لشيخ / عبد الرحمن بن سعد الشثري
الحمدُ لله ربِّ العالمين , والصلاة والسلام على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه .
أمَّا بعد : فقد كثرت الدعوة في بعض الصحف لجعل إجازتنا الأسبوعية هي يومي الجمعة والسبت , بدلاً مما هي عليه الآن من يومي الخميس والجمعة , وقد قامَ أحدُ الْمُتعالِمين من الصحفيين بلَمْزِ وَرَثةِ الأنبياءِ قديماً وحديثاً لإنكارهم التشبُّه بعطل اليهود والنصارى , كالشيخين ابن باز وابن عثيمين - رحمهما الله - واللجنة الدائمة , واصفاً فتاويهم : بـ ( الآراء الْمُتشنِّجة ؟ أو التي تختلف فقط من أجل الاختلاف ؟ ) وأوجبَ ذلك الصحفيُّ : بأن يُطرحَ هذا الموضوع في مجلس الشورى ؟ ( 1 ) .
ولبيان حكم هذه المسألة العَقَديَّة أقولُ ومن الله تعالى وحده التوفيق والسداد : إنه مِنَ المعلوم مِنَ الدِّينِ بالضرورة , أنَّ ديننا الإسلامي دينٌ كاملٌ لا يحتاجُ إلى زيادة أو نقصان , صالِحٌ لكلِّ زمان ومكان , وقد حذَّر النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم من البدع والإحداث في الدين , فقال صلَّى الله عليه وسلَّم : ( مَنْ أحدثَ في أمرنا هذا ما ليسَ منه فهو ردٌّ ) ([2]) .
وإنه لا شيءَ أفسدَ للدين وأشدَّ تقويضاً لبنيانه من البدع والتشبُّه بالكفار , وإنَّ من أشدِّ وأخطر ما تساهلَ فيه بعضُ المسلمين هو التشبه بالكفار في إجازاتهم في أيام أعيادهم الأسبوعية أو السنوية .
ولقد أخبرَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن وقوع التشبُّه بالكفار في هذه الأمة ؟ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال : ( لا تقومُ الساعةُ حتَّى تأخذَ أُمَّتي بأخذِ القرون قبلَها شبراً بشبرٍ , وذراعاً بذراعٍ , فقيلَ يا رسولَ الله : كفارس والروم , فقال : وَمَنِ الناسُ إلاَّ أولئك ) ([3]) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال : ( لَتتَّبعُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قبلكم شبراً بشبرٍ , وذراعاً بذراعٍ , حتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تبعتموهُم , قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى , قال : فَمَنْ ) ([4]) .
قال النووي رحمه الله تعالى : ( والمرادُ بالشبر والذراع وجُحر الضبِّ : التمثيلُ بشدَّةِ الموافقة لَهُمْ في المعاصي والمخالفات ) ([5])
وقال شيخ الإسلام ت728هـ رحمه الله تعالى : ( وهذا كلُّه خَرَجَ منه مَخْرجَ الْخَبَر عن وقوع ذلك , والذَّمُّ لِمَنْ يفعله , كما كانَ يُخبرُ r عمَّا يفعله الناسُ بين يَدَيِّ الساعة من الأشراط والأمور المحرَّمات , فَعُلِمَ أنَّ مشابهتها اليهود والنصارى , وفارس والروم , مِمَّا ذمَّهُ الله ورسولُه r , وهو المطلوب ) ([6]) .
وقال رحمه الله : ( فَعُلِمَ بخبره الصِّدْقِ صلَّى الله عليه وسلَّم أنه في أمته قومٌ متمسِّكونَ بهديه , الذي هو دينُ الإسلام محضاً , وقومٌ منحرفونَ إلى شعبة من شُعَبِ اليهود , أو إلى شُعْبَةٍ مِنْ شُعَبِ النصارى , وإنْ كان الرجلُ لا يكفرُ بكلِّ انحراف , بل وقدْ لا يفسقُ أيضاً , بل قد يكون الانحرافُ كفراً , وقد يكونُ فسقاً , وقد يكون معصيةً , وقد يكونُ خطأً , وهذا الانحراف أمر تتقاضاه الطباع ويُزيِّنه الشيطان , فلذلك أُمِرَ العبدُ بدوام دعاء الله سبحانه بالهداية إلى الاستقامة التي لا يهوديةَ فيها ولا نصرانيةَ أصلاً ) ([7]) .
ومن المعلوم أنَّ ( يوم السبت يوم عبادة اليهود ) ([8]) , ويُحرِّمون فيه العمل , حيث جاء في سفر نحميا : ( وشعوب الأرض الذين يأتون بالبضائع وكل الطعام يوم السبت للبيع , لا تأخذ منهم في سبتٍ , ولا في يوم مُقدَّس ) ([9]) .
بل وجزاء مَن يعمل يوم السبت : القتل , والنفي من بني إسرائيل , فقد جاء النصُّ على ذلك في سفر الخروج : ( فتحفظون السبت , لأنه مُقدَّسٌ لكم , مَن دنَّسه يُقتل قتلاً , إنَّ كلّ مَن صنعَ فيه عملاً تُقطع تلك النفس من بين شعبها .. كلّ مَن صنعَ عملاً في يوم السبت يُقتلُ قتلاً ) ([10]) , فلم يراع اليهود هذه الْحُرمة , بل خالفوا كما هو طبعهم , وذكَرَ اللهُ ما حلَّ بهم بسبب مخالفتهم فقال سبحانه : {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } فالسبتُ إذاً هو عطلة اليهود الذين أشركوا {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ * أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً * وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي [11] * قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى } وهم الذين نسبوا الابن إلى الله تعالى {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ } وهم الذين وصفوا الله تعالى بالفقر والشحِّ والبخل {لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ }{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } ووصفوا الله بالتعب ([12]){وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } .
والأحد هو عطلة النصارى الْمُثلِّثة , ويُحرِّمون فيه العمل , حيث جاء النص على تقديسه في وثائق المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني بقرار رقم 106 وجاء فيه : ( ومن ثمَّ كان الرَّبُّ في المرتبة الأولى من أيام الأعياد , واليوم الذي يجب أن يُدعى المؤمنون إلى إحيائه وإرساخه في تقواهم , بحيث يُصبح أيضاً يوم بهجة وانقطاع عن العمل , أما الاحتفالات الأخرى فلا يجوز أن تتقدَّم عليه إلاَّ إذا كانت فائقة الأهمية , وذلك لأنَّ يوم الأحد هو أساس السنة الطقسية كلِّها ونواتها ) ([13]) .
فالأحد إذاً عطلة النصارى الْمُثلِّثة {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } وأخصّ أوصافهم الضلاَل : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ * لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } .
وقد منَّ الله تعالى على أُمَّة محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم بيوم الجمعة , وخصَّه الله بفضائل وعبادات خاصة , فهدانا الله إليه بعد أن أضلَّ عنه اليهود والنصارى , فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمعَ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول : ( نحنُ الآخِرونَ السابقونَ يومَ القيامة ، بَيدَ أنَّهم أُوتوا الكتابَ مِنْ قَبلِنا ، ثُمَّ هذا يَومُهُمُ الذي فُرضَ عليهم ، فاختلَفوا فيه فَهَدَانا الله لَهُ ، فالناسُ لنا فيه تَبَعٌ : اليهودُ غداً ، والنصارى بَعْدَ غَدٍ ) ([14]) , وفي رواية : ( أَضَلَّ اللهُ عن الْجُمُعَةِ مَنْ كانَ قبلَنا , فكانَ لليهودِ يومُ السَّبْتِ , وكانَ للنَّصارى يومُ الأحد , فجاءَ اللهُ بنا , فهدَانا اللهُ ليومِ الْجُمُعَةِ , فَجَعَلَ الْجُمُعَةَ والسَّبْتَ والأَحَدَ , وكذلكَ هُمْ تَبَعٌ لَنا يومَ القيامة , نَحْنُ الآخِرونَ مِن أهل الدُّنيا , والأوَّلَونَ يومَ القيامةِ , الْمقضِـيُّ لَهُم قبلَ الْخَلائقِ ) .
وفي روايةِ واصلٍ : ( الْمَقْضيُّ بينهُم ) ([15]) .
وقد سَمَّى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الْجُمُعَة عيداً في غير موضع , فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ : ( إنَّ يومَ الجمعة يومُ عيدٍ , فلا تجعلوا يومَ عيدكم يومَ صيامكم , إلاَّ أنْ تصوموا قبلَه أو بعده ) ([16]) .
ونهى عن إفراده بالصوم لِمَا فيه من معنى العيد , فهو صلَّى الله عليه وسلَّم ( ذكرَ أنَّ الْجُمُعَةَ لنا ، كما أنَّ السبت لليهود ، والأحد للنصارى ، واللام تقتضي الاختصاص ، ثمَّ هذا الكلام يقتضي الاقتسام إذا قيل : هذه ثلاثة أثواب , أو ثلاثة غلمان : هذا لي , وهذا لزيد , وهذا لعمرو , أوجبَ ذلكَ أن يكون كلّ واحد مختصاً بما جُعل له , ولا يشركه فيه غيره , فإذا نحنُ شاركناهم في عيدِهم يومَ السبت ، أو عيد يوم الأحد ، خالفنا هذا الحديث ؟ وإذا كان هذا في العيد الأسبوعي فكذلك في العيد الحولي ) ([17]) .
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله : ( وقد شرعَ اللهُ سبحانه وتعالى لكلِّ أُمةٍ في الأسبوع يوماً يتفرَّغون فيه للعبادة , ويجتمعونَ فيه لتذكُّر المبدأ والمعاد والثواب والعقاب , ويتذكَّرون به اجتماعهم يوم الجمع الأكبر , قياماً بين يدي ربِّ العالمين , وكان أحقُّ الأيام بهذا الغرض المطلوب : اليوم الذي يجمعُ الله فيه الخلائق , وذلكَ يوم الجمعة , فادَّخره الله لهذه الأمة لفضلها وشَرفها , فشرعَ اجتماعهم في هذا اليوم لطاعته , وقدَّر اجتماعهم فيه مع الأمم لنيل كرامته , فهو يومُ الاجتماع شرعاً في الدنيا , وقَدراً في الآخرة , وفي مقدار انتصافه وقت الخطبة والصلاة يكونُ أهل الجنة في منازلهم , وأهل النار في منازلهم , كما ثبت عن ابن مسعود t من غير وجه أنه قال : « لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في منازلهم , وأهل النار في منازلهم , وقرأ : {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } ([18]) .
وقد دلَّ كتابُ الله تعالى , وسنَّة رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم , واتفاق الصحابة رضي الله عنهم وسائر الفقهاء , والنظر والاعتبار , على تحريم مشابهة اليهود والنصارى في أعيادهم الحولية والأسبوعية , فمن هذه الأدلة على سبيل الاختصار :
دلالة القرآن الكريم :
1 – قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }قال ابن جرير الطبري ت310هـ رحمه الله : ( حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين , قال : حدثني حجاج عن ابن جريج عن عكرمة قوله : {ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً } , قال : نزلت في ثعلبة , وعبد الله بن سلام , وابن يامين , وأسد وأسيد ابني كعب , وسَعْبَة بن عمرو , وقيس بن زيد - كلهم من يهود - قالوا : يا رسول الله , يوم السبت يومٌ كنا نُعظِّمه , فدعنا فلنُسبت فيه ! وإن التوراة كتاب الله , فدعنا فلنقم بها بالليل ! فنزلت : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } , فقد صرَّح عكرمة بمعنى ما قلنا في ذلك , من أنَّ تأويل ذلك : دعاء للمؤمنين إلى رَفض جميع المعاني التي ليست من حكم الإسلام , والعمل بجميع شرائع الإسلام , والنهي عن تضييع شيء من حدوده ) إلى أن قال : ( القول في تأويل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } يعني جلَّ ثناؤه بذلك : اعملوا أيها المؤمنون بشرائع الإسلام كلِّها , وادخلوا في التصديق به قولاً وعملاً , ودَعُوا طرائقَ الشيطان وآثارَه أن تتَّبعوها , فإنه لكم عدوٌ مُبينٌ لكم عداوتَه , وطريقُ الشيطان الذي نهاهم أن يتَّبعوه هو ما خالفَ حكمَ الإسلام وشرائعَه , ومنه تَسْبيتُ السبتِ وسائرُ سُنَن أهل الْمِلَل التي تُخالفُ ملَّة الإسلام ) ([19]) .
قوله : ( ومنه تسبيت السبت ) : السبت : ( اسمٌ ليوم معلوم , مأخوذ من السبت الذي هو القطع , أو من السبات وهو الدَّعة والراحة ) ([20]) , ( وقيل : سُمِّي بذلك لأنَّ اليهود كانوا ينقطعون فيه عن العمل والتصرُّف ) ([21]) ( والمعيشة والاكتساب ) ([22]) , فترك العمل يوم السبت اتباعٌ لطريق الشيطان .
2 - قول الله تعالى : {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً }.
قال بعضُ السلف : كابن عباس رضي الله تعالى عنهما ت68هـ ([23]) , وأبو العالية ت90هـ ([24]) , والضحاك بن مزاحم الهلالي ت102هـ ([25]) , ومجاهد ت104هـ ([26]) , وطاووس بن كيسان ت106هـ ([27]) , ومحمد بن سيرين ت120هـ ([28]) , والربيع بن أنس ت136هـ ([29]) , وعبد الملك بن حبيب ت233هـ ([30]) , وأحمد بن حنبل ت241هـ ([31]) , وأبو إسحاق الزجاج ت310هـ ([32]) , وأبو الشيخ الأصبهاني ت369هـ ([33]) , ومحمد بن منصور السمعاني ت489هـ ([34]) , وأبو بكر ابن العربي ت543هـ ([35]) , والعز بن عبد السلام 660هـ ([36]) , ومحمد بن مكرم بن منظور ت711هـ ([37]) , وشيخ الإسلام ابن تيمية ت728هـ ([38]) , ومحمد بن يوسف بن حيان ت745هـ ([39]) , وابن القيم ت751هـ ([40]) , وابن مفلح الحنبلي ت762هـ ([41]) , ومحمد مرتضى الزبيدي ت1205هـ ([42]) , وغيرهم : أنَّ المرادَ بالزور في هذه الآية : أعياد المشركين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( وأمَّا أعيادُ المشركين : فجَمَعَتِ الشبهة والشهوة : وهي باطلٌ : إذ لا منفعة فيها في الدين , وما فيها من اللذة العاجلة : فعاقبتها إلى أَلَمْ , فصارت زوراً , وحضورُها : شهودُها , وإذا كان الله قد مدحَ تركَ شهودِها الذي هو مجرَّد الحضور برؤيةٍ أو سماعٍ , فكيفَ بالموافقة بما يزيدُ على ذلك من العملِ الذي هو عَمَلُ الزور لا مجرَّد شهوده ؟ ) ([43]) .
وإنَّ تعطيل العمل يوم عيد اليهود وهو السبت , أو يوم عيد النصارى يوم الأحد , وجعلهما أو أحدهما عطلة أسبوعية هو أعظم من مجرَّد شهودهما .
3 - قوله تعالى : {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ } قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي ت1393هـ : ( الأظهرُ في معنى قوله : { مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ }( أي : مُتَعَبَّداً هم متعبدون فيه , لأنَّ أصلَ النُّسُك التعَبُّد , وقد بيَّن تعالى أنَّ مَنْسَكَ كلّ أُمَّةٍ فيه التقرُّب إلى الله بالذبح , فهو فردٌ من أفراد النسك , صرَّح القرآنُ بدخوله في عمومه , وذلكَ من أنواع البيان الذي تضمنها هذا الكتابُ المبارك ) ([44]) .
وخصَّه بعض السلف بالعيد : كابن عباس رضي الله عنهما ([45]) , والفرَّاء ت207هـ ([46]) , والعز بن عبد السلام ([47]) , وأحمد بن محمد الهائم ت815هـ ([48]) , والسيوطي ت911هـ ([49]) , وغيرهم , وممن ذكره من أهل العلم : محمد بن عزيز السجستاني ت330هـ ([50]) , وشيخ الإسلام ابن تيمية ([51]) , وعبد الله بن عمر البيضاوي ت791هـ ([52]) , وغيرهم .
دلالة السنة :
حيثُ كان صلَّى الله عليه وسلَّم ( يُحِبُّ مُخالَفةَ اليهود والنصارى ويُرشدُ إليها عُمُوماً وخُصُوصاً ) ([53]) ومن ذلك :
1 - أَمْرُه صلَّى الله عليه وسلَّم الرجلَ أن يَصنعَ مع امرأته الحائض كلَّ شيءٍ إلاَّ الجماع مُخالفةً لليهود : فعن أَنسٍ رضي الله عنه : ( أَنَّ اليهُودَ كَانُوا إذا حَاضَتْ المرأَةُ فيهِمْ لم يُؤَاكِلُوهَا ولم يُجَامِعُوهُنَّ في البيُوتِ , فَسأَلَ أصحَابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَأنزلَ الله تَعَالَى : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ }إلى آخرِ الآيةِ , فقالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : اصنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إلاَّ النِّكَاحَ , فَبَلَغَ ذلك اليَهُودَ , فَقَالُوا : ما يُرِيدُ هذا الرَّجُلُ أَن يَدَعَ من أَمْرِنَا شيئاً إلاَّ خَالَفَنَا فيه ) ([54]) .
( فهذا الحديث يدلُّ على كثرة ما شَرَعَهُ اللهُ لنبِّيه صلى الله عليه وسلم من مُخالفة اليهود , بل على أنه صلى الله عليه وسلم خالفهم في عامَّة أمورهم , حتى قالوا : ما يُريدُ أن يَدَعَ من أمرنا شيئاً إلاَّ خالَفَنا فيه ) ([55]) .
2 - خالفَ هديهُ صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى في النداء للصلاة , فعن ابن عُمَرَ : ( كان الْمُسلمُونَ حين قَدِمُوا الْمَدينَةَ يَجتَمِعُونَ فَيَتَحَـيَّـنُونَ الصَّلاةَ ليس يُنَادَى لها , فَتَكَلَّمُوا يَوْماً في ذلك , فقال بَعْضُهُمْ : اتَّخِذُوا نَاقُوساً مِثلَ ناقُوسِ النَّصَارَى , وقال بَعْضُهُمْ : بَلْ بُوقاً مِثْلَ قَرْنِ اليهُودِ , فقال عُمَرُ : أَولا تَبْعَثُونَ رَجُلاً يُنَادِي بالصَّلاةِ ؟ فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : يا بلالُ قُمْ فَنَادِ بالصَّلاةِ ) ([56]) .
وفي رواية : ( فَذُكرَ له الْقُنْعُ - يَعْني الشَّنبورَ - وقال زِيَادٌ : شنبورُ الْيَهُودِ , فلم يُعْجبْهُ ذلك , وقال صلى الله عليه وسلم : « هو من أَمْرِ اليهُودِ » , قال : فَذُكرَ له النَّاقُوسُ , فقال صلى الله عليه وسلم : « هو من أَمْرِ النَّصَارَى » ) ([57]) .
3 - وأُمرَ صلى الله عليه وسلم بمخالفة اليهود في استقبال القبلة ([58]) .
4 - ونهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها حسماً لمادة المشابهة للكفار , وسدَّاً للذريعة ([59])
5 - ونهى صلى الله عليه وسلم عن قيام المأمومين والإمام قاعد منعاً من التشبُّه بفارس والروم ([60]) .
6 - وأمرَ صلى الله عليه وسلم بالصلاة في النعال مُخالفةً لليهود فقال صلى الله عليه وسلم : ( خَالِفُوا الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ لا يُصَلُّونَ في نِعَالِهِمْ ولا خِفَافِهِمْ ) ([61]) , قال العيني رحمه الله : ( فيكون مستحباً من جهة قصد مُخالفة اليهود ) ([62]) .
7 - ورغَّب صلى الله عليه وسلم في صيام التاسع مع العاشر من شهر الله المحرَّم مُخالفةً لليهود , فقال صلى الله عليه وسلم : ( لَئِنْ بَقيتُ إلى قَابلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ ) ([63]) , وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صوموا يومَ عاشوراء , وخالفوا اليهود , صوموا قبله يوماً , أو بعده يوماً ) ([64]) .
( فتدبَّر : هذا يوم عاشوراء , يومٌ فاضلٌ يُكفِّر سنة ماضية , صامَهُ رسولُ الله r وأمر بصيامه , ورغَّبَ فيه , ثمَّ لَمَّا قيلَ له قُبَيلَ وفاته : إنه يومٌ تُعظِّمه اليهود والنصارى , أمرَ بمخالفتهم بضمِّ يوم آخر إليه , وعزم على ذلك ) ([65]) .
وقال ابن رجب ت795هـ رحمه الله : ( وهذا يدلُ على النهي عن اتخاذه عيداً , وعلى استحباب صيام أعياد المشركين , فإنَّ الصوم يُنافي اتخاذه عيداً , فيُوافقون في صيامه مع صيام يومٍ آخر , وفي ذلك مُخالفة لهم في كيفية صيامه أيضاً , فلا تبقى فيه موافقة لهم في شيءٍ بالكلية ) ([66]) .
8 - ورغَّب صلى الله عليه وسلم في أكلة السَّحَرِ مُخالفةً لليهود والنصارى , فقال صلى الله عليه وسلم : ( فَصْلُ ما بينَ صيَامِنَا وصيَامِ أَهلِ الْكِتَابِ أَكلَةُ السَّحَرِ ) ([67]) .
9 - ورغَّبَ صلى الله عليه وسلم في تعجيل الفطر مُخالفةً لليهود والنصارى , فقال صلى الله عليه وسلم : ( لا يَزَالُ الدِّينُ ظَاهراً ما عَجَّلَ الناس الْفِطْرَ , لأنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤَخِّرُونَ ) ([68]) .
فـ( قوام الدين الحنيفيِّ على مخالفة الأعداء من أهل الكتاب , وأنَّ في موافقتهم تلَفاً للدين ) ([69]) .
( فربط النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين ظهور الدين ومخالفة اليهود والنصارى , وجعل ظهور الدين مُعلَّقاً بمخالفتهم ومباينتهم , ومفهومه : أنَّ خفاء الدين واندراسه مُتعلِّقٌ بإظهار مشابهتهم , فإذا كان التشبُّه بهم يُساهم في فقدان الدين وعدم ظهوره وجبت مُخالفتهم في كلِّ حال ) ([70]) .
ولأنَّ ( المقصود بإرسال الرسل أن يَظهر دين الله على الدين كلِّه , فتكون نفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة ) ([71]).
10 - ونهى صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم لمخالفة النصارى , فقد روى الإمام أحمد ([72]) : ( عن لَيلَى امرَأَةِ بَشيرٍ قالت : أَرَدْتُ أن أصوم يَوْمَيْنِ مُوَاصَلَةً , فمنعني بَشيرٌ , وقال : إن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نهى عنه , وقال : يَفْعَلُ ذلك النَّصَارَى , وقال عَفَّانُ : يَفْعَلُ ذلك النَّصَارَى , وَلَكِنْ صُومُوا كما أَمْرَكُمُ الله عز وجل : { أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ } فإذا كان اللَّيْلُ فَأَفْطِرُوا ) , ( وهذا يقتضي أنَّ العلَّة في النهي عن الوصال مخالفة النصارى في فعلهم له ) ([73]) .
11 - ودفَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حجِّه من مزدلفة قبل طلوع الشمس مُخالفة للمشركين , فعن عَمْرَو بن مَيْمُونٍ قال : ( شَهِدْتُ عُمَرَ رضي الله عنه صلَّى بجَمْعٍ الصُّبْحَ , ثُمَّ وَقَفَ فقال : إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لا يُفيضُونَ حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ويَقُولُونَ : أَشْرِقْ ثبيرُ , وَأَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خَالَفَهُمْ , ثُمَّ أَفَاضَ قبل أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ ) ([74]) .
فـ( الشريعة قد استقرَّت ولا سيَّما في المناسك على قصد مُخالفة المشركين , فالنسك المشتمل على مخالفتهم أفضل بلا ريب , وهذا واضحٌ ) ([75]) .
12 - ورغَّب صلى الله عليه وسلم في صبغ الشيب مُخالفةً لليهود والنصارى , فقال صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لا يَصبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ ) ([76]) .
وهذا : ( دليلٌ على أنَّ التشبُّه بهم يَحصُلُ بغير قصدٍ منَّا ، ولا فعل , بل بمجرَّد ترك تغيير ما خُلقَ فينا ) ([77]) .
وقال الشوكاني : ( إنَّ العلَّةَ في شَرعيَّةِ الصِّباغِ وتغييرِ الشَّيبِ هيَ مُخالَفَةُ اليهُودِ والنَّصارى ) ([78]) .
13 - ونهى صلى الله عليه وسلم عن مشابهة الكفار في كلِّ ما كانوا عليه من العبادات والعادات , فقال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : ( إِنَّ دِمَاءَكُمْ وأَمْوالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيكُمْ , كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا , في شَهْرِكُمْ هذا , في بَلَدِكُمْ هذا , ألاَ كُلُّ شَيْءٍ من أَمْرِ الجاهِليَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ .. ) ([79]) .فقوله صلى الله عليه وسلم : « كلُّ شيءٍ من أمر الجاهلية تحتَ قدميَّ موضوعٌ » ( يَدخلُ فيه ما كانوا عليه من العبادات والعادات .. ولا يدخلُ في هذا اللفظ : ما كانوا عليه في الجاهلية وأقرَّه اللهُ في الإسلام , كالمناسك , وكدية المقتول بمائة من الإبل , وكالقسامة ونحو ذلك , لأنَّ أمرَ الجاهلية معناه المفهوم منه : ما كانوا عليه مما لم يُقرّه الإسلام , فيدخلُ في ذلك : ما كانوا عليه , وإنْ لَمْ يُنه في الإسلام عنه بعينه ) ([80]) .
14 - وأَمَرَ صلى الله عليه وسلم بمخالفة المشركين في أعيادهم عامَّة :
أ - فعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال : ( نَذرَ رَجُلٌ على عَهْدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يَنحَرَ إِبلاً ببُوَانةَ ([81]) , فأَتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالَ : إنِّي نَذرْتُ أنْ أنحَرَ إبلاً ببُوَانةَ , فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : هَلْ كانَ فيها وثنٌ مِنْ أوثانِ الجاهليةِ يُعبَدُ ؟ قالوا : لا , قال : هلْ كانَ فيها عيدٌ مِنْ أعيادِهم ؟ قالوا : لا , قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : أَوْفِ بنَذرِكَ , فإنه لا وَفَاءَ لنذرٍ في معصية الله , ولا فيما لا يَملِكُ ابنُ آدَمَ ) ([82]) .
قال العلاَّمة علي القاري : ( وهذا كلُّه احترازٌ من التشبُّه بالكفَّار في أفعالهم ) ([83]) .
ب - عن أمِّ سلمة رضي الله عنها قالت : ( كانَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصومُ يومَ السبت ويومَ الأحد أكثرَ مِمَّا يصومُ من الأيامِ , ويقول : إنهما عيدا المشركين , فأنا أُحِبُّ أنْ أُخالِفَهم ) ([84]) .
قال الحافظ ابن حجر : ( وأشار بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم : « يوما عيد » إلى أنَّ يوم السبت عيدٌ عند اليهود , والأحد عيدٌ عند النصارى , وأيام العيد لا تُصام فخالفهم بصيامها ) ([85]) .
وقال الإمام ابن القيم : ( فهذا نصٌّ في استحباب صوم يوم عيدهم لأجل مخالفتهم ) ([86]) .
وقال الذهبي ت748هـ رحمه الله : ( فهذا القول منه صلى الله عليه وسلم يُوجبُ اختصاص كلِّ قومٍ بعيدهم , كما قال تعالى : {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} فإذا كان للنصارى عيد , ولليهود عيد , مُختصين بذلك , فلا يشركهم فيه مسلمٌ , كما لا يشاركهم في شرعتهم , ولا في قبلتهم ) ([87]) .
ت - عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ تَشَبَّهَ بقومٍ فَهُوَ مِنْهُم ) ([88]) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وهذا الحديثُ أقلُّ أحواله أنْ يقتضي تحريمَ التَشَبُّهَ بهم ، وإنْ كان ظاهره يقتضي كفرَ المتشبِّه بهم ، كما في قوله تعالى : {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } ([89]) .
وقال ابن كثير ت774هـ رحمه الله تعالى : ( ففيه دلالةٌ على النهي الشديد , والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار في أقوالهم , وأفعالهم , ولباسهم , وأعيادهم , وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التي لَمْ تُشرع لنا ولا نُقرُّ عليها ) ([90]) .
وقال ابن القيم : ( فلأنَّ المشابهةَ في الزيِّ الظاهرِ تدعو إلى الموافقة في الهدي الباطن ، كما دلَّ عليه الشرعُ والعقلُ والحِسُّ ، ولهذا جاءت الشريعة بالمنع من التشبه بالكفار والحيوانات والشياطين والنساء والأعراب , وكلِّ ناقص ) ([91]) .
وقال : ( وسرُّ ذلك : أنَّ المشابهةَ في الهدي الظاهر ذريعةٌ إلى الموافقة في القصدِ والعمل ) ([92]) , وقال الصنعاني ت1182هـ : ( والحديثُ دالٌّ على أنَّ مَن تشبَّه بالفساق كان منهم ، أو بالكفار أو بالمبتدعة في أيِّ شيءٍ مما يختصُّون به من ملبوسٍ أو مركوبٍ أو هيئةٍ ، قالوا : فإذا تشبَّه بالكافر في زيٍّ ، واعتقدَ أنه يكونُ بذلك مثله كفرَ ، فإنْ لِمْ يعتقد ففيه خلافٌ بين الفقهاء ، منهم من قال يكفرُ ([93]) وهو ظاهرُ الحديث ، ومنهم من قال لا يكفرُ ولكنْ يُؤَدَّب ) ([94]) .
ج - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : ( ليسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بغيرنا ، لا تشَبَّهُوا باليهودِ ولا بالنصارى ) ([95]) .
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في مثل هذه النصوص : ( هذا من نصوص الوعيد ، وقد جاء عن سفيان الثوري وأحمد : كراهةَ تأويلها ليكونَ أوقعَ في النفوس ، وأبلغ في الزجر ، وهو يدلُّ على أنه يُنافي كمالَ الإيمانِ الواجب ) ([96]) .
وقال ابن القيم : ( والمقصودُ الأعظم : ترك الأسباب التي تدعو إلى موافقتهم ومشابهتهم باطناً ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم سنَّ لأمته ترك التشبُّه بهم بكلِّ طريق ، وقال صلى الله عليه وسلم : « خالفَ هَديُنا هَدْيَ المشركين » ([97]) , وعلى هذا الأصل أكثر من مئة دليل ، حتى شرع لنا في العبادات التي يُحبُّها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، تجنُّبَ مشابهتهم في مجرَّد الصورة ) ([98]) .
وقال الشيخ أحمد شاكر : ( ولَمْ يختلف أهل العلم منذ الصدر الأول في هذا ، أعني في تحريم التشبه بالكفار ، حتى جئنا في هذه العصور المتأخرة ، فنبتت في المسلمين نابتةٌ ذليلةٌ مُستعبَدةٌ ، هُجَيْرَاها وديدَنُها التشبُّه بالكفار في كل شيء ، والاستخدام لهم والاستعباد , ثم وَجَدُوا من الملتصقين بالعلم ، المنتسبين له من يُزَيِّنُ لهم أمرهم ، ويُهَوِّنُ عليهم أمرَ التشبه بالكفار في اللباس والهيئة ، والمظهر والخُلُق ، وكل شيء ، حتى صرنا في أمةٍ ليس لها من مظهر الإسلام إلاَّ مظهرَ الصلاة ، والصيام ، والحجِّ ، على ما أدخلوا فيها من بدعٍ ، بلْ من ألوانِ التشبه بالكفار أيضاً ) ([99]) .
ح - عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال : ( أَبغضُ الناسِ إلى الله ثلاثةٌ : مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ , ومُبْتَغٍ فِي الإسلامِ سُنَّةَ الجاهليةِ , وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بغيرِ حَقٍّ لِيُهْرِيقَ دَمَهُ ) ([100]) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( فكلُّ مَن أرادَ في الإسلام أنَ يَعمل بشيءٍ مِنْ سُنَنِ الجاهليةِ دَخَلَ في هذا الحديث ) ([101]) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله : ( وقيل : المرادُ من يريدُ بقاء سيرة الجاهلية , أو إشاعتها , أو تنفيذها , وسنة الجاهلية اسمُ جنسٍ يَعُمُّ جميعَ ما كان أهل الجاهلية يعتمدونه .. ) ([102]) .
خ - قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( اجتنبوا أعداءَ الله في عيدهم ) ([103]) .
أليس في قول عمر رضي الله عنه ( نهيٌ عن لقائهم والاجتماع بهم فيه , فكيف بمَنْ عَمِلَ عيدهم ) ([104]) .
فهذا قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه , والذي قال عنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( إنَّ الله جعلَ الحقَّ على لسانِ عُمَرَ وقلْبهِ ) ([105]) .
وأمَرَنا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء به وبصاحبه أبي بكر , فقال صلى الله عليه وسلم : ( اقتدوا باللذَيْنِ مِنْ بعدي أبي بكر وعمر ) ([106]) .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : ( ومِنَ الْمُحالِ أنْ يكونَ الخطأُ في مسألةٍ أفتَى بها مَنْ جعلَ اللهُ الحقَّ على لسانه وقلبه حظه , ولا يُنكره عليه أحدٌ مِن الصحابة , ويكون الصوابُ فيها حظَّ مَنْ بعدَه هذا مِن أَبيَنِ الْمحال ) ([107]) .
و - قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( .. ولا تدخلوا على المشركينَ فِي كنائسهم يومَ عيدهم , فإنَّ السُّخطَةَ تَنْزِلُ عليهم ) ([108]) .
قال البيهقي رحمه الله : ( وفي هذا كراهةٌ لتخصيص يوم بذلك لَمْ يجعله الشرع مخصوصاً به ) ([109]) .
فأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه نَهَى عن مُجرَّد دخول الكنيسة عليهم يومَ عيدهم , فكيفَ بفعل بعضِ أفعالهم ؟ أو بفعل ما هو من مقتضياتِ دينهم ؟ .
أليست موافقتهم في بعض أعمال عيدهم أعظم من مُجرَّد الدخول عليهم في عيدهم ؟ وإذا كانَ السَّخَطُ يَنْزلُ عليهم يومَ عيدهم بسبب عملهم , فمَنْ يشركهم في العمل أو بعضه أليسَ قد تعرَّض لعقوبة ذلك ([110]) .
د - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : ( مَنْ بَنَى ببلادِ الأعاجمِ , وصَـنَعَ نَيْرُوزَهُم ([111]) , ومهرَجَانَهُم ([112]) , وتَشَبَّهَ بهِم حتَّى يَموت وَهُوَ كذلكَ , حُشِرَ معهم يومَ القيامة ) ([113]) .
قال شيخ الإسلام قدَّسَ الله روحه : ( وهذا يقتضي أنه جَعَلَهُ كافراً بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور , أو جعلَ ذلك من الكبائر الموجبة للنار , وإنْ كان الأولُ ظاهرُ لفظه , فتكونُ المشاركةُ في بعض ذلك معصيةٌ , لأنه لو لَمْ يكن مُؤَثِّراً في استحقاق العقوبة لَمْ يَجُزْ جعله جزءاً من المقتضى , إذ المباح لا يُعاقبُ عليه , وليس الذمُّ على بعض ذلك مشروطاً ببعض , لأنَّ أبعاض ما ذكره يقتضي الذم مفرداً , وإنما ذكر - والله أعلم - مَنْ بَنَى ببلادهم , لأنَّهم على عهدِ عبد الله بن عمرو وغيره من الصحابة كانوا ممنوعين مِن إظهار أعيادهم بدار الإسلام , وما كانَ أحدٌ من المسلمين يَتَشَبَّهُ بهم في عيدهم , وإنما كان يتمكنُ مِن ذلك بكونه في أرضهم ) ([114]) .
يتبع.....