الصهيونية حركة سياسية منظمة :
شهد يوم التاسع والعشرين من آب سنة 1897 في مدينة بازل "بال" بسويسرا انعقاد أول مؤتمر صهيوني عام ، انبثقت عنه فيما بعد المنظمة الصهيونية العالمية ، وتحولت بموجبه الصهيونية إلى حركة سياسية منظمة عالمية .
وكانت قد نضجت الدعوة إلى عقد هذا المؤتمر في شرق أوروبا منذ عام 1891 وفي وسطها وغربها منذ عام 1896 . وترأس هذا المؤتمر الصهيوني الأول "تيودور هرتزل" الصحفي النمساوي اليهودي الذي نشر عام 1896 كتابه "الدولة اليهودية" ، وهو الكتاب الذي اعتبر دستور الصهيونية والدولة اليهودية العتيدة ، إذ تضمن برنامجاً كاملاً لتأسيس الدولة اليهودية كحل وحيد للمسألة اليهودية ، وذلك إنطلاقاً من إدعاء "هرتزل" بأن المسألة اليهودية – العداء للسامية – باقية إلى الأبد ، ولا يمكن حلها إلا بتأسيس دولة لليهود . ولم يتورع "هرتزل" عن الإعلان في كتابه المذكور بأن هذه "الدولة" ستبنى بأموال كبار الرأسماليين، وبدعم الدول الإمبريالية ، وإن "المجتمع اليهودي" المقبل سيكون مجتمعاً طبقياً ، يسود فيه الأغنياء والخبراء، بينما يقوم الفقراء وبقية شرائح الجماهير بالعمل اليدوي كتنظيف المستنقعات ومد الخطوط الحديدية وفلاحة الأراضي وغيرها . وعهد إلى العرب ، المواطنين الأصليين ، بالعمل في مناطق الأوبئة والأمراض السارية والأفاعي وغيرها . وذلك قبل تهجيرهم إلى البلدان المجاورة" .
وظل "هرتزل" حتى وفاته عام 1904 أميناً لأفكاره ومبادئة العنصرية الإمبريالية ، إذ أقام أوثق العلاقات مع الإمبرياليات البريطانية والفرنسية والألمانية ، كما عقد اللقاءات المستمرة مع الدولة العثمانية وإيطاليا . وكان على رأس حركته حليفاً أكيداً للبرجوازية والرأسمالية المحاكمة في أوروبا ، وعدواً لدودواً لحركات التحرر والديمقراطية والاشتراكية النامية في أوروبا آنذاك .
افتتح "هرتزل" هذا المؤتمر بخطاب حدد فيه الهدف من انعقاد المؤتمر بقوله :
"اجتمعنا هنا لوضع حجر الأساس للبيت الذي سيساوي الأمة اليهودية" .
وساهم في المؤتمر أشخاص نشطوا في الدعوة إلى انعقاده ، أمثال "نوردو" و "بودنهايمر" و "بيرنباوم" ، و "هاغام" ، و "ليلنبلوم" وغيرهم .
ومنذ الجلسات الأولى تميزت داخل المؤتمر ثلاثة اتجاهات رئيسية :
1- الاتجاه الأساسي: تزعم هذا الاتجاه "هرتزل" نفسه ، وكان يدعو إلى اعتبار المهمة الأولى والأساسية للحركة الصهيونية الحصول على براءة (موافقة) إحدى الدول الإمبريالية الكبرى لهجرة اليهود إلى فلسطين واستيطانها وتأسيس الدولة اليهودية .
2- الاتجاه العملي: تزعم هذا الاتجاه قادة حركات "أحباء صهيون" . ورأى أنصار هذا الاتجاه أن المهمة الأساسية للصهيونية هي المباشرة في تحويل الاستعمار الاستيطاني إلى أمر واقع يمكن فرضه مستقبلاً.
3- الاتجاه الثقافي الروحي: قاد هذا الاتجاه "أحد هعام" الذي ظل مصراً على اعتبار الدولة اليهودية غير ضرورية إلا كعامل أخلاقي ، يهدف إلى تنمية الوعي الثقافي والتلاحم النفسي والمعنوي بين اليهود ، والحفاظ على الأخلاق والتعاليم اليهودية .
لكن ، وعلى الرغم من الخلاف المرحلي والموقت بالطبع ، بين هذه الاتجاهات ، فقد تمكن المؤتمر من إنجاز أعماله بنجاح ، وصياغة قراره الأساسي الوحيد الذي جاء فيه أن هدف الصهيونية هو :
"إيجاد وطن للشعب اليهودي في فلسطين يضمنه القانون العام" .
والمقصود "بالقانون العام" هو الوضع الدولي ، أي موافقة وضمان الدول الكبرى .
أما الوسائل الكفيلة بتحقيق هذا الهدف ، والتي أقرها المؤتمر فهي :
1- تشجيع استعمار فلسطين "واستيطانها" بالعمال الزراعيين والحرفيين والصناع اليهود .
2- تنظيم اليهود جميعاً في مؤسسات عامة ترتبط بمنظمة عالمية .
3- تقوية الوعي الثقافي والحس القومي لليهود .
4- الحصول على موافقة الدول الكبرى لتحقيق الهدف الصهيوني .
ومن الملاحظ أن هذه الوسائل تعكس الاتجاهات الثلاثة التي تمثلت في المؤتمر ، كما تعكس غموضاً مقصوداً يهدف إلى تجنب إثارة النزعات والشقاق . وقد علق "هرتزل" على هذا الغموض في الألفاظ قائلاً:
"لا داعٍ للقلق بشأن الألفاظ . فستقرأ الناس ذلك على انه دولة يهودية حتماً" .
أما "نوردو" فعلق أيضاً :
"إن كل من سمع "هرتزل" يقول "وطن" فهم أنه عني دولة في فلسطين" .
وفي مذكراته كتب "هرتزل" "
"لو رغبت في تلخيص معنى مؤتمر "بازل" ، وهذا ما لن أجهر به علناً ، إذن لقلت : في "بازل" أسست الدولة اليهودية" .
وكان واضحاً منذ المؤتمر الأول أن الصهيونية محكومة نظرياً وعملياً بالتحالف والتنسيق واتباع خطى الإمبريالية ، ولم يخف زعماء الصهيونية كون الإمبرياليين – البريطانيين خاصة – قدوة لهم في هذا المجال ، إذ كتب "ناهوم سوكولوف" .
"إن الانتصارات العظيمة لبريطانيا تعتبر مثالاً يقتدي به الصهاينة . فقد أسس الرأسمالي "سيسيل رودس" الذي بدأ عمله بمليون جنيه فقط ، "روديسيا" التي تبلغ مساحتها 750 ألف ميل مربع . وكذلك "شركة إفريقيا البريطانية" التي سيطرت على 200 ألف ميل مربع برأسمال معادل للرأسمال الذي ستبدأ به شركتنا اليهودية عملها" .
وكان "هرتزل" قد تحدث في كتابه "الدولة اليهودية" عن بنك يهودي للاستعمار كوسيلة للاستعمار في فلسطين أسوة بالسادة البريطانيين !!