أ. د. جعفر شيخ إدريس
قُدم هذا البحث لمؤتمر عقدته مجلة البيان بقاعة الصداقة بالخرطوم يوم 17 رجب 1423 هـ الموافق 24سبتمبر سنة 2002
هيمنة الحضارة الغربية
إذا أردنا للحديث عن صراع الحضارات أن يكون حديثا تبنى عليه مواقف فكرية وعملية فيحسن أن لا يكون حديثا عاما، بل يحسن أن نشير فيه إلى وقائع وحالات محددة. لذلك نقول:
ما الحضارات التي يقال إنها تتصارع الآن؟
لكي نجيب عن هذا السؤال يحسن أن نتفق على ما نعنيه بكلمة الحضارة، في بحثنا هذا على الأقل. الحضارة كما نستعملها هنا هي الكلمة العربية المقابلة للكلمة الانجليزية civilization . فالحضارة بحسب ما نراه هنا مكونة من جوهر ومظهر. أما الجوهر فهو معتقداتها وقيمها وأنماط السلوك الشائعة فيها، وأما مظهرها فهو انجازاتها المادية من قوة عسكرية واقتصادية، ونظم سياسية وعمران.
الحضارة بهذا المعنى مفهوم محايد، أعني أنه لا يدل بنفسه على مدح أو ذم، شأنه في ذلك شأن عبارات الأمة، والأئمة، والخُلق والدين وغير ذلك. فالأمة قد توصف بالاستقامة أو الزيغ، والأئمة قد يكونون هداة إلى الحق أو موردين لمتبوعهم إلى النار، والخُلق قد يكون حسناَ وقد يكون سيئاً، والدين قد يكون حقاً وقد يكون باطلاً. وكذلك الحضارة قد توصف بالمادية أو الإيمانية، وبالقوة أو الضعف.
فما الحضارات ـ بهذا المعنى ـ التي تتصارع في عصرنا؟
لا نستطيع ـ فيما أرى ـ أن نشير في واقعنا الراهن إلى حضارة ماثلة محددة المعالم إلا حضارة واحدة هي الحضارة الغربية. وذلك أننا حين نتحدث عن الحضارة الغربية نستطيع أن نشير إلى دولٍ قائمة تتمثل فيها هذه الحضارة: فهنالك دول أوربا الغربية، والولايات المتحدة، وكندا، واستراليا ونيوزيلاندا. يجمع بين هذه الدول كونها كلها ذات نظام سياسي واحد هو الديمقراطية الليبرالية العلمانية، وأن بينها علاقات وتعاون، وأن لها تاريخاً واحداً مشتركاً، وأن الديانة النصرانية هي أكثر الديانات انتشاراً بين شعوبها. بل إن هذه الدول لتشترك شعوبها حتى في أزياء رجالها ونسائها، وفي كثير من اذواقها الأدبية والفنية. هذه الدول في مجموعها هي أقوى دول العالم اقتصاداً، وسلاحاً، وتأثيراً إعلامياً. حضارتها هذه هي الحضارة الغالبة المهيمنة على العالم.
هل نستطيع أن نقول مثل هذا عن أية حضارة أخري في واقعنا الراهن؟ كلا. نستطيع أن نشير إلى أقطارٍ أخرى إشارات سلبية بأن نقول إن حضارتها ليست غربية بالمعنى الكامل. فاليابان تشبه دول الحضارة الغربية في نظامها السياسي وفي تقدمها الاقتصادي، وتخالفها في تاريخها، وفي الدين السائد بين أهلها. وهي صديقة للغرب ومتعاونة معه لا مصارعة. وقل مثل ذلك عن الهند.
أما الصين فإنها تشبه الدول الغربية من حيث نموها الاقتصادي، بيد أنها تخالفها في نظامها السياسي والاقتصادي. لكن حتى هذين النظامين ليسا بنابعين من ثقافة صينية أو تاريخ صيني وإنما هما مستوردان من فكر غربي هو الفكر الماركسي.
مجموعة الدول التي كانت تسمى بالاتحاد السوفيتي كانت متشابهة في نظامها السياسي والاقتصادي، وكانت لها قوة عسكرية ورسالة أيدُلوجية ومطامع توسعية، فكانت هي فعلاُ المنافسة للغرب، لكنها حتى في أوج عظمتها لم تكن تمثل حضارة متميزة. أما بعد تفكك اتحادها وسقوط نظامها السياسي والاقتصادي وذهاب بريقها الأيدلوجي، فقد صارت دولاُ ضعيفة تحاول أن تتأسى بدول الحضارة الغربية في أنظمتها، كما تحاول تحسين علاقاتها بتلك الدول، ولا سيما الولايات المتحدة، طمعاً في مالها وجاهها.
ماذا بقي؟ بقيت الدول الإسلامية. هل نستطيع أن نقول إنها تمثل اليوم حضارة بالمعنى الذي وصفنا به الحضارة الغربية؟ نقول آسفين: كلا. فإنه ليس لها نظام سياسي واحد إسلامياً كان أو غير إسلامي، وليست ملتزمة كلها بالإسلام في نظمها الاقتصادية أو التعليمية أو الإعلامية أو غيرها. وليس بينها تعاون حقيقي يذكر رغم انضمامها كلها إلى عضوية المؤتمر الإسلامي.
فليس هنالك إذن حضارة إسلامية قائمة قياماً مادياً يميزها تمييزاً كاملاً عن الحضارة الغربية، ودعك أن تكون في صراع معها. نعم كانت لنا في الماضي حضارة، بل كانت الحضارة الإسلامية هي الحضارة العالمية الوحيدة إلى بداية القرن السابع عشر الميلادي، حضارة اعترف بوجودها وقوتها معاصروها، ويعترف بوجودها المؤرخون والمختصون بالدراسات الإسلامية حتى من الغربيين المعادين.
وعليه فنستطيع أن نقول إنه ليس هنالك في واقع الأمر صراع بين حضارة غربية وأخرى إسلامية، لأنه لا توجد اليوم حضارة إسلامية بالمعنى الذي توجد به حضارة غربية، أو بالمعنى الذي كانت توجد به حضارة إسلامية. فما مشكلتنا مع الحضارة الغربية إذن؟ مشكلتنا أن الحضارة الغربية ليست راضية حتى بهذا القليل الذي تبقى لنا من الحضارة الإسلامية، بل تريد لنا ولغيرنا أن لا نكون عقبة في طريق مصالحها القيمية أو المادية، بل أن نكون تابعين في كل ذلك لها. ومع أنه لا توجد اليوم حضارة إسلامية، إلا أن الحضارة الغربية ذات حساسية بالغة من أية بادرة بعث لتلك الحضارة لسبب تاريخي. إن قادة الفكر الغربي لا ينسون، كما أن كثيرين منا لا ينسون، أن الحضارة الإسلامية كانت كما قلنا هي الحضارة العالمية حتى القرن السابع عشر الميلادي. استمع إلى المستشرق اليهودي برنارد لويس وهو يقول في شيء من شماتة:
ظل الإسلام لقرون طويلة أعظم حضارة على وجه الأرض ــ أغنى حضارة، وأقواها، وأكثرها إبداعا في كل حقل ذي بال من حقول الجهد البشري. عسكرها، أساتذتها وتجارها كانوا يتقدمون في موقع أمامي في آسيا وأفريقيا وأوروبا، ليحملوا ما رأوه الحضارة والدين للكفار البرابرة الذين كانوا يعيشون خارج حدود العالم الإسلامي.
ثم يمضي ليقول:
ثم تغير كل شيء. فالمسلمون بدلا من يغزو الدول المسيحية ويسيطروا عليها، صاروا هم الذين تغزوهم القوى المسيحية وتسيطر عليهم. مشاعر الإحباط والغضب لما عدوه مخالفا للقانون الطبيعي والشرعي ظلت تتنامى لمدة قرون، ووصلا قمتهما في أيامنا.[1]
فقادة الحضارة الغربية يخشون على حضارتهم من كل بادرة إحياء لتلك الحضارة التي كانت سائدة. ومما يزيد من خوفهم قول المختصين منهم في التاريخ الإسلامي، إن للإسلام مقدرة عجيبة على العودة كلما هُزم.
ما الإجراءات التي يجب أن تتخذ لضمان عدم عودته؟ اختلفت الإجراءات في تفاصيلها بحسب الظروف العالمية، وبحسب التكتيكات الوقتية، لكن أمرين استراتيجيين اثنين لم يتغيرا، هما ضمان عدم رجوع الأمة إلى فهم صحيح للقرآن الكريم، وضمان استمرارها ضعيفة محتاجة إلى الغرب، أي ضمان عدم توفر الشرطين اللازمين لتمكين الأمة وبالتالى لحضارتها، وهما الكتاب الهادي والسيف الناصر[2] قال تعالى:
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد:25]
في عهد الاحتلال المباشر لبلدان العالم الإسلامي، كان أول ما فعله المستعمرون اقصاء العلم الشرعي عن المدارس والجامعات، وحصره في دوائر ضيقة روعي أن لا يكون لها علاقة بالمجتمع ولا بالعصر. وفي هذا العهد استغلت ثروات البلاد لتغذي مصانع أوربا وتقوي اقتصادها.
بعد انتهاء عصر الاستعمار والدخول في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، انشغل الغرب بعدو ماثلٍ أكبر، فلم ير بأساً من التعاون التكتيكي مع بعض حملة هذا الفهم الصحيح كما حدث في أفغانستان. لكن الهدف الاستراتيجي لم يُنس أبدا؛ فقد ظل الغرب الديمقراطي بقيادة الولايات المتحدة هو ـ إلى حد كبيرـ الذي يصنع الحكومات غير الديمقراطية ويدعمها، مراعاة لمصالحه، وخوفاً من أن تكون الديمقراطية ذريعة لوصول الإسلام إلى السلطة.
أمريكا والنظام العالمي الجديد
وبسقوط الاتحاد السوفيتي واستتباب الأمر للحضارة الغربية، دخل العالم مرحلة جديدة، مرحلة القوة العالمية الكبرى الواحدة، التي لا تدانيها من حيث إمكاناتها الاقتصادية والعسكرية والتقنية والإعلامية قوة أخرى. وبدأت تظهر تبعاً لذلك معالمُ نظامٍ عالميٍ جديد، ما تزال تفاصيله محل نقاش كبير في الولايات المتحدة. لكن يمكن تلخيص اتجاهات هذا النقاش في اتجاهين كبيرين: الدعوة إلى الانفرادية، وضرورة الاستمرار في العمل ضمن الأطر العالمية السائدة.
الاتجاه الانفرادي
يرى أصحاب الاتجاه الانفرادي الذي تقوده عصبة ممن يسمون بالمحافظين الجدد، أن تستبد الولايات المتحدة باتخاذ ما تراه من قرارات وسياسات تحقق مصالحها، وتنشر قيمها من غير تقيد بأعراف ولا قوانين دولية، ولا بمؤسسات عالمية كالأمم المتحدة. وهم يعتمدون في تسويغهم لهذا الرأي وتسويقه على أمرين:
أولهما: القوة الاقتصادية والعسكرية الهائلة للولايات المتحدة التي لم تعد تدانيها فيها قوة أخرى، هذه القوة التي جعلت الجميع يعترفون بأنه لم تعد توجد الآن إلا قوة عالمية كبرى واحدة. لكن الأعراف الدولية والقوانين العالمية السائدة حتى الآن هي ـ في رأي المحافظين الجدد ـ من مخلفات نظام عالمي قديم، اقتضتها ظروف لم يعد لها الآن وجود. ولذلك فلا جناح على الولايات المتحدة أن لا تلتزم بها مادام الأمر قد استتب لها. إن الولايات المتحدة قد بلغت من القوة شأواً لا تدانيها فيه دولة أخرى. فميزانية وزارة الدفاع هي أكبر من مجموع ميزانيات الدول الاثنتين والعشرين التي تأتي بعدها، ويقولون إنها ستكون بحلول عام خمسة بعد الألفين أكبر من مجموع ميزانيات الدفاع في كل أنحاء العالم! وإذا كانت عادٌ قد قالت فيما مضى "من أشد منا قوة؟" فإن أمريكا تقول اليوم لا أحد أشد منا قوة في الحاضر، ولم يكن أحد أشد منا قوة في الماضي. ولكن كما قال ربنا لعاد، نقول لمن أطغتهم القوة اليوم: "أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة؟"
يقول أصحاب هذا الرأي من المحافظين الجدد: إن على أمريكا أن تكون هي لا المنظمات العالمية، بل ولا حتى حُلفاؤها من الدول الغربية، التي تقرر ما هو حسن وما هو سيء بالنسبة للعالم، وأن تتصرف بحسب حكمها من غير التزام بقرارات يفرضها عليها غيرها. فلسان حالهم يقول "مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَشاد". هذا لا يعني ـ كما يقولون ـ أن لا تستشير الولايات المتحدة غيرها، وأن لا تتعاون مع من يريد التعاون معها، ولكنه يعنى يصورة حاسمة أنه لا أحد له الحق الآن في أن يلزمها بما لا تلزم به نفسها. ولئن لم تفعل هذا فسيكون مثلها كمثل جلفر Gulliver الذي تقيده أقزامُ لليبوت، كما قال أحدهم.
وثانيهما: أن عامة الأمريكان يعتقدون أنهم أصحاب رسالة عالمية. رسالتهم هي رسالة الحرية، فهم لا يرون أنفسهم بأقوى الدول فقط، وإنما هم أخيرها، بل هم خير أمة عرفها التاريخ البشري، فهم بزعمهم أكثر الناس تدينا، وأشدهم استمساكا بالأخلاق الفاضلة. نظامهم السياسي كما يرون أحسن نظام، ودستورهم أحسن وثيقة كتبت في التاريخ، ونظامهم الافتصادي أنجح نظام، وقضاؤهم أعدل قضاء، ونظامهم التعليمي أرشد نظام، ونظامهم الصحي أفيد نظام، بل وسجونهم أكثر السجون إنسانية. أمريكا هي بلد الأحرار وبلد الشجعان وبلد الفرص. وعليه فإن استبدادهم بالأمر سيكون لخير البشرية " لأن الأمريكان كما قال أحد مفكريهم هم "حداة البشرية في سيرها نحو الكمال" لا يملك المرء إلا أن يذكر مرة أخرى مقالة فرعون "مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَشاد".
ولهذا تجد زعماءهم السياسيين يستغلون فيهم هذه النزعة الرسالية وإن شئت فقل الحمية، حمية الجاهلية، فيحرضون شعبهم ـ ولا سيما العسكريين منهم ـ على التضحية من أجل هذه المُثل العليا، لا من أجل المصلحة الوطنية بالمعنى المحدود، لأنهم يعلمون أن الذي يحرك الإنسان هو الاعتقاد في مثل هذه المثل، لا مجرد الدفاع عن أرض أو مصلحة مادية.
وقد ظهر هذا جلياً في الخطاب الذي ألقاه الرئيس جورج بوش لخريجي كلية وست بوينت العسكرية. فمن العبارات التي جاءت في ذلك الخطاب، الذي أنصح بقراءته:
أن أمريكا تدافع عن الحرية، وأن العَلَم الأمريكي حيثما رُفع فلن يكون رمزاً لقوتنا فحسب ولكن للحرية. لقد كانت أهدافنا دائماً أكبر من مجرد الدفاع عن أنفسنا. إننا كلما حاربنا فإنما نحارب من اجل سلام عادل، سلام يختار الحرية الإنسانية. سندافع عن السلام ضد تهديدات الإرهابيين والحكام المستبدين. إننا نريد لغيرنا ما نريد لأنفسنا ــ أمن من العنف، خيرات الحرية، والأمل في حياة أحسن. إن محاربة الإرهاب تحتاج إلى صبر، ولكنها تحتاج أيضا إلى هدف خُلقي. إن أعداءنا اليوم كما كانوا أيام الحرب الباردة شموليون، يؤمنون بمبدأ القوة التي لا مكان فيها للعزة الإنسانية. لقد كان الوضوح الخُلقي ضرورياً في انتصارنا في الحرب الباردة. يرى بعضهم أنه ليس من الدبلوماسية، وربما كان من سوء الأدب، أن نتحدث عن الحق والباطل. لكنني أختلف معهم. نعم إن الظروف المختلفة تقتضي وسائل مختلفة لكنها لا تقتضي أخلاقاً مختلفة. إن الحقيقة الخُلقية واحدة في كل ثقافة وفي كل زمان، وفي كل مكان. إن هنالك صراعاً بين الحق والشر، وستسمى أمريكا الشر باسمه.
لكن الذي يشكو منه كثير من الأمريكان أن هذا الشعور بقيمة أمريكا وتميزها بدأ يضعف جداً في أجيال الشباب الذين هم الآن في المدارس والجامعات. فقد انتشرت بينهم انتشاراً مخيفاً فواحش الإباحية، والشذوذ الجنسي وتعاطي المخدرات، وما استتبعه ذلك من غلبة للاتجاه الفردي والسخرية بالخلق والمثل.
دل استطلاع لبعض المدارس قبل جيل مضى بأن أكبر المشكلات التي يعاني منها الطلاب هي: عدم احترام الممتلكات، والكسل وعدم أداء الواجبات المنزلية، والحديث في الفصل وعدم الانتباه، التراشق بكور الورق المبلول بالبصاق، ترك المنافذ والأبواب مفتوحة. فلما أعيد ذلك الاستطلاع للمدارس نفسها قبل سنوات قليلة، كانت النتيجة أن أكبر المشكلات هي: الخوف من القتل العنيف بالبنادق أو السكاكين في المدرسة، الاغتصاب، المخدرات، الحمل، الإجهاض.[3]
ولهذا صار كثير من الأمريكان لا يرسلون أولادهم إلى المدارس العامة، بل يفضلون لهم التعليم المنزلي
وكثيرا ما يحزن المرء حين يرى مسلما حاز على البطاقة الخضراء فطار بها فرحا إلى أمريكا ليقذف بالبنين والبنات من أطفاله في هذا المستنقع الآسن.
ومع انتشار الثقافة الغربية، وضعف الوازع الديني بدأ هذا الفساد ينتشر في بلدان العالم كله، بما في ذلك بلادنا الإسلامية.
الاتجاه الائتلافي
أما الاتجاه الائتلافي فلا يجادل أصحابه إخوانهم الانفراديين في كون الولايات المتحدة هي القوة العالمية الكبرى الوحيدة، ولا فيما يتميز به الشعب الأمريكي من صفات، لكنهم يرون أن الانفراد غير ممكن عملياً وإن أمكن فليس في مصلحة بلادهم. ومما يذكرونه في هذا الصدد:
· أن ما صار يوصف الآن بالنظام العالمي القديم كان إلى حد كبير من صنع الولايات المتحدة، وقد كان نظاماً ناجحاً حقق لها ما تريد فما الداعي الآن للانقلاب عليه وتقويضه؟
· أن القوة الحربية للولايات المتحدة ذات علاقة وثيقة باقتصادها، واقتصادها ليس أمراً محلياً تستطيع أن تصنع فيه ما تشاء، بل له ارتباط كبير بالأمم الأخري. فالأسلحة لا ينتجها البنتاجون وإنما تنتجها شركات تجارية. لكن هذه الشركات تعتمد في استمرار حياتها على السوق العالمي، بل إن منتجاتها العالية التقانة لها الآن نصيب الأسد في ما يبيعه الاقتصاد الأمريكي في السوق العالمي. على سبيل المثال فإن مبيعات هذه الشركات من الحاسوبات الرفيعة في السوق العالمي تمثل نصف دخلها.
· أن هذا سيؤدي إلى فوضى عالمية. فإذا جاز لنا أن نبدأ بشن حرب وقائية على العراق، فلماذا لا تفعل الصين ذلك بالنسبة لتايوان، أو الهند بالنسبة لباكسان؟
· وإذا أعطينا أنفسنا حق تغيير النظم، فهل سنعطيها حق الإتيان بنظم نرضى عنها؟ ماذا إذا لم يختر الناس من نريد؟ هل نعود لعصر الاحتلال؟
كيف يكون التعامل مع المسلمين، ولا سيما العرب منهم؟
حوادث الحادي من سبتمبر أكدت للغرب، وللولايات المتحدة بالذات خطر الإسلام لأنه مهما قيل عن الخطأ الذي ارتكبه من قاموا بتلك العملية إلا أن الحقيقة تبقى أنهم شباب متدينون، وأنهم ابتغوا بعملهم الشهادة، وأنهم فعلوا ما فعلوا انتقاماً للمسلمين من ظلم الحضارة الغربية متمثلة في دولتها الكبرى وقائدتها. لذلك عاد الحديث جذعاً عن المواقف التي ينبغي أن تُتخذ لدرء الخطر الإسلامي. ومن المسائل التي ذكروها في ذلك
المسألة الأولى: محاربة ما أسموه بالفهم الحرفي للإسلام
ما أسموه بالفهم الحرفي للإسلام هو في رأيهم الذي يغذي عداوة المسلمين للحضارة الغربية. ومن هنا كثر الحديث عن الإسلام الراديكالي، وعن الوهابي وعن السلفية . يقولون إنه لا يمكن أن يقال للمسلمين تنكروا لدينكم، ولكن الذي يقال لهم هو أن يفهموه فهماً لا يجعله في صدام مع مقومات الحضارة الغربية. مشكلة المسلمين المتشددين، بحسب هذا الرأي، هي أنهم رافضون للحداثة modernity التي تتطلب ـ فيما تتطلب ـ أن تكون الدولة دولة علمانية تعددية. فالمطلوب من المسلمين إذن أن يفعلوا ما فعله الغرب ليكتمل لدينهم التصالح مع هذه الحداثة كما تم للمسيحية والنصرانية.
كيف يكون ذلك؟ يكون
أولاً: بأن لا يعتقد المسلمون أن نصوص دينهم صالحة لكل زمان ومكان بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة، بل عليهم أن يتذكروا كما فعل الليبراليون من النصارى واليهود، أن هذه النصوص ذكرت في ظروف تاريخية وثقافية معينة، فلا يمكن أن تكون بحرفيتها مناسبة مع ظروف تاريخية وثقافية مختلفة عنها. ما الحل إذن؟ الحل هو أن نعيد تفسير هذه النصوص لتتناسب مع العصر، بأن نقول حتى عما يبدو أنه وصف لواقع كقصة قوم لوط إن هذا إنما كان كلاماً مجازياً. فلم يحدث أن دمر الله تعالى قرى أو عاقب قوما لتوجههم الجنسي. (قال أوريلى مدللا على أن القصة كانت رمزية لا حقيقية: لماذا لم يدمر الله سان فرانسسكو إذن؟)
وثانياً: بأن يفهم المسلمون بأن الحقيقة الدينية حقيقة نسبية، لأنك إذا اعتقدت أن الحق كله معك ـ كما يعتقد المسلمون اليوم ـ فستعتقد أن مخالفيك على باطل ويستحقون لذلك أن يقتلوا، هكذا قال الرئيس السابق كلنتون في محاضرة ألقاها في جامعة جورج تاون بواشنطن بعد أحداث الحادي عشر. وهذا يعنى أن يكون الأفراد داخل الدين الواحد متسامحين مع مخالفيهم في فهم دينهم، لأن لكل إنسان الحق في أن يفهم دينه كيف شاء، وأن يرى الحقيقة من منظاره. وعلى المنتمين إلى الأديان المختلفة أن يكونوا أيضا متسامحين مع مخالفيهم معتقدين بأن كل دين يهدي إلى الحقيقة بطريقته .
وثالثاً: أن يُمنع بالقانون نشر مثل هذا الفكر وتغلق كل المؤسسات التعليمية التي تنشره، وأن يعاقب الذين يروجون له أو يمولون مؤسساته.
ومما يساعد الغرب على تحقيق هذه الأهداف أن الأفكار التي تعتمد عليها قد شاعت منذ زمان بين المثقفين المسلمين، بل بين بعض الإسلاميين منهم . فقد صار الكثيرون منا جزءاً من الحضارة الغربية في فكرهم وقيمهم وطموحاتهم السياسية وعاداتهم وتقاليدهم بل وأزيائهم الرجالية والنسائية، لأنهم صاروا يعتقدون أن الحضارة الغربية هي حضارة العصر التي لا يكون الناس متحضرين إلا بها.
المسألة الثانية: معالجة الأسباب الاجتماعية التي أدت إلى معاداة المسلمين للغرب
يرى بعض المفكرين السياسيين الغربيين أن هنالك أوضاعاً اجتماعية وسياسية بغيضة إلى الناس في العالم العربي بالذات، وأن الغرب ـ ولا سيما الولايات المتحدة ـ هو ـ في نظرهم ـ الذي يقف وراء هذه الأوضاع الظالمة ويدعمها فمن الطبيعي أن يكرهوه. ماذا نفعل إذن؟
يقول بعضهم: إن الحل واضح هو أن نعمل على تحويل أنظمة العالم العربي إلى انظمة ديمقراطية حقيقية يكون الحكم فيها للأغلبية، وتصان فيها الحريات، ويحارب فيها الفساد المالي. يقول الرئيس بوش في خطابه الشهير في كلية وست بوينت:
عندما يأتي الأمر إلى حقوق الناس رجالا ونساء وحاجاتهم فليس هنالك صدام حضارات. إن متطلبات الحرية تصدق على أفريقيا وأمريكا اللاتينية والعالم الإسلامي كله. إن جماهير الناس في الأمم الإسلامية يريدون ويستحقون أن يعطوا كل الحريات والفرص التي للناس في كل أمة. وعلى حكامهم أن يستجيبوا لطموحاتهم.[4]
يقول آخرون: لكن لا تنسوا أن أغلبية الناس في هذه البلاد كارهون لنا، وعليه فإن الحكومات التي يختارونها في النظام الديمقراطي ستكون معادية لنا.
يقول أصحاب الاقتراح أولاً إن هذا الامر ربما يكون كذلك في البداية، ولكن سيظهر لهذه الحكومات أن من مصلحتها ومصلحة شعوبها أن تتعاون مع الغرب وتكون صديقة له. وثانياً إنه ليس من الصعب علينا أن نأتي بحكومات أغلبية حقيقية تكون في الوقت نفسه صديقة لنا. هنالك وسائل كثيرة لتحقيق ذلك.
هذا ما يراه بعض الساسة الأمريكان أما نتنياهو ـ رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ــ فله نصيحة أخرى للولايات المتحدة. فهو ينصحها بأن تغزو العراق وتغير نظامها من غير اعتبار للأمم المتحدة، وأما بالنسبة لإيران فإنه يقول فض الله فاه
إنه بإمكان الولايات المتحدة أن تُحرض على إحداث ثورة ضد النظام الإسلامي المحافظ في إيران بأن تستغل وجود الآلاف المؤلفة من الأطباق الفضائية فيها لتوجيه برامج أمريكية قذرة كتلك التي تذيعها قناة فوكس يظهر فيها شباب وشابات حسان في حالات مختلفة من حالات العري، يعيشون حياة مادية بهيجة ويمارسون الجنس بطرق إباحية. "هذه مادة هدامة. إن الأولاد في إيران سيحبون أن تكون لهم مثل تلك الملابس الجميلة التي يرونها في تلك الأفلام. سيحبون أن تكون لهم أحواض سباحة وأساليب تلك الحياة الفاتنة[5] [6]
المسألة الثالثة: القضية الفلسطينية
قضية العلاقة مع إسرائيل قضية حساسة بالنسبة لغالبية السياسيين الأمريكيين، لكن هذا لم يمنع بعضهم من أن يقول إن موقف الولايات المتحدة المنحاز لإسرائيل هو من الأسباب الرئيسة لعداوة الشعوب الإسلامية ولا سيما العربية للولايات المتحدة. وأنه ما لم تحل هذه القضية حلا يراه العرب والمسلمون منصفا فإن هذه الكراهية ستستمر ، وسيستمر باستمرارها الإرهاب.
الفكر الأمريكي المعارض
ما ركزنا عليه حتى الآن هو الاتجاهات الشائعة او الغالبة في أمريكا، لكن أمريكا بلد شاسع لا يسود فيه اتجاه واحد سيادة كاملة، بل ما من رأي ديني أو سياسي أو اقتصادي شائع، إلا وله معارضون أشداء قلَّ عددهم أو كثر. وكثيراً ما تكون آراء الفئات المعارضة هذه أقرب إلى الهدي الإسلامي من غيرها. وإليك بعض الأمثلة
· فمنهم من يرى كما نرى أن ما يُسمى بالفهم الحرفي للنصوص الدينية هو الفهم الصحيح الأمين لها. فنحن نوافقهم في المنهج ونستطيع لذلك أن نناقشهم في نصوص كتبهم التي نراها مجانبة للصواب، لكننا لا نستطيع أن ندخل في حوار مثمر مع من كلما ناقشته في صحة نص قال إنه مجازي وأعطاه من المعاني ما يوافق هواه.
· بل إن من هؤلاء من يدعو كما ندعو إلى تطبيق الحدود المذكورة في العهد القديم كرجم الزاني المحصن، وقتل المرتد، حتى قال أحد الصحفيين المعارضين إذا طبقنا هذه القوانين فسنقتل الغالبية العظمى من الشعب الأمريكي!
· ومنهم من يرى أن العلمانية هي العدو الأكبر، ومادام المسلمون يوافقوننا على ذلك فيجب أن نعدهم أصدقاء لا أعداء في مواجهة هذا العدو.
· ومن غير المتدينين، بل من العلمانيين من يدرس عيوب المجتمع الأمريكي دراسة علمية ممتازة، ينبغي أن يتعلم منها المسلمون المبهورون بالحياة الغربية، فالعاقل من اتعظ بغيره. من هؤلاء فوكوياما في كتابه الانفراط العظيم.
· وهنالك من ينتقد الممارسة الواقعية للديمقراطية ويرى أنها قد حادت عن المفهوم الصحيح لها. إن الكتب والدراسات في هذا المجال تعد بالمئات إن لم نقل الألوف.
· وهنالك من ينتقد الرأسمالية إما أصلا أو ممارسة.
· وهنالك من لا يداهن في نقده للسياسة الأمريكية الخارجية ولا سيما فيما يتعلق بإسرائيل.
· ثم هنالك إخواننا الدعاة المسلمون الذين يهدي الله تعالى بهم ما يقدر بخمسين شخصا في كل يوم! فإذا كانت الحضارة الغربية قد غزت العالم الإسلامي، فإن الإسلام يدخل الآن قلوب الآلاف المؤلفة ممن هم في أرضها، لأن الناس يجدون فيه ما لا يجدون في حضارته رغم قوة سلطانها المادي ورغم سيطرتها وقوة تأثيرها على بقية بلدان العالم.
البعث الإسلامي الحضاري
إذا لم تكن في الأرض اليوم حضارة إسلامية قائمة فعلاً، فإن فرص بعثها ما زالت متوفرة ومشجعة. إن المسلمين ما زالوا بحمد الله تعالى قادرين على الأوبة إلى الكتاب الهادي، وقادرين على السعي لامتلاك السيف الناصر. وذلك:
أولاً: لأن انحراف الأمة عن دينها لم يكن ـ وما كان له أن يكون ـ ردة كاملة عامة عن الدين الحق. فهذا دين تكفل الله تعالى بحفظ كتابه كما تكفل بحفظ العاملين من علمائه. فإذا كان الله تعالى قد قال، وقوله الحق "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" فإن رسوله صلى الله عليه وسلم قد قال ـ غير ناطق عن هوى ـ لا تزالُ طائفة من أمتي ظَاهرين على الحقِ لا يَضُرُهم من خالَفهم ولا من خَذَلهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون.
ثانياً: لأنه إذا كان جوهر الحضارة ـ أو المدنية ـ وأساسها الذي يُشيَّدُ عليه بنيانها هو رسالتها، هو المعتقدات والقيم التي تستمسك وتعتز بها، فإن الجوهر والأساس الإسلامي ما يزال أقوى من منافسه العلماني الغربي. إن الإسلام يما يزال يبرهن عبر تاريخه الطويل بأنه فعلاً فطرة الله التي فطر الناس عليها. فليس على وجه الأرض دين عبر الحواجز الجغرافية والثقافات المحلية ليبقى بين المستمسكين به ـ في جملته ـ الدين الذي أنزله الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم. فكتابه هو الكتاب الذي أنزل على رسوله، وصلوات الناس هي الصلوات كانت تقام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وزكاته هي الزكاة، وحجه وصيامه هما كما كانا في أشكالهما ومواقيتهما. وبالرغم مما أضيف إلى هذا الدين من بدع إلا أنه يظل رغم ذلك أكثر الأديان احتفاظاً بحقيقته، وقد كان هذا وحده مما أغرى بعض الباحثين عن الحق بالدخول فيه.
ثالثاً: وما يزال هذا الدين يؤكد هذه الحقيقة بسرعة انتشاره المذهلة حتى في موطن الحضارة الغربية. فهم يقولون إن معدل سرعة انتشاره أكبر من معدل سرعة الزيادة في سكان العالم.
رابعاً: لأنه باعتباره دين الفطرة، ما يزال هو الدين الذي يجد الناس في آيات كتابه عِلماً بالإله الحق الموصوف بكل صفات الكمال المُنَزَّه عن كل صفات النقص من الولد والوالد التي تطفح بها بعض الأديان، وهدياً بأنه هو وحده المستحق للعبادة الهادي إلى أنواعها وكيفياتها. ويجدون في آيات كتابه وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم عِلماً بحقيقة أنبياء الله وما كانوا عليه من كمال بشري أهَّلَهُم لأن يكونوا الأسوة التي يتأسى بها كل سالك طريق إلى الله. لكن الأديان المحرفة تجعل من بعضهم آلهة وأنى للبشر أن يتأسى بالإله؟ وتنسب إلى بعضهم جرائم يستنكف عن ارتكابها عامة عباد الله، فأنى يكونون أسوة لغيرهم؟
خامساً: ولأنه دين الفطرة فلا يجد الناس فيه تصادماً بين مقتضيات العقول التي فطرهم الله عليها، ولا مخالفة لحقائق الخلق التي يشاهدونها ويجربونها. فالعقل فيه نصير الدين لا خصيمه، كما هو حاله في بعض الأديان. والعلم التجريبي يشهد له ولا يشهد عليه كما يفعل مع بعض الأديان.
سادساً: ولأن الناس كما يجدون فيه حاجتهم إلى الإيمان الخالص والعبادة السليمة والأخلاق الحسنة فإنهم يجدون فيه هدياً لتنظيم الحياة الاجتماعية تنظيماً يتوافق مع ذلك الإيمان وتلك العبادة وهاتيك الأخلاق، ويعبر عنها ويؤكدها ويحميها؛ فهو الدين الوحيد الذي لا يحتاج إلى علمانية تكمل نقصه، أو تتصالح معه.
سابعاً: وهو الدين الذي ما يزال يشهد لأحقيته سلوك المهتدين من أبنائه. فهؤلاء هم أكثر أهل الأرض ذكراً وعبادةً لله، وأبعدهم عن مساخط الله، وأكثرهم بذلاً لأنفسهم وأموالهم في سبيل الله، وأكثرهم رحمةً بصغير وتوقيراً لكبير وصلةً لرحم.
وقد اعترف بهذه الحقيقة حتى بعض علماءِ النصارى، ومن أعجبهم بيتر كريفت أستاذ الفلسفة بكلية بوستن، الذي يحث إخوانه النصارى على أن يعدوا المسلمين أصدقاء وأعوانا لهم في حربهم ضد العلمانية التي يرى فيها العدو اللدود للدين والخطر الأكبر على الحياة الاجتماعية. يقول هذا الرجل:
لماذا ينتشر الإسلام بهذه السرعة المذهلة؟ سيسارع علماء الاجتماع وعلماء النفس والمؤرخون والاقتصاديون والديمغرافيون والسياسيون إلى تفسير ذلك النمو تفسيرا دنيويا كل بحسب تخصصه. لكن الإجابة بدهية لكل مسيحي ذي صلة بالكتاب المقدس: إن الله تعالى يفي بوعده، ويبارك أولئك الذين يطيعون أوامره ويخشونه، ويعاقب الذين لا يفعلون ذلك. إن الأمر في غاية من البساطة التي يعسر على الأساتذة الأكاديميين رؤيتها: قارن بين كميات الإجهاض، وزنا المحصنين وغير المحصنين والشذوذ بين المسلمين والنصارى. ثم قارن بين كمية العبادة.[7]
ثامناً: ولأن كثيراً من الناس في الغرب بدؤوا يشعرون بالخطر الذي تسوقهم إليه الحياة العلمانية المجردة عن الدين، خطر تمكينها للاتجاه الفردي في الناس، وإضعافها للوازع الخلقي، وعبادتها للجنس، وتحويلها الحياة إلى جهد لا معنى له ولا غاية. كل هذا يسبب للناس أنواعاً من الشقاء الروحي، فذهب الكثيرون منهم يبحثون عن دين ينقذهم فلم يجد كثير ممن عرف الإسلام منهم أكثر منه إجابة لمطالبهم الروحية والخلقية بالطريقة التي أشرنا إليها سابقاً.
وعليه فإذا كانت الحضارة الغربية قد غزت بلادنا فكرياً وخلقياً وجعلت جزءاً من الصراع بيننا وبينها صراعاً على أرضنا، وبيننا وبين أقوامنا، فإن الإسلام الآن يفعل الشيء نفسه، إنه يغزو أرض الحضارة الغربية ويجعل الصراع بينه وبينها صراعاً على أرضها وبينها وبين من كانوا بالأمس حماتها المدافعين عن حياضها.
تلك بعض فرص الدعوة إلى الإسلام وإلى بعث حضارته، وهنالك وسائل كثيرة لاستغلال هذه الفرص، لكنني لا أريد الآن الدخول في تفاصيلها، ولا في تفاصيل السعي لامتلاك السيف الناصر، فلتفاصيل كل ذلك مجال آخر. وإنما أريد أن أختم هذه المقالة بالتذكير بقواعد للعمل الإسلامي لما أرى من خطورتها ومن عدم الاهتمام الشديد بها. وهي
أولاً: أن أمر العودة للإسلام وحضارته ليس بالحمل الخفيف الذي يمكن أن ينهض به أفراد، أو تقوم به جماعة واحدة أو دولة واحدة، وإنما هو عبءٌ ثقيلٌ يجب أن تتضافر على حمله الجهود. لذلك لا بد أن يقنع كل فرد عامل للإسلام وكل جماعة وكل دولة بأن التعاون بين الساعين لتحقيق هذا الهدف أمر لازم، وأن التشاور فيما بينهم أول خطوات ذلك التعاون، ثم يأتي التنسيق وتوزيع المهام.
ثانياً: وإذا كان التعاون أمراً لازماً فيجب أن يكون السعي لبعث الحضارة الإسلامية أبعد شيء عن الحزبية. إن بعض الناس يخلط بين العمل الجماعي المنظم ـ وهو أمر لا بد منه ـ وبين الحزبية التي تحول التنظيم إلى غاية كثيراً ما يُضحى في سبيلها بالغاية التي أُنشئ من أجلها والتي كان في البداية مجرد وسيلة إليها. الحزبية أن تحصر علاقات الأخوة الإسلامية وواجباتها في من دخلوا ضمن إطار التنظيم، وأن لا يعان على عمل خير بل ولا يعترف به إلا إذا كان من منجزات الجماعة المنظمة.
ثالثاً: الالتزام الصارم الشديد بقيم العدل والصدق والأمانة والوفاء حتى في معاملة الأعداء. لأن هذه القيم قيم مطلقة لا تختص بحال دون حال. قال تعالى:
ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.
قال المفسر الكبير ابن كثير: إن العدل واجب على كل أحد، مع كل أحد، في كل حال؟
لكن بعض العاملين للإسلام اليوم يحيدون عن هذه القيم لأوهي الأسباب، ويسلكون سلوك السياسيين الميكيافليين. ناسين أن هذه القيم قيم يحبها الله، وأن الالتزام بها ـ حتى مع الأعداء ـ عبادة لله. وأنك لا يمكن أن تنصر دين الله بارتكاب مساخط الله.
رابعاً: على الأفراد وعلى الجماعات غير الحكومية أن تلتزم التزاماً معلناً وصارماً بالطرق السلمية. هذا هو الذي يدل عليه شرع الله، وهو الذي ينتهي إليه كل من اتعظ بالتجارب المريرة للجماعات التي دخلت في صراعات دموية لم تكن لها بكفء. إنك لا تحمل السلاح على من أنت تحت سلطانه، وإنما الذي يشرع لك هو الدعوة مع كف الايدي وإقامة الصلاة، فإذا كانت لك أرض مستقلة وقوة مادية فآنذاك:
أذن للدين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير.
اللَّهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
أستغفر الله، وأصلى وأسلم على خاتم رسل الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] For many centuries Islam was the greatest civilization on Earth -- the richest, the most powerful, the most creative in every significant field of human endeavor. Its armies, its teachers and its traders were advancing on every front in Asia, in Africa, in Europe, bringing, as they saw it, civilization and religion to the infidel barbarians who lived beyond the Muslim frontier.
And then everything changed, and Muslims, instead of invading and dominating Christendom, were invaded and dominated by Christian powers. The resulting frustration and anger at what seemed to them a reversal of both natural and divine law have been growing for centuries, and have reached a climax in our own times (The Washington Post, Tuesday, Sept. 10, 2002, p. A15)
[2] لكن هذا لا يعنى أن الحضارة الغربية هي السبب الوحيد لفقدان المسلمين لهذين الشرطين، فمن أسباب ذلك ما قد يكون محليا، بل ما لا بد أن يكون محليا، لأن ضعف الأمة الديني والمادي كان هو السب في هزيمتها. ولما عرف العدو ذلك حرص على استمرار أسباب الضعف وساعدته على ذلك عوامل محلية في الأمة نفسها.
[3] Peter Kreeft, Ecumenical Jihad, Ignatius Press, 1966, San Francisco, pp.61-2.
[4] http://www.whitehouse.gov/news/relea...0020601-3.html
[5] http://www.upi.com/view.cfm?StoryID=...2-034109-6371r
[6] يرى آخرون غيرنتنياهو أن الديمقراطية وجو الحرية الذي بدأ يسود في إيران سيؤدي إلى إنهاء الحكم الإسلامي بطريقة سلمية ديمقراطية.
[7] تصرفت قليلا في بعض الكلمات التي لم أجد لها في العربية مقابلا يفى بغرض الكاتب. لذلك يحسن أن أضع نص حديثه بين يدي من يريدون الاطلاع عليه في لغته الانجليزية:
Why is Islam spreading so spectacularly? Sociologists and psychologists and historians and economists and demographers and politicians are quick to explain this growth with “expert” worldly wisdom from each of their specialties; but to any Christian familiar with the Bible, the answer is obvious: because God keeps His promises and blesses those who obey His laws and fear Him and punishes those who do not. Much too simple for scholars to see. Compare the amounts of abortion, adultery, fornication, and sodomy among Muslims and among Christians. Then compare the amounts of prayer. Ecumenical Jihad, 1996, Ignatius Press, San Francisco, p.38.