("(:: القَاعِدَةُ الرابعة :: )")
أن مشركي زماننا أغلظ شركاً من الأولين؛ لأن الأولين يشركون في الرخاء, ويخلصون في الشدة, ومشركو زماننا شركهم دائما في الرخاء والشدة.
والدليل قوله تعالى: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت: 65].
تمت وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
التعليق:
القاعدة الثالثة والرابعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم ظهر في أناس متفرقين في عباداتهم, هذه هي القاعدة الثالثة وذكر بعدها الرابعة من القواعد الأربع التي من عقلها وفهمها جيدًا عقل دين المشركين, وعقل دين المرسلين, وعرف الفرق بينهما وهي القواعد المهمة الواضحة التي بَيَّن فيها المؤلف رحمه الله حقيقة الشرك وما عليه المشركون وأوضح فيها حقيقة ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم وما أرشد إليه, وما بعثه الله به, فمن عقلها هذه القواعد الأربع, كما ينبغي كان على بصيرة ومعرفة بدين الرسل, وقد تقدمت القاعدة الأولى في بيان أنهَّم مُقُِّرون بتوحيد الربوبية, وأنَّهم لا ينكرون أنَّ الله هو الخالق, الرَّازق, المدبر, المحي, المميت, الرَّزاق للعباد, يعرفون هذا, ولهذا أقرُّوا به لما سئلوا: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) [الزخرف:87] كما تقدم .
وبيَّن في القاعدة الثانية: أنهم يقولون: ما دعوناهم وتوجهنا إليهم إلا لطلب القربة والشفاعة , يعني: أنهم ما توجهوا إليهم يعتقدون فيهم الخلق والرزق, فهم يعلمون أنَّ الخلاق الرزاق هو الله, ولكنهم عبدوهم بقصد شفاعتهم وتقريبهم إلى الله, يقول تعالى على لسانهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) [الزمر:3] (وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ) [تونس:18] وهذا هو شركهم يقولون: إننا دعوناهم وتوجهنا إليهم ليقربونا إلى الله, وليشفعوا لنا عند الله, والله هو الرازق الخالق سبحانه وتعالى وأمَّا شرك المشركين المتأخرين, فشركهم دائم, في الرخاء والشدة, فهم يشركون مع الله الأنبياء وغيرهم, وبعضهم أشرك في الربوبية واعتقد أنَّ بعض المشايخ وبعض الصالحين يتصرّف في الكون, ويتصرّف في الناس, وهذا من سخافة العقول وضلالها, فصاروا أَسْفَهَ من المشركين الأولين, وأقلُّ عقلاً وأعظم شركًا .
تقدر تفصيل الشفاعة, وأنَّ الشفاعة شفاعتان: شفاعة مرضيَّة وهي التي يأذن الله بها ويرضاها كشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأهل الموقف حتى يقضي بينهم بإذنه سبحانه, وشفاعته في أهل التوحيد حتى يدخلوا الجنة بإذنه ورضاه سبحانه وتعالى .
وشفاعة باطلة وفي الشفاعة التي يطلبها المشركون من غير الله كالأنبياء, أو الصالحين, أو الملائكة, أو الجن, أو من الأشجار, وهي شفاعة باطلــة, قال الله تعالى فيها: (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر: 48] ويقول تعالى: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) [غافر:18]وهذه شفاعة باطلة؛ لأنهم طلبوها من غير الله وتوسلوا إليها بالشرك فصارت باطلة.
ثم ذكر في القاعدة الثالثة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ظهرَ في أُناسٍ شركهم متنوع, فمنهم من يعبد الأنبياء, ومنهم من يعبد الملائكة, ومنهم من يعبد الصالحين, ومنهم من يعبد الجن, ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار, ومنهم من يعبد الشمس والقمر, فقاتلهم جميعًا وقاتلهم الصحابة, ولم يفرّقوا بينهم, وذكر الآيات الدالة على ذلك مثل قوله جلّ وعلا:
(وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 80]
فجعل عبادة الملائكة والأنبياء كُفْرٌ, وذكرَ في قصة عيسى والنصارى (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المائدة:117] وذكر في الأشجار والأحجار والصالحين (أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى) [النجم:19,18] واللاَّت: رجلٌ صالح, ومناة حجر, والعُزَّى شجرة, فقاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم وقاتلهم الصحابة, ولم يفرِّقوا بينهم, فالشرك واحد وإنْ تنوع المعبودون, كالذي يعبد الشمس, أو القمر, أو الملائكة, أو الأنبياء, أو الصالحين, أو النجوم, أو غيرهم, فكلهم مشركون يقول تعالى:
(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة:5]
(وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ) [الإسراء:23] (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ) [الزمر:2] (فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) [الحج:34]
فمن خالف هذه الآيات, وما جاء في معناها فقد أشرك سواءٌ فعل ذلك مع الأنبياء أو مع الصالحين أو مع الملائكة أو مع الجن أو مع النجوم أو مع الشمس أو مع القمر أو غير ذلك, ولهذا أنزل الله جلّ وعلا فيهم (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه) [الأنفال: 39]
فالشرك يطلق عليه فتنة, كما في قوله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ) يعني: حتى لا يقع شرك بالله ويكون الدينُ كُلُّهُ لله, فالاختلاف يُسمى فتنة, والمعاصي تسمى فتنة, ولكن المقصود بالآية هي فتنة الشرك بالله, كما قال جلّ وعلا: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة:217] يعني: الشرك.
فدل ذلك على أنَّ الواجب على ولاة الأمور أنْ يقاتلوا عُبّاد غير الله مطلقًا كائنًا من كان إذا دعوا إلى الله وأرشدوا, فإن لم يقبلوا وجب قتالهم مع القدرة (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن:16] (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه) [الأنفال:39] ويقول جلّ وعلا: (انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [التوبة:41] ويقول جلَّ وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * ُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [الصف: 11.10]
ومما يتعلق بعبادة الأحجار والأشجار حديث أبي واقد الليثي لما خرجوا إلى حُنين, وكانوا حُدثاء عهدٍ بالكفر مروا على أناسٍ من المشركين يعبدون سِدرةٍ, ويعظمونها ويُعلقونَ عليها السَّلاحَ يقولون: إنّه إذا عُلِّقَ عليها يكون أمضى وأقوى, فقال المسلمون: اجعل لنا ذات أنواطٍ, كما لهم ذات أنواط, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر إنّها السُّنَن قلتم والذي نفسي بيده كما قال بنو إسرائيل لموسى (اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف: 138] الحديث رواه الترمذي وصححه
فجعل طلب إيجاد شجرة تعبد, مثل قول بني إسرائيل اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة, فإذا قال: نريد شجرة نعبدها أو حجرًا نعبده, أو قبرًا نعبده نعلق عليه السلاح, ندعوه, نستغيث به, ننذر له, فهو مثل قول بني إسرائيل (اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) وهذه قاعدة عظيمة مع القاعدتين السابقتين.
ثم أوضح في القاعدة الرابعة: أنَّ شرك الأولين أخفُّ من شرك المتأخرين, فشركُ المتأخرين أعظمُ وأقبحُ, فالأولون شركُهم كان في الرخاءِ ويُخلصونَ في الشِّدةِ, وأمَّا هؤلاء المشركون في غالب البلدان, فشركهم دائمٌ في الرخاء والشدة, كَعُبَّاد البدوي وعُبَّاد الحسين, وعُبَّاد الشيخ عبدالقادر الجيلاني.. وغيرهم, فالواجب الحذر من شرك المشركين في الشدة والرخاء دقيقه وجليله .
ومما يدل على أنَّ شرك المشركين في الرخاء دُونَ الشِدَّة قوله تعالى : (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) يعني: الباخرة أو السفينة (دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [العنكبوت: 65] يعني: أنَّهم كانوا إذا ركبوا البحر وخافوا أنْ يغرقوا في البحر أو تغرق سفنهم, دعوا الله مخلصين له العبادة, فإذا نجَّاهم إلى البر وسَلمُوا عادوا إلى الشرك, يقول جلّ وعلا في آية أخرى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) [الإسراء:67] وهكذا في الآية (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [لقمان:32] هكذا ال المشركين عند الشدائد, يخلصون لله العبادة, ويعلمون أنَّه يُنُجْي وأنَّه لا إله غيره, وإذا جاء الرخاء وقعوا في الشرك مع آلهتهم وأصنامهم, أما هؤلاء المشركون في هذا الوقت فشركهم دائم فلا بصيرة عندهم, فيعبدون غير الله في الرخاء والشدة, ولا تمييز عندهم لضعف العقول وغلبة الجهل, نسأل الله العافية والسلامة وفق الله الجميع .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
كتبه/ حراب شجاع وليّد العجمي