مقدمة:
تؤدي الصحافة اليوم دوراً في قيادة الشعوب وتحريك المشاعر والعواطف بقصد المساندة أو المعارضة من خلال موضوعاتها المختلفة في المجتمعات الحديثة كافة، فهي ما تزال الطريق الذي يقف إلى جانب وسائل الاعلام الأخرى (الإذاعة والتلفزيون) في نشر الأفكار وتوجيه وتجميع الجماهير حول قيم وأهداف معينة وتثقيفهم وتعليمهم ولذلك فالصحافة في المجتمع المعاصر تعد أداة لا يستغنى عنها لحكم الشعوب من خلال نقل المعلومات إلى القارئ، ومن خلال ما تنشره من موضوعات تخاطب العقل والعاطفة معاً، وعلى الرغم من احتوائها المضمون الفكري فهي تمتلك بعض الصفات المشوقة التي تشد الجمهور لها . إلا أنها في الوقت ذاته يمكن أن تقوم بعمل السفير الذي ينقل رغبة أمة إلى أمة وثقافة شعب إلى شعب آخر، وكذلك تعمل كأداة سلام بين القراء في أنحاء العالم، كما يمكن أن تشعل الصحافة نار الحرب بين الجماعات أو الدول حيث "تتخذ هذه الأهمية من الدور الاقناعي والتأثيري الكبير للكلمة المطبوعة"(1) .
وعادة ما تختلف الصحف في نوعية الأنباء والموضوعات التي تنشرها وطريقة إبرازها ومعالجتها، فمع أداء وظيفتي الاعلام والتفسير تعمل كذلك على تقديم أبواب أخرى
تلبي الوظائف الاعلامية كالإقناع والتثقيف والتنشئة الاجتماعية والإعلان والتسويق والتوجيه والإرشاد فضلاً عن الدعاية، لكن نسب الاهتمام بأداء هذه الوظائف هي التي تختلف من صحيفة لأخرى. ذلك أن مضمون وشكل المادة المنشورة عادة ما يتجاوب مع البيئة التي تعمل فيها الصحيفة بهدف تحقيق التفاعل بينها وبين المجتمع الذي تصدر منه.فضلاً عن ذلك فأن للصحافة تأثيراً قوياً على الجماهير من خلال الكلمة المطبوعة وايمان الجماهير بصدق هذه الكلمة التي تقترب من القداسة والاحترام عند بعض المجتمعات، بمعنى اخر، تعطي الصحف من خلال موضوعاتها فكرة أو رأياً معيناً أو تعليقاً، قد يؤمن به القارئ ويتخذه مبدأ له يقتدي به أو عقيدة يسير على هديها، وبفضل مضمون تلك الموضوعات يكون قدر التأثير على القارئ سواء أكان بشكل مباشر أم غير مباشر، وغالباً ما يتضح ذلك في المقالات الموضوعة والافتتاحيات والتعليقات التي تبين بوضوح وجهة نظر الصحيفة تجاه حدث ما0(2)
صحافة الخبر
ويقصد بالصحافة الخبرية أو الصحف الاخبارية، الصحف "التي تعنى بنشر الأخبار العالمية والمحلية بدون تعليق أو رأي" أو هي "التي تقوم بتسلية الجماهير وشغل أوقات الفراغ عند هذه الجماهير ولا شيء أكثر من ذلك .ومع ظهور المطبعة على يد ((اوهانيس غوتنبرغ) في القرن الخامس عشر، ظهرت بشائر الصحف الأخبارية لكن بفترة طويلة. فبعد أن كانت الأخبار تنقل شفاهاً، بدأ القائمون على نشرها باستنساخها وتوزيعها. اذ قطعت الصحافة في تلك الفترة أشواطاً عديدة من التطور تجاوزت فيها مرحلة المشافهة والمرحلة الخطية، لتبدأ مرحلة أخرى وهي مرحلة ظهور الكراسات والنشرات التي كانت تحمل الأنباء للناس المتشوقين لمعرفة أكبر قدر ممكن من الأحداث السياسية واليومية للإلمام بها. وبذلك "تحولت الصحافة من مرحلة الفوضى والاضطراب إلى مرحلة جديدة، حرفية صناعية منظمة".
أن ازدياد وتنوع الأعمال التجارية في أوربا وتطورها، ادى إلى ازدهار المدن في العصور الوسطى، وهذه بدورها زادت من علاقات الترابط والتبادل التجاري بين أفراد المجتمع، مما أدى إلى نشوء تيار اعلامي كبير، فعلى الرغم من أن ألمانيا هي الرائدة في اختراع آلات الطبع إلا أن البداية الفعلية للصحافة كانت بمدينة (البندقية) في إيطاليا، التي شهدت ظهور نشرات أخبارية (صحائف)(*) كانت تتضمن أخباراً مالية وتجارية تباع لرجال الأعمال والتجار ولطبقة الأمراء، ولم تقتصر هذه الصحائف على إيطاليا حسب، وانما انتشرت في انكلترا وفرنسا التي كانت تروج فيها هذه الصحائف بشكل سري نوعاً ما(3).
وفي نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر، ونظراً لتلبية احتياجات الطبقة البرجوازية التجارية الوليدة في أوربا وأمريكا، ولدت فكرة جمع الأخبار، اذ قام أصحاب المطابع بطبع الصحف الاخبارية التي اقتصرت وظيفتها آنذاك على نشر الأخبار دون التعليق عليها 0 اما من حيث شكلها ومضمونها، فأول ما صدرت الصحف الأخبارية كانت بحجم صغير لا يتجاوز العمود أو العمودين، تتناول حدثاً واحداً أو عدة أحداث ترفق
غالباً بنشر أسم المدينة التي وقع فيها الحدث وتاريخ وقوعه(4). ومن الملاحظ أن الصحافة
الخبرية في ذلك الوقت، اتسمت بنوع من العقلانية أكثر من بدايات ظهورها رغم معدودية انتشارها. وظهرت أول صحيفة اخبارية في إنكلترا عام 1643م تضمنت أهم الأحداث المحلية والعالمية مقترنة بتعليق بسيط عليها.
وقد شهدت الصحف الخبرية، تحولاً هاماً، إذ لم تعد تلك الصحف تقتصر على نشر الأخبار التجارية والدبلوماسية والعسكرية حسب، وإنما سعت إلى الاهتمام بطرح الآراء ووجهات النظر اتجاه الأحداث والمساهمة في تكوين وتوجيه وقيادة الرأي العام والسيطرة عليه . كان هذا في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، والتي ترادفت مع نمو المفهوم الديمقراطي وانتشاره في البلاد الأوربية، بعدما دعت الطبقة (البرجوازية التجارية) عند تحولها إلى طبقة (البرجوازية الصناعية)، إلى إيجاد ديمقراطية سياسية تتمثل بوجود نظام نيابي واطلاق النشاط الحزبي، وايجاد صحافة حرة غير مقيدة، إلى جانب تقدم العلم وانخفاض مستوى الأمية في البلاد. وقد أدى هذا المفهوم (الديمقراطية) وتطور الحياة المدنية، إلى اشتداد الصراع والتنافس السياسي بين المفكرين والساسة الذين اعتلوا منابر الصحافة ليعبروا من خلالها عن وجهات نظرهم، ويدافعوا عن أفكارهم وليتصدوا ويفندوا أفكار خصومهم.
وقد رافقت هذه الدعوة، المطالبة بحرية الفكر والتعبير والقول التي بلغت ذروتها بعد قيام الثورة الفرنسية عام 1789م واعلان لائحة حقوق الإنسان(*)، عندها بدأت المئات من الصحف السياسية- التي تنطق باسم الأحزاب او الجمعيات السياسية – بالصدور واصبح لكل حزب، بل لكل جماعة صحيفة او صحف تعبر عن آرائها ومواقفها تجاه الأحزاب، حيث اهتمت تلك الصحف بإبداء الرأي أكثر من اهتمامها بالخبر. وفي أميركا، لجأت الفلسفة الليبرالية للصحافة لإحكام سيطرتها على الفكر الأوربي باعتبارها أفضل أداة تمكنها من تغيير المجتمعات الأوربية. وتحطم من خلالها بقايا الفكر الأوربي المرتبط بفلسفات العصور الوسطى.
أما السبب الآخر لتطور الصحافة، فيمكن إرجاعه إلى الاكتشافات التقنية الجديدة التي شهدها القرن التاسع عشر في مجال الاعلام، والذي فسح الطريق أمام الصحافة في ان تحقق تفوقاً وتطوراً ملموساً من حيث الشكل والمضمون ، ولا يخفى ان التطورات التكنولوجية الأخيرة مثل اكتشاف التليكس والاتصالات السلكية واللاسلكية واختراع الكومبيوتر وايجاد بنوك المعلومات وشبكة الانترنت, اثرت بشكل كبير على الصحافة، فبعد ان بلغت صحافة الرأي أوج عظمتها، عادت لتكون صحافة خبر غرضها الربح المادي السريع .
وهكذا رأينا ان النمو الطبيعي والاقتصادي للصحافة، وانتشار الديمقراطية قد أتاح لمؤسسي الصحف السياسية وكذلك التجارية والاصلاحية في أوربا، قوة شعبية كبيرة الأثر هيأت أفاقاً جدية أكثر اتساعاً أمام صانعي الصحافة من القادة والمفكرين ليشقوا طريقهم الى الأمام .
صحافة الرأي
صحف الرأي هي "صحف دعائية أكثر من أي شيء اخر، هدفها الترويج لفكرة او مبدأ اما لحساب جهة معينة او حزب من الأحزاب، لذا تكون صحف الرأي او المقال صحف دعاية لأن الدعاية ليست أخباراً بقدر ما تكون مقالات" .
كما يعرفها الكاتب خليل صابات بأنها: "الصحف التي تدافع عن قضية ما، وتدعوا لأفكار معينة وتوجه القراء وجهة معينة، بيد انها تنتمي الى مذاهب مختلفة وعدد قرائها أقل من عدد قراء صحف الخبر لاسيما ان كانت تتبع حزباً سياسياً.. وتعكس غالباً آراء الحزب الحاكم او الشخص او الجماعة التي تنتمي اليها"0
اما أديب مروّة فيطلق عليها: (الصحف الملتزمة) او (صحف الجماعات) وهي التي تكرس نفسها لخدمة مذهب سياسي او اقتصادي او ديني معين او مبادئ عليا عامة، او قضية عادلة بمعنى انها تعد نفسها لكفاح معين، اما ضد مستعمر او ضد حاكم جائر، او ضد مفاسد الدولة وشرور المجتمع، واما في سبيل الدفاع بجرأة عما تعتقده في صالح الرأي العام ومصلحة المجموع. وهذه الصحف لا تهدف الى كسب مادي، وهي تستند غالباً الى أحزاب او هيئات تنفق عليها وتمولها وتسندها مادياً مهما بلغت خسائرها".
وقد عرفها كرم شلبي بأنها: "تُعنى بنشر الرأي، أي نشر المقالات ووجهات النظر والتعليقات أكثر من عنايتها بنشر الأخبار وقد ارتبطت صحافة الرأي بنشوء الأحزاب وصراع الأفكار والايديولوجيات.." 5)) .
لقد أثر تطور الحياة السياسية ونظمها في العالم الأوربي، في تطور الصحافة بدخولها الى مرحلة جديدة تحولت فيها من صحافة خبر الى صحافة رأي، فظهر الى جانب الخبر، المقال الصحفي، والتعليق وأنواع اخرى من الفنون الصحفية، لتصبح أفضل أداة لترويج المبادئ والأفكار والفلسفات الجديدة، وبذلك أخذت الصحافة تلعب دوراً مهماً وحاسماً في التأثير على الجماهير بما تحمله من مضامين تتناول فيها الآراء والتعليقات والنقاشات حول القضايا والمشاكل التي تثير اهتمام الجماهير وتشغل اذهانه.
كذلك أصبحت الصحافة أداة مهمة في تكوين الرأي العام وبلورة مواقفه الفكرية والسياسية، حيث لم تقتصر وظيفة الصحافة على الدعاية لمروجيها حسب، وانما استخدمتها الأحزاب والهيئات كأداة تنظيمية لكسب وتعبئة أنصارها، وغالباً ما كانت صحافة الرأي في بدايات ظهورها صحافة متحيزة في مواقفها للفئة التي تنتمي اليها،وذلك لندرة الصحافة الهادفة في عالم السياسة، ومحدوديتها في تلك الفترة القومية المبكرة في أوربا وأميركا.
وصحافة الرأي حينما تتخذ رأياً معيناً وتدافع عنه، يكون هدفها الأول هو كسب أكبر عدد من القراء او الجماهير، في نفس الوقت الذي تبتعد فيه عن كل رأي يخالفها او تشعر بأنه يجرها الى الاصطدام به. بينما تقترب من هؤلاء الذين يحاولون تكوين آرائهم بأنفسهم من خلال ما تعرضه عليهم من قضايا تعتقد بأنها تطرحها طرحاً موضوعياً خالصاً . كما انها غالباً ما تكون الشريك الحقيقي في وضع ورسم خطط السياسة الداخلية والخارجية لأي حكومة وفي أي بلد. لذا تكون الصحافة في هذه البلدان هي المسؤولة دائماً أمام الرأي العام عن كل ما تطرحه من أمور، وقد تضحي من أجل بلوغها أهدافها السامية في بناء الإنسانية وتحريرها من القيود بالربح المادي، وقد تواجه وتتحمل ضغط الحكومات وتعسفها(6) . فالظروف السياسية التي تحيط بالبلاد، ومدى الحرية والديمقراطية التي تتمتع بها لها أثر كبير على صحف الرأي، نظراً لحاجة تلك الصحف الى الحرية، فهي تتنفس وتزدهر وتؤكد قيمتها ومكانتها في تلك الظروف التي لا تستطيع بدونها ان تعبر عن آرائها ومواقفها دون ان تخاف من ان تقول ما تعتقد . وتوفير الحرية للصحافة ، لا يعني ان تسمح لنفسها بأي حال من الأحوال، ان تكون حليفة الشيطان وتنحصر بأيدي القلة من المالكين خشية احتكارها وبالتالي تضليل الجمهور عن طريقها والسير بالجنس البشري نفسه الى التأخر او الفناء، بل تعمل لمصلحة الشعب وتكون ناطقة بلسانه(7) .
ان وظيفة التوعية والتثقيف وتشكيل الرأي العام، التي تميزت بها صحافة الرأي، نمت وتطورت بحسب تطور الصراع الاجتماعي والسياسي في المجتمعات الأوربية، لذا لم تلبث هذه الوظيفة ان لاقت مقاومة صارمة من قبل الحكومات في كثير من البلدان حتى اضطر البعض منها الى إصدار عدة قوانين تمنع الصحف من التعليق على الأحداث.
وفي عهد ليس ببعيد، كانت صحف الرأي هي السائدة، وغالباً ما كان مقال الرأي فيها يحرر بأقوى الأقلام ويتضمن أنضج الآراء وأقومها، بل ان بعض صحف الرأي كانت تحوي أكثر من مقال رأي واحد حتى تغلب فيها الرأي على الخبر. وبعدما كانت صحف الرأي ذات انتشار واسع فإنها في هذا العصر باتت مهتمة بنشر أكبر عدد من الأخبار والأحداث حتى أصبح البعض منها بعيداً تماماً عن إبداء الرأي. اذ لا يمكنها ان تستغني عن الأخبار في جميع مجالاتها فأصبح لتلك الصحف واجب بنشر الأخبار وتوضيحها بالتعليق الذي بدوره يوضح اتجاه الصحيفة حتى لو كان اتجاهها ضعيفاً(8).
الصحافة الحزبية
لقد اتسعت مجالات الصحافة التي بدأت ضيقة النطاق والأثر بنحو يجعلها تلعب دوراً كبيراً ومهماً في الدعاية(*) وتكوين الرأي العام سواء كان على الصعيد المحلي او القومي او العالمي، وفي شتى مجالات الحياة . ومن الصحافة اتخذت الهيئات والأحزاب والجمعيات السنة حال لها تعبر عن آرائها وتدافع عن أفكارها ومبادئها وتنشر المجادلات والمباحث والقرارات والمناقشات كما تعمل على الدعاية لها في نفس الوقت الذي تنتقد أعمال الأحزاب الأخر(9). حتى أصبحت الدعاية في الصحف الساعد الأيمن للجماعات السياسية في دور تبلورها كأحزاب، اذ انها ليست أداة دعائية لأحزابها فقط بل أداة دعاية للحزبية نفسها، فالدعاية التي تمارسها الأحزاب من خلال الصحافة تقوم على دعوة الأفراد الى الايمان بما تقدمه من أفكار ومعتقدات ومواقف، والالتزام بها والدفاع عنها مع تقديم المبررات الكاملة للايمان والاقناع، فالتقرير السياسي او المقالة ما هي الا دعاية علنية تتصف بصفة اقناعية من خلال الأفكار والأرقام التي تقدمها وهذا ينطبق أيضا على معظم الفنون الصحفية من خبر وعمود وصورة وكاريكاتير لا تغدو ان تكون دعاية مقصودة من قبل الحزب هدفها إقناع الجماهير بصحة الأفكار المطروحة . وبذلك تستطيع الصحافة الحزبية من خلال موضوعاتها التي تفسر وتحلل وتعلق فيها على الأحداث، لبيان موقفها منها، توجيه القراء وارشادهم وإشاعة الحماسة في نفوسهم واعتناق أفكار الجهة او الحزب الذي تنتمي اليه، لما لها من تأثير كبير في نفوس الجماهير .
فالأحزاب السياسية غالباً ما تلجأ الى الدعاية عن نفسها من خلال صحافتها، بسبب الدور الذي تلعبه في العملية الدعائية، فالحزب هنا يستخدم الصحيفة محاولة منه لاقناع الجماهير وتعبئتهم حول ما تدعو اليه من أفكار ومبادئ وما تسعى لتحقيقه من أهداف تخدم استمراريتها على أرض الواقع سواء على المستوى السياسي او الاقتصادي او الاجتماعي، في نفس الوقت التي تسعى فيه الى تفنيد سياسة الأحزاب المعارضة لها، كما قلنا سابقاً وصّد مختلف التيارات الدعائية التي تحاول تشويه صورة الحزب وإحباط أهدافه والتقليل من شانها.
والدعاية هنا تختلف حسب المذهب او الأيديولوجيا(*) التي يؤمن بها الحزب ويسعى للاستعانة بها لتوجيه سياسته، فالدعاية هنا عندما ترتقي الى مرتبة هذه الفلسفة أو تلك الايديولوجية سيكون تركيزها منصّباً حول القضايا المصيرية تاركة القضايا الخاصة جانباً، لأنه في هذه الحالة سيكون هناك نزعة أو رسالة أو اتجاه سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي يستحق الانتباه وله تأثيره الكبير على الجماهير.
وتختلف طبيعة تلك الايديولوجيات في نظرتها إلى السياسة طبقاً لنوعية ثقافة المبلورين لها وموقفهم من النظام السياسي القائم، ولظروف المجتمع الذي تنشأ منه والفكرة المركزية التي تقوم عليها، حتى لو كانت تنتمي إلى صنف أو نوع واحد. فمثلاً ليست كل الايديولوجيات الاشتراكية ذات مضمون سياسي واحد، وكذلك ليست جميع الايديولوجيات القومية أو الثورية لها مضمون سياسي واحد، فلكل منها خصوصية في بعض المواقف في حين انها تشترك في وجوه اخرى يكون فيها تحرك الفكر الايديولوجي في السياسة واحداً .
ولئن كانت الايديولوجية لأي جماعة أو حزب هي التي تحدد الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها والتي يعبر عنها. فالايديولوجيا هنا هي فكر موضوع اذاً من اجل العمل ولا مجال فيها للمساومة أو النقاش فاما أن تقبل أو ترفض من قبل الاخرين وبالتالي ستكون هي نتيجة المبادئ التي اعتمد عليها الحزب اصلاً (10).
وعند حالة كهذه تبتعد الصحافة الحزبية (العقائدية، أو السياسية في صياغتها لألفاظها عن تلك الفلسفة أو تلك الايديولوجيا، لأنها بالطبع لا تعني الجماهير إلا قليلاً، ولأن النظرة السطحية للقضايا والأحداث لا تمنحها مجالاً لإرساء فكر معين في نفوس الجماهير والتأثير في اتجاهاتها وانما ستترك الجماهير تتبع ما تمليه عليهم أنفسهم. وهذا يدل على أن الفلسفة أو الايديولوجية تحملان في طياتهما المعنى أكثر مما تحمله عواطف وأفكار الجماهير .
أن وجود القاعدة الايديولوجية هي الأساس لأي تحرك اعلامي للاستناد عليها والانطلاق منها لتحقيق أهدافها. لذا فأن أي معالجة صحفية لابد وان تكون ذات مضموم ايديولوجي تجعلها مميزة ومستقلة عن غيرها . وعلى هذا الأساس اعتبرت الصحافة بشكل عام سلاحاً أيديولوجيا خطيراً يمكن أن تستغله بعض الفئات أو الجماعات والأحزاب لخدمة أهدافها الاحتكارية، فهي إضافة إلى كونها أداة للتوجيه والتحريك الجماهيري تعتبر أداة مهمة في كسب الجماهير وتعبئتها(11) .
إذاً فالصحافة الحزبية "هي تلك الصحف التي تعبر عن فكر سياسي معين أو اتجاه أو مذهب ايديولوجي خاص وتتحدد وظيفة الصحيفة الحزبية في الأعلام عن فكر الحزب والدفاع عن مواقفه وسياساته ويغلب عليها طابع صحافة الرأي”. وهي "الصحافة التي تصدر عن الحزب السياسي بإشراف هيئته المركزية، والتي تلتزم أهدافه وتكون صادرة عن الحزب تخطيطاً وتحريراً واخراجاً وتوزيعاً". فضلاً عن ذلك فهي وسيلة ارتباط بين الأحزاب وجماهيرها من جهة، وبينها وبين أعضاء الحزب أنفسهم من جهة أخرى، بمعنى اخر فأنها رغم كونها أداة دعاية للحزب وأفكاره ومبادئه، تكون أداة تنظيمية تسعى إلى ترتيب العلاقات الحزبية الداخلية بين الأدنى والأعلى وتوزيع العمل والأدوار فيما بينهم وكسب أكبر عدد ممكن من الأنصار من خلال توعيتهم بالثقافة الحزبية، فالضغط الذي تمارسه الصحافة الحزبية على الجماهير، هو المحرك والدافع الفعّال للنظر إلى الأفكار والمعتقدات لاعتناقها واستمالة اخرين للعمل في صالح تلك الأفكار وبلورة الرأي العام بما يخدم مصلحة الحزب نفسه ، وعادة ما تتوقف هذه الصحف بموت الحزب الذي يغذيها0
وتنتعش الصحافة الحزبية انتعاشاً نوعاً ما في حالة وجود صراع أيديولوجي أو صراع مبادئ، سواء أكان على الصعيد الداخلي أم الخارجي، حيث تتفرغ الأحزاب في أوقات الاستقرار والهدوء السياسي للمنازعات الحزبية والمناقشات الذاتية محاولة كسب اكبر عدد من الجماهير كأنصار وأصدقاء، بينما تختفي الصحافة الحزبية وتتحول إلى (صحافة مذهبية) في الأوقات التي تمر فيها البلاد بانقلابات أو ثورات تجعل من تلك الصحافة منبراً وطنياً تعتلي فوقه تجارب الأمة التي مرّت بها وتنسى الأحزاب ذواتها وتنظر للأشياء نظرة كلية شاملة يحفها القلق والاهتمام المتزايد والتدقيق بالأسباب والنتائج، حينها يأخذ التفكير السياسي شكلاً اخر عن شكله الأول .
ويمكن القول أن الصحف الحزبية قد دعمت حق القارئ في الحصول على المعلومات ووسعت دائرة الحوار حول مختلف القضايا، وعالجت القضايا المثارة بأسلوب جديد يغلب عليه الطابع النقدي، وساهمت تلك الصحف بقدر كبير في ممارسة الدور الرقابي (وخاصة صحف الأحزاب المعارضة للنظام الحاكم) على الحكومة ودوائرها من خلال كشف السلبيات وتعقب الانحرافات والفساد وإثارة بعض القضايا الجريئة مثل حقوق الانسان والاعتقالات وتزوير الانتخابات والاصلاح الدستوري والسياسي وإصدار قوانين والمطالبة بإلغاء اخرى خاصة على المستوى المحلي(12) .
ولابد للصحافة الحزبية أن تدعو الجماهير إلى المشاركة في سياسة أحزابها لتغير مجرى الرأي العام لصالحها ، من خلال نقل المعلومات والمعارف والخبرات إلى الجماهير شريطة أن تكون هذه المعلومات حقيقية وموضوعية في آن واحد. فالصحافة كمنبر للرأي العام عليها مسؤولية مضافة إلى مسؤولياتها في الدعاية لأحزابها هي مناقشة القضايا العامة والمهمة دون تحيز لهذا الطرف أو ذاك الاتجاه وبدون أن تفرض وجهة نظر معينة.لكن أغلبية الصحف الحزبية تلجأ أحياناً إلى التلاعب بألفاظ الأخبار أو بمعانيها وترتيب وقائعها طبقاً لأغراضها السياسية دون الأخذ بنظر الاعتبار حق الجماهير في الاطلاع على الحقائق وفهمها ومناقشتها ما دامت لا تمس أمن الدولة. وربما تعمد أحياناً اخرى إلى عدم نشر خبر معين أو إغفال بعض جوانبه في حين تتناوله بالتعليق والتوجيه في أحد مقالاتها.
ونرى أن هذا العمل يؤثر على الصحافة الحزبية في طريقة معالجتها الصحفية للأخبار والحوادث. إذ من الخطورة بمكان أن تخفي الصحف بعض الحقائق وتتعامل مع الأحداث بشكل متحيز أو متطرف، وعليها أن تكون صحافة موجهة ملتزمة لخدمة الصالح العام ومرآة عاكسة لآراء الجماهير وإرادتهم.
اما من حيث الشكل والمضمون، فأن الصحافة الحزبية "ليست آلة جامدة، إذ لابد أن يتوفر فيها مجال للمبادرة الشخصية والميول الفردية وجمال للفكر والخيال والاهتمام بالشكل والمضمون" .أي بمعنى اخر أن مقالاتها التحليلة، لابد أن تتضمن بعض المفردات وتكتب بأسلوب بسيط يفهمها جميع القراء، ومن المستويات الثقافية كافة، أي يجب أن تجمع ما بين مخاطبة العقل والعاطفة على أن يكون العقل هو الأصل كي تساعد القارئ على إراحة ذهنه وتمكنه من استيعاب مادتها دون الهروب من تحليلاتها المعقدة إلى قراءة العناوين الرئيسة والفرعية فقط . اما من ناحية الإخراج فغالباً ما يكون الإخراج الجيد هو الذي يخدم المضمون الجيد وليس العكس.
والى جانب شكل الصحف الحزبية ومضمونها، يعتبر الصحفي الحزبي نفسه عاملاً مهماً اخر في نجاح وانتشار الصحافة الحزبية، لأنه عندما يكون متمكناً من المنطق النظري لحزبه وملماً الإلمام الكافي بسياساته وخططه وأهدافه المرحلية والاستراتيجية، فأن مهمته هنا ستكون ليس نقل الأخبار والتعليق عليها وتحليلها فقط، بل سيتحول من خلال الصحيفة إلى داعية لحزبه في جميع مجالات الحياة وفي مختلف الأوساط محلياً وقومياً وعالمياً . وبذلك سيحمي الجماهير من التسمم بالأفكار المضادة المدسوسة التي تحاول تشويه صورة الحزب أمام الجماهير وتعريته والحط من إنجازاته، وهذا لا يتم كما قلنا سابقاً الا بعرض القضايا والمواقف والموضوعات أمام الجماهير بصورة موضوعية وحقيقية دون إخفاء او تحيز .
ومن خلال الاطلاع على بعض الصحف الحزبية المحلية والعربية(*)، ظهر ان غالبية تلك الصحف قد ركزت على الاهتمام بالمضمون أكثر من اهتمامها بإخراج أو شكل صفحاتها، فعادةً ما تحمل تلك الصفحات مقالات ودراسات وأعمدة تتناول مختلف الموضوعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تحوي مادة فكرية وسياسية غزيرة، في حين انها امتازت باخراجها البسيط الذي أفقدها الكثير من عناصر الجذب وقربها إلى الجمود.
ومن الملاحظ أن الصحافة الحزبية في أي بلد من بلدان العالم تكون على نوعين: صحافة حزبية مؤيدة او مسايرة للسلطة الحاكمة أو الحزب الحاكم، وصحافة حزبية معارضة تقف ضد سياسة السلطة الحاكمة تبعاً لسياسة احزابها تجاه السلطة وكذلك توجد صحافة يمينية وصحافة يسارية. وتظهر عادة تلك الصحف في البلاد التي تقوم على أساس النظام الليبرالي الذي يسمح بالتعددية الحزبية في العمل السياسي ويزعم أو يدّعي أن مبدأ الحرية والديمقراطية مكفولة للجميع. وقد تكون السمة الغالبة لصحف الأحزاب المعارضة من ناحية ممارستها الصحفية، التركيز على جوانب القصور المختلفة في سياسة الحكومات وانتقادها بشكل مستمر ولاذع وغالباً ما تكون انتقاداتها الموجهة للجوانب السلبية مثيرة وعنيفة وأحياناً اخرى تكون مستترة وراء موضوعاتها.
لقد تعرضت الصحافة الحزبية على مر العصور إلى اتهامات عديدة أدت بها إلى التعطيل والغلق وإلغاء الامتياز وزج رؤساء تحريرها وصحفيها في السجون والمعتقلات، خاصة تلك الصحف التابعة لأحزاب المعارضة واليسارية، مما دفع بعض الحكومات في العديد من الدول إلى إجراء بعض التعديلات على قوانينها واصدار اخرى في سبيل الحد من تلك الصحف واسكات أصواتها .
ومن الأسباب الأخرى التي أدت إلى عدم استقرار مسيرة الصحافة الحزبية وقصر عمر العديد منها، العامل المادي والفني، الذي أثر بشكل كبير على (الشكل والمضمون)، فضلاً عن معاناة اخرى من نقص الكوادر المدربة، فمعظم العاملين في أكثر الصحف الحزبية هم من كوادر الحزب نفسه وليسوا صحفيين محترفين لهم دراية ومعرفة بمتطلبات العمل الصحفي يضاف إلى ذلك العامل الفكري، اذ أن الكثير من الصحف الحزبية لا تملك مبدأً أو فكراً معيناً تسير وراءه ، لذا تكون غير واضحة المعالم وليست لديها هوية معينة، مما أدى إلى تعطيل الكثير أو ايقافها عن الصدور(13) .
وقد تواجه الصحافة الحزبية مجموعة من الضغوط والقيود بجانب الضغوط السياسية والاقتصادية والقانونية والفنية تتعلق بإطار العلاقة ما بين الصحف واحزابها، فالأحزاب التي مازالت في بدايات بلورتها تكون اتجاهاتها وفلسفتها في طور التبلور ولم تأخذ صيغتها النظرية الكاملة الأمر الذي ينعكس بدوره على توجهات تلك الصحف التي تعاني أحياناً من التخبط والتناقض، كما وأن معظم الصحف الحزبية لا تعكس تماماً الاتجاهات المختلفة داخل أحزابها مما يثير نوع من الشكوك حول مدى تمثيلها الفعلي لأحزابها خاصة أن العديد منها تقع تحت سيطرة قادة الحزب وتدين بالولاء إليهم، إضافة إلى ذلك أن اختيار رؤساء تحرير الصحف يكون بيد قادة الأحزاب وعادة ما يكون ارتباط الصحف بهؤلاء الأشخاص وثيقاً جداً لهيمنتهم على شؤون الحزب وصحفه(14) .
ونظراً لقوة تأثير الرأي العام على الصحافة الحزبية فقد تزحزت عن خطها نوعاً ما، بعدما كانت تدافع عن مبدأ الحزب التابعة له وتقود الجمهور إلى الرأي الذي تراه صائباً، أصبحت تتماشى مع الجمهور واقتصرت وظيفتها على أن تكون مرآة عاكسة للرأي العام، لا منبراً حراً لنشر الأفكار والمبادئ . وعندما أيقنت الصحافة الحزبية بأنها ستخسر قرائها بعدما شعرت بأن جمهورها لم يعد سوى فئة ضئيلة من المؤيدين أو المتعاطفين مع أحزابها، سعت إلى الاهتمام بالخبر والاكتفاء بالتعليق عليه وإضفاء عناصر التشويق التي تخاطب العاطفة وابتعدت عن نشر مقالات الرأي والتحليل والتفسير التي تقوي معتقداته إلى أن أصبحت تسير خلف أهواء الجماهير بعدما كانت أداة مهمة في تكوين وقيادة الرأي العام.
المصادر:
1- اسماعيل ابراهيم ,فن التحرير الصحفي بين النظرية والتطبيق , مصر , دار الفجر للنشر والتوزيع ,1998. وخليل صابات ,الصحافة استعداد فن علم ,مصر ,دار المعارف 1959.ومحمود فهمي , الفن الصحفي في العالم , القاهرة ,دار المعارف ,1964.
2- عبد العزيز شرف , الاساليب الفنية في التحرير الصحفي , القاهرة , دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع ,2000.
3- صادق الاسود , الرأي العام والاعلام , بغداد , مديرية التوجيه المعنوي ,1990.
4- فاروق ابو زيد , مقدمة في علم الصحافة , القاهرة , مركز جامعة القاهرة للتعليم المفتوح ,1999.
5- نقلا"عن : سلامة موسى , الصحافة حرفة ورسالة , القاهرة , مطبعة مصر ,1958. وخليل صابات (مصدر سابق ) واديب مروة , الصحافة العربية نشأتها وتطورها , بيروت , دار مكتبة الحياة ,1961.وكرم شلبي ,معجم المصطلحات.
6- عبد اللطيف حمزة , ازمة الضمير الصحفي ,القاهرة , دار الفكر العربي , 1960.
7- اسماعيل ابراهيم , فن المقال الصحفي , القاهرة , دار الفجر للنشر والتوزيع , 2001. وكذلك اديب مروة ( مصدر سابق )
8- عبد العزيز غنام , مدخل في علم الصحافة , بيروت , دار النجاح , ج1 , 1972.
9- اسماعيل علي سعد , الاتصال والرأي العام , الاسكندرية , دار المعرفة الجامعية ,1989.
10- ناصيف نصار , الفلسفة في معركة الايديولوجية , بيروت , دار الطليعة ,1980.
11- عبد الغني عبد الغفور , الاعلام والثقافة والتنمية القومية , بغداد ,دار الحرية للطباعة ,1974.
12- محمد سعد ابراهيم , حرية الصحافة دراسة في السياسة التشريعية , القاهرة , دار الكتب العلمية للنشر والتوزيع ,ط2 ,1999.
13- حاتم سليم نهار , خصائص الصحافة الاردنية اليومية في التسعينيات, اطروحة دكتوراه غير منشورة , جامعة بغداد, كلية الاداب , 2000.
14- محمد سعد ابراهيم ,مصدر سابق