نوعا الاختلاف
أسباب التنافر والانقسام في صفوف العاملين في مجال الدعوة من أهل السنة
أولاً: التقصير في الجانب العقدي والاشتغال بالجانب السياسي
ثانياً: وصم البعض بأنهم تكفيريون، أوسَرُورِيُّون (!!)
ثالثاً: الاختلاف في وسائل العمل
رابعاً: الانفصال والخروج عن جماعة من الجماعات
خامساً: سوء الظن وانعدام الثقة
سادساً: عدم التثبت في المنقول
سابعاً: الدخول في العمل العام
ثامناً: الاختلاف في الحكم على بعض النوازل
تاسعاً: الإعلان بالنصيحة
عاشراً: ضعف التزكية وقلة الورع
خاتمة
تمهيد
"الخلاف شر"، هذه الكلمة المضيئة، والحكمة البليغة، والمقولة الطيبة، التي ينبغي أن تكتب بماء الذهب، وأن تحفظ وتلقن ويعيها العلماء قبل العامة، والقادة قبل الأتباع، والدعاة قبل المدعوين، لحاجتهم إليها، عليهم أن يعضوا عليها بالنواجذ، وينقشوها في البواطن، ويحرصوا على تعليمها للأكابر والأصاغر، والأقارب والأباعد، والأصدقاء والأعداء.
هذه الكلمة الطيبة صدرت من عالم فقيه، وإمام نبيه، من عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد معلمي ومفقهي الكوفة في زمانه، وذلك عندما أتم الصلاة الرباعية بمنى مع الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه، وقيل له في ذلك: كيف تتم وقد صليتَها ركعتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما؟ علل إتمامه بأن "الخلاف شر"، إي وربي الخلاف شر مستطير، وداء خطير، وعيب كبير.
أتم عثمان رضي الله عنه الصلاة الرباعية بمنى متأولاً لذلك، واعتُذِرَ عنه بأن الموسم يحضره عدد من حديثي العهد بالإسلام من الأعراب، فخشي أن ينطبع في أذهانهم أن الصلاة مثنى مثنى، لعدم معرفتهم بالرخص الشرعية، وقيل فعل ذلك لأنه تزوج بمكة.
وأياً كان سبب إتمام عثمان رضي الله عنه للصلاة الرباعية بمنى، فهو إمام مجتهد مأجور، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول المعصوم.
وشاهدنا إتمام ابن مسعود معه وهو إمام من أئمة الصحابة المقتدى بهم، وشيخ من شيوخهم، مع يقينه التام أن الحاج يقصر الرباعية، ويجمع بعرفة ومزدلفة ولو كان من أهل مكة أومنى، دفعاً لشر الشرين بخير الشرين.
هذه الكلمة ما من إمام ولا داعية إلا وهو يحفظها، ويرددها، ويستشهد بها، ويستعملها للإصلاح بين المتخاصمين، ولكن البعض هدانا الله وإياهم سبل السلام عندما يتعلق الأمر بهم يحيدون عنها، ومن قبل عن العديد من الآيات، والأحاديث، والآثار، والحِكَم التي تحذر من الاختلاف، وتنهى عن التدابر والتباغض، وتأمر بالائتلاف والاجتماع والتسامح، ونسي هؤلاء أوتناسوا أنهم يرتكبون بذلك إثماً عظيماً، ويقترفون ذنباً كبيراً، ويعيبون عيباً مشيناً، لأنهم يأمرون الناس بما لا يأتونه، وينهونهم عما هم يقترفونه، وقد توعد الله هذا الصنف، ونهى عن هذا السلوك: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون"1، "يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون"2، وقال عز وجل على لسان شعيب عليه السلام: "وما أريدُ أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه".3
أصرح وأشد ما ورد في الوعيد عن ذلك ما صحَّ عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق4 أقتاب5 بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحا، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان مالك؟ ألم تك تأمرُ بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنتُ آمرُ بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه".6
ولله در القائل:
لا تنهَ عن خلـق وتأتي مثله عـارٌ عليك إذا فعلت عظيم
واحذر أن يكون مثلك مثل:
كدودة الغزل ما تبنيه يهدمُها وغيـرها بالذي تبنيه ينتفعُ
مخالفة الآمر الناهي من العلماء والدعاة لما يفعل ويذر قبيحة من القبائح، وسوءة من السوءات في أي أمر من الأمور، ولكن قبحها يشتد، وخطرها يزيد ويتعدى إذا كانت متعلقة بإخوانه من العلماء والدعاة.
فهجر المسلم وقطيعته لأخيه المسلم حرام وكبيرة من الكبائر الجسام، وكذلك سوء الظن والنيل والانتقاص للمسلم حرام، لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله"، الحديث، وقوله: "تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين والخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا".7
وأسوأ من ذلك كله الحسد، والتباغض، والتدابر، ولذلك نهى عنه وحذر منه الرسول الكريم: "لاتباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث".8
ويكفي الحسد والبغضاء سوءاً وصف الرسول صلى الله عليه وسلم لهما بالحالقة التي تحلق الدين وليس الشَّعر: "دبَّ إليكم داءُ الأمم قبلكم، الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين، والذي نفس محمد بيده، لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم، أفشوا السلام بينكم".9
فكيف إذا اتصف بعض العلماء والدعاة بتلك الصفات الذميمة، ومارسوا تلك الأخلاق الرذيلة؟ ومع من؟ مع طائفة من إخوانهم العلماء، وطلاب العلم والدعاة.
لاشك فإن المصيبة تكون أعظم، والبلية تكون أكبر، والرزية تكون أفدح، والخسارة تكون متعدية، لتعدي ذلك للأتباع والتلاميذ.
ما من شيء يحز في النفس، ويقض المضاجع، ويؤرق المخلصين، مثل الاختلاف، والتشرذم، والتحزب، والتحاسد، والتباغض في صفوف أهل السنة والجماعة خاصة، وفي صفوف المسلمين عامة، على الرغم من أن دواعي الائتلاف والاجتماع متوفرة، وأسباب الفرقة والتحزب والتنافر والتباغض واهية، ونتيجة هذا التدابر ظاهرة، وخسارته فادحة.
لو لم يرد في الأمر بالائتلاف والنهي عن الاختلاف إلا قوله عز وجل: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون"10، لكفى، كيف وكتاب الله وسنة رسوله يأمران بالائتلاف، وينهيان عن الاختلاف.
لا شك أن الائتلاف والاختلاف آيتان من آيات الله، وسنتان من السنن الكونية، ولهذا ختمت الآية السابقة بقول الله عز وجل: "كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون"، أي لعلكم ترشدون.
يؤسف المسلم الحق، ويحزنه غاية الحزن، أن يرى ويسمع ما يحدث بين العلماء وحملة الشريعة من الهجر، والنفرة، والقطيعة، والوقيعة، وسوء الظن، مع علمهم بحرمة ذلك العمل، والآثام المترتبة عليه، وما يجره على الأتباع من الويل والشرور، وما يحجبه عنهم من النعم والسرور، مما جعل التلاميذ والأتباع شيعاً وأحزاباً، وفرقاً كل حزب بما لديهم فرحون، وبما يسمعون من قادتهم ناعقون، ولبعضهم بعضاً لاعنون، ومضللون، بل ومكفرون، وبما يترتب على ذلك ساهون، لاهون، جاهلون، وصدق ابن عباس رضي الله عنهما حين قال: "كل من عصى الله فهو جاهل".
بل تعدى الأمر مداه، وبلغ السيل زباه، حيث تطاول الصغار الأغرار على الكبار، وحكم العامة على الخاصة، وضلل الجاهل العالم، وبدَّع السفيه الحليم، وسلك بعضهم مع بعض مسلك الخوارج الأشرار، الذين أمَّنوا وسالموا عبدة الأوثان والشيطان، وعادوا وقتلوا وكفَّروا أولياء الرحمن، وبقايا السلف الكرام، ويصدق على هؤلاء قول القائل: "رمتني بدائها وانسلت".
وله در ابن عمر عندما سئل عنهم فقال: "ماذا تركوا من دناءة الأخلاق إلا أن يكفِّر بعضهم بعضاً"، إذ التكفير والتضليل والتبديع بغير حق لإخوان العقيدة ورفقاء الدرب من الذنوب العظيمة، والآثام الجسيمة، والصفات الرذيلة، وينبئ عن دناءة الأخلاق، وسوء الآداب أوانعدامها.
أخوف ما يخشاه المرء أن يكون الدافع لهذا الصنف في هذا المسلك المشين، وهو سوء ظنهم بإخوانهم، والحط من أقدارهم، ورميهم بما هم بريئون منه، مع علمهم بجلالة قدرهم، وسلامة معتقداتهم، وطهارة بواطنهم، الحسد الذي يأكل قلوبهم، والغيرة المذمومة التي سيطرت على نفوسهم، وطغيان الماديات على تصرفاتهم، وأن يشملهم قول الله عز وجل: "وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم".11
رحم الله الشيخ البيجاني حين قال: (وأشد ما تكون المنافسة، وأكثر ما يكون الحسد، بين أهل الصنعة الواحدة، والشرف المتماثل، والبيوت المتجاورة، ولكنه لا يعيش إلا في قلوب خبيثة، ولا ينبت إلا في نفوس ضعيفة، وهو في العلماء أكثر منه في غيرهم، كما يقول مالك بن دينار رحمه الله: شهادة القراء12 مقبولة في كل شيء، إلا شهادة بعضهم على بعض، فإنهم أشد تحاسداً من التيوس؛ وتقدم أن العلماء بالحسد يدخلون النار قبل الحساب بسنة كاملة13... وإنما يتحاسد العلماء إذا كان علمهم لغير الله، وأرادوا به صرف وجوه الناس إليهم، وبعضهم يتعلم ويترك العمل والاكتساب ويصبح عالة على الناس، ويعتقد أنهم متى رأوا غيره خيراً منه تركوه وأعرضوا عنه، ولذلك فهو يحسد أهل الفضل قاطبة، ويكره العلماء أجمعين، ولا يثني إلا على ميت أمن شره، أوغائب لا يخاف مكره، ولو أنهم طلبوا العلم لله، وأرادوا به الآخرة، وعملوا لدنياهم كسائر الناس، لصاروا هم السادة والقادة بكل فضيلة).14
نوعا الاختلاف
الاختلاف نوعان كبيران، وقسمان خطيران:
أحدهما: خلاف سائغ جائز شرعاً.
وثانيهما: خلاف ممنوع محرم شرعاً.
ولكل من النوعين شعب شتى، وفروع مختلفة.
ومن أمثلة الخلاف السائغ الجائز ما يلي:
1. اختلاف التنوع، نحو صيغ الأذان، وأوجه الإحرام، وصيغ التشهد، وما شاكل ذلك.
2. اختلاف في بعض الأمور التي تكافأت فيها الأدلة، نحو تكفير تارك الصلاة كسلاً وعدم تكفيره، وقراءة المأموم للفاتحة في الصلاة الجهرية، وقراءة البسملة في الفاتحة في الصلاة، ونحوها.
3. اختلاف في الأمور التي لم يرد فيها نص.
4. اختلاف في وسائل العمل.
لا شك أن الاختلاف السائغ منه ما هو راجح، ومنه ما هو مرجوح، فمن أصاب الحق فيه إن كان من أهل الاجتهاد فله أجران، ومن أخطأ الحق فله أجر.
أما الاختلاف الممنوع المحرم شرعاً فمن أنواعه ما يأتي:
1. اختلاف التضاد.
2. اختلاف سببه اقتراف البدع الكفرية.
الذي يعنينا في بحثنا هذا النوع الأول، وهو الاختلاف السائغ الجائز الذي لا يوجب عداء ولا هجراً، دعك من أن يوجب تضليلاً أوتكفيراً، وكل ما نتج من ذلك من نفرة وهجر، وعداء، وتضليل، ونحوه سببه البغي والحسد، أوحمل بعض الأمور على غير محملها الشرعي.
أسباب التنافر والانقسام في صفوف العاملين في مجال الدعوة من أهل السنة
إذا أردنا علاج أي أمر من الأمور لابد من تشخيص الداء تشخيصاً صحيحاً دقيقاً، ثم بعد ذلك نقدم الحلول التي تناسب هذه الأدواء.
لا أشك قط أن جل الأسباب التي أدت إلى التفرق والتشرذم في أوساط العاملين في مجال الدعوة في صفوف أهل السنة والجماعة في هذا العصر غير موضوعية، وهي لا تدعو بحال من الأحوال إلى التنافر والتباغض، فكيف بالتضليل والتكفير؟ لأن جلها ناتج عن خلاف جائز مستساغ، وقد اختلف في ذلك وفي أكبر منه سلفنا الصالح، بل وتقاتلوا، ولكن مع كل ذلك لم تحدث بينهم النفرة، والفرقة، والتباغض، والتحاسد، والكيد، كما هو حادث الآن في خلفهم، وكان ينبغي على الخلف الصالح أن يسلك مسلك سلفه الفالح، وأن يسعهم ما وسع أولئك، حتى لا يشملهم قول من قال: "من لم يسعه ما وسع السلف الصالح فلا وسَّع الله عليه".
ويمكننا بالاستقراء والمعايشة والتجربة أن نورد الأسباب الرئيسة التي أدت ولا تزال تؤدي إلى الفرقة، ونخرت ولا تزال تنخر في صف الأخيار، كي تستبين سبيل المؤمنين، وتتضح طريق المتقين، التي يرفعها البعض ويبرر بها سبب نفرته واختلافه مع الآخرين، لنعلم أنها ليست من الأسباب التي توجب العداء، وتسبب الفرقة، وتحدث التشرذم والتحزب الممقوت الذي حذرنا منه ديننا وخوفنا منه ربنا ورسولنا، ونهانا عنه سلفنا: "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء"15، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة.
أسباب التفرق، والتحزب، والهجر كثيرة جداً، منها ما هو منطوق منظور، ومنها ما هو مضمر مجهول، منها ما يرجع إلى قصور في الفهم، أوخطأ في التأويل، أو عجز في التعبير، ومنها ما يرجع إلى أمراض قلبية، وعقد نفسية، وأغراض شخصية، وأهواء مطوية، وهذا النوع الثاني لا قبل لأحد بعلاجه، ولا سبيل للخلاص منه إلا التضرع والدعاء وسؤال رب الأرض والسماء، مالك القلوب ومصرفها أنى شاء، فنسأله سبحانه أن يطهر قلوبنا وقلوب جميع إخواننا العاملين وغيرهم من الحسد والبغضاء، وعن الأغراض والأهواء، إنه ولي ذلك والقادر عليه، فنقول مستمدين منه العون والسداد:
أولاً: التقصير في الجانب العقدي والاشتغال بالجانب السياسي
من أسباب التفرق والهجر والتباغض في صفوف العاملين في الدعوة في هذا العصر تركيز بعض الجماعات على العمل العام، وتقصيرهم في جانب إصلاح العقائد، مما جعل طوائف من العاملين يحملون على هؤلاء ويصفونهم بالتقصير والتهاون في أمر ينبغي أن يكون هو الأصل والأساس.
لا شك فإن أمر العقيدة هو أصل الأصول، ولا يحل لجماعة أن تعنى بغيره قبل إحكامه وإصلاحه، فقد جلس الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة يعالج هذا الأمر ويكابده، والقرآن المكي كله كان هذا موضوعه، وكل ذنب سوى الشرك مغفور، وكل عمل قبل التوحيد محبط مهدور.
لكن هذا السلوك لا يوجب العداء، وإنما يستحق الرحمة والعطف، وينفع معه الرفق والحكمة، وكان رسولنا صلى الله عليه وسلم عندما يُطلب منه أن يدعو على أعدائه من المشركين يقول: "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون"، لقد أمر الله عز وجل موسى وهارون عليهما السلام أن يرفقا بالطاغية الباغية فرعون، قائلاً: "فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أويخشى"16، فكيف بالمسلم؟ والرفق ما دخل في شيء إلا زانه، ولا نُزع من شيء إلا شانه.
لله در عمر ورضي الله عنه، فقد كان رفيقاً رحيماً، روى الحسن قال: لما قدم عمر بن الخطاب الشام أتاه راهب شيخ كبير متقهل17، عليه سواد، فلما رآه عمر بكى، فقال له: يا أمير المؤمنين، ما يبكيك؟ قال: هذا المسكين طلب أمراً فلم يصبه، ورجا رجاء فأخطأه؛ وقرأ قول الله عز وجل: "وجوه يومئذ خاشعة. عاملة ناصبة".
ولهذا كان من دعاء الإمام أحمد رحمه الله: "اللهم من كان من هذه الأمة يظن أنه على الحق، وهو ليس من أهله، اللهم فرده إلى الحق ليكون من أهله"، أوكما قال.
فالواجب على العلماء والدعاة بيان الحق وتوضيح السنة من البدعة، والنصح لأئمة المسلمين وعامتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، فمن اتبع الحق فبها، ومن لم يتبع روجع حتى يشرح الله صدره للإسلام.
الهجر وسيلة من وسائل التأديب، وطريقة شرعية من طرق التعزير، شريطة أن لا يتجاوز به الحد، وأن نتيقن من فائدته وجدواه، لأن درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، فإذا كان الضرر المترتب على الهجر والقطيعة أكبر من النفع يحرم الهجر في هذه الحال، فإن لكل مقام مقال، ولكل شأن حال، فما يناسب هذا يضر بالآخر، وهكذا.
ظهر من ذلك أن التقصير في الجانب العقدي مع الإقرار النظري بأهمية العقيدة وصدارتها لا يوجب العداء، وإنما يوجب التناصح، والدعاء، والرفق، والصبر، وتنوع الوسائل.
وثمة شيء آخر، وهو أن أفراد هذه الجماعة ليسوا سواء، فهم متفاوتون أكبر تفاوت، مع احتفاظهم بقدر مشترك من التوافق، فمن الظلم الحكم عليهم بحكم واحد، وإنزالهم منزلة واحدة.
فالمنسوبون18 والمنتسبون إلى هذه الجماعة في الجزيرة، والخليج مثلاً متميزون عن غيرهم من أهل البلاد الأخرى، فهم معنيون ومهتمون بأمر العقيدة ومشتغلون بإصلاحها، ويرجع الفضل في ذلك بعد الله عز وجل للأثر العميق الطيب لدعوة الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب طيب الله ثراه وبارك في مجهوداته وأتباعه ومن والاهم، وفي الجميع خير وبركة كما أخبر الصادق المصدوق: "المؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ".19
ثانياً: وصم البعض بأنهم تكفيريون، أوسَرُورِيُّون (!!)
من أسباب التفرق والهجر والتباغض في صفوف العاملين في الدعوة في هذا العصر، وصم البعض لإخوانهم بأنهم تكفيريون، أوسروريون، أوخوارج كما زعموا، ومن ثم لم يكن لهؤلاء النفر شغل ولا هم ولا عمل إلا النيل والانتقاص من هؤلاء، والتحذير من موالاتهم، والاستماع إليهم، وغشيان مساجدهم ودروسهم ومحاضراتهم، أومطالعة كتبهم ورسائلهم، والكتابة والكلام عنهم، بمناسبة وغير مناسبة.
هذه التهمة ليس لها شبيه ولا مثيل، ولا ند ولا نظير، إلا وصم بعض الأخيار بأنهم وهابية أوخامسية، فكما أنه لا وجود لعقيدة وهابية ولا فرقة خماسية، كذلك لا توجد عقيدة سرورية، وأخشى ما أخشاه أن يكون الدافع لإطلاق هذه الألقاب الهوى.
إني معاشر ومخابر للواصفين والموصوفين بالسرورية، ولا ينبئك مثل خبير، فلم أعلم فرقاً في الاعتقاد، فالجميع على عقيدة أهل السنة والجماعة، والجميع سلفيون، إلا بعض الفروق الطفيفة التي لا يخلو أفراد فرقة من الفرق منها.
ومن الغريب العجيب أن الفتن والمصائب كانت تجمع بين المسلمين، وتوحد كلمتهم، وتلم شملهم، وتنسيهم خلافاتهم، إلا في هذا العصر، فإن ما ابتلي به المسلمون من النكبات، وما حل بهم من المصائب، وما نزل بهم من النوازل، كان سبباً وعاملاً للفرقة والتشتت والتحزب، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فهذه البدعة السيئة ظهرت عقب حرب الخليج الأولى واستفحلت بعدها.
عندما ظهرت بدعة الخروج، وهي أول البدع ظهوراً وخطراً على الإسلام، ناظرهم أئمة الدين علي، وابن عباس، وابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وردوا شبههم، وبينوا قلة فقههم وضحالة تفكيرهم، فرجع من رجع منهم، وبقي من كتب الله عليه الشقاء، وسنمثل لذلك بمحـاورة ومناظـرة عمر بن عبد العزيز للخوارج كما رواها ابن عبد البر20: (فلما قدموا على عمر أمر بنزولهم، ثم أدخلهم عليه، فجادلهم حتى إذا لم يجد لهم حجة رجعت طائفة منهم، ونزعوا عن رأيهم، وأجابوا عمر، وقالت طائفة منهم: لسنا نجيبك حتى تكفر أهل بيتك، وتلعنهم، وتبرأ منهم؛ فقال عمر: إنه لا يسعكم فيما خرجتم له إلا الصدق، أعلموني هل تبرأتم من فرعون، أولعنتموه، أوذكرتموه في شيء من أمركم؟ قالوا: لا؛ قال: فكيف وسعكم تركه ولم يصف الله عز وجل عبداً أخبث من صفته إياه، ولا يسعني ترك أهل بيتي، ومنهم المحسن والمسيء، والمخطئ والمصيب؟!).
الذين قاموا بمناظرة هؤلاء المبتدعة من أولي أمر المسلمين، وما قاموا به من أوجب واجباتهم نحو هذا الدين.
جرت بعض المناظرات بين المتهمين والملقبين بذلك وبين من يتهمهم، ودلل لهم المتهمون بأنهم لا يدينون بشيء مما رموا به، ومع ذلك نجد البعض يصر أن هذا من باب التقية، ويجدد ويكرر تهمه، وهذا من الظلم البين والكِبر الظاهر: "الكِبْر بطر الحق وغمط الناس"21، ومعنى "بَطَرُ الحق" أي دفعه، والمسلم مطالب أن يحكم على أخيه المسلم بما ظهر منه، وبما قاله لسانه وخطاه بنانه، لا أن يشكك في ذلك، ويتهم النوايا والسرائر التي لا يعلمها إلا الله.
فهذه تهمة مختلقة باطلة، وكل ما بني عليها فهو باطل.
ثالثاً: الاختلاف في وسائل العمل
لا ينبغي أن يؤدي اختلاف الناس في وسائل العمل وفي تقديرهم لفعالياته إلى الهجر والتدابر والتنافر، فكل ميسر لما خلق له، واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.
ولكن ما نراه اليوم من التنافر والتباغض يرجع كثير منه إلى اختلافهم في وسائل العمل، وإلى اهتمام بعض الفرق والطوائف ببعض المناشط دون بعض.
ومما لا شك فيه أن مثل هذا الاختلاف لا يترتب عليه عداء ولا يمثل خطراً على الإسلام، وينبغي أن يكون هناك تنسيق وتعاون بين سائر العاملين في مجالات الدعوة المختلفة، حتى تثمر هذه الأعمال وتتضافر الجهود لتحقيق ما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين، من غير عيب ولا شين لطائفة من الطوائف.
هذا كله إذا صلحت النية وسلمت الضمائر.
رابعاً: الانفصال والخروج عن جماعة من الجماعات
من أسباب الهجر الممقوتة، وعوامل الفرقة المشاهدة المحسوسة، وتهويشات الشيطان المألوفة، الانفصال والخروج والانشقاق عن جماعة من الجماعات، سواء كان خروجاً فردياً أوجماعياً، حيث يحل الهجر محل الوصل، والبراء محل الولاء، والفرقة محل الألفة، فيستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويكفي هذا المسلك سوءاً، وهذا الخلق قبحاً أنه من سمات أهل الأهواء، وليس من صفات أهل الدين والتقوى، وقد سبق وصف ابن عمر للخوارج بدناءة الأخلاق، لتكفيرهم وتضليلهم بعضهم البعض، ولله در أمير المؤمنين علي عندما سئل عن الخوارج الذين شقوا عليه عصا الطاعة، وفرقوا الجماعة، وعادوا أهل الإسلام، ووالوا وساعدوا أهل الشرك والأوثان، لم يزد إلا أن قال: "إخواننا بالأمس بغوا علينا اليوم"، وأمر أن لا يبادروا بالقتال حتى يبادروا هم.
هذا الداء العضال والمرض المهلك البطال عامل أساس في إشاعة التحاسد والتباغض في صفوف العاملين في الدعوة، ومما يؤسف له أن البعض لا يتعظ ولا يستفيد من أخطاء السابقين، ولا يحذر من جهل الجاهلين، فيقع فيما كان منه يخوِّف وينذر.
ومما تجدر الإشارة إليه، ويجب التنبيه عليه، أن الانتماء إلى الجماعات والأحزاب الإسلامية جائز إن كانت هذه الجماعات والأحزاب قائمة على مذهب أهل السنة والجماعة، وعلى ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، وأنه من باب التعاون على البر والتقوى، ولا حرج على المنتسب لأي جماعة من هذه الجماعات أن يخرج منها إلى خير منها، خاصة إذا شعر أن جماعته الأولى أخلت بأمر من الأوامر الشرعية، أوإن غيرها أكثر فعالية منها، أولم يجد فيها بغيته، وليس هناك ما يلزم المرء أن يبقى في جماعة من الجماعات حتى الموت.
ولا ينبغي لجماعته الأولى التي تخلى عنها لأي سبب من الأسباب من غير أن ينال منها أن تجد عليه، أو تحمل عليه، ولا أن تغير معاملتها له، طالما أنه ملتزم بمنهج أهل السنة والجماعة.
فقد انتقل كثير من أهل العلم من مذهب إلى مذهب، ورجع بعضهم عن بعض الأقوال التي كانوا يعتقدونها ويرجحونها، فلم يثرِّب عليهم أحد، ولم ينكر بعضهم على بعض.
ومن غرائب الاستدلال استدلال البعض على جواز هجر وقطع من خرج من جماعة من الجماعات بقصة هجر الرسول صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين لكعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم.
وهذا استدلال مع الفارق والفارق الكبير، فالرسول صلى الله عليه وسلم المؤيَّد بالوحي هجر هؤلاء ليتثبت من صدقهم وعدم نفاقهم، وهو يعلم أن الله سبحانه وتعالى سيفتيه في أمرهم، وقد حدث أن نزل قرآن بتبرئتهم من النفاق.
هذا بجانب أن هؤلاء الثلاثة خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ومخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم كفر، وأن جماعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي الجماعة الوحيدة التي تعبد الله في الأرض من بني آدم، فهل هناك وجه للمقارنة بين الجماعة المسلمة الأولى وبين الجماعات التنظيمية اليوم؟!
ليس لهذا النوع من الهجر والتباغض سبب إلا الجهل والهوى، فينبغي لقادة هذه الجماعات ولقواعدها أن يتقوا الله في أنفسهم، وفي إخوانهم، وأن لا ينجروا وراء أهوائهم وعواطفهم، وأن يكون ولاؤهم أولاً وأخيراً لله عز وجل، وأن لا يجعلوا ولاءهم لجماعتهم وأتباعهم أكبر من ولائهم لله، فيقعوا في المحظور، وعليهم أن لا ينسوا حقوق المسلم نحو إخوانه المسلمين التي بينها لنا رسول رب العالمين: "حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه".22
خامساً: سوء الظن وانعدام الثقة
كثير من الجفاء والتباغض والشحناء بين العاملين في مجال الدعوة مرده إلى سوء الظن وانعدام الثقة، وإلى التأويلات الخاطئة والتفسيرات الجائرة، لما يصدر من بعضهم نحو بعض.
لهذا نهانا ربنا عن الظن السوء: "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم".23
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسَّسُوا ولا تجسَّسُوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ههنا، التقوى ههنا - ويشير إلى صدره – بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله، إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".24
لو صفت القلوب، وسلمت الضمائر، وطهرت السرائر، وحمل المسلم ما يصدر من أخيه على أحسن المحامل لزالت كثير من هذه الشكوك، ولتبددت هذه الحزازات.
الظن المنهي عنه مرادٌ به التهمة، ولان النفوس جبلت على الظن دلنا رسولنا على كيفية التخلص من ذلك، وهو عدم التحقيق، والبحث والتفتيش، فقال: "إذا ظننتَ فلا تحقق، وإذا حسدتَ فلا تبغ، وإذا تطيَّرتَ فامض" الحديث.
قال القرطبي في تفسير آية الحجرات: (قال علماؤنا: فالظن هنا هو التهمة، ومحل التحذير والنهي إنما هو تهمة لا سبب لها يوجبها).25
سادساً: عدم التثبت في المنقول
نقل الكلام وعدم التثبت فيه يوغر الصدور، ويزرع الوحشة في النفوس، فالسعاية قبيحة وإن كانت صحيحة، فكيف إن كانت زوراً وبهتاناً، وزيد فيها ونقص منها؟، وصدق من قال: "وما آفة الأخبار إلا رواتها"، وصلى الله وسلم على القائل: "لا يدخل الجنة نمام"، وفي رواية: "قتات"26، ويكفي النميمة قبحاً أن قرنت مع البول، وهو أطهر منها، وجعل غالب عذاب القبر بسببهما، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين، فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة".27
فالنمام فاسق بحكم الله عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين"28، يجب على العلماء والقادة أن يتنزهوا عن هذا المسلك المشين، وأن يحذروا أتباعهم أن يلغوا في هذا المرتع الآسن.
ينبغي للقائد والعالم والأمير أن ينصح أصحابه، وأن يوجه تلاميذه إلى ما فيه خيره وخيرهم، لأنه مسؤول عنهم، ورحم الله عمر بن عبد العزيز حين قال موجهاً جلساءه وموضحاً لهم شروط صحبته ومعاشرته، حتى يكونوا على بينة.
روى الإمام الأوزاعي رحمه الله أن عمر بن عبد العزيز قال لجلسائه: "من صحبني منكم فليصحبني بخمس خصال: يدلني من العدل إلى ما لا أهتدي له، ويكون لي على الخير عوناً، ويبلغني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ولا يغتاب عندي أحداً، ويؤدي الأمانة التي حملها بيني وبين الناس، فإذا كان ذلك فحيهلا، وإلا فقد خرج عن صحبتي والدخول عليَّ).
لم يكتف بعض القادة بالتجسس ويسمح بنقل الأخبار عن الآخرين حتى جعل له عيوناً على أتباعه أنفسهم، معللاً ذلك بأن مصلحة الدعوة والتنظيم تحتم ذلك، ولم يعلم أنه بذلك أصبح من المفسدين في الأرض وليس من المصلحين، ومن الغاشين للأتباع وليس من الناصحين لهم.
روى أبو داود بسنده في سننه عن معاوية رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنك إن اتبعتَ عورات الناس أفسدتهم أوكدتَ أن تفسدهم"، قال أبو الدرداء رضي الله عنه: كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها.
لا ينبغي للتابع والتلميذ أن يكون بهذه الدرجة من الجهالة والوقاحة، وعليه أن يعلم أن الطاعة لا تكون لمن تجب عليه طاعتهم كالوالدين وولاة الأمر إلا في المعروف، وأنه إنما انتمى إلى تلك الجماعة ليزكي نفسه ويصلحها، لا ليفسدها ويخربها.
اعلم أخي المسلم أن الثقة لا يبلغ، وأن الكريم لا يسعى بالنميمة على مسلم، قال بعض الحكماء: لا يكون النمام إلا زنيماً29؛ وهو المتهم في نسبه.
سعى رجل إلى بلال بن أبي بردة الأشعري برجل من أهل البصرة فقال: انصرف حتى أكشف عنك، وبعد البحث عنه وجده ابن زنا.
دخل رجل على سليمان بن عبد الملك رحمه الله فاستأذنه في الكلام، وقال: "إني مكلمك يا أمير المؤمنين بكلام فاحتمله وإن كرهته، فإن وراءه ما تحب إن قبلته"، فقال: "قل"، فقال: "يا أمير المؤمنين، إنه قد اكتنفك رجال باعوا دنياك بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله، ولم يخافوا الله فيك، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه، ولا تصغ إليهم فيما استحفظك الله إياه، فإنهم لن يألوا في الأمة خسفاً، ولا في الأمانة تضييعاً، والأعراض قطعاً وانتهاكاً، أعلى قربهم البغي والنميمة، وأجل وسائلهم الغيبة والوقيعة، وأنت مسؤول عما أجرموا، وليسوا بمسؤولين عما أجرمت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس غبناً من باع آخرته بدنيا غيره".
فويل للعلماء والدعاة من التلاميذ والأتباع، وويل كذلك للتلاميذ والأتباع من العلماء، إن لم يتق الله الجميع ويخشاه ويراقبه في السر والعلن، فالنميمة من أقوى عوامل التحاسد والتباغض والتفرق والتهاجر بين العلماء والدعاة: (فالعلماء لا يتباغضون ويختلفون لشيء بعد الحسد إلا النميمة، يسعى بها الجهال بينهم، وينقل بعض التلاميذ كلام أستاذه مبدلاً ومحرفاً، فيسبب لخبثه وبلادته الفتنة الشهواء، ويثير عواطف الجهال على شيخه، ويفتح لعلماء السوء باب الطعن على أستاذه، فيدخلون عليه بكل مصيبة، وينسبون إليه كل خطيئة، وقد يدخل النمام بيوت الله للعبادة فيخرج مأزوراً غير مأجور، يبدل ما سمع من الخطابة والتدريس بما شاءت له نفسه الخبيثة، وأوحى به إليه إبليس، وما كان أيسر أن يجتمع العلماء وينصف كل من نفسه، ولا يصدق من نمَّ له على إخوانه، وإذا بلغه شيء يسوءه سأل عنه صحته، وأحضر معه النمام يفضحه إن كان كاذباً، ويحذر الناس من شره إن كان صادقاً).
سابعاً: الدخول في العمل العام
من أسباب الخلاف وعوامل الفرقة والتباغض بين بعض العاملين في مجال الدعوة الدخول في العمل العام أوالمشاركة فيه، سواء كان في نطاقه العام أوالمحدود داخل الجامعات والمعاهد العليا، سيما فيما يتعلق بالتعاون والتنسيق مع بعض الجماعات والأحزاب، ويمثل ذلك ما حدث في انتخابات اتحاد جامعة الخرطوم قبل شهور، والتصدع الذي أحدثه دخول واشتراك نفر من أنصار السنة في الحكومة السودانية.
على الرغم من أن وجهات النظر في ذلك تختلف وتتباين بين مؤيد ومعارض، ومجيز ومانع، ولكن في نهاية المطاف فإن ذلك يعتبر من المسائل الاجتهادية القابلة للأخذ والرد، وليست من المسائل الفاصلة التي توجب العداء والنفرة، والتخاصم والتدابر.
فقد حدث هذا ويحدث من عدد من الجماعات الإسلامية في عدد من البلاد، وله إيجابيات وسلبيات، وينبغي أن تقدر كل حال بقدرها، وأن يحكم ذلك كله القاعدة الشرعية درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، وقبول خير الشرين دفعاً لشر الشرين، وما لا يدرك كله لا يترك جله، ونحو ذلك.
ثامناً: الاختلاف في الحكم على بعض النوازل
من أوجب الواجبات على أهل العلم الحكم على النوازل، وبيان حكم الشرع فيها قبل فوات الأوان، حتى لا يدعوا العامة في حيرة من أمرهم، فقد منَّ الله على هذه الأمة أن شريعتها حوت من الأصول الكلية والقواعد الأساسية ما هو كفيل بالحكم على أي نازلة من النوازل، إذ القياس والاجتهاد لمن يملكون أدواتهما مصدران من مصادر هذه الشريعة السمحة.
لقد ضمن الشارع الحكيم لهذه الأمة أنها لا تجتمع على ضلالة أبداً، إذ لا تزال طائفة منها ظاهرة على الحق لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى تقوم الساعة.
أهل الاجتهاد مأجورون في كل الأحوال، إن أصابوا الحق فلهم أجران، وإن أخطأوه فلهم أجر، لأن الحق عند الله عز وجل واحد لا يتعدد.
قد يختلف أهل الحل والعقد من العلماء في حكمهم على نازلة من النوازل، وهذا ما لا حرج ولا تثريب فيه، وللحاكم أن يختار من هذه الأقوال ما تطمئن إليه نفسه، ويراه مخلصاً له عند ربه، بعد أن يجتهد فيها ولو كان عامياً، إذ العامي يجب عليه أن يجتهد في أقوال المفتين كما قرر ذلك الإمام الأصولي الشاطبي رحمه الله.
ولكن الممنوع المحذور أن يثرب أويضيق بعضهم على بعض، بسبب اختلافهم في نازلة من النوازل، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام الأسوة الحسنة حين استشار كبار أصحابه في أسرى بدر، فأشار عليه أبو بكر رضي الله عنه أن يأخذ منهم الفداء، وأشار عليه عمر وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهما بقتلهم، فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله أبو بكر فلم يقتلهم، ولم يثرِّب أحدهم على الآخر، ولم يتخـذ رسـول الله صلى الله عليه وسلم موقفـاً من عمر وعبد الله بن رواحة، ثم نزل القرآن موافقاً لما رآه عمر وعبد الله، وبعد ذلك لم يثرِّب على أبي بكر رضي الله عنه.
فالحرج والتثريب على أحد من أهل العلم رأى رأياً مخالفاً لما رآه غيره من أهل العلم ولما يهواه الحاكم، كما حدث إبان حرب الخليج الأولى، من الظلم البين ومن التعدي الواضح.
وليت الأمر وقف عند الحرج والتثريب، ولكن تعداه من نفر من أهل العلم وتلاميذهم إلى الطعن والتشكيك والانتقاص والتحذير من أصحاب القول المخالف، وقد أثبتت الأيام صحة ما ذهبوا إليه، ووقع كل ما تنبؤوا به وحذروا منه وزيادة، عندما واصلت أمريكا حربها الصليبية على الإسلام وغزو دياره واحداً تلو الآخر.
الفرقة والتنافر والاختلاف والانقسام الذي أحدثه هذا السلوك المشين والتصرف الظالم لإخوة الدين، وما نتج عن ذلك من الوقيعة وسوء الظن وانعدام الثقة بين صفوف العلماء والدعاة وتلاميذهم، لا يعلم مداه إلا الله، حيث أوغر الصدور، وأزال الجسور، وهيأ للفجور في الخصومة، ولا تزال آثاره يتجرعها المخلصون، وعلقمه غصة في حلوق العاملين في الدعوة.
لا يدري والله المرء ويكاد يدري ما الذي دفع إلى ذلك، وخطأه واضح لكل ذي عينين، بيِّن لا يحتاج إلى بصيرة نافذة ولا إلى حلم وافر.
مما يحمد له أن مشايخنا الكبار وعلماءنا الأبرار أمثـال الشيـخ عبد العزيز بن باز والشيـخ محمد صالح العثيمين قدَّس الله أرواحهما وغيرهم كثير من الأحياء أطال الله أعمارهم ومتع بهم الأمة، لم يخوضوا في تلك الفتنة، فقد طهر الله ألسنتهم وأقلامهم من أن ينسب إليهم شيء من ذلك، وهذا هو المظنون بهم، والمؤمل فيهم، لسلامة صدورهم، وطهارة نفوسهم، ونفاذ بصائرهم، وعمق فقههم، نسأل الله أن يوفقنا وجميع إخواننا من العلماء والدعاة للاقتداء بهم وبسلفنا الصالح.
والله أسأل أن ينزع الغل والحسد والبغضاء والشحناء من قلوب العلماء والدعاة وأن يكون لهم في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه القدوة عندما قال عقيب موقعة الجمل ومقتل طلحة والزبير رضي الله عنهما: أرجو أن نكون ممن قال الله فيهم: "ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً".
فينبغي للجميع أن يراجعوا مواقفهم، وأن يحاسبوا أنفسهم، فالرجوع إلى الحق فضيلة أيما فضيلة، والتمادي في الخطأ والإصرار عليه رذيلة ما بعدها رذيلة، وليحذروا الكِبْر والاستنكاف خاصة وهم لهم تلاميذ وأتباع مسؤولون عن تصرفاتهم، ومؤاخذون بجرائرهم، حتى تضمد الجراح وتعود الألفة والسماح مع إخوة الإيمان، ومحبة الإسلام.
وأرجو من الذين ظُلِموا وهُجِروا وانتقِصوا ونيل من عقيدتهم أن لا يغلبهم الشاعر العربي الفحل المقنع الكندي على العفو والصفح، وأن يسعهم ما وسعه، فحقوق الأخوة الإيمانية ليست بأقل من حقوق العصبة والأرحام، حيث قابل الهجر بالوصل، والجفاء بالمحبة، والظلم بالمسامحة، والسيئة بالحسنة، فخلدت آثاره، ومدحت أخلاقه، وشكرت فعاله، وتمثل بأبياته، وتغني واستشهد بأشعاره.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحراً".
وإن الـــــذي بيني وبـين بـني أبي وبـين بني عمي لمختلف جـــــــداً
إذا أكلوا لحمي وفـرتُ لحـومهم وإن هدمـوا مجدي بنيتُ لهم مجــداً
وإن ضيعوا غيبي حفظتُ عيوبهم وإن هُمْ هَوَوا غيي هويتُ لهم مجداً
وليسوا إلى نصري سراعاً وإن هم دعـوني إلى نصـر أتيتهم شـــــــداً
وإن زجروا طيراً بنحس يمـر بي زجرتُ لهم طيراً يمـر بهم سعــــداً
ولا أحملُ الحقـد القـديـــــم عليـهم وليس رئيس القوم من يحملُ الحقدا
لهم جل مالي إن تتـــــابع لي غنى وإن قـلَّ مـالي لم أكلفـهم رفــــــــداً
واللهِ لو سلك العلماء والدعاة مع بعضهم بعضاً مسلك هذا الشاعر اللبيب، والعربي الأصيل، والرئيس النبيل مع إخوته وبني عمه على الرغم من التباين الواسع والبون الشاسع بينه وبينهم، لتوحدت كلمتهم، والتأم شملهم، وعلا شأنهم، وتغيرت أحوالهم، وسلموا من سائر عوامل الفرقة والتحزب.
أما إذا سلكوا مع بعضهم البعض حال ما وصفه الآخر مع ابن عمه فقال:
سريع إلى ابن العم بلطم خـده وليـس إلى داعي النـدى بمجيـب
فقد خسروا، وأشمتوا عليهم الأعداء وأفرحوهم، وأحزنوا الأصدقاء وأساءوا إليهم.
تاسعاً: الإعلان بالنصيحة
من أسباب الخلاف بين العاملين في مجال الدعوة في صفوف أهل السنة في هذه الأيام، التي يرفعها البعض ضد آخرين، ويعتبرونها حاجزاً منيعاً للتآلف والاجتماع، ويعادون ويوالون بسببها، المجاهرة بالنصيحة لبعض ما يصدر من مخالفات لولاة الأمر من حكام المسلمين.
وبادئ ذي بدء لابد أن نقرر أن الأصل في النصيحة مع كل مسلم مستور الحال غير مجاهر ولا داع لبدعة ولا فسق أن تكون سراً، خاصة لولاة الأمر بشقيهم من العلماء والحكام، الذين يأتمرون بأمر الله، الذين أمرنا الله بطاعتهم في المعروف: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"30، ولهذا قيل: من نصحك سراً فقد نصحك، ومن جاهر لك بالنصيحة فقد فضحك.
المسارات التي يُنَاصح فيها ولاة الأمر من العلماء والحكام ثلاثة هي:
1. ما يتعلق بالسلوك – سواء كان سلوكه أوسلوك أهله.
2. ما يتعلق بمصالح الدين والعباد والبلاد.
3. ما يتعلق بالمخالفات الشرعية المتفق عليها.
كل ذلك مع تحري الصدق، والتزام الرفق، ومراعاة الحكمة والمصلحة.
فالمساران الأول والثاني لا يجوز الجهر بالنصيحة فيهما لما يترتب على ذلك من ضرر متعدٍ، فدرء المفاسد مقدم على جلب المنافع.
فعلى الناصح أن يكرر نصحه سراً، وأن يتحرى الأوقات المناسبة، والفرص السانحة، فلكل مقام مقال، ولكل شأن حال، وعليه أن لا ييأس ولا يقنط.
أما المسار الثالث وهو ما يتعلق بالمخالفات الشرعية المتفق عليها وليس المختلف فيها، نحو الممارسات الشركية، وإقامة الحدود، وتحريم الربا، وصور البدع، والموالاة الكفرية، والمسكرات والمخدرات، ونحو ذلك، ينبغي أن ينصح فيها ولاة الأمر سراً ومراراً وتكراراً، ولكن إن لم تُجْدِ هذه المناصحة ولم تفد هذه المسارّة مع تفشي هذه المخالفة وانتشارها وظهورها، فلا مانع من الجهر بمناصحته ونصره على نفسه، وعونه على أداء واجبه، والقيام بمسؤولياته، حتى لا يعم الخراب ويظهر الفساد، وندعو ولا يستجاب.
إن لم يكن إلا الأسنة مركبـاً فما حيلة المضطر إلا ركوبها
وفي حالات كثيرة جداً يكره المرء إكراهاً ويحمل حملاً حيث لم تكن مندوحة عن الأمر، ولهذا قيل: "مكره أخاك لا بطل".
ومن فضل الله علينا أن مراتب الإنكار ثلاثة: باليد، واللسان، والقلب؛ فمن جاهد بأي جارحة من هذه الجوارح الثلاث فهو مؤمن.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".31
وعن ابن مسعود البدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون32 وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".33
وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أوليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم".34
الذي جعل هؤلاء النفر يشددون النكير على إخوانهم الذين يرون أنه من الواجب عليهم المناصحة والأمر والنهي، ربطهم بين الأمر والنهي للحكام والخروج عليهم، وليس هناك من علاقة بين الأمرين.
فالأمر والنهي مطلوب من العلماء لإخوانهم الحكام مرغوب فيه محذر أشد التحذير من التقصير والتهاون فيه، والخروج على الحكام منهي عنه.
وهذا من قواعد مذهب أهل السنة، ومن الثوابت التي لا يجادل فيها أحد عنده أدنى معرفة بمذهب السلف، إلا في حال الكفر البواح الذي ظهر فيه الدليل ولاح، وحتى في هذه الحال لا يجوز الخروج المسلح ولا يحل إلا إذا أمنت الفتنة، وإلا إذا ترجح الإصلاح على الإفساد، فدرء المفاسد مقدم على جلب المنافع، وإمام غشوم ظلوم خير من فتنة تدوم، كما هو معلوم من أبجديات الدين.
فمنع الأمر والنهي سواء كان سراً أوجهراً إذا التزمت الحكمة، وروعيت المصلحة، وخلصت النية، لا مبرر له أبداً، وهو خوف في غير محله، والسكوت عن الأمر والنهي مع تفشي المخالفات وظهورها من المهلكات.
والحكام ليسوا كلهم سواء في هذا العصر، فمنهم من يُحَكِّم شرع الله وليس لهم دستور ولا قانون سواه، ومنهم من يعلن أنه يحكم بشرع الله ويقيم حدوده، ومنهم من يعاديه ويتحاكم إلى دستور وضعي وقانون مستمد من القوانين الفرنسية والهندية وغيرها، فهل يستوون؟
هذا بجانب أنهم غير معصومين، بل لحوم ولاة الأمر من العلماء أكثر سماً من لحوم الحكام، وعادة هتك الله لستور منتقصيهم معلومة، فلماذا هذه المحاماة عن الحكام جميعاً وفيهم وفيهم؟ بينما نعطي أنفسنا الحق في انتقاص طائفة من العلماء والنيل منهم وأكل لحومهم وهتك ستورهم، فكما أن الحكام العلماء والمؤتمرين بأمر العلماء طاعتهم واجبة، واحترامهم مطلوب، فكذلك الأمر للعلماء، فالذي أمر بإكرام وإجلال الحكام هو الآمر بإكرام العلماء.
ألا يخشى هؤلاء أن يصيبهم شيء من الوعيد الوارد في قوله تعالى: "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا".35
الأدلة على جواز الجهر بالنصيحة للحكام كثيرة جداً36، وفيما قاله أبوسعيد، وعائذ، وأبوذر رضي الله عنهم، ومن قبل قاله علي رضي الله عنه أمام عثمان رضي الله عنه: لبيك عمرة؛ وعندما قيل له في ذلك قال: ليعلم الناس أنها سنة كفاية؛ لأن عثمان ما كان يرى التمتع بالعمرة في الحج.
رضي الله عن أبي بكر الصديق حين قال: "لا خير فيكم إن لم تقولوها – أي النصيحة – ولا خير فينا إن لم نقلها".
ودعا عمر لمن أسدى إليه النصيحة، فقال: "رَحِم الله امرءاً أهدى إليَّ عيوبي"، وجعل النصيحة من الهدايا القيمة والجوائز النبيلة التي تستحق الشكر والمكافأة، ولهذا كان الأخيار من حكام وأمراء هذه الأمة يجزلون العطايا والثناء على من ينصحهم أكثر من غيرهم من غير المصرِّحين بالنصيحة لهم.
فالاستكبار والاستنكاف عن قبول النصيحة بأي أسلوب كانت وبأي طريقة حدثت من صفات الطغاة ومن أخلاق المستبدين، ولهم في النمرود وفرعون وأمثالهما مثل السوء.
عاشراً: ضعف التزكية وقلة الورع
كثير من الأسباب السابقة وغيرها مردها واستفحالها وخطورتها ناتجة من ضعف تزكية النفوس وقلة أوانعدام ورعها، فالنفس إذا لم تزكَّ وتطهر من الرذائل والأحقاد، وإذا لم يشتغل الإنسان بعيوب نفسه تشاغل بعيوب غيره وضخمها وبالغ في إظارها ونشرها وبثها بين الناس، فقد أفلح من زكى نفسه، وقد خاب وخسر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
فينبغي للقادة أن يعملوا على تزكية نفوسهم وتطهيرها والسمو بها عن سفاسف الأمور، والاشتغال بمعاليها، وأن يحثوا أتباعهم وتلاميذهم على ذلك، فهم أمانة في أعناقهم، ويقعون تحت إطار مسؤولياتهم، فتعليم الأتباع الأدب والسلوك من أوجب الواجبات، ومن أكبر التبعات، وأفضل طريق لذلك هو القدوة الحسنة والأسوة الطيبة، فالتأديب والتعليم بالأفعال خير وأنفع من التأديب والتعليم بالأقوال.
خاتمة
لا شك أن أسباب الخلاف كثيرة، وليس هدفنا الإحاطة بها، ولكن التنبيه والتذكير بأخطرها لنقيس عليها.
يحق للقارئ بعد هذا أن يسأل بعض هؤلاء العلماء والدعاة، أمن أجل هذه الأسباب الواهية تفرَّق كلمة الأمة، ويهجر ويُعادى الإخوة والأصفياء، ويكيد بعضنا لبعض أشد من كيدنا للأعداء؟!
أمن أجل هذه الأسباب ندفن الحسنات، ونفشو السيئات، ونعظم الأخطاء، ونجسد السلبيات، ويصدق فينا قول الأعشى:
ومن يغترب عن قومه لا يزال يرى مصـارع مظلوم مجـراً ومسحبـاً
وتدفن منه الصــالحــــات وإن يسئ يكن ما أساء النار في رأس كبكبا37؟
احذر أخي الكريم أن يكون همك تتبع عورات إخوانك، والكشف عن سيئاتهم، والفجور في خصوماتهم، فإذا خان الأخ أخاه، وتنكر له، وعاداه، هل يتوقع العون ممن سواه؟!
إذا خـانك الأدنى الذي أنت حــزبه فواعجباً إن ساعدتك الأبــاعــد
كن أخي الكريم بناءً، واحذر الهدم والإفساد، قليل من الناس من يحسن البناء والإصلاح، وكثير جداً يجيد الهدم والخراب، فكن من القليل البناء، فإن الكرام قليل، واترك الهدم لأعداء الدين، ولا تعِن الشيطان على نفسك وعلى إخوانك، وتذكر قول الله عز وجل: "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير".38
إن من أهم أسباب تخلف الأمة الإسلامية كثرة الاختلافات والنزاعات بين أفرادها، وجماعاتها، وعلمائها، ودعاتها، وطعنهم وتشكيكهم في بعضهم البعض.
متى تتخلص الأمة من هذا الداء، وتتوحد لصد الأعداء، وتتضافر جهودها وتتعاون لإتمام البناء؟!
متى يبلغ البنيان يومــــاً تمامه إذا كنتَ تبنيه وغيرك يهدمُ
ولو ألف بانٍ خلفهم هادم كفى فكيف ببانٍ خلفه ألف هادم؟
خاصة لو كان الألف هادم من بني جلدتنا، ويتكلمون بلغتنا، ويرفعون شعاراتنا، وينتسبون إلى جماعاتنا، وينفذون مخططات أعدائنا، شعروا بذلك أم لم يشعروا؟!
واحذر أن يصدق عليك قول القائل:
وهل كنتُ إلا مثل قاطع كفه بكف له أخرى فأصبح أجذم
وأخيراً أسأل الله أن يجمع الشمل ويؤلف بين القلوب، ويهدي الجميع سبل السلام، ويجنبهم الفتن والآثام، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للأنام، محمد وآله وصحبه الكرام.