَوِيْت) التـي عربتها (بِسِكت)(38) مراعية بذلك موافقة زنتها العربية (فِعْلِل)؛ لشهرتها في الاستعمال اليومي حديثاً، ولكثرة دورانها على الألسنة في القطر. وقد تقدم الحديث عنها. فلو تأملنا في تعريب (بَسْكَوِيْت) بهذه الصورة، لتبيّن لنا أن الكلمة المعرّبة احتازت عدة صفات جعلتنا نطلق عليها صفة (اللفظة الميّسرة). ذلك أن عجمة الأصل وغربته اختفتا في استعمال اللفظة المتداولة التـي شذّبتها أفواه الناس وسلائقهم العربية، فاكتفوا بعد إسقاط الواو الياء، العمل على إحداث "انسجام صوتي" بين الصوائت القصيرة، لتصبح الكلمة: (بِسْكِت)، بزنة (فِعْلِل) قياساً على نظائرها في هذه الزنة، لا عن عمد وتحكّم مقصود، بل عن ذوق وإحساس بخفتها وموسيقيتها، وهو فارق كبير واضح بين هذا الاستعمال، وذلك الأصل اللاتيني الذي نبّه عليه المجمع، ووصفه بهذه الصفة.
ومما عرّبه المجمع بتغيير طفيف فيه، حفاظاً على شهرة الأصل، وكثرة دورانه على الألسنة، كلمة (فيتامين)، إذ هي في الأصل بالفاء Vitamin، فأبقاها المجتمع على لفظها، مع إبدال هذه الفاء العجمية بفاء العربية وكتب إلى جنبها (تعريباً)، فصارت: (فيتامين)(39)، وهي الصورة الشائعة على الألسنة في العراق وأقطار عربية أخرى.
وواضح أن المجمع لم يعمد إلى ترجمتها، إذ لا تخلو هذه الترجمة من العنت والتكلف. فغدا تعريبها بعد هذه الشهرة الواسعة، أفضل وأيسر. وهذا ـ في ما نرى ـ من منهج المجمع في ما نطلق عليه عبارة: (تيسير التعريب). وهو جزء من مهمات المجمع بلا ريب، بل المجامع العربية كلها. وللمجمع المصري في هذا المجال مواقف، تنبئ عنها قراراته.
وقد يقول قائل: فأين التعريب واللفظ باق على صورته هنا؟ والجواب: إنّ اللفظ حدث فيه تغيير صوتي، وهو إبدال (الفاء): (فاء)، فخضع للتعريب. وهذا يكفي، إذ ليس بالضرورة أن يكون التغيير بالزنة أيضاً، ما دام هناك ثمة مسوّغ. وهو ما ذكرناه آنفاً من شهرة الأصل وكثرة دورانه على الألسنة، فوق سهوله نطقه.
على أن أبا منصور الثعالبي (ت 428 هـ)، ذكر أن العرب ربما عرّبت ألفاظاً أو تركتها كما هي، وضرب لذلك مثلاً: الكوز والطشت، والخِوان، والسُّكرجّة، والإبريق(40). ولا شك أن (الإبريق) معرَّب، وقد ورد مجموعاً في القرآن المجيد، وهو قوله تعالى في وصف أهل الجنة: (يطوف عليهم ولدان مخلّدون بأكواب وأباريق)(41). وليس في القرآن دخيل، بل فيه العربي، وألفاظ يسيرة من المعرّب.
ويجدر بنا في ختام الكلام على التعريب في جهود المجمع العلمي العراقي ـ شكر الله جهوده ومساعيه ـ أن نشير إلى ما كنا قد اقترحناه على المجمع عقيب ظهور نشرته ودراستنا لها بناء على توجيه من جامعتنا، إذاك، وهي جامعة الموصل، ثم عدولنا عما رأيناه الوجه، وذلك بعد تأمل فيه. والكلام يتعلق بالتركيب: (حامُضْ حُلُوّْ)، وهو المتعارف عليه لضرب من الحلوى الصغيرة الصلبة، التـي يولع بها الصغار كثيراً. وهي عادة تجمع في طعمها بين الحلاوة والحموضة. ولذلك سمّاها الناس بهذه التسمية، وغلب هذا الاسم عليها، حتـى صار عَلَماً لها، ولو لم تكن فيها حموضة.
والذي رأيناه في نظرة عجلى عند صدور النشرة، التعبير عنها بلفظة (مُزٌّ)، وهي اللفظة المعروفة في العربية، لما يجمع في طعمه بين الحلاوه والحموضة، كالرّمان، وغيره. غير أن الذي نراه هو ما ذهب إليه المجمع من إعراب الكلمة، وجعلها (حامِضٌ حُلْوٌ)(42) يتنوين الضم على آخر كل منهما. إذ إن هذا الإعراب قد أخرج التركيب من عاميته المسكّنة للفظين كليهما فيه. ويشهد لهما أن اللفظ لو كان أعجمياً، ثم أعرب، لخرج بذلك من عجمته، ودخل في كلام العرب.
وهذا ما قرره أبو علي النحوي (ت 377 هـ)، وتلميذه النابغ ابن جني فلو قيل ـ في رأيهما ـ "طابَ الخشكنان"(43)، "فهذا من كلام العرب؛ لأنك بإعرابك إياه، أدخلته في كلام العرب". يريدان بذلك: بوضع حركة الضم عليه، لوقوعه فاعلاً. هذا إذا كان اللفظ أعجمياً، فكيف إذا كان عربياً مثل كلمتي (حامِضٌ حُلْوٌ) لا شك أنه سيكون أطوع للعربية، وأبين لفصاحتها؛ إذ لم يتعدّ التغيير، نقل اللفظ من عامّيته إلى عربيته الفصحية، لا من عجمة إلى عربية فصيحة.
وبهذا فإن كلمة (مزّ) التـي اقترحناها على المجمع عند صدور النشرة، لا توفّ دلالة هذه الحلوى حقها، لأنها إنما تعبّر عن الطعم دون المادة نفسها، لأن التركيب: (حامض حلو)، يعبّر عن ضرب من الحلوى معروف، له هذا الطعم المزدوج.
ولا يسعنا في الختام إلا أن نبارك جهود المجمع العلمي العراقي، في ما قدّمه في نشرته هذه من جهد لغوي، نطمح أن نرى له نظائر على الدوام. والله سبحانه الموفق.
المصادر والمراجع
1. أدب الكاتب، ابن قتيبة، تحقيق محي الدين عبد الحميد، ط 4، مطبعة السعادة ـ مصر 1963.
2. الخصائص: أبو الفتح بن جني، تحقيق محمد علي النجار، صورة الطبعة دار الكتب ـ بيروت.
3. العين: الخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق المخزومي والسامرائي ـ بغداد 1986.
4. فقه اللغة وسرّ العربية: أبو منصور الثعالبي، مطبعة السعادة ـ مصر 1959.
5. فقه اللغة العربية: الدكتور ﺎﮔصد الزيدي، مطبعة دار الكتب ـ جامعة الموصل 1987.
6. القاموس المحيط: مجد الدين الفيروزآبادي، دار العلم للجميع ـ بيروت.
7. الكتاب: سيبويه، تحقيق عبد السلام محمد هارون، ط1 ـ القاهرة 1966.
8. لسان العرب، ابن منظور، صورة لطبعة بولاق سنة 1308 هـ.
9. مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، تحقيق نديم مرعشلي، القاهرة 1972.
10. الممتع في التصريف، ابن عصفور الإشبيلي، تحقيق فخر الدين قباوة ـ بيروت 1979.
11. نشرة المجمع العلمي العراقي سنة 1987 ـ بغداد.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) ينظر كتابنا: فقه اللغة العربية ص 313.
(2) العين 46/4 (بشق).
(3) الخصائص 358/1.
(4) الكتاب 303/4، وكتاب في التعريب، لابن كمال باشازاده ص 27.
(5) ابن منظور: لسان العرب 60/16 (لجم).
(6) سورة يوسف: 2.
(*) تنظر نشرة المجمع العلمي العراقي الصادرة سنة1987 ص 313 (التاء).
(7) أدب الكاتب، لابن قتيبه 286، وينظر كتابنا: فقه اللغة العربية ص 316 عند الكلام على التعريب (الاقتراض).
(8) الممتع في التصريف، لابن عصفور 70/1 (باب الخماسي المجرد).
(9) أدب الكاتب 286.
(10) وهي الآية 31 من الكهف، و53 من الدخان، و 54 من الرحمن، و 21 من الإنسان.
(11) فقه اللغة 185.
(12) فقه اللغة 193.
(13) ينظر في هذا كتابنا: فقه اللغة العربية ص 314.
(14) نشرة المجمع العراقي ص314 ، حرف (الجيم).
(15) نشرة المجمع ص 311 حرف (الباء).
(*) الزِبْرِج: الزينة، والعنفص: المرأة غير الجسيمة. والزهلق: السريع الخفيف.
(16) نشرة المجمع ص 319 حرف (السين).
(17) مفردات ألفاظ القرآن للراغب 319 (السين)، والقاموس المحيط 133/4 (سوم).
(18) نشرة المجمع ص 318 حرف (السين).
(20) ومثله: صَقر وصُقور وفَهد وفُهود، ينظر: الممتع في التصريف 61/1.
(19) نشرة المجمع ص 311 حرف (الهمزة).
(20) ومثله: صَقر وصُقور وفَهد وفُهود، ينظر: الممتع في التصريف 61/1.
(21) نشرة المجمع ص 328 (الهاء).
(22) القاموس المحيط 156/2 ـ 157 (هبر).
(23) نشرة المجمع ص 317 (السين).
(24) نشرة المجمع ص 314 (الجيم).
(25) القاموس المحيط 79/2 (طمر).
(26) الممتع في التصريف 113/1.
(27) نشرة المجمع ص 315 (الدال).
(28) وهو الصلب الشديد، ينظر القاموس المحيط 239/2 (قربوس).
(29) وهو القاع الصلب الأملس الغليظ، ينظر القاموس 240/2 (قرموس).
(30) نشرة المجمع ص 311 (الباء).
(31) نشرة المجمع ص 321 (الفاء).
(32) نشرة المجمع ص 322 (الكاف) وكتب بجانبها: "بتسكين ثانيه تعريباً".
(33) الخصائص 141/2.
(34) القاموس المحيط 171/4 (كركم)
(35) نشرة المجمع ص 322 (الكاف).
(36) الممتع في التصريف 152/1. والطُرْطُب: الثدي، ينظر القاموس المحيط 97/1 (الطُرْطبّة).
(37) نشرة المجمع ص 322 (الكاف).
(38) نشرة المجمع ص 313 (الباء).
(39) نشرة المجمع ص 321 (الفاء).
(40) الثعالبي: فقه اللغة وسرّ العربية ص 453، فصل في فيما اضطرت العرب إلى تعريبه أو تركه كما هو.
(41) الواقعة: 18.
(42) نشرة المجمع ص 314 (الحاء).
(43) الخصائص، لابن جني 359/1.