افتتاحية مجلة البيان
التحرير
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين.. وبعد:
فسوف يُعقد بعد أيام قليلة في مقر هيئة الأمم المتحدة في نيويورك مؤتمر (بكين + 10) للتأكيد على النتائج التي مُهِّد لها وأُقرت في مؤتمرات المرأة والسكان في القاهرة، وبكين، ونيويورك، ولتدعيم اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، المعروفة اختصاراً بـ (اتفاقية السيداو)، ووثيقة حقوق الطفل، ونحوها من المؤتمرات والمواثيق الدولية التي تهدف إلى عولمة الفكر الاجتماعي للأسرة والمرأة والطفل، وصياغته من جديد صياغة تتلاءم مع الثقافة والقيم الغربيتين بكل ماديتهما وتناقضهما الفكري والاجتماعي.
ولئن كانت هيئة الأمم المتحدة تمارس أدواراً معلومة وخطيرة جداً في الجانب السياسي؛ فإنها كذلك تمارس أدواراً لا يدركها كثير من الناس، مع أنها لا تقل خطورة عن الجانب السياسي، بل قد تزيد عنه في الجوانب الثقافية والاجتماعية والأخلاقية؛ فدورها يتمدد ويتزايد بصور مذهلة، ليتجاوز مجرد المقترحات والتوصيات العامة إلى فرض القيم والمبادئ، وتسويقها في مختلف أنحاء العالم، ووضع الآليات الرقابية التي تُلزِم الدول بتبني القرارات الأممية، وتنسخ بها التشريعات والنظم المحلية، وتفرض عليها العقوبات الصارمة التي تروِّضها، وتجعلها مجرد دمى وضيعة لا تملك هويتها وثقافتها المستقلة، ولا تستطيع المحافظة على خصوصيتها الاجتماعية. وقد شُكّلت مثلاً في هيئة الأمم المتحدة لجنة دائمة خاصة في اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، لمتابعة الدول وتقويم مقدار التزام تلك الدول والمنظمات بتطبيق بنودها.
وإذا كانت كثير من المنظمات الأممية المتخصصة في مجالات الإغاثة وما يسمى بالأعمال الإنسانية قد اختُرقت من قِِبَل المنظمات التنصيرية والإرساليات الكنسية، وأصبحت ذراعاً من أذرُع التنصير؛ فإن هيئة الأمم المتحدة بلجانها المتخصصة في الأسرة والمرأة قد اختُرقت أيضاً من المنظمات النسوية وجمعيات الشواذ ونحوها، ليصبح العالم ألعوبة بأيدي أهل الأهواء وذوي القلوب المنتكسة، وفي هذا تقول البروفيسورة (كاثرين فورت): (إن المواثيق والاتفاقيات الدولية التي تخص المرأة والأسرة والسكان تصاغ الآن في وكالات ولجان تسيطر عليها فئات ثلاثية: الأنثوية المتطرفة، وأعداء الإنجاب والسكان، والشاذون والشاذات جنسياً. وإن لجنة المرأة في الأمم المتحدة شكلتها امرأة إسكندنافية كانت تؤمن بالزواج المفتوح، ورفض الأسرة، وكانت تعتبر الزواج قيداً، وأن الحرية الشخصية لا بد أن تكون مطلقة)(1).
لقد تحدث (فرانسيس فوكوياما) في أطروحته الشهيرة عن (نهاية التاريخ والإنسان الأخير)، وأكد باستعلاء: أن قيم الغرب الليبرالية الحداثية هي قمَّة السمو والتطور الحضاري والإنساني الذي بلغته البشرية، وأن الجانب الأكبر من العالم الثالث ما زال يتخبط في أوحال التاريخ. ويعترف فوكوياما في إحدى مقالاته(2) بأن الإسلام هو الحضارة الرئيسة الوحيدة في العالم التي لديها بعض المشاكل الأساسية مع الحداثة الليبرالية، لكنه يضع المجتمع الإسلامي أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن يتصالح مع قيم تلك الحداثة.. وإمَّا الدمار.
هذه هي العقلية التي يتعامل بها الغرب مع شعوب العالم.. إنَّها بوضوح شديد عقدة الاستعلاء والهيمنة الحضارية التي تجعل من التمرد على الأخلاق، وإلغاء مؤسسة الأسرة والزواج، وإشاعة الزنا والفاحشة، والإجهاض، وكل ألوان الشذوذ الجنسي، والانحراف الأخلاقي ـ تجعل من ذلك كله قيماً إنسانية نبيلة تستحق أن تكـون ثقافــة أمميــة مشتركة تسود العالم.
ولذا ليس غريباً أن تمارَس الضغوط الغربية المستفِزة على دول العالم الثالث لتغيير قوانينها الاجتماعية وأحوالها الشخصية، بل ومناهجها التربوية والتعليمية، وتطالبها بإزالة كل العوائق الثقافية (الدينية) والاجتماعية التي قد تؤثر على جدية التطبيق.
ولمزيد من الإذلال والترويض جعلت الدول الغربية توقيع كثير من الاتفاقات الاقتصادية والمساعدات يتم بناء على مقدار التجاوب مع منظومة الإملاءات التي لا تنتهي حتى تمسخ الأمم والشعوب، وتسقط في مستنقعاتهم الآسنة. وصدق المولى ـ جلَّ وعلا ـ: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] ولهذا انزعج الاتحاد الأوروبي كثيراً من بعض القوانين التي استُحدثت مؤخراً في تركيا للحدِّ من الزنا، وطالب تركيا ـ بلغة ملؤها التهديد والوعيد ـ بإلغاء تلك القوانين، بل والاعتراف القانوني بالشذوذ الجنسي وحقوق أصحابه في ممارسة رذائلهم في المجتمع.
وأخطر ما في هذه المؤتمرات والمواثيق الدولية أنَّ كثيراًَ من منظومة ما يسمى بدول العالم الثالث الإسلامية وغير الإسلامية لديها القابلية ـ بل لا نجافي الحقيقة إذا قلنا الرغبة أحياناً من بعضها ـ للتجاوب مع تلك المواثيق، والالتزام بمقتضياتها، ولهذا رأينا أكثر من عشر دول عربية على رأسها: تونس، والعراق، والجزائر، وليبيا، بالإضافة إلى عدد من الدول الإسلامية الكبرى مثل: الباكستان، وأندونيسيا، وبنجلاديش، توقع على اتفاقية (القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة) بدون أي تحفظ.
إزاء هذه الحملة المحمومة على الدين والأخلاق والقيم الاجتماعية، تأتي الأسئلة الكبيرة: ماذا قدمنا خصوصاً لمواجهة نتائج وقرارات مؤتمر (بكين + 10) القادم؟
وماذا قدمنا عموماً لمواجهة ذلك التغريب الاجتماعي الذي أضحى يحاصرنا في كل ميدان..؟
أين دور الإفتاء والمؤسسات الإسلامية في العالم الإسلامي..؟
أين العلماء والدعاة والتربويون..؟
بل أين العقلاء وأهل الغيرة..؟
إنَّ الأمر جِدُّ خطيرٍ، ويتطلب عملاً جاداً يبني الوعي في شتى شرائح المجتمع، ويستنهض كل ما يمكن من الطاقات والإمكانات لحماية الأمــة مـن رذائـل الفـكــر الغربـي. ونوصي ها هنا ـ خصوصاً الجمعيات والمنظمات النسائية الإسلامية المتخصصة في مجالي الأسرة والمرأة ـ بتقديم الرؤية الإسلامية الشمولية في تلك الأطاريح الغربية، وبناء البديل العلمي الناضج الذي يستمد عزته وشموخه من منابع ديننا الإسلامي الحنيف، ولا ينهزم أو يلين أمام تيارات العلمنة والتغريب في الداخل والخارج، كما نوصيها بضرورة الوقوف بحزم وجد لتكوين قاعدة شعبية تواجه حُمَّى القوانين والتشريعات التي أخذت تتسلل بتدرج ودهاء إلى كثير من دولنا الإسلامية ومحاضننا الاجتماعية.
{قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].
اللهم إنَّا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.. وصلى الله على محمد وآله وسلم.