فنون خطابية .. ومهارات إلقائية ( 1-4)
بقلم / ماجد بن جعفر الغامدي
كاتب إسلامي
mmjaafr@hotmail.com
ومضات البدء
حتى يكون حديثك عامراً له أنداء وأفياء .. وظلال وأبعاد .. وحتى يكون كلامك مؤنساً مشجياً .. منعشاً مشوقاً .. وحتى يكون قولك مطرباً مغرياً ، خفيفاً شائعاً .. وحتى يكون أسلوبك لطيفاً شريفاً .. باسماً مبهجاً .. وحتى يكون موضوعك عليه طلاوة ، وله حلاوة ، وفيه نضارة .. وحتى تؤثر في الآخرين فتبذر فيهم التفاهم والتكاتف .. فتجني التضامن والتعاون ..
وحتى تكون كذلك بل أكثر .. انطلق معي - أخي المتميز المبدع- في هذه الأسطر حتى نجول ونصول ، ونتعلم مهارة المبدعين المتميزين - أنت بالطبع أحدهم - مهارة العظماء ،وصنعة الأبطال .. مهارة الإلقاء الفعّال المثمر ، على دراسة منهجية تركّز على الجوانب العملية أكثر .. وبعد أن تستمتع بهذا الموضوع وتنزل ما تعلمته على واقعك وتمارس ، وتجرّب وتحاول مرةً وأخرى وثالثة ، حتى تتقن وتتجاوز حدود الإبداع ستعلم مدى ما كنت تحتاجه إلى هذه المهارة المهمة ، بل واللازمة للجميع ، والتي من خلالها ستتعلم الكثير من المهارات وستتذكر مباشرة قول [ دوسكو درو موند ] حين قال : " لو قُدّر لي أن أفقد كل مواهبي وملكاتي ، وكان لي حق الاختيار في أن احتفظ بواحدة فقط ..فلن أتردد في أن تكون هذه هي القدرة على التحدث ؛ لأنني من خلالها أستطيع أن استعيد البقية بسرعة " .
وأيضا ستشعر من خلال ممارستك الدائمة للإلقاء بقول الخطيب المشهور [ زج زجلر ] : " سواء رضينا أم أبينا ؛ فإن الذين يُحسنون الحديث أمام الناس يعتبرهم الآخرون أكثر ذكاء ، وإن لديهم مهارات قيادية متميزة عن غيرهم " .
إذن - أخي - هي ليست مهارة عادية بل منها السحر والبيان ، وكما في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه قال : قدم رجلان من المشرق فخطبا ، فعجب الناس لبيانهما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن من البيان لسحرا ) .
الخطابة في الإسلام
في لندن يزدحم الناس حول الخطباء في الركن المخصص لذلك في حديقة [ هايدبارك ] ، فإذا وقف قسيس ليخطب لا يظفر إلا بعدد قليل جداً من المستمعين ؛ ويرجع ذلك إلى أن خطبهم لا تعدوا أن تكون أحاديث عن حياة المسيح ، مأخوذةً عن الأناجيل ، أو تكون من مطالعات في العهد القديم ، أو بعض التعاويذ والترانيم .. إلى غير ذلك مما هو معروف للناس ، وقد سمع مراراً وتكراراً وأصبح لا يَهزُّ المشاعر ولا يلمس الوجدان .
مقارنة بالمثال السابق ؛ فإن الخطابة في الإسلام لها مبادئ وأصول قامت عليها ، وعلى سبيل المثال خطبة الجمعة وما تتمتع به من مميزات فجميع المسلمين يحضرونها ويجلسون لاستماعها ، فالكل آذان صاغية للخطيب ، وبها يكون التوجيه ، فهي ليست مأخوذة من أناجيل مكذوبة ، أوترانيم خادعة ، بل هي قانون حياة ، ومنهج عمل ، مدعمة بخير كلام ، ليس فيه من التحريف وليس من كلام الناس ! بل من كلام رب الناس {ومن أحسن من الله قيلاً } .
هل يمكن تعلّم الخطابة والإلقاء ؟
الخطابة صعبة … والإلقاء مستحيل ..وأنا سيء في حديثي .. فهل يمكنني أن أجيد فن الإلقاء؟
أقول : وبكل سهولة.. تستطيع أن تتعلم الإلقاء ، ولا يعني عزوفك أصلاً عن إلقاء الكلمات أنك لن تستطيع إجادتها ، أو أن إخفاقك في موقف سابق يجعلك تصد عن ذلك ، بل انظر بإيجابية ، واعلم أنك قد استفدت من موقفك السابق وتعلمت منه التجارب والخبرات ؛ حتى تجعلك تتقن هذا الفن .. يقول إيمرسون: " إن جميع المتكلمين العظماء كانوا متكلمين سيئين في البداية " .
اعلم : أن القدرات يصنعها الإنسان ، والمهارة يكتسبها ويتعلمها الإنسان .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما العلم بالتعلم ، وإنما الحلم بالتحلم ) .
فالإلقاء والخطابة علم وأمر يمكن للإنسان أن يتعلمه إذا اتبع قواعده ، وسار على نهجه ، وجلد على مراسه .
فهذا واصل بن عطاء - أحد أئمة المعتزلة - كان لديه لثغة في حرف الراء .. فحاول أن يستقيم لسانه .. فلم يستطع ورغم ذلك فلم يترك الخطابة بسبب هذه اللثغة ، فما كان منه إلا أنه كان يخطب من غير حرف الراء ، فأصبح من أوائل الخطباء وأشهرهم .
والآن وحتى نبحر في هذا الفن الرائع الجميل ؛ فإنه من الأفضل أن نتطرق إلى أمور كثيرة تتعلق بالإلقاء .
وحتى تكون دراستنا أكثر منهجية .. وتعلمنا أكثر إتقاناً ؛ فسنتعرض إلى ما يجب أن يتحلى به الخطيب من صفات ، وكذلك قضية التحضير ؛ فهي ملازمة تماماً للإلقاء ومرتبطة به تماماً ، ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر .. بمستوى إتقان التحضير يكون الإبداع في الإلقاء .. وأيضاً التدرّب قبل الإلقاء ، وكذلك ما يمكن فعله عند الخوف والارتباك ، وبعد هذا وذاك نشرع في ذكر المهارات الإلقائية ، والفنون الخطابية .
صفات الخطيب المتميز
1- ثقافة الخطيب
وذلك بالإطلاع الجيد على علوم القرآن والسنة ، والمعرفة بفنه الذي يتحدث فيه ؛ وإلا كان مناقضاً لنفسه فسيتضح ذلك للناس سريعاً ، وكما قيل : " كل إناء بما فيه ينضح " ، فالخطيب المميز هو أولاً شخص مميز في ذاته ..فارفع من ثقافتك ، وحسِّن من أدائك ، وكن جاداً في إنجازك .
2- موافقة القول للعمل
وذلك بالصدق في حديثه وعاطفته.. وصدقه في علاقته مع ربه ، وتطبيقه لما يقول {يا أيها الذين ءامنوا لم تقولون مالا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون }.
وكما في الحديث المتفق عليه : ( يؤتي بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار ، فتندلق أقتاب بطنه ، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى ، فيجتمع إليه أهل النار ، فيقولون : مالك يا فلان ! ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول : بل كنت آمر بالمعروف ولا آتيه ، وأنهى عن المنكر وآتيه ) .
يا أيها الرجل المعلم غيره **** هلا لنفسك كان ذا التعلـيم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى **** كيما يصح به وأنت سقيم
3- دراسة علوم اللغة
فلا يحسن بالخطيب أن يجعل المرفوع منصوباً ، والمنصوب مجروراً ، و المجرور مرفوعاً .. هذا بما يتعلق بالنحو .. وكذلك إلمامه الجيد بالتراكيب اللفظية ، وعلوم المعاني ، وإمتلاك مهارة لغوية تبنى لديه معجم واسع من المفردات ، تزوده بقدرة فائقة على التعبير عن المعنى بأروع طريقة وأبدع أداء .
4- الثقة بالنفس
عندما يكون الخطيب رابط الجأش لا شك أنه سيكون أكثر وصولاً إلى قلوب وعقول الجمهور ، وكذلك يبدع أكثر فيما يريد إيصاله من رسالة .
5- الأمانة العلمية
عزو المعلومات إلى المصادر والمراجع فهذه أمانة أمام الله سبحانه تعالى .
مرحلة ما قبل الإعداد
1- الإخلاص
صحيح أن العمل الجاد يحتاج إلى التعب والجهد ولكنه يحتاج - قبل كل ذلك - إلى الإخلاص لله تعالى ، والمثل الرائع يقول: " قل لمن لا يخلص لا يتعب " ، فما فائدة العمل إن أريد به غير وجه الله تعالى ؟ نعم .. لن يكون له أي تأثير لا على المتكلم ، ولا حتى على المستمعين إن لم يكن هناك إخلاص " فربَّ عمل كبير تصغرّه النية ، وربَّ عمل صغير تكبره النية " ، فالخلاص في الإخلاص .
ومما يعين على الإخلاص كثرة الدعاء ؛ بأن يجعل الله العمل صالحاً متقبلاً خالصا له وحده ..وأن يجعل له بالغ الأثر في الآخرين .
ما قبل الإلقاء
2- الجمهور
يجب على الخطيب أن يتعرف على جمهوره فما القيم والمبادئ التي يحملونها؟
وما مدى أهمية هذا الموضوع لديهم؟ وما الذي يريدون معرفته ؟ وما هي المشاكل التي تواجههم فيه؟ لأن القاعدة تقول : " شكِّل حديثك حسب جمهورك ".
وكذلك يجب على الملقي أن يعرف كم عدد الحضور التقريبي ؛ فإن كان جمهور صغير (أقل من 25 شخصاً ) فيعلم الملقي حينئذ أن الانتباه أكثر ، فالأمثلة أكثر، والأسئلة والمناقشات ستكون مباشرة مع الجمهور ، و سيقوم الملقي المتميز بالاتصال بالجميع عن طريق العين .
أما إذا كان الجمهور كبيراً أكثر من ( 25شخصاً ) ، فسيحدث السَرَحان والهمس مع الجار ، والتشتت في الانتباه ، فعند ذلك يقوم الملقي بالربط والتلخيص وتكرار النقاط المهمة ؛ ليحافظ على تركيز الجمهور وانتباهه ، وكذلك مما يجب أن يعرفه الملقي قبل إلقائه : الوقت المتاح له والمكان الذي سيلقي فيه ؛ فإنهما سيساعدانه على القيام بمهمته .
3- الهدف
للأسف أننا في أوقات كثيرة نتحدث بدون أي هدف فلماذا لا يكون لدينا أهداف صغيرة تخدم هدفاً مرحلياً تصب أخيراً في هدفنا الأخير .
من خلال ما سبق نستطيع أن نحدد الأهداف التي يمكن تحقيقها من خلال إلقائنا.. فكيف يصوغ الملقي هذه؟
إليك هذه الطريقة العلمية المجربة ، التي يذكرها الدكتور طارق السويدان في كتابه [ فن الإلقاء الرائع ] ، فيقول : " اكتب جملة من 25 كلمة أو أقل .. تشرح موضوع حديثك مرتبطاً بهدفك ، وإذا كنت أنت غير واضح في هدفك ، فكيف يستطيع المستمع أن يتبين هذا الهدف؟ ".
فعلمية الهدف تعد عملية سهلة ، وتجعل كل شيء بعدها ينساب سهلاً ويسيراً ، فأبدأ بها أولاً وستجد كل شيء بعدها سيغدو سلساً ، فلعلّ هدفك الرئيسي هو أن تعرّف الجمهور على شيء جديد ، وتجعله يفكر فيه ، ويشعر به ويتذكره دائماً ، فكيف ستصل لهدفك ؟
فكّر في ذلك جيداً !!
يقول دايل كارينجي : " إن التحضير يعني التفكير والاستنتاج والتذكر ، واختيار ما يعجبك وصقله وجمعه في وحدة فنية من صنعك الخاص